الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لَمّا سأله الإمارة: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمّرنّ على اثنين ولا تَوَلّين مال يتيم"1.
وروي عنه أنه قال للعباس عمه: "نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها"2.
1مسلم: 33-إمارة ح:17.
2 المصنّف، لابن أبي شيبة: 13/296، الطبعة الهندية.
المفاضلة بين الأعمال:
ولهذا إذا قلنا: هذا العمل أفضل، فهذا قول مُطْلَقٌ، ثم المفضول يكون أفضل في مكانه، ويكون أفضل لمن لا يَصْلح له الأفضل 3. وهذه قاعدة عامّة ينبغي أن تحكَّمَ في باب المفاضلة بين الأعمال.
أمثلة على قاعدة المفاضلة هذه:
مِن الأمثلة على هذه القاعدة ما يلي:
أ- المفاضلة بين الذكْر وقراءة القرآن:
3 يُنْظر كلامٌ نفيسٌ للإمام ابن تيمية رحمه الله، في المفاضلة بين الأعمال، في مجموع الفتاوى: 11/399-400، 660.
فقراءة القرآن أفضل من الذّكْر، بالنص والإجماع والاعتبار.
أما دلالة النص على أنه أفضل فقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع "وهي من القرآن" سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"1.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه"2.
وقوله عن الله: "مَنْ شغله قراءة القرآن عن ذِكْري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"3.
وقوله: "ما تَقَرَّب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه"4.
وقول الأعرابي له: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزيني في صلاتي فقال: "قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"5.
1 البخاري: 83-الأيمان والنذور، باب رقم 19 الفتح: 11/566.
2 أخرجه الترمذي -بلفظ جمع بين هذه العبارة والعبارة الآتية، في: 46-فضائل القرآن، باب رقم 24، ح2926، وقال: هذا حديث حسن غريب. والدارمي في: فضائل القرآن، حديث: 3356، و3357. وقد عَقَد الإمام البخاري في صحيحه باباً بعنوان: فضل القرآن على سائر الكلام، ورقمُهُ: 17، مِن 66-كتاب فضائل القرآن. ويُنظر تخريج ابن حجر له في الفتح: 9/66، وخلاصة القول أن كلَّ طُرقه لا تخلو مِن مقالٍ، ونَقَل عن البخاري أنه أشار في "خَلْق أفعال العباد" إلى أنه لا يصح مرفوعاً، وإنما هو مِن قول أبي عبد الرحمن السُّلَمِي".
3 هذا جزء من الحديث السابق عند الترمذي برقم: 2926، وعند الدارمي برقم:3356.
4 أخرجه أحمد في المسند: 5/268، والترمذي في "فضائل القرآن"، باب رقم 17 5/176، ويُنْظر ما قاله في سنده.
5 أخرجه أحمد في المسند: 4/353و356، والنسائي في سننه: 11-الافتتاح، باب رقم 32: = "ما يجزئ من القراءة لمن لا يحسن القرآن" 2/110 ط. البابي الحلبي.
وأما دلالة الإجماع على أنّ قراءة القرآن أفضل مِن الذكْر، فقد حكاه طائفة، ولا عبرة بخلاف جهال المتعبّدة.
وأما دلالة الاعتبار على أنّ قراءة القرآن أفضل مِن الذكْر: فإن الصلاة يجب فيها القراءة، فإنْ عجز عنها انتقل إلى الذكر، ولا يجزيه الذِّكرُ مع القدرة على القراءة، والمبدَل منه أفضلُ من البدل الذي لا يجوز إلا عند العجز عن المبدَّل.
وأيضاً فالقراءة يشترط لها الطهارة الكبرى، كما يشترط للصلاة الطهارتان، والذِّكْر لا يشترط له الكبرى ولا الصغرى؛ فعُلِم أن أعلى أنواع ذكر الله هو الصلاة، ثم القراءة، ثم الذِّكْر المطْلَق، ثم الذِّكر في الركوعِ والسجودِ أفضل بالنص والإجماع من قراءة القرآن.
وكذلك كثير من العُبّاد1 قد يَنْتفع بالذكر في الابتداء ما لا يَنْتفع بالقراءة؛ إذ الذكر يعطيه إيماناً، والقرآن يُعْطيه العلم، وقد لا يفهمه، ويكون إلى الإيمان أحوج منه، لكونه في الابتداء. والقرآن مع الفهم لأهل الإيمان أفضل بالاتفاق.
فهذا وأمثاله يُشْبه تنوع شرائع الأنبياء فإنهم متفقون على أن الله أمر كلاً
1 في المطبوع "العبادات"، والصواب ما أثبتُّ، وقد نبّهني، مشكوراً، إلى هذا أخي وشقيقي: د. عطا الله.
منهم بالدين الجامع وإن تَعَبّدَهُ1 بتلك الشِّرْعة والمنهاج، كما أن الأمة الإسلامية متفقة على أن الله أمر كلَّ مسلم من شريعة القرآن بما هو مأمور به، إما إيجاباً وإما استحباباً، وإن تنوعت الأفعال في حق أصناف الأمة فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم، ولا أخطأ أحد منهم، بل كلهم متفقون على ذلك يُصدِّق بعضهم بعضاً.
الاختلاف الذي أُقرِّوا عليه وساغ لهم العمل به:
وأما ما يشبه اختلاف التنوّع السابق ذكْره من وجه دون وجه2، فهو ما تنازعوا فيه مما أُقِرُّوا عليه، وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك-فلم تُفرِّق بينهم تلك الخلافات-:
1-
كاجتهاد الصحابة في قطع النية وتركها.
2-
واجتهادهم في صلاة العصر لَمَّا بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وأمرهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم في الطريق في الوقت، وقالوا: إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة، وأَخّرها قوم إلى أن وصلوا
1 في المطبوع: "وأن نعبده" والصواب ما أثبتّه، وقد نبّهني إلى هذا أخٌ يَعمل عضواً في هيئة التدريس بجامعة العين، وقد غاب عنّي اسمه الذي كنت أحتفظ به مع رسالته.
2 هذا هو النوع الثاني من الاختلاف، وذلك لأن الخلاف يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع: الأول: هو ما سبق ذكره مِن الخلاف، وهو الخلاف السائغ الذي أحد الطرفين فيه مصيب، والطرف الآخر غير مصيب، وإن كان مأجوراً معفوّاً عن خطئه. الثاني: اختلاف التنوّع في الأعمال المشروعة. الثالث: هو هذا، وهو ما تنازعوا فيه مما أُقرّوا عليه وساغ لهم العمل به.
وصلّوها بعد الوقت، تمسكاً بظاهر لفظ العموم. فلم يُعَنِّف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين، وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"1.
3-
وقد اتفق الصحابة -في مسائل تنازعوا فيها- على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم. كمسائل في العبادات، والمناكح، والمواريث والعطاء، والسياسة، وغير ذلك.
4-
وحَكَمَ عمر أول عام في الفريضة الحِماريّةِ2 بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعةٍ مثل الأولى، ولَمَّا سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي.
وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل، ولا ضلالة، ودلّ الكتاب والسنّة على وجوب متابعتهم3.
1 أخرجه البخاري: 96-الاعتصام بالكتاب والسنة، 21-باب أجر الحاكم إذا اجتهد
…
" الفتح: 13/318، ومسلم: 30-الأقضية ح:15 3/1342.
2 الحماريّة مسألة من مسائل الفرائض، وهي أن يجتمِع: الزوج، والأم، والإخوة مِن أُمّ، والإخوة لأبٍ وأُمّ. وكذلك كل مسألةٍ يجتمع فيها: زوجٌ، وأمٌّ أو جدة، واثنان فصاعداً مِن ولدِ الأُم، وعصبةٌ مِن ولد الأبوين. والمسألة الحمارية هذه تسمّى أيضاً المُشَرَّكة. يُنظر: المغني، لابن قدامة: 9/24.
3 أي في أصول المنهج، وفي أصل الاتّباع، لا في كل جزئيّةٍ مِن جزئيات الآراء والأقوال؛ وإلا فقد ثبت بالكتاب والسنّة أنهم في أفرادهم غير معصومين، ولكنّ العصمة في إجماعهم، رضي الله عنهم.
5-
وتنازعوا في مسائل عِلْمية اعتقاديّة:
- كسماع الميت صوت الحي.
- وتعذيب الميت ببكاء أهله.
- ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت.
وكان هذا الخلاف بينهم مع بقاء الجماعة والألفة!. وهو الأمر الذي يَغيب عن كثيرٍ مِن المختلفين فيما بينهم مِن المسلمين في زماننا هذا، ولكن نَعِيب زماننا والعيب فينا، نسأل الله أن يَهدينا!.
وهذه المسائل التي اختلفوا فيها:
أ - منها ما أحدُ القولين خطأ قطعاً.
ب- ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور -أتباع السلف-، والآخر مؤدٍّ لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه، وهل يُقال له مصيب أو مخطئ؟ فيه نزاع.
جـ- ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم في نفس الأمر.
د- ومذهب أهل السنّة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ، فهذا النوع-أي مِن اختلاف العلماء والأمراء مِن أهل السنّة والجماعة الاختلاف السائغ- يشبه النوع الأول-أي الأنبياء في شرائعهم- من وجه دون وجه.
أما وجه المخالفة: فلأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من1 الإقرار على الخطأ، بخلاف الواحد من العلماء والأمراء، فإنه ليس معصوماً من ذلك؛ ولهذا يسوغ، بل يجب، أن نبين الحق الذي يجب اتِّباعُهُ، وإن كان فيه بيان خطأِ مَنْ أخطأ من العلماء والأمراء.
وأما الأنبياء فلا يُبَيِّنُ أحدُهما ما يُظْهر به خطأَ الآخر.
وأما المشابهة: فلأن كلاً مِن المجتهدين المختلفين مأمور باتباع ما بَانَ له من الحق بالدليل الشرعي كأمْر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ما أوحي إليه، وليس لأحدهما أن يوجب على الآخر طاعته، كما ليس ذلك لأحد النبيين مع الآخر، وقد يظهر للمجتهد من الدليل ما كان خافياً عليه، فيكون انتقاله بالاجتهاد عن الاجتهاد، ويشبه النسخ في حق النبي، لكن هذا في حق المجتهد رفعٌ للاعتقاد، وذاك في حقِّ النبيّ رفعٌ للحكم حقيقةً، وعلى الأتباع اتّباع مَنْ وُلِّي أمرهم من الأمراء والعلماء فيما ساغ له اتّباعه وأُمر فيه باتّباع اجتهاده، كما على الأمة اتّباع أي نبيٍّ بُعث إليهم، وإن خالف شرعُه شرعَ الأول، لكنّ تَنَوّعَ الشروعِ لهؤلاء، وانتقاله، لم يكن لتنوّع نفس الأمر النازل على الرسول، ولكن لتنوّعِ أحوالهم، وهو إدراكُ هذا لما بلغه من الوحي سمعاً وعقلاً، وعجْز الآخر عن إدراك ذلك البلاغ، إما سمعاً لعدم تمكنه من سماع ذلك النص، وإما عقلاً لعدم فهمه لما فهمه الأول من النص، وإذا كان
1 في المطبوع: "عن". والصواب ما أثبتّه. لأن الفعل "عَصَمَ" يُعَدَّى بـ"من" وليس بـ"عن"، وعلى هذا الاستعمال جاء الأسلوب في القرآن الكريم. وقد نبّهني إلى هذا مشكوراً الأخ المذكور في الحاشية 204.
عاجزاً سقط عنه الإثم فيما عجز عنه، وقد يتبين لأحدهما عجز الآخر وخطؤه ويعذره في ذلك، وقد لا يتبين له عجزه، وقد لا يتبين لكل منهما أيهما الذي أدرك الحق وأصابه؛ ولهذا امتنع مَن امتنع من تسمية مثل هذا خطأً؛ قال لأن التكليف مشروط بالقدرة؛ فما عُجِزَ عنه من العلم لم يكن حُكْمَ الله في حقّه، فلا يقال: أخطأه.
وأما الجمهور فَيقولون: أخطأ، كما دلت عليه السنّة والإجماع، لكن خطؤه معذور فيه، وهو معنى قوله: عجز عن إدراكه وعلمه. لكن هذا لا يمنع أن يكون ذاك هو مراد الله ومأموره -فإنّ عجْز الإنسان عن فهم كلام العالم لا يمنع أن يكون قد أراد بكلامه ذلك المعنى- وأن يكون الذي فهمه هو المصيب الذي له الأجران.
ولهذا تنازعَ أصحابنا فيمن لم يُصِب الحكم الباطن، هل يقال: إنه مصيب في الظاهر لكونه أدى الواجب المقدور عليه من اجتهاده واقتصاده1، أوْ لا يطلق عليه اسم الإصابة بحالٍ، وإن كان له أجرٌ على اجتهاده وقصده الحق؟. على قولين: هما روايتان عن أحمد؛ وذلك لأنه لم يُصِب الحكم الباطن، ولكن قَصَدَ الحق، وهل اجتهد الاجتهاد المأمور به؟.
التحقيق أنه اجتهد الاجتهاد المقدور عليه، فهو مصيب من هذا الوجه، من جهة المأمور المقدور، وإن لم يكن مصيباً من جهة إدراك المطلوب وفعل المأمور المطلق.
1 في المطبوع: "واقتصاره".
يوضح ذلك أن السلطان نوعان:
1-
سلطان الحجة والعلم، وهو أكثر ما سمي في القرآن سلطاناً، حتى روي عن ابن عباس، أن كل سلطان في القرآن فهو الحجة.
2-
الثاني: سلطان القدرة.
والعمل الصالح لا يقوم إلا بالسلطانين، فإذا ضَعُف سلطان الحجة كان الأمر بقدْرِه، وإذا ضَعُفَ سلطان القدرة كان الأمر بحَسَبِه،، والأمر مشروط بالقدرة على السلطانين، فالإثم ينتفي عن الأمر بالعجز عن كل منهما، وسلطان الله في العلم هو الرسالة، وهو حجة الله على خلقه، كما قال تعالى:{لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1.
وقال تعالى: {إنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} 2.
وقال: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} 3، ونظائره متعددة:
أمثلةٌ ونظائر لهذا الاتفاق وهذا الاختلاف:
ومِن أمثلة هذا ما يلي:
أ - اختلاف المذاهب والطرائق.
1 165: النساء: 4.
2 23: النجم: 53.
3 35: الروم: 30.
ب - اختلاف العبادات والتوجهات.
جـ - اختلاف المسالك العلمية.
أ - اختلاف المذاهب والطرائق:
فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء، إذا قصدوا بها وجْه الله تعالى، دون الأهواء؛ ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع، الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، واتبعوا ما أُنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنّة بحسب الإمكان، بعد الاجتهاد التام، هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله وعبادته وحده لا شريك له، وهو الدين الأصلي الجامع، كما يثاب الأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له، ويثابون على طاعة الله ورسوله فيما تمسكوا به لأنه من شرعة رسوله ومنهاجه، كما يثاب كل نبي على طاعة الله في شرعه ومنهاجه، ويتنوّع شرعهم ومنهاجهم مثل أن يَبْلُغَ أحدَهم الأحاديثُ بألفاظ غير الألفاظ التي بلغت الآخر، وتُفَسّر له بعض آيات القرآن بتفسير يخالف لفظُه لفظَ التفسير الآخر، ويتصرف في الجمع بين النصوص واستخراج الأحكام منها بنوع من الترتيب والتوفيق ليس هو النوع الذي سلكه غيره.
ب - اختلاف العبادات والتوجهات:
وكذلك في عباداته وتوجهاته قد يتمسك هذا بآية أو حديث، وهذا بحديث أو آية أخرى.
جـ - اختلاف المسالك العلمية:
وكذلك في العلم: من العلماء من يسلك بالاتباع طريقة ذلك العالِم، فتكون هي شرعهم، حتى يسمعوا كلام غيره ويروا طريقته، فيرجح الراجح منهما، فتتنوّع في حقهم الأقوال والأفعال السالفة لهم من هذا الوجه.
وهم مأمورون بأن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا فيه، كما أمرت الرسل بذلك، ومأمورون بأن لا يفرقوا بين الأمة، بل هي أمة واحدة، كما أُمِرَتِ الرسل بذلك، وهؤلاء آكد؛ فإن هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد، وأما القدْر الذي تنازعوا فيه فلا يقال: إن الله أمر كلاً منهم باطناً وظاهراً بالتمسك بما هو عليه، كما أمر بذلك الأنبياء -وإن كان هذا قول طائفة من أهل الكلام- فإنما يقال: إن الله أمر كلاً منهم أن يطلب الحق بقدْر وسعه وإمكانه، فإن أصابه وإلا فلا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها، وقد قال المؤمنون:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 1.
وقال الله: قد فعلت2.
وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيْمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} 3:
- فمَنْ ذَمَّهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى.
- ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله،
1 286: البقرة: 2.
2 يُنْظر: صحيح مسلم: 1-الإيمان ح: 119، 1/115-116.
3 5: الأحزاب: 33. وفي المطبوع: {ولا جناح عليكم
…
} وهو خطأ.
وينتصر لها بغير هدى مِن الله؛ فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى من الله.
- ومن فعل ما أُمر به بحسب حاله مِن اجتهاد يَقْدِر عليه، أو تقليدٍ، إذا لم يقدر على الاجتهاد، وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد؛ إذِ الأمر مشروط بالقدرة:{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} 1.
فعلى المسلم في كل موطنٍ أن يُسْلِم وجهه لله، وهو محسن ويدوم على هذا الإسلام.
فإسلام وجهه: إخلاصه لله.
وإحسانُ فِعْلِه: فِعْلُهُ الحسن.
فتدبرْ هذا فإنه أصلٌ جامعٌ نافعٌ عظيمٌ.
انتهى هنا كلام الإمام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، ولعله يكون نبراساً لكل مسلم راغبٍ في معرفة الحق واتّباعه في هذه القضية المهمّة، لاسيما في زماننا هذا الذي أطلّت فيه- منذ سنين- على المسلمين فِتَنٌ آخذٌ آخرها بأولها، وكأنها لا أولَ لها ولا آخر، نسأل الله أن يُسلّمنا وإياهم منها، وأن يَردّنا إلى هدْي ديننا، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه!.
1 286: البقرة: 2.