الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجديد عن ابن العنابي *
تختلف هذه الطبعة عن مابقتها في أمور كثيرة. ففيها إضافات هامة تلقي أضواء جديدة على شخصية ابن العنابي وعلى دوره في عصره وعلى مدى صلاحية أفكاره وبقائها. وتتمثل هذه الإضافات:
1 -
في تنقيح الطبعة الأولى في ضوء ما عثرنا عليه من معلومات في مختلف المظان.
2 -
في التعريف ببعض كتب ابن العنابي التي لم نطلع عليها من قبل مثل صيانة الرياسة، والتحقيقات الإعجازية.
3 -
في ترجمة جديدة لحياته كتبها تلميذه ومعاصره عبد الحميد بك المصري، وضمنها كتابه الذي ما يزال مخطوطا، ولم نكن قد اطلعنا على هذه الترجمة عند كتابتنا هذا الكتاب أول مرة.
وإذا كانت التنقيحات مبثوثة ضمن الكتاب ومن السهولة أن يلاحظها القارىء في اماكنها من هذه الطبعة، فإننا قد عرفنا بكتب ابن العنابي الجديدة في القسم الثاني من هذا الكتاب وهو الذي عنوانه (آثاره). أما ترجمة عبد الحميد بك لابن العنابي فقد استفدنا منها في التنقيح، ولكنا فضلنا ذكر أهمها
(*) كتب المؤلف هذا الدخل للطبعة الثانية من كتابه (المفتي الجزائري: ابن العنابي رائد التجديد الإسلامي)، ط: 1، 1978، وقد نشر المدخل في مجلة (حوليات جامعة الجزائر) - العدد الأول، 1987.
في هذا المدخل لاختلافها نوعا ما عما عرفناه من ابن العنابي من قبل، ونود أن ننبه إلى أن في هذه الترجمة بعض الأخطاء الواضحة التي سنشير إليها في حينها غير أنها تظل هامة على أية حال. وتتضح أهميتها في أنها:
1 -
تلقي أضواء على حياة ابن العنابي المبكرة في الجزائر ولا سيما عن تعليمه وتوليه بعض الوظائف الدينية والسياسية.
2 -
تفيدنا عن دور ابن العنابي السياسي المبكر وعلاقته بحسين باشا ووجوده في مصر قبل احتلال الجزائر ((لأسباب سياسية)) على ما يبدو، وعن دوره أثناء الحملة الفرنسية على الجزائر وطريقة خروجه من الجزائر.
3 -
تكشف عن دور ابن العنابي في مصر سواء قبل الحملة الفرنسية على بلاده حيث أقام بها حوالي تسع سنوات ((لأسباب سياسية)) شيخا من شيوخ الأزهر البارزين ومؤلفا لكتابه (السعي المحمود)، أو بعد نفيه من بلاده إثر الجملة الفرنسية على الجزائر، إذ أصبح مفتي الإسكندرية ومن المقربين لمحمد علي والي مصر، وهو بذلك قد أثار ضده غضب القضاة والمفتين الآخرين الذين تآمروا عليه واتهموه بالزندقة وبكونه من ((الخوارج))، حتى غضب عليه الخديوي الجديد عباس الذي خلف محمد علي وعزله من منصب الفتوى.
وهكذا تقدم لنا ترجمة عبد الحميد بك لابن العنابي صفحة جديدة من حياة هذا الرجل الذي جاء في وقته ففهمه البعض واستفادوا من فكره وتجاربه وعلمه، ولم يفهمه آخرون فرأوا فيه نشازا يقلق راحتهم فسخطوا عليه، فكان مصيره النفي من بلاده أولا والعزل من وظيفته في مصر ثانيا.
ولكن يجب عليك أن لا تكتفي بقراءة ما قاله عبد الحميد بك في ابن العنابي. فالرجل يقدم لنا عنه معلومات فيها أخطاء، ولكن فيها رأي، وهو لم يعايش ظروف ابن العنابي في الجزائر قبل الحملة الفرنسية وأثناءها حتى تكون أحكامه دقيقة. ويبدو أنه لم يرجع فيما كتب إلى وثائق دقيقة، ولكنه سمع من ابن العنابي نفسه أو من الجالية الجزائرية بالإسكندرية، فكانت اخباره مشوشة إلى حد كبير. ولذلك فإن هذه الترجمة لن تغنيك عن قراءة حياة ابن العنابي في
الصفحات التي كتبناها عنه والتي رجعنا فيها إلى مصادر معاصرة وغير معاصرة، من امثال (مرآة) حمدان خوجة، و (حوليات) ديرينو، ورسائل الكبابطي.
ولا بأس، بعد أن عرفت ذلك ان تقرأ هذه السطور التي كتبها عبد الحميد بك بمصطلحات عصره (1): فهو يقول عنه ما خلاصته: العلامة الشيخ محمد الجزائري الحنفي ابن السيد محمود بن محمد بن حسين بن مجمد أفندي الإزميلتي (2)، ولد بالجرائر سنة 1190 (3) وحضر بها المعقول والمنقول، على علماء العصر، كوالده محمود وابن الأمين علي (4)، والشيخ محمد جكيكن. وخلافهم من العلماء الأعلام، ((لم يحضرني أسماءهم (كذا)))، وبها نشأ وتخرج.
وفي سنة 1208 تولى بها (الجزائر) القضاء وهو ابن ثماني عشرة منة. وبقي فيه سنتين. ثم عزل نفسه منه لأمر مخالف للشرع (5)، ألزمه بفعله والي الجزائر
(1) توفي عبد الحميد بك سنة 1280 (1863)، ولا نعرف أن كتابه قد نشر، كما لا نعرف عن حياته شيئا آخر سوى أن والده، خليل أفندي، كان من الروم إيلي، وعاش في إسطانبول، وأصبح صاحبا وصهرا لمحمد علي والي مصر، وتولى بها وظائف إدارية. وقد حصلنا نحن على كتابه (تاريخ عبد الحميد بك) من ليدن بشراء صورة شريطية منه (ميكرو فيلم)، وهو كتاب في تراجم أهل القرن 19م.
(2)
كذا، ولعلها الإزميرلي (من إزمير)، وقد وجدت في مقامة (إعلام الأحبار) لأحمد ساسي البوني، ان عائلة العنابي تعود إلى جنينا الألبانية - بنسبما هكذا: الجنيني. فإذا صح هذا فإن أصول هذه العائلة وعائلة محمد علي واحدة، أي ألبانية. كذلك وجدنا نسبة أخرى لعائلة ابن العنابي، وهي التركماني. أنظر فقرة (أسرته) من هذا الكتاب: وكذلك كتابنا (تجارب في الأدب والرحلة) ص 94.
(3)
أي بمدينة الجزائر، ولكن التاريخ غير مضبوط، فقد ضبطه ابن العنابي نفسه بسنة 1189. انظر إجازته لمحمد بيرم الرابع في هذا الكتاب.
(4)
هو علي ابن الأمين وكان من أبرز مفتيي الجزائر أواخر العهد العثماني وقد توفي سنة 1236. وكثيرا ما ذكره ابن العنابي وذكر إجازته له.
(5)
يقصد أن ابن العنابي قد استقال من وظيفته حتى لا يخالف حكم الشرع فإذا صح هذا فإن ابن العنابي يكون ذا شخصية قوية منذ صغره. ومن لنا بمثل هذا الموقف في عصر الخوف والطمع الذي أذل رقاب العلماء للحكام الظلمة؟.
عندئد (6). وبعد أشهر ولي القضاء ثانية سنة 1210 وبقي فيه ثلاث سنوات. ولما مات مفتي الجزائر سنة 1213 (7) ولوه هو الفتوى فبقي في هذا المنصب يفتي على مذهب المالكية (8) إلى سنة 1236 حين عزم على الحج هو ووالده (9) مع محمد أفندي أخي حسين باشا والي الجزائر (10) وفي أثناء حضورهم في الطريق حصل بين والد ابن العنابي ومحمد أفندي تشاحن وخصام (11)، وحين وصلوا الإسكندرية بقي الشيخ ابن العنابي مع والده بها.
وبعد مدة لم يحددها عبد الحميد بك، توجه ابن العنابي من الإسكندرية إلى الجامع الأزهر. وقد أقام به يدرس ويفيد (12) وانتفع به علماء الأزهر فضلا عن طلابه وذلك خلال تسع سنوات (13) ومن الذين اخذوا عنه خلال ذلك:
إبراهيم السقا (14) والشيخ ممد الكتبي والشيخ أحمد التميمي الخليلي مفتي
(6) والي الجزائر عندئد هو حسن باشا (1791 - 1797).
(7)
مفتي الجزائر الحنفي عندئذ هو محمد بن عبد الرحمن الذي تولى سنة 1204.
(8)
كذا، والظاهر ان هذا سبق قلم فقط، لأن ابن العنابي (وعائلته) كان حنفيا، وتولى الفتوى على مذهب أبي حنيفة سواء في مصر أو في الجزائر.
(9)
يؤكد ابن العنابي حج والده سنة 1236 حين ذكر وفاته عند بحر السويس ودفنه بالقرب من بلد القصير عند منصرفه من الحج، ولم يذكر شيئا عن حجه هو معه ابو بمفرده.
(10)
يفهم من هذا ومما يليه ان حج ابن العنابي كان ضمن وفد رسمي.
(11)
لا ندري إن كان الخصام قد وقع اثناء الرجوع إلى الحج او العودة منه. والظاهر الاحتمال الأول لوفاة والد ابن العنابي اثناء الرجوع من الحج، كما سبق، عند السويس. ولكن كلام عبد الحميد بك الموالي يفهم منه العكس، وهو غير صحيح لأن والد ابن العنابي قد توفي قبل الوصول إلى الإسكندرية.
(12)
هذه نقطة غامضة من حياة ابن العنابي. لماذا اختار الإقامة في مصر وقد جاء حاجا فقط، وكان في بلاده متوليا وظائف رسمية؟ هل كان خائفا من أمر يحدث في الجزائر لو رجع إليها؟ الظاهر هو ذلك كما يوضحه ما سيأتي من كون حسين باشا قد أرسل في طلبه واسترضاه. وهل أغرته حياة مصر ((المتفتحة)) عندئذ بالبقاء حيث وجد مجالا مناسبا لأفكاره أكثر من مجال بلاده ((المنغلقة))؟
(13)
نعرف انه خلال هذه السنوات ألف كتابه (السعي المحمود)، وبالضبط سنة 1242.
(14)
وهو الذي اختصر كتاب شيخه وسماه (بلوغ المقصود ..).
القاهرة، والشيخ محمد البنا مفتي الإسكندرية (15) والشيخ علي البقلي، والشيخ خليل الرشيدي، وغيرهم. وأثناء إقامته بالأزهر حج ابن العنابي ثلاث مرات. وفي سنة 1245 أرسل حسين باشا يطلبه إلى الجزائر، وأرسل له سفينة مخصوصة فتوجه بها إليه (16) ولما وصل أراد الدخول على الباشا فصادف دخول مفتي الجزائر (17) فسبقه ابن العنابي في الدخول، فتغير منه المفتي وقال إنه خالف بذلك الرسوم، فبلغ ذلك الباشا فقال إنه يستحق التقدم عليه، وعزل المفتي وولاه هو مكانه، فأقام على ذلك سنة، وهي السنة التي كان فيها أيضا الشيخ مصطفى الكبابطي قاضيا (18).
وفي سنة 1246 احتل الفرنسيون الجزائر، وأثناء الحرب مع حسين باشا ولاه هذا رئيسا على عساكر الجزائر، فغزا ابن العنابي في الفرنسيين أياما (19) وبعد
(15) سيأتي أن محمد البنا هو الذي خلف ابن العنابي في وظيفة الفتوى بالإسكندرية بعد أن غضب الخديوي عباس على ابن العنابي.
(16)
حسب مخطوط رقم 529 المكتبة الوطنية - تونس، إن ابن العنابي حل بتونس أواخر سنة 1244، وغادرها إلى الجزائر أوائل سنة 1245 وبذلك يكون تعبير عبد الحميد بك غير دقيق. وإذا صحت رواية عبد الحميد بك، فإن مكانة ابن العنابي لدى باشا الجزائر كانت مكانة سامية. ولعله بذلك يريد استرضاءه بعد ان بقى حوالي تسع سنوات في مصر غاضبا أو مغضوبا عليه سياسيا. وقد ثبت ان الباشا كان في حاجة إلى ابن العنابي كما سنرى.
(17)
يقصد المفتي الحنفي بدليل ما سيأتي. وقد كان عندئذ (1245) هو الشيخ أحمد بن عمر ابن مصطفى. وليتأمل القارىء رأي حسين باشا في ابن العنابي.
(18)
تولى مصطفى الكبابطي عدة وظائف منها القضاء والإفتاء المالكي زمن الفرنسيين ايضا. وقد نفوه فحل بالإسكندرية ضيفا على صديقه ومواطنه المنفي مثله: ابن العنابي، سنة 1843، وقد سعى له ابن العنابي لدى محمد علي فعين للكبابطي راتبا شهريا. أنظر دراستنا (قضية ثقافية بين الجزائر وفرنسا: موقف المفتي الكبابطي من اللغة والأوقاف) في كتابنا (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) ج:2، 1985.
(19)
لا شك ان ذلك كان لثقة حسين باشا في ابن العنابي. وكان تعيينه لرفع الروح المعنوية بالدعوة إلى الجهاد وليس كفاءته العسكرية، فهو قبل شيء رجل دين وفكر لا رجل حرب =
دخول الفرنسيين مدينة الجزائر أقام ابن العنابي في بيته مطيعا لهم في الظاهر وفي باطن الامر كان يخاطب العربان والعربان يخاطبونه على إثارة الحرب من جديد، فبلغ ذلك الفرنسيين، فهجموا على داره. فلما استشعر الهجوم رمى بالأوراق في بيوت الخلا، ففتشوا فلم يجدوا شيئا، فتوقفوا عنه. ولكن ابن العنابي خاف مغبة الأمر بحيث يوشي به أحد مبغضيه إلى الفرنسيين أو يختلق رسالة يمسكونه بها فتوجه إلى الإسكندرية (20).
وعند حضور ابن العنابي الإسكندرية صادف وفاة مفتيها الشيخ خليل السعدان، فولاه محمد علي والي مصر فتوى الحنفية بدلا عنه. وقد بقي ابن العنابي على ذلك الحال إلى سنة 1266. ذلك أنه في أوائل هذه السنة نقم عليه عباس باشا والي مصر، وحفيد محمد علي، فعزله من الافتاء.
وسبب ذلك العزل أنه في آخر عهد محمد علي صارت أرباب الدعاوى تستفتي المفتيين الفتاوى، واذا ظهر الحق بيد من تكون معه الفتوى يستفتي المدعي عليه بفتوى أخرى على اختلاف أقوال المذاهب، وتعاد رؤية الدعوى، وهكذا. وقد كثر ذلك من أرباب الدعاوى في الفتوى وارتشاء المفتين. فمل من ذلك محمد علي وأحضر إليه ابن العنابي وأمره بتأليف كتاب يجمع فيه ما
ومناورات عسكرية. وكان الأولى بحسين باشا الاستماع إلى آراء ابن العنابي في التجديد والنهضة والعمل بها قبل ذلك. الأوان. أما القائد الفعلي للجيش الجزائري عند الحرب مع الفرنسيين فهو الآغا إبراهيم الذي أثبتت كل المصادر عدم كفاءته العسكرية وكان مؤهله الوحيد هر مصاهرة الباشا.
(20)
توضح هذه الرواية الدور الفعال الذي لعبه ابن العنابي اثناء الحملة. ولكن اليد الواحدة لا تصفق. والظاهر أن ابن العنابي كان يريد تنظيم ما نسميه اليوم المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين بعد انهيار الجيش الرسمي. وهذا هو المقصود من عبارة (كان يخاطب العربان والعربان يخاطبونه على إثارة الحرب من جديد) أما خروجه من الجزائر فعبارة عبد الحميد بك توحي أن ابن العنابي قد اختار الهجرة بنفسه خوفا من العاقبة، ولكن المصادر الأخرى تؤكد ان كلوزيل هو الذي حكم بنفيه ولفق ضده تهمة تدينه. أنظر (المرآة) لحمدان خوجة. ترجمة محمد العربي الزبيري، الجزائر، 1975، ص 259.
رجح من أقوال المذاهب الأربعة ويوفق مع الأقوال قوانين السياسة، وتصير كل الأحكام على ذلك الكتاب، ويبطل الاستفتاء من بقية المذاهب الأربعة. وكان قصد محمد علي من ذلك قطع المشاكل على الأقوال الراجحة بلا اختلاف في أقوال المذاهب، فبدأ ابن العنابي في تأليف ذلك الكتاب (21).
ولما ولي عباس باشا سنة 1265 سعت المشائخ والمفتيون في إبطال هذا الكتاب وافهموا الوالي أن ذلك مما يوجب ضعف الديانة المحمدية واندراسها، وهذا لا يجوز (22) وأفهوه ايضا أن ابن العنابي رجل خارجي زنديق. وقصدهم من ذلك ارتزاقهم من الفتاوى على الاختلاف في المذاهب. وما زالوا به حتى نقم عليه وعزله في تلك السنة، وهي سنة 1266، وولى الفتوى الشيخ محمد البنا (23) مكانه.
وأقام ابن العنابي في بيته مبتعدا عن التداخل في الأمور المذكورة إلى أن توفي في ربيع الأول، سنة 1267 (24) وقد ((كان إماما فاضلا، عارفا بالعبادات والأحكام في المذاهب الأربعة على اختلافها واختلاف أقوالها والراجح منها والضعيف فيها، وعالما في باقي المنقول والعقول، والسياسات العمومية والخصوصية، الخارجية والداخلية)).
((وله أشعار وتقاريظ .. وله غير ذلك مما هو مشهور، وفضله يغني عن ثبت قريض أو إنشاء له)).
(21) هو (صيانة الرياسة ببيان القضاء والسياسة) الذي كتب منه عشر كراسات. أنظر قائمة تآليفه.
(22)
تلك شنشنة من يسمون برجال الدين في كل عصر، أولئك الذين يعميهم التخلف العقلي والطمع الدنيوي فيلبسون الحق بالباطل، والغريب اتهامهم ابن العنابي بالزندقة والخروج عن الدين، بينما أثبت أنه كان مجاهدا بقلمه وحتى بسيفه في سبيل الدين والأوطان.
(23)
محمد البنا كان من تلاميذ ابن العنابي يوم كان مدرسا بالأزهر أثناء إقامته الأولى بمصر.
(24)
عاش ابن العنابي 78 سنة تقريبا (1189 - 1267) ولا ندري إن كان لعزله السياسي من منصب الفتوى أثر على وفاته. فالمصادر لا تتحدث عن ذلك، وإنما تتحدث عن كونه قضى بقية أيامه في شرح كتاب التوحيد.
ولابن العنابي تآليف عديدة ومتنوعة ذكرها مترجموه متفرقة، ونود أن نذكرها هنا مرتبة، حتى نعرف قدره وتخصصه ومساهمته (25) وهي:
1 -
السعي المحمود في نظام الجنود (وهو الذي اعتمدناه أساس كتابنا هذا، لأنه يعكس تفكير ابن العنابي في التجديد الإسلامي. ألفه ستة 1242. وقد طبع نص هذا الكتاب بتحقيق محمد بن عبد الكريم، الجزائر 1985).
2 -
صيانة الرياسة ببيان القضاء والسياسة. كتب منه عشر كراسات. وهو في جمع الراجح من الأحكام طبقا للمذاهب الأربعة وطبقا لمصالح السياسة الدنيوية، ليكون عمدة لدى القضاة والمفتيين، كتبه بطلب من محمد علي، والي مصر. ولا نعرف تاريخ تأليفه بالضبط.
3 -
بلوغ المقاصود في اختصار السعي المحمود، وهو تلخيص للكتاب الأول، قام به أحد تلاميذ ابن العنابي، وهو إبراهيم السقا، بطلب من محمد علي، والي مصر.
4 -
شرح كتاب الدر المختار، في الفقه الحنفي، وصل فيه إلى نحو ثلثيه. ألفه قبل سنة 1244. (ويبدو أن هذا الكتاب هو الذي ترجمه زائد أفندي إلى التركية بتوجيه من محمد علي. انظر قسم - آثاره - هامش).
5 -
التحقيقات الإعجازية بشرح نظم العلاقات المجازية. وهو عمل في البلاغة والأدب، أكمله سنة 1231.
6 -
العقد الفريد في التجويد. وقد أكمله، وذكرت له عدة عناوين.
7 -
لمعان البيان في بيان أخذ الأجرة على القرآن.
8 -
شرح متن البركوي في التوحيد (لم يتمه - آخر عمل كان يقوم به قبل وفاته).
9 -
ثماني عشرة رسالة في وقف العقار.
10 -
مجموعة فتاوى في مسائل مختلفة. منها (الفتح القيومي بجواب أسئلة
(25) أنظر حديثنا عن بعض هذه الكتب في القسم الثاني من هذا الكتاب.
الرومي) والفتوى التي أجاب بها الشيخ خليل الغزلات في اعتماد أو عدم اعتاد الخط والختم شرعا. وأجوبته على آداب مجلس قراءة القرآن وأجوبته على مسألة في التوحيد وأخرى في الموقف الخ.
11 -
مجموعة أشعار وتقاريظ ونصوص أدبية، مثل تقريظه لترجمة كتاب (كلستان) لسعدي الشيرازي، من الفارسية إلى العربية، نثرا وشعرا. وشعره في آل بيرم بتونس. وقد ذكر مترجمه عبد الحميد بك بأن له (أشعار وتقاريظ).
12 -
ثبت الجزائري، وهو إجازته لإبراهم السقا. وقد أثبت فيه شيوخه ومروياته.
13 -
مجموعة إجازات، وهي كثيرة، نعرف بعضها مثل إجازته لعبد القادر الرافعي ومحمد بيرم الرابع ومحمد الطحاوي. وقد قال عن نفسه انه كان يقلد شيخه ابن الأمين في منح الإجازة لكل من أدرك حياته (26). 14 - خاتمة في التوحيد وضعها بمناسبة ختمه لدرس عقيدة التوحيد للسنوسي (موجود بمكتبه خاصة).
15 -
المقتطف من الحديث اقتطفه من صحيح ابن حبان.
16 -
كتاب آخر في الحديث سماه المنتقى، وقد انتقاه من الصحاح، وهو موجود بخطه في إحدى مكتبات إسطانبول. 17 - رسالة له خاصة بالمرأة (27).
وقد تظهر الأيام اعمالا أخرى لابن العنابي. فقد عرفنا أنه كان رجل علم وسياسة ودين وقضاء، وكان قد حج عدة مرات. ترى هل ترك رحلة شأن علماء عصره من المغاربة؟ أما رسائله فلا شك أنها بعدد كبير.
ومهما حاولنا أن نلقي من أضواء على هذه الشخصية فإنها تظل متأبية
(26) ترجمة ابن العنابي في كتاب (تاريخ عبد الحميد بك) وردت على الصفحات التالية: 57، 58،59،60. أنظر أيضا ص 64 منه.
(27)
الأعمال الأربعة الأخيرة. ذكرها له الشيخ عبد الرحمن الجلالي في تاريخ الجزائر العام 4/ 141، 142.
علينا، وتظل تطاردها العتمة. فنحن كلما تعمقنا في دراسته ازداد اتاعا وبعدا. فقد عاش في لحظات حرجة من تاريخ الجزائر وتاريخ المشرق الإسلامي، وهو النصف الأول من القرن الثالث عشر (19 م). وها قد رأيناه يتنقل بين أجزاء هذا العالم الإسلامي (المريض) يحاول إيجاد الدواء كما يتنقل الطبيب بين مرضاه.
فكان تارة في الجزائر وتارة في مصر، تارة في المغرب الأقصى، وأخرى في إسطانبول، ومرة الحجاز، وأخرى في تونس. فكان ينصح الحكام فينتصح له البعض ويشيح عنه آخرون، حتى إذا أدركهم الغرق (مثل حسين باشا) استنجدوا به وولوه قيادة جيش مهزوم وأعطوه سيفا مفلولا ليحارب به أقوى جيش في العالم عندئذ. يا للسخرية برجال الفكر والدين وبمصائر الشعوب!
ترى من من العلماء المسلمين عندئذ جاهد بقلمه ولسانه وسيفه جهاد ابن العنابي؟ إننا لن نجيب على هذا السؤال، وحسبك أيها القارىء أن تستعرض أسماء المصلحين من علماء المسلمين لتعرف أن ادعاءنا الريادة لابن العنابي ليس محض خيال.