الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لها باباً يدخل الناس منه وباباً يخرجون منه". وقد احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام قد يَتْرك بعض الأمور المختارة لأجل تأليف القلوب ودفعاً لنفرتها. ولهذا نصّ الإمام أحمد على أنه يجهر بالبسملة عند المعارض الراجح، فقال: يجهر بها إذا كان بالمدينة. قال القاضي لأن أهلها إذْ ذاك كانوا يجهرون فيجهر بها للتأليف وليعْلِمَهم أنه يُقرأ بها، وقال غيره: بل لأنهم كانوا لا يقرءونها بحال فيجهر بها ليعْلِمَهم أنه يُقْرأ بها، وأن قراءتها سنّة، كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.
فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، وبهذا يزول الشك والطعن، فإن الاتفاق إذا حصل على جواز الجميع وإجزائه عُلِم أنه داخل في المشروع، فالتنازع في الرجحان لا يضر، كالتنازع في رجحان بعض القراءات، وبعض العبادات، وبعض العلماء ونحو ذلك، بل قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم كُلاًّ من القرّاء أن يقرأ كما يعلم، ونهاهم عن الاختلاف في ذلك، فمَنْ خالف في ذلك كان ممن ذمّه الله ورسوله، فأما أهل الجماعة فلا يختلفون في ذلك.
الأصل الثاني: الاعتصام بالسنّة:
وأما الأصل الثاني: فنقول: السنّة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها من السعة والخير ما يزول به الحرج، وإنما وقعت الشبهة لإشكال بعض ذلك على بعض الناس.
أمثلة على تطبيقات هذا الأصل:
المثال الأول:
الأذان فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم سنّ في الإقامة الإيتار والشفع، ففي الصحيحين1: أنه أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. وفي صحيح مسلم2: أنه علّم أبا محذورة الإقامة مثنى مثنى، مثل الأذان، فإذا كان كل واحد من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأحد النوعين، صار ذلك مثل تعليمه القرآن لعمر بحرف ولهشام بن حكيم بحرف آخر، وكلاهما قرآن أَذِنَ الله أن يُقْرأ به.
وكذلك الترجيع في الأذان هو ثابت في أذان أبي محذورة، وهو محذوف من أذان بلال الذي رووه في السنن.
المثال الثاني:
الجهر بالبسملة والمخافتة بها، صح الجهر بها عن طائفة من الصحابة وصحت المخافتة بها عن أكثرهم، وعن بعضهم الأمران جميعاً.
وأما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم فالذي في الصحاح والسنن يقتضي أنه لم يكن يجهرُ بها، كما عليه عمل أكثر الصحابة وأمته.
1 البخاري: 10-الأذان، 2-باب الأذان مثنى مثنى الفتح: 3/82، ومسلم: 4-الصلاة، ح:2-5 1/286.
2 يُنْظر الحديث في ذلك عند مسلم: 4-الصلاة، ح:6 1/287.
ففي الصحيح1 حديث أنس وعائشة وأبي هريرة يدل على ذلك دلالة بيّنة لا شبهة فيها.
وفي السنن أحاديث أُخَرُ مثل حديث ابن مغفَّل وغيره.
وليس في الصحاح والسنن حديثٌ فيه ذكْرُ جهْرِهِ بها.
والأحاديث المصرِّحة بالجهر عنه كلها ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، ولهذا لم يخرِّجوا في أمهات الدواوين منها شيئاً.
ولكن في الصحاح والسنن أحاديث محتملة، وقد روى الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها إذ كان بمكة، وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتى مات، ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ، وهذا يناسب الواقع، فإن الغالب على أهل مكة كان الجهرَ بها، وأما أهل المدينة والشام والكوفة فلم يكونوا يجهرون بها، وكذلك أكثر البصريين، وبعضهم كان يجهر بها، ولهذا سألوا أنساً عن ذلك.
ولعلّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها بعض الأحيان أو جهراً خفيفاً، إذا كان ذلك محفوظاً، وإذا كان في كتب الحديث نفسها أنه فعل هذا مرة وهذا مرة زالت الشبهة.
1 يُنْظر: البخاري: 10-الأذان، 89-باب ما يقول بعد التكبير، الفتح: 2/226، ومسلم: 4- الصلاة، ح:50-52 1/299.
المثال الثالث:
القنوت، وأمْره بيّنٌ لا شبهة فيه عند التأمل التام.
فإنه قد ثبت في الصحاح1 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الفجر مرة يدعو على رُعَل وذَكْوان وعُصَيّة ثم تركه، ولم يكن ترْكه نسخاً له، لأنه ثبت عنه في الصحاح أنه قنت بعد ذلك يدعو للمسلمين: مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، ويدعو على مضر2. وثبت عنه أنه قنت أيضاً في المغرب والعشاء، وسائر الصلوات، قنوت استنصار.
فهذا في الجملة منقول ثابت عنه، لكن اعتقد بعض العلماء من الكوفيين أنه تَرَكَه تَرْكَ نسخٍ، فاعتقد أن القنوت منسوخ، واعتقد بعضهم من المكيين أنه مازال يقنت في الفجر القنوت المتنازع فيه حتى فارق الدنيا.
والذي عليه أهل المعرفة بالحديث أنه قَنَتَ لسبب، وَتَرَكَه لزوال السبب، فالقنوت من السنن العوارض لا الرواتب، لأنه ثبت أنه تركه لَمّا زال العارض، وثبت في الصحاح أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهراً، هكذا ثبت عن أنس وغيره، ولم ينقل أحد قط عنه أنه قنت القنوت المتنازع فيه -وهو القنوت الدائم في الصبح- لا قبل الركوع ولا بعده، ولا في كتب الصحاح والسنن شيء من ذلك، بل قد أنكر ذلك الصحابة كابن عمر وأبي مالك
1 يُنْظر صحيح البخاري: 14-الوتر، 7- باب القنوت قبل الركوع وبعده الفتح: 2/489.
2 البخاري: 15-الاستسقاء، 2-باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:"اجْعلها عليهم سنين كسِنِيِّ يوسف" الفتح: 2/492.
الأشجعي وغيرهما.
ومن المعلوم قطعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان كل يوم يقنت قنوتاً يجهر به لكان له فيه دعاء ينقله بعض الصحابة؛ فإنهم نقلوا ما كان يقوله في القنوت العارض، وقنوت الوتر؛ فالقنوت الراتب أولى أن يُنْقل دعاؤه فيه، فإذا كان الذي يستحبه إنما يدعو فيه لقنوت الوتر، عُلِم أنه ليس فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا مما يُعْلم باليقين القطعي كما يُعْلم عدم النص على هذا وأمثاله، فإنه من الممتنع أن يكون الصحابة كلهم أهملوا نَقْلَ ذلك، فإنه مما يُعْلم بطلانه قطعاً.
ولذلك المأثور عن الصحابة مثل عمر وعليّ وغيرهما هو القنوت العارض، قنوت النوازل، ودعاء عمر فيه، وهو قوله: اللهم عذّب كفرة أهل الكتاب
…
إلخ، يقتضي أنه دعا به عند قتاله للنصارى، وكذلك دعاء عليّ عند قتاله لبعض أهل القبلة، والحديث الذي فيه عن أنس أنه لم يَزَلْ يَقْنُت حتى فارق الدنيا مع ضعف في إسناده، وأنه ليس في السنن إنما فيه القنوت قبل الركوع.
وفي الصحاح عن أنس أنه قال: لم يقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا شهراً.
والقنوت قبل الركوع هو القيام الطويل، إذْ لفظ القنوت معناه دوام الطاعة، فتارة يكون في السجود، وتارة يكون في القيام.
المثال الرابع:
كيفيّة حجّة الوداع، فإنها وإن اشتبهت على كثير من الناس، فإنما أُتوا من جهة الألفاظ المشتركة، حيث سمعوا بعض الصحابة يقول: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج وهؤلاء أيضاً يقولون: إنه أفرد الحج، ويقول بعضهم: إنه قرن العمرة إلى الحج. ولا خلاف في ذلك؛ فإنهم لم يختلفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه، وأنه كان قد ساق الهدي، ونحره يوم النحر، وأنه لم يعتمر بعد الحجة في ذلك العام، لا هو ولا أحد من أصحابه، إلا عائشة أمر أخاها أن يُعْمِرها من التنعيم أدنى الحِلّ.
وكذلك الأحاديث الصحيحة عنه، فيها أنه لم يَطُفْ بالصفا والمروة إلا مرة واحدة مع طوافه الأول.
فالذين نقلوا أنه أفرد الحج صدقوا لأنه أفرد أعمال الحج، لم يَقْرِن بها عمل العمرة كما يَتَوهم مَنْ يقول: إن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين، ولم يتمتع تمتعاً حَلّ به من إحرامه كما يفعله المتمتع الذي لم يسق الهدي، بل قد أمر جميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، ويُهِلوا بالحج بعد قضاء عمرتهم".
ما يجوز فيه الخلاف وما لا يجوز:
يختلف الخلاف بحسب المسائل التي فيها الخلاف:
أ- فالأصول الثابتة بالكتاب والسنّة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام