الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
القصور في الفِقْه العمليّ:
ومن الأمثلة التي توضح هذا الأمر أن تَجِد من يُحَقِّقُ -مِنْ الجانب العلميّ النظريّ- أن من السنّة مُصَاقَبَةَ الأقدام في الصلاة بمعنى أن لا يدع المرء فُرْجة بينه وبين مَنْ على جانِبَيْه. وهذا حق وفِقْهٌ صحيح، لكنه يفتقر إلى تطبيق عمليّ صحيح بمعنى اتّباع السنّة في تطبيق السنّة، لكنك تجده في الناحية العمليّة يجانب السنّة، وليت الأمر يقف عند هذا الحدّ، بل يَظُن أنه في تلك الحال على السنّة، فهو بتطبيقه العمليّ يسيء إلى السنّة باسم تطبيق السنّة، فتراه يُؤذي مَنْ على يمينه في الصلاة ومَنْ على يساره؛ لأنه يضايقهم بكثرة التصاقه بكلٍ منهما ويُضيِّق عليهما، وقد لا تُسْعفه الحال فتراه يَمُطُّ رجله اليمنى نحو اليمين ما استطاع، ويَمُطُّ رجله اليسرى نحو اليسار ما استطاع، فيأخذ من مساحة المسجد أكثر مما يستحق، ويؤذي أكثر من واحد ممن يجاوره في الصلاة، وتراه يتكلّف في تطبيق هذه السنّة تكلّفاً لا يليق بالسنّة، وقد ينشغل ويُشْغل بها عمّا هو أولى منها من أفعال الصلاة، وقد يُحدث إيذاؤه لجاره في الصلاة ردّة فِعْل غير محمودة شرعاً.
وإن مما يعجب له المرء، ما نراه من بعض المصلين، الذين يفرّج أحدهم ما بين رجليه في الصلاة بشيء من المبالغة تعبّداً لله تعالى، فإذا سجد اضطر إلى ترك فراغ بينه وبين جاره في الصف، لأنه لابد أن يعود إلى وضعه الطبيعي في السجود، فإذا قام رجع إلى تلك الحالة الشاذة في الوقوف للصلاة حيث يَخْرج عن الأدب في ذلك، ويؤذي جاره، وقد يشغله ذلك عن الخشوع في
الصلاة. يفعل بعضهم هذا في الصلاة بغير دليل، إذْ لم يقم على هذا دليل من كتاب أو سنة -فيما أعلم- وهذا الكتاب والسنة بيننا فمن وجد فيهما دليلاً على هذا العمل فليأت به، على أنه ينبغي التنبيه إلى أن هذا شيء والأمر بالتحام الصفوف وتسويتها وعدم ترك فرجة في الصف، كما جاء في الأحاديث الصحيحة، شيء آخر، والعَجَبُ أن يَفْعل المسلم هذا الفعل حرصاً على السنّة بغير دليل من السنّة ولكنه التقليد والإغراق في التزام بعض المظاهر التي يُظَنُّ أنها من الدِّين وهي ليست منه في شيء.
بل قد تجد بعضهم لا يكتفي بإلصاق قدمه بقدم جاره في الصلاة بصورة طبيعية، بل تجده لا يرضيه في ذلك إلا مزاحمة جاره والضغط على رجل جاره برجله، وكلّما ابتعد عنه قليلاً برجله لَحِقَهُ وهكذا، وترى بعضهم لا يكتفي بإلزاق القدم بالقدم بصورة طبيعية بل يلوي اتجاه رجله اليمنى نحو اليسار، ورجله اليسرى نحو اليمين، لتُلاصِق رِجْله رِجْل جاره الذي عن يمينه وجاره الذي عن يساره بما في ذلك الكعبان لأنه يظن أنَّ هذه هي السنّة، في حين أن السنّة إلصاق القدم بالقدم بصورة طبيعية دون تفريج ودون ضَغْط على قدم من بجانبك، ودون تكلّف أو إيذاء. وفي تلك الصورة المتكلفة مخالفة لما رواه أبو حميد الساعدي رضي الله عنه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، إذْ قال:
…
واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة
…
1، والله هو الموفق والهادي،
1 صحيح البخاري، نسخة الفتح: 10- كتاب الأذان، 145- باب سنّة الجلوس في التشهد، الفتح: 2/305.
فالإخلاص وحده لا يكفي حتى يَنْضمّ إليه الصواب.
ومن الأمثلة كذلك التي توضح هذا الأمر: أن تَجِد مَنْ يُدرِك علمياً أن إعفاء اللحية من السنّة، لكنه من الناحية العملية تراه يأتي بالسنّة بطريقة تسيء إلى السنّة حيث يعفي لحيته لكنه مثلاً لا يعتني بنظافتها، ولسان حاله يقول هذه هي السنّة، بل هو يدعو إلى إعفاء اللحية، وإذا سئل يقول هي سنّة أو أعفيتها لأنها سنّة، فَيَنْظُرُ عامّة الناس إلى تطبيقه لهذه السنّة على معنى أنه قُدْوة في هذه السنّة التي يدعو إليها، فَيَرَوْن حاله، وقد لا يَقْبلون الاقتداء به في هذه السنّة نظراً لما لابَسَها في التطبيق العمليّ من تصرف يسيء إليها!! وإن أَنْكَرتَ عليه ربما قال لك:"البذاذة1 من الإيمان"2 وربما ظنه: البذاءة من الإيمان!. وربما قال لك: "نُهِينا عن التكلف"3. وما عَلِم أن
1 البذاذة: رثاثة الهيئة. قال ابن الأثير: البذاذة رثاثة الهيئة. يقال: بذُّ الهيئة، وباذُّ الهيئة، أي رثُّ اللبسة. أراد التواضع في اللباس وترْك التبجّح به. النهاية في غريب الحديث: 1/110.
2 رُوي بطرق لا تخلو من كلام، لكن قد يَجْبر بعضُها بعضاً، وذكره الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/601 برقم 341.
3 قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجه البخاري، 96-الاعتصام بالكتاب والسنة، باب رقم 3، الفتح13/264. وقد قال الله تعالى آمراً رسوله أن يقول:{وما أَنَا مِن المتكلِّفِيْنَ} ؛ فهذا مبدأٌ من مباديء الإسلام في حياة الإنسان وفي هدْي الدين، ولكنّ الخطأ هنا في أمرين: الأول: وضْع هذا النص في غير موضعه. الثاني: التكلف في تطبيق السنن. فلا هذا صحيح ولا ذاك. ومِن تطبيقات هذا التكلف في فهم السنن، الاستنباط للسنن مِن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، لا مِن أقواله، في حين أن دلالة الفعل على درجة المشروعية ليست مما يُستنبط مِن الفعل وحده، بل لابدّ مِن القول الذي يُحدِّد درجة الطلب في الشرع؛ وبهذا يتبين خطأ بعض الناس الذين بمجرد أن وَقفوا-أو وُقِّفوا- على رواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بأنّ أحد الصحابة شاهده مفتوحٌ إزرار جيبه، أي فتحة ثوبه على صدره، بمجرد هذه الرواية جعل ذلك سنّةً!. والقاعدة أن الفعل وحده لا يدلّ على الوجوب.
التكلف إنما هو في تحمّل الوسخ وعدم النظافة!!.
ولعل بعض الناس يفهم من مثل هذا الأمرَ بعدم الاهتمام بالمظهر، أو بالنظافة، أو جواز إهمال النظافة، متغافلاً عن النصوص الشرعية الأخرى الواردة في الأمر بالنظافة والتطيب، وكأنه بهذا الفهم قد انقلب عليه في الحديث لفظ "البذاذة"؛ فظن أنّ الذال الثانية همزةً!.
وقد جاء في الحديث: "من كان له شعر فليكرمه" أخرجه أبو داود وغيره1.
ثم لعل شأن النظافة في الإسلام بمختلف صورها: الحسّيّة والمعنويّة، الشخصية والاجتماعية، في الثوب والبدن والقلب والمسكن والشارع، كل ذلك من الأمور المعلومة التي لا تحتاج إلى بيان أو تأكيدِ أهميتها في هذا الدين الحنيف، دين الطهر والنظافة من الرذائل والأوساخ الحسيّة والمعنوية، وهذا من أهم مزايا هذا الدين، ولذلك اهتم بوسائل النظافة: من السواك والطيب والاغتسال، في عدة مناسبات ما بين فرض وواجب ومستحب، حتى لقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم اغتسال المسلم يوم الجمعة حقاً لله على كل مسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِلَّهِ تعالى على كل مسلم حق أن يغتسل في
1 يُنظَر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني: 1/819.