الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي دعائه صلى الله عليه وسلم تعليم للدعاة من بعده أن يفعلوا ذلك وأن يقتدوا به فيه، وكم يَغْفل الدعاة في عصرنا عن هذه السنّة وهذا الأسلوب النبويّ القدوة، وكم يَغْفل عنه الآباء والمربون. وكم يركن كثير منهم إلى جهده ثم هو لا يوفَّق!!.
إنّ هذا الحديث النبوي الشريف دعوة لنا لننتهج الملاطفة والتودد في الدعوة والتربية ولننتهج -أيضاً- أسلوب الدعاء والتوجه إلى الله سبحانه بسؤاله تحقيق ما نصبوا إليه تجاه المدعو والمربَّى. إن لكل منهما أثراً فورياً على النفس يدركه كل إنسان عنده أحاسيسه ومشاعره!.
2
اختيار الوقت المناسب والظرف المناسب
عن ابن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا1.
ومن الأساليب النبوية في التربية والتعليم: اختيار الوقت المناسب والظرف المناسب.
وهذا أسلوبٌ نبويّ آخر في الدعوة، وسط بين الإفراط والتفريط، يحكيه الصحابي الجليل الذي تلقّاه من النبي صلى الله عليه وسلم وذاق أثره الطيّب وطبّقه هو عمليّاً:
1 أخرجه البخاري: 3-العلم 11-باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا الفتح: 1/162.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا. نعم هكذا حتى ولو كان الواعظ رسولَ الله!! ذلك أنه يُراعِي الظروف النفسية للسامعين فيتحدث حين يكون للحديث قابلية أفضل واستعداد أحسن، لتلقّي كلمات المتكلم وفهْمها واستيعابها، وكثرةُ المواعظ المتتابعة قد لا تُجدي بل قد تدعو للسآمة والملل، وهذا عكس ما يرتجيه بمواعظه فهو يتجنبه.
إنه صلى الله عليه وسلم يراعي سنّة التدرج الطبيعي، ويتطلب الإقناع الراسخ الثابت ولو جاء بطيئاً، ويتحاشى الإيمان المتقلِّب غير الثابت ولو جاء أول الأمر في طفْرة عارمة.
وأيضاً فإنه صلى الله عليه وسلم يَسُنّ السنّة لمن بعده من الدعاة، المقتدين به، المقتفين أثره، فهو يرسم لهم الطريق عملياً بسيرته!.
فينبغي لهم أن يقتدوا به في ذلك عملياً فهو أُستاذ الطريق، ودليل السالك إلى الله عز وجل. لقد كان يتخوّل أصحابه بالموعظة، وهو هو، وأصحابه هم أصحابه، رضوان الله عليهم، الذين اختارهم الله لصحبته، واختاروا طريقه وارتضوا سنته، ولزموا الاقتداء به، وأَحبوا ذلك وتركوا في سبيله الدنيا وزخرفها، ولكنه كان يتخوّلهم بالموعظة في الأيام مخافة السآمة عليهم، أي يتعهدهم بالموعظة في الأيام، وذلك أمْرٌ وسطٌ بين التهاون وترْك التذكير والوعظ الذي يُنْسى، وبين الوعظ والتذكير المستمر الذي يُمِلُّ، وكلا هذين داءٌ خطير يتحاشاه صلى الله عليه وسلم بسيرته هذه، فيتخولهم ويتعهدهم بالموعظة.
ومِنْ تخوّله لهم بالموعظة أنه يتحيَّن المناسبات لمواعظه، فتقع موقعها في النفوس:
فمِنْ جَدْيٍ1 ميْت يمرّ به في الطريق مع أصحابه يشبّه به الدنيا2.
ومِنْ رَجُل يمرّ به في نَفَرٍ من أصحابه في نشاط وقوة مشمّراً عن ساعده للعمل فيسأل أصحابه عن رأيهم فيه ثم يوجههم بمناسبة ذلك، ورجلٍ آخر يَمُرُّ حسن الهيئة وأخر رثُّ الهيئة يتفاوتان في الإيمان والإخلاص، يسأل أصحابه عن رأيهم فيهما فيقوّمون حالهما بمظهرهما فقط، فيقول في الرجل قوي الإيمان الذي كان رثّ الهيئة: هذا خير من مِلْءِ الأرض مثل هذا3.
ومن مناسبةٍ ليومٍ فاضلٍ أو شهرٍ أو أيامٍ أو عيدٍ أو آيةٍ تنزل أو حالةٍ تَحْصل أو قصة تقال أو فعلٍ صائب أو عملِ خيرٍ يفعله أحد أصحابه، أو خطأٍ يرتكبه أحد الناس إلى غير ذلك من المناسبات الداعية للتوجيه والتعليم والوعظ.
لقد كان حريصاً صلى الله عليه وسلم على الدعوة والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن
1 الجَدْيُ: الذَّكَرُ من أولاد الغنم يُنْظر: لسان العرب: باب الواو والياء من المعتل
فصل الجيم.
2 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلاً مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ؛ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ:"أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ " فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟! قَالَ:"أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ ". قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ. فَقَالَ: "فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ"، مسلم: 53-الزهد والرقائق ح2957.
3 يُنْظر البخاري: 67-النكاح، 15-باب الأكفاء في الدين الفتح: 9/132.