الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: تمهيد
بين يدي الموضوع
…
بين يدي الموضوع
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فإن موضوع: "الدعوة إلى السنّة في تطبيق السنّة، منهجاً وأسلوباً" موضوع خطير جليل، والأصل أن يتصدَّى للحديث فيه من توافرت لديه الأهلية عِلْماً وعملاً، ولكن قد ينطلق المرء في حديثه من منطلق الشعور بالواجب وليس من منطلق الشعور بالأهلية، وذلك لما يراه من الحاجة الداعية للتصدِّى لمثل هذا الموضوع، وَمَنْ عدِم الماء تيمم بالتراب، فلستُ أتوهّم أنني طبيب معافى تعيّن عليه أن يتطبب في الناس، بل لم أظن ذلك، فلست أعلمَ منك أيها الأخ القارئ، ولا بالأكثر غَيْرة على سنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما هذه الكلمات إلا ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
فكرةٌ عن الموضوع، والفئة التي يخاطبها:
إنني أُخاطب مِنَ الناس مَنْ قلوبهم مفعمة بالإيمان ومحبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، يؤلمهم ما عليه واقع الأمة الإسلامية اليوم من إفراط أو تفريط، فقاموا بمهمة دعوة الناس إلى هذا الدين، مؤْثِرِين التعب والجدّ على ما يعدُّه الآخرون راحة وسكوناً.
أُخاطب هداةً يحدوهم الأمل في هداية الناس وإسعاد البشرية الضائعة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم. إنني أُخاطبك أنت أيها الأخ الداعي إلى السنّة، يا مَنْ يحترق قلبك على ما أصاب كثيراً من المسلمين من ضياع وبُعْد عن السنّة، فأنت بذلك لا تملك إلا أن تنشط في مهمتك هذه جاعلاً إيّاها همّك بالليل والنهار، وشغلَك الشاغل في حركتك وسكونك في يقظتك ونومك في سرِّك وعلنك، ترجو بذلك أن تكون من أَتْباعِ النبي صلى الله عليه وسلم المهتدين بهديه، المؤتسين به في سائر سنته.
إنني أخاطب فيك إيمانك وغَيْرتك على السنّة النبويّة، فإنْ جرحتُ شعورك بذكْر خطأٍ فيك فأملي فيك أن لا تغضب ولا تحزن، إنما تُسَرُّ بقصْدك بالنصيحة وتنتفع بها، وقد قيل: اثنان ظالمان: رجل أُهديتْ إليه النصيحة فاتخذها ذَنْباً، ورجل وُسِّع له في مكان ضيق فجلس متربعاً!!.
إن المقصود من هذا الموضوع هو تأكيد الدّعوة إلى السنّة بصورة مؤكَّدة تتناول اتّباع السنّة شكلاً ومضموناً، ومنهجاً وأسلوباً وعملاً وغاية، ويُراد منه تأكيد ضرورة الاهتداء بهدي السنّة في تطبيق السنّة، وفي الدعوة إليها،
إنه ليس دعوة إلى حِفْظِ السنّة ونَشْرها فقط، ولكنه دعوة إلى فقه السنّة فقهاً صحيحاً، وذلك شرْط أساسٌ للاستمساك بالسنّة وتقديرها حقّ قدرها.
وليست هذه الفكرة جديدة، وإنْ لم أر أحداً أشار إليها نصّاً، فلقد تحدّث السلف الصالح رحمهم الله عن معان مهمّة ينبغي مراعاتها في الدعوة: كالحكمة، والموعظة الحسنة، واللين، والرفق، وغيرها من المعاني، منطلقين في ذلك من نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف في هذه الموضوعات.
إنّ هذا الموضوع نَقْدٌ لمنهجنا وأسلوبنا في الدعوة إلى السنّة يُراد منه النصيحة الواجبة لهذا الدين، وليس حديثي موجَّهاً لنقد شخص أو أشخاص أو جماعة، إنما هو لنقد أخطاء شائعة أو واقعة فينا قد يَلْزمنا التنبّه لها والرجوع عنها. واعتناء عدد منّا بالسنّة والدعوة إليها أمر حميد يُدخل السرور على النفس، بَيْد أنه لا يَمْنَع النقدَ ابتغاء النصيحة والتصحيح بل يوجبه.
ولا يخفى أيها الأخ القارئ أن هذا الموضوع يحتاج إلى صَدْرٍ عامرٍ بالإيمان والإخلاص والقناعةِ التامّة بضرورة متابعة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، والقناعة أنه القدوة المعصوم الذي لا يصح إيمان عبد حتى يقبل ما جاء به صلى الله عليه وسلم. ومن لم يتوافر لديه مِثْلُ هذا المعنى من العبث أن يُتحدث إليه عن أهميّة فِقْه السنّة فقهاً صحيحاً!!.
وقد عالج هذا الموضوع أخطاءً في المنهج وفي الأسلوب يقع فيها بعض الدعاة إلى الله تعالى عن حسن نيّة منهم وحرص على الخير، ولمّا كانت أخطاء طَلَبة العلم والداعين إلى السنّة ليست كأخطاء غيرهم، إذْ قد يحسبها
من الديِّن نفسه عامّةُ الناس ومن لا بصيرة له، وقد يستغلّها من في نفسه هوى لِيُشَوِّه دينَ الله المنزَّه، فيستغل بعض تصرفات طلبة العلم والحريصين على السنّة لينتقص بها الدين. وإنما هي أخطاء شخصية والإسلام منها براء.
ولما كان الحرص على الخير والاجتهاد فيه لا يستلزم بالضرورة إصابة الحق - إذْ قد يُخالِف الصواب مَنْ يريده ويطلبه- لمّا كان كل ذلك مما يعانيه المسلمون بصورة واضحة، كانت هذه السطور جزءاً من علاج هذه الظواهر غير الموفَّقة.
وقد رُوي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما أَمر الله عباده بما أمر، إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى غلوّ وإما إلى تقصير، فبأيهما ظفر قنع1.
وجاء هذا الموضوع على حدّ ما نَقَلتُهُ من قول الإمام ابن القيم-رحمه الله تعالى- عن السنّة والموقف منها، وأنها كلها لنا، وليس منها شيء لنا وشيء علينا، ولا نتخيّر منها.
وقد اشتمل الموضوع على نظرات نقديّة لعددٍ من المناهج والأساليب غير السديدة في الدعوة إلى السنّة والتمسك بها، وَتَلَمُّس وجْه الصواب في أسلوب الدعوة في المسائل الخلافية، ومفهوم التمسك بالكتاب والسنّة بين الأخذ بالنص والأخذ بالاجتهاد، وكذلك وَجْه الصواب في مسألة تفاضل الأعمال، والخلاف في المسائل الفرعية.
1 المقاصد الحسنة
…
، للسخاوي:392.
وقد اخترتُ الحديث عن هذه الجوانب من الموضوع لمحاولة بيان المنهجيّة السليمة في فهم السنّة وإدراك هَدْيها
…
وليس الهدف من الكتابة فيه بيانَ الأحكام الفقهية وأدلتها بقدْر تحديد المنطلقات والمنهج السديد لفقه السنن والدعوة إليها من خلال النصوص الشرعية نفسها.
ومما دعا إلى الحديث عن هذا الأمر -كما قلت- ما رأيته من أخطاء ومنطلقات مخطئة في منهج بعض الناس، وأسلوبهم في الأخذ بالسنّة والدعوة إليها، قد تسيىء إلى السنّة. نسأله عز وجل التوفيق والسداد.
??
المراد بالسنّة في هذا الموضوع
وردت لفظة السنّة على عدة معان1، منها:
1-
أن يراد بها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، الذي هو الحديث النبوي، وهي بهذا تتعلق بالإسلام كله، دون أن تختص بفرض، أو واجب، أو سنّة، وهي بهذا شطر الدين، وليس هذا المعنى هوالمقصود هنا، وإن كانت أدلة إيجاب الأخذ بها في عمومها بهذا الاعتبار هي أدلة
1 يُنْظر: إرشاد الفحول، للشوكاني: 833، و"المغني في أصول الفقه"، للخبازي 85-86 مع الحاشية، و"دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه"، للدكتور محمد مصطفى الأعظمي:1-5، و40، الحاشية. وليس المراد هنا التفصيل في هذا البحث، وإنما هي إشارةٌ إلى المعاني المستخدمة فيها لفظة:"سنّة"؛ لكي يكون القاريء على إلمامةٍ سريعة بمصطلح البحث.
الجانب الذي نتناوله.
2-
ووردت السنّة في مكان العقيدة. وليس هذا مقصوداً هنا أيضاً.
3-
ووردت في مكان الفَرْض. وليس هذا أيضاً مقصوداً هنا إلا أن يكون في مواضع قليلة.
4-
ووردت بمعنى ما يقابِلُ البدعة. وليس هذا مقصوداً هنا أيضاً.
5-
وإنما المراد بالسنّة هنا ما يقابل الفَرْض من فروع الأحكام الشرعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتتردد بين السنّة المؤكّدة والاستحباب.
قال مكحول: "السنّةُ سنّتان: سنّةٌ الأخذ بها فريضة وترْكها كفر، وسنّةٌ الأخذ بها فضيلة وترْكها إلى غيرها1 حرج2".
ومجال السنّة هو مجال الأحكام الشرعيّة؛ قال ابن قتيبة رحمه الله تعالى: والسنّة إنما تكون في الدين لا في المأكول والمشروب. ولو أن رجلاً لم يأكل البطيخ بالرطب دهْرَه -وقد أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لمْ يأكل القَرعَ، وقد كان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُقَلْ أَنه تَرَك السنّة3!!.
قلت: وهذا كلام نفيس يدل على فقه الرَّجل، ويؤخذ منه قاعدة عامّة،
1 جاءت هذه اللفظة في بعض النسخ: "غيره"، وفي بعضها:"غيرها". والصواب ما أَثبتُّهُ.
2 الدارمي: المقدمة، باب 49.
3 تأويل مختلف الحديث: 47.
ويستثنى من ذلك الإفطار على الرطب أو التمر أو الماء بالنسبة للصائم، لأنه قد تضافر على ذلك القولُ -بصيغة الأمر- والفعلُ منه صلى الله عليه وسلم؛ فيكون سنّةً. والله أعلم.
إشارة إلى أهمية السنّة
وأَودُّ الآن أن أُقدِّم الإشارةَ إلى أهمية السنّة بمعناها العامّ وأهمية التمسُّك بها.
ويكفي في ذلك ما ورد من الآيات البيّنات والأحاديث الصحيحة من مثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُم عَنْهُ فَانتَهُوا
…
} 1.
وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً
…
} 2.
وقوله: {مَن يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} 3.
وقوله تعالى: {يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ
1 7: الحشر: 95.
2 21: الأحزاب: 33.
3 80: النساء: 4.
تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1.
ومِنْ مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدَثات الأمور، فإن كل مُحْدَثة بِدعة، وكل بِدعة ضلالة"2.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" 3، وقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ"4.
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الوافرة في الحث على السنّة والاستمساك بها، فكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كل ما فيهما حق وصواب، وليس فيهما شيء من الباطل أو الخطأ.
والكتاب والسنة هما الأصل لشرع الله تعالى الذي لا نقص فيه ولا عيب، واعتقادُ هذا اعتقاداً جازماً من مقتضيات الإيمان بالله سبحانه والتسليم
1 59: النساء: 4.
2 المسند: 4/126-127، وَرَدَ عنده الحديث مكرراً بألفاظ مختلفة متقاربة، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وأبو داود، كتاب السنة، 5- باب في لزوم السنة، ح4607، والترمذي، 42- كتاب العلم، 16- باب ما جاء في الأخذ بالسنّة واجتناب البدع، ح2676: 5/43.
3 أخرجه البخاري في: 34- كتاب البيوع، 60- باب النَّجَش الفتح 4/355، ومسلم: 30- كتاب الأقضية، 8- باب نقْض الأحكام الباطلة، ح18، وأخرجه أبو داود وغيرهم.
4 أخرجه البخاري في: 53- كتاب الصلح، 5- باب إذا اصطلحوا على صلح جور
…
الفتح: 5/301، وقال:"ما ليس فيه"، ومسلم: 30: كتاب الأقضية، 8- باب نقْض الأحكام الباطلة، ح17، وقال:"ما ليس منه"، وأخرجه أبو داود وغيرهم.
بأن الكتاب والسنّة وحيٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا يعني ضرورة التسليم لهما، واتخاذهما ميزاناً لأقوال الناس ومذاهبهم وأفكارهم لمعرفة صواب ذلك من خطئه، وعدم معارضتهما بشيء من الأقوال والمذاهب والآراء، بما في ذلك أقوالنا وآراؤنا.
إن الكتاب والسنّة هما الميزان الحق الذي به نعرف صواب الأقوال والمناهج والمذاهب من خطئها وليس العكس، وعليهما ينبغي أن تُعْرض وليس العكس!!. {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِين} 1.
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً} 2، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} 3، {فَلَا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 4.
ومهمّة المسلم تُجاه الكتاب والسنّة هي فهْمهما فهْماً صحيحاً،
1 54: النور: 24.
2 82-83: النساء: 4.
3 36: الأحزاب: 33.
4 65: النساء: 4.
وتدبُّرهما، والعمل بهما، والدعوة إليهما.
ليس لمسلم أن يُخالِف الكتاب والسنّة:
وبناء على هذا فقد اتّضح أنه لا يصح لمسلم أن يُخالِف الكتاب ولا السنّة ولا يسعه ذلك، كيف والقرآن كلام الله تعالى، والسنّة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! مَنْ ذا الذي يريد أن يستدرك على الله أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يمكنه ذلك؟!.
وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة فمن بعدهم لا يختلفون على هذا المعنى، بل هم مُجْمِعون على ضرورة المتابعة للكتاب والسنّة وعلى استعظام الإعراض عنهما، وعلى أن كل أحد يؤخذ منه ويُرَدُّ عليه سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سئل عن حُكمٍ ما فإنه كثيراً ما يحكي فعْل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَومَ الآخِرَ
…
} 1 2.
1 21: الأحزاب: 33.
2 روى الإمام البخاري مثل هذا في مواضع متعددة في صحيحه ومن ذلك: في 14- الوتر، 5- باب الوتر على الدابة الفتح: 2/488، و18- تقصير الصلاة، 11- باب مَنْ لم يتطوع في السفر دُبُرَ الصلاة وقبلها الفتح: 2/577، وكذلك يُنظر الثلاثة أبواب قبله، وكذلك البخاري، 25- الحج، 80- باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة، الفتح: 3/502 في موضعين، وكذا في البخاري، برقم 1640، و 1647، الحج، و 6705، الأيمان والنذور.
وكذا كان يفعل ابن عباس رضي الله عنهما1.
قال الشافعي: ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحداً أُخْبِر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قَبِل خبره، وانتهى إليه، وأثبت ذلك سنّة2.
وقال الأوزاعي: إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث: فإياك أن تقول بغيره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبلِّغاً عن الله تعالى 3.
وقال الربيع: روى الشافعي يوماً حديثاً فقال له رجل: أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال: متى ما رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب4.
وقال الربيع: سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال له: يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كذا وكذا. فقال له السائل: تقول به؟ فرأيته أُرعد وانتفض وقال: يا هذا أيُّ أرضٍ تقلّني وأيُّ سماءٍ تظلّني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلم أقل به؟! نَعَمْ على السمع والبصر5.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرني أبو محمد السجستاني فيما كتب إليّ عن
1 وقد جاء هذا عنه في عدة مواقف، منها في: البخاري -نسخة الفتح-برقم 774، الأذان، وبرقم4911، تفسير القرآن، وبرقم 5266، الطلاق، والفتح: 3/474.
2 مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنّة، للسيوطي:34.
3 المصدر السابق: 20-21.
4 تقي الدين السبكي في معنى قول الإمام المطلبي: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" ضمن الرسائل المنيرية: 3/98.
5 المصدر السابق: 3/98-99.
أبي ثور: سمعت الشافعي يقول: كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قولي وإن لم تسمعوه منّي1.
وقال مالك: لاتُعارضُوا السنّة وسلّموا لها2.
قال مَعْنٌ: سمعت مالكاً يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنّة فخذوا به وما لم يوافقهما فاتركوه3.
وصح عن الإمام أبي حنيفة وعن الإمام أحمد نحو ذلك.
وقال مجاهد والشعبي والحاكم ومالك: ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم4.
وقال الإمام السبكي في مسألةٍ خلافية وهي مسألة ما إذا جاء قولٌ للشافعي يخالف حديثاً، فهل يؤخذ بالحديث أو يؤخذ بقول الشافعي؟ لأنه قرر أنه لا يخالف الحديث وأن الحديث إذا صح فهو مذهبه5:
قال: والأَولى عندي اتّباع الحديث ولْيفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع ذلك منه، أَيَسَعُهُ التأخر عن العمل به؟! لا والله، وكلّ أحد
1 المصدر السابق: 3/99.
2 مفتاح الجنّة في الاحتجاج بالسنّة: 41.
3 تقي الدين السبكي في رسالته: "معنى قول الإمام المطلبي": "إذا صح الحديث فهو
مذهبي": 3/105.
4 المصدر السابق: 3/105.
5 المصدر السابق 3/ 10.
مكلّف بحسب فهمه1، أي بحسب فهمه للكتاب والسنّة وَفْق القواعد والضوابط في ذلك.
وقال في موضع آخر: والذي أقوله: إن المبادرة إلى امتثال الأمر مطلوبةٌ كمن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لا رخْصة له في ترْكه2.
ومِنْ هذا كله نخرج بحقيقةٍ واضحة هي أنه ما كان لأحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم: من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة أن يكون له الحق في مخالفة سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، بل هم مُجْمعون على احترامها واتّباعها.
على أن المراد باتّباع السنّة إنما هو اتّباعها وَفْق هَدْيها، سواء أفي مسألة الدعوة إليها أم الاهتداء بهَدْيها في سائر شئون الحياة، ولهذا أَنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من أخطأ في ظنه أنه يجوز له أن يغلوَ في الدين طالما أنه خَيْر، فقد أخرج البخاري وغيره عن أنس: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخْبروا كأنهم تَقَالّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟! قد غفر الله له ما تقدم من ذَنْبه وما تأخر. قال أحدهم: أمّا أنا فأنا أصلِّي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطِرُ، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أَمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأُفْطِرُ،
1 المصدر السابق: 3/102.
2 المصدر السابق: 3/104.
وأُصلِّي وأَرْقُدُ، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنَّتي فليس منّي" 1.
فإذا تقرر لديك يا أخي ما سبق؛ فاعلم أن الناس تجاه التمسك بالسنّة على أحوال، ولكنْ هناك داءان لهما أثرٌ كبير في حياتنا تُجاه التمسك بالسنّة على مختلف أحقاب التاريخ الإسلامي هما:
1-
الإعراض عن السنّة أو التساهل في الاستمساك بها لأيّ سبب من الأسباب التي قد لا تَخْرجُ عن أمرين، هما:
أ - الجهل.
ب- ضعْف الإيمان.
2-
التمسك بها على غير بصيرة ودون فِقْه لها، وذلك في صورةٍ أو
أكثر مما يلي:
أ - عدم الاهتداء بهديها الصحيح في التطبيق السلوكيّ لها.
ب- عدم الاهتداء بهديها الصحيح في الدعوة إليها.
جـ- الاهتمام بالأخْذ ببعضها على حساب بعضها الآخر.
وهذا الثاني هو موضوع هذه السطور.
1 أخرجه البخاري: 67- كتاب النكاح، 1- باب الترغيب في النكاح الفتح 9/104، ومسلم بنحوه: 16- كتاب النكاح، ح5، 2/1020، وأخرجه أبو داود في كتاب التطوع، 37 باب، وغيرهم.