المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحليل محتوى الكتاب: - رائد التجديد الإسلامي محمد بن العنابي

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌الجديد عن ابن العنابي *

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌القسم الأول: حياته

- ‌عصره:

- ‌ثقافته:

- ‌وظائفه:

- ‌علاقته بالفرنسيين بعد احتلال الجزائر:

- ‌إجازاته وتلاميذه:

- ‌مؤلفاته:

- ‌اختصار كتابه:

- ‌مراسلاته:

- ‌شخصيته:

- ‌القسم الثاني: آثاره

- ‌أ - كتابه (السعي المحمود في نظام الجنود)

- ‌نسخ الكتاب ودافع تأليفه:

- ‌تحليل محتوى الكتاب:

- ‌القسم الثاني من كتاب (السعي المحمود):

- ‌منهج ابن العنابي في الكتاب:

- ‌ب - آثاره الأخرى

- ‌الفتاوى

- ‌ أجوبته على آداب مجلس قراءة القرآن:

- ‌ التحقيقات الإعجازية:

- ‌ صيانة الرياسة:

- ‌ متفرقات:

- ‌ مجموعة من الرسائل

- ‌ شرح متن البركوي في التوحيد

- ‌ شرح الدر المختار في الفقه الحنفي

- ‌القسم الثالث: نصوص منه وعنه

- ‌ مقدمة كتاب (السعي المحمود في نظام الجنود)

- ‌ مقدمة (بلوغ المقصود مختصر السعي المحمود)

- ‌ إجازة ابن العنابي لمحمد بيرم الرابع

- ‌ رأيه في المرأة

- ‌ من شعر ابن العنابي

- ‌ تقريظ محمد بيرم الرابع لكتاب(شرح الدر المختار)لابن العنابي

- ‌ رسالة من محمد بيرم الرابع إلى ابن العنابي

- ‌ مصطفى بيرم يستجير ابن العنابي

- ‌الفهارس

الفصل: ‌تحليل محتوى الكتاب:

الفصل التاشع: في عقد الألوية والرايات وما يتعلق بها ................................. 41

الفصل العاشر: في التدريب على الأعمال الحربية ..................................... 46

الفصل الحادي عشر: في الحصون والخنادق والأسلحة وعدة الرمي ..................... 67

الفصل الثاني عشر: في حيل الحرب ................................................ 71

الفصل الثالث عشر: في الحزم ...................................................... 76

الفصل الرابع عشر: في رحمة الضعفاء وإجراء العدل وبذل الحقوق لمستحقيها .......... 90

الفصل الخامس عشر: في اجتماع الكلمة والاتفاق .................................... 95

الفصل السادس عشر: في جواز تعلم العلوم الآلية من الكفرة ........................... 96

وبعد هذه الفصول يأتي المقصد الثاني (الأمور السياسة) وهو من صفحة 99 إلى صفحة 111. أما باقي الصفحات فهو للخاتمة. وقد أعطى المؤلف شبه عنوان للخاتمة أيضا فقال أنها (في أمور شتى من أسباب النصر والقوة).

‌تحليل محتوى الكتاب:

هذا هو الإطار العام أو الهيكل الذي بنى عليه ابن العنابي كتابه، فما محتواه؟ وما الأفكار التي بثها في ثناياه والتي كانت الدافع الحقيقي على تأليفه؟ إننا نعتقد أن ابن العنابي قد وضع أفكاره الأساسية في أمكنة ثلاثة من الكتاب. الأول في مقدمة المقصد الأول (الأمور الحربية)، والثاني في الفصل الرابع عشر الذي أشاد فيه بدور آل عثمان في التاريخ، وامتدح رجالهم المعاصرين، ونصح القائمين منهم من مغبة التهاون والاستبداد. والثالث في الفصل الأخير (جواز تعلم العلوم الآلية من الكفرة). أما بقية عناصر الكتاب فموضحة أو مكملة لهذه الأفكار الأساسية.

وقد عرف ابن العنابي الأمور الحربية بأنها كل قوة مادية أو معنوية لردع الأعداء والحط من شأنهم. واعتبر كل ذلك أمرا شرعيا. ومما جاء من كلامه في هذا المعنى قوله (نعني بها كل ما أنتج قوة محسوسة أو معقولة على دفاع الأعداء

ص: 64

وإرهابهم وإغاضة نفوسهم وإتعابهم. فكل هذه المعاني أمور شرعية، لأن فيها إذلال الكفرة وعز الإسلام، وأنه المقصود الأعظم من شرعية الجهاد). فالمؤلف هنا لا يكتفي بتقرير الحقيقة ولكنه يجتهد فيربط بين القوة ونصرة الدين وحكمة الجهاد. ثم توسع في هذا المعنى وأضاف إليه فكرته عن النظام العسكري الجديد. ولخصه في أن كل ما يفيد المسلمين ويرفع من شأن الدين فهو شرعي، ولو جاء من الأروبيين، ولو كان مبتدعا منهم غير معروف لأهل الإسلام. ونورد هنا عبارته، رغم ما فيها من حشو، إذ أن آخرها هو خبر بدايتها المفصولة بكلام طويل.

(فكل ما يفيد منفعة لها تعلق بإعزاز الدين ورفعة أهله، مما اشتمل عليه النظام المستجد للكفرة من ترتيب العساكر، وتصنيفهم، وحصر أعدادهم، وتعديد قوادهم، وعرفائهم، ولتسوية أصنافهم وكبرائهم، بخصوص لباس أو علامة، وتضيق ملابسهم، وتقصيرها، وتعيين مواقفهم وعملهم، وتخصيص كل فريق براية أو لواء، ثم تدريبهم على عمل الحرب لتعليمهم كيفية الرمي والطعن والضرب، وغير ذلك مما يقتضيه أمر الحرب من تصنيف وإغارة، واجتماع وافتراق، وإقدام وإحجام، وكر وفر، وركوب، ونزول، وظهور وكمون، وتحريض وتثبيت، ورفع صوت وخفضه، ورد منهزم، وحراسة، وغير ذلك مما قد تدعو اليه الحاجة فهو أمر مشروع)(15).

وكأن ابن العنابي كان يجيب بالحديث التالي سائله ويوضح له أسس الفكرة التي يدعو إليها. فهو يخاطبه بقوله إن الأروبيين إذا اخترعوا عتادا حربيا جديدا قد يضر بالمسلمين فما على هؤلاء إلا أن يتعلموه ويحذقوه، بل عليهم أن يسبقوا في ذلك أصحاب الاختراع أنفسهم. وإذا اقتضى الأمر عدم تعلم ذلك الاختراع إلا منهم وجب على المسلمين أن يتعلموه منهم ما دام ذلك في قدرتهم، لأنه لا يعقل أن يواجه المسلمون هذا الاختراع الجديد الفتاك بأسلحة بالية غير فعالة. فالتمسك بالتقاليد القديمة في هذا المجال يلحق بالمسلمين

(15) نفس المصدر ص 3.

ص: 65

الهزيمة والهوان، وهو أمر ضد الدين وضد الرجولة. وتطوير هذه الفكرة عند ابن العنابي، على النحو الذي سبق، يتماشى تماما مع ما كان يأخذ به محمد علي والي مصر. فقد كان لا يكتفي بتقليد الأروبيين فيما اخترعوه بل كان يأتي بهم ليعلموه إلى المسلمين أو يبعث بهؤلاء إليهم في مواطنهم. فابن العنابي في الواقع كان يبارك هذه السياسة من محمد علي ويقنع الناس بها. فكتابه إذن من كتب الدعاية، إذا صح هذا التعبير. وإذا عرفنا أنه أيضا كان يشيد بالخطوات التي قطعتها الدولة العثمانية بهذا الصدد عرفنا أنه كان يبارك أيضا اتجاهها نحو التجديد. وها نحن نورد نص عبارته في ذلك المعنى ملاحظين أنه، خلافا لبعض النصوص السابقة، لم يستعمل فيها السجع، ولكنه احتفظ فيها بالجملة الطويلة المعقدة، ولا سيما الجملة الأخيرة من الفقرة:

(. وإنهم (يعني الكفار - الأروبيين) إذا ابتدعوا من أدوات الحرب وصنائعه أمرا له موقع لا نؤمن من استطالتهم به علينا، لزمنا بذل الوسع في تعلمه وإعداده لهم والاجتهاد في مجاوزتهم فيه. وإنه إذا لم يكن استعلام ذلك إلا من قبلهم، وجب استعلامه منهم لأنه مستطاع لنا. وإنهم إذا أعدوا لنا صواعق البارود فأعددنا لهم القصى والمنجنيق، اللذين صارا اليوم كالشريعة المنسوخة، أو اقتصرنا على السيوف والبندقيات، أو شمروا لنا الثياب فأعددنا للقائهم الثياب المجررة والأكام المطولة، والعمائم المكبرة لم نخرج عن عهدة الأمر، ولزمنا الإثم والعار، فلا غرض الشارع حصلنا ولا سبيل الرجولية سلكنا) (16).

ونحب أن يتأمل القارىء في هذه المقابلات والصور التي يجريها ابن العنابي في كلامه. فصواعق البارود تقابلها القصى والمنجنيق، والتشمير على الثياب تقابلها الثياب المجررة، والعمائم المكبرة والأكمام المطولة. وصورة اتباع الشرع تقابلها البوء بالإثم، وصورة الرجولة يقابلها العار. وهكذا. كما أن عبارة (الاجتهاد في مجاوزتهم فيه) تبرهن على أن المؤلف لا يدعو إلى التقليد فقط ولكن إلى القوة والتفوق. واعتباره الأسلحة القديمة (القصى والمنجنيق).

(16) نفس المصدر، ص 11 - 12.

ص: 66

(كالشريعة المنسوخة) يعبر عن صورة في نفسه من جهة وعن ثقافته الدينية من جهة أخرى. فالمؤلف يجمع في هذا النص بين الدعوة إلى الأخذ بأسباب الحضارة الأروبية، والحث على التفوق واليقظة والاجتهاد، والعتاب على التمسك بالأمور البالية التي تخالف الشريعة والرجولة معا.

ولكي يقنع المتزمتين من قومه، المدعين في بقائهم على ما هم عليه بالتمسك بالدين، قال ابن العنابي إن ما تقدم من كلامه يدل على إعجاز القرآن وأنه تعالى ما فرط في الكتاب من شيء. ذلك أن كل ما جاء به من أفكار حول أسباب القوة والتفرق له (شواهد. من الكتاب والسنة). وعلى هذا الأساس بنى كتابه، لأنه، كما لاحظنا، يطرح الفكرة ثم يحشد لها من الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية ما تصير معه مقنعة، في نظره، للمتزمتين والمترددين من قضية التجديد وتقليد الأجانب والتعلم منهم.

وطريقة ابن العنابي في الفصول التي ذكرناها بسيطة وواضحة. فهو يبدأ بتعريف الفكرة التي حملها عنوان الفصل، ثم يروي لنا ما جادت به حافظته ونقوله من الشواهد والأمثال، وحتى الأشعار أحيانا، ومن المواقف والتجارب السابقة للنبي (ص) والصحابة والخلفاء والقواد الكبار. وإذا أراد هو أن يتدخل في الموضوع برأي فإنه بستعمل له عبارة (قلت كذا) أو (قلت وهو الأوجه عندي) ترجيحا لرأي دون آخر. وهو ينقل كثيرا عن المؤلفين السابقين حول الموضوع كالطبراني والطرطوشي والغزالي. وينقل أيضا عن جده الأعلى كما سبق أن أشرنا، وعن ابن عبد الحكم والوزير السراج (صاحب الحلل السندسية في الأخبار التونسية)، وحسين خوجة (صاحب بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان)، وغيرهم.

فقد عرف تجنيد الجند (17) بأنه جمع الأعوان والأنصار لحماية الإسلام

(17) نفس المصدر، الفصل الأول.

ص: 67

وجهاد الكفار وإرهابهم، مستدلا على ذلك بحديث البيعة مع الأنصار، وتحدث عن واجب الإمام في مثل هذه الأحوال، وعن الجهاد الواجب والمستحب. وعرف ترتيب الجند (18) بأنه (تنزيل كل منهم في خصوص مرتبة تليق به بحسب ما له من خصال) وهذا هو معنى الجدارة والاستحقاق في نظم اليوم، فالتفضيل هنا بحسب الكفاءة لا بحسب المال أو الجاه. ومما تجدر ملاحظته بهذا الصدد أنه قال إن هذا التصتيف يطابق الآية الكريمة {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ، مفسرا العلم هنا بأنه جنس العلم (الشامل لكل علم شرعي وكل علم له ثمرة تتعلق بإقامة أمر شرعي). وهذا طبعا اجتهاد منه قصد به تأييد رأيه في جواز تعلم العلوم من الأجانب إذا كان فيها منفعة للإسلام وأهله. وقد أضاف بأن العالم بفنون الحرب يستوي مع العالم بأمور الشرع. بل إنه اعتبر العلم بفنون الحرب من العلوم الشرعية، قائلا (فمن العلوم الشرعية العلم بكيفية الحرب، وعلمه وتدبير أمره. وتصريف حيله بهذه المثابة (أي من العلوم الشرعية) إذ لا تكاد تتم إقامة الجهاد المفروض إلا به. فالعالم به مندرج في عموم علماء الشرع) (19) ويشترط في الجندي أن يكون شجاعا، ولكن غير متهور، لأن الشجاعة فضيلة ترشح صاحبها لقيادة الجنود، أما التهور، وهو الخروج عن حد الشجاعة، فمذموم ولا يصلح المتصف به لرياسة الجند (إذ ربما غرر بهم فألقى بهم إلى التهلكة)(20). وبعد توفر الشجاعة يصنف الجند، في نظر المؤلف، على حسب الفضيلة والغنى. وقد عمم هذه القضية فقال إنه (ينبغي أن يراعى ذلك (أيضا) في تدوين الدواوين وتوفر العطايا) معتمدا في ذلك على سيرة الخليفة عمر بن الخطاب.

وعندما تحدث عن تصنيف الجند (21) أورد كلاما يعتبر اليوم، وفي عصر القوميات، محل نظر. فقد قال بأن تصنيف الجند يعني جعل كل صنف منهم

(18) نفس المصدر، الفصل الثاني.

(19)

نفس المصدر، ص 18.

(20)

نفس المصدر، ص 21.

(21)

نفس المصدر، الفصل الثالث.

ص: 68

على حدة، اقتداء بسيرة الرسول الذي صنف جيشه (أصنافا مصنفة، كل قبيلة متميزة عن غيرها). وإلى هنا يمكن أخذ كلام المؤلف على أنه رواية تاريخية قابلة للمناقشة. ولكنه يتدخل في الأمر مرجحا هذه الطريقة في الربع الأول من القرن التاسع عشر، الذي كانت فيه الشعوب الأروبية خاصة تعلن عن نهاية عصر القبيلة والإقطاع وإقامة كيانات على أساس (القومية) التي تذوب فيها جميع عناصر شعب من الشعوب، ولا سيما إذا كان الأمر يتعلق بخطر خارجى يحدق بهذه القومية. ومما يلفت النظر أن ابن العنابي يقيم دعوته هذه على التجربة الشخصية، قائلا (وذلك (أي التصنيف حسب القبيلة) ما لا يخفى على من جرب). ولكن إذا تذكرنا الظرف الذي كان يكتب قيه ابن العنابي، ووضع العالم الإسلامي عندئذ، وشيوع الإقطاع والقبيلة وما إليها، عذرناه فيما ذهب إليه. وفى تدخله الشخصي في هذا الموضوع قال (وهذا (يعني التصنيف حسب القبيلة) ما يقتضيه حسن السياسة في تدبير أمر الجند، تحرزا من الاختلاف وافتراق الكلمة، لما في خلط الفرق المختلفة من تعريضهم لثورات الفتنة بينهم، وبسبب اختلاف طباعهم وميل كل فريق لمن انتسب إليه بمقتضى الطبع البشري، وإفراد بعضهم عن بعض أدعى للألفة وحسن العشرة، لأن بناهما على اتحاد الطبع وتقاربه، ولاتحاد الوطن والحال أثر عظيم في ذلك. وذلك ما لا يخفى على من جرب) (22).

ويسير على نفس النسق في ضبط عدد الجند وقواده وتسويمه (23)، ولكنه يختصر الكلام اختصارا، ولا يكاد يأتي حول هذه الموضوعات بجديد. وقد رتب عدد الجند على نماذج من غزوتي أحد وبدر، ناقلا للحديث الشريف (خير الصحابة أربعة، وخير الرايات أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا يهزم اثنى عشر ألفا من قلة). وقد تحدث عن الطاقة واتفاق الكلمة في الجيش باعتبارهما شرطا لمواصلة الجهاد. ويكتفي في كل ذلك بالنقول ولا نكاد ظفر له

(22) نفس المصدر، ص 23 - 24.

(23)

نفس المصدر، فصول 4، 5، 6.

ص: 69

برأي شخصي. أما قائد الجند فقد عرفه بأمير اللواء الذي تنقاد إليه الجيوش، وعرف العريف بالنقيب، وبين أن السيرة النبوية واضحة في أن الروايات والألوية لا يحملها إلا المتقدم على القوم. وأضاف بأن (النظام المستحدث) يرتب الجند على المئين والعشرات ويدخل في ذلك تسويم الجند بمعنى وضع العلامات، ناقلا عن جده في تفسيره أن التسويم من المسومة وهي العلامة التي توضع على الشاة وغيرها. وكذلك الشعار أو العلامة أيضا. والمرد به هو أن يختار إمام المسلمين كلمة أو عبارة ترمز إلى الانتصار على العدو وتفاؤلا وفي كل هذه الأمور يورد المؤلف الآيات والأحاديث والمواقف، ولكنه يقف عندها ولا يظهر هو فيها برأي أو تعليق.

ومن القضايا التي تحدث عنها في بداية الكتاب ثم خصها بفصل متوسط (24) حديثه عن لباس الجند. ورأيه في ذلك معتمد على السيرة النبوية والصحابة الذين قال عنهم إنهم كانوا يضيقون اللباس في وقت الحرب. وقد قيد ضيق اللباس بهدف المنفعة كالخدعة أو دفع البرد وليس التشبه بالأعداء. ومن الجدير بالذكر هنا هو أنه قال إن (الكفار) هم الذين كانوا يجررون الثياب. وقد قال بأن (الأفضل أن يكون منتهى طول الثياب إلى نصف الساق، وأن الزيادة على ذلك منتهى الكعب مرخص فيها من غير تضييق ولا تأثيم، وأن ما أسفل الكعبين غير مرخص فيه بل متوعد عليه بالنار). وقد اعتمد في بعض أخبار هذا الفصل على رأي جده المذكور. كما اعتمد عليه في حديثه عن تعيين مواقف الجند (25) ولا تكاد شخصية ابن العنابي تظهر هنا أيضا، فالفصل كله عبارة عن مستخرجات من حافظته، مع الإشارة إلى النهي عن تزحزح الجندي من مكانه واستعجاله الغنيمة قبل الانتهاء من المهمة المسندة إليه. ونفس الشيء تقريبا اتبعه في عقد الألوية والرايات (26) فقد اكتفى بتعريف اللواء بأنه علم صغير بخلاف الراية التي هي علم أكبر من اللواء وأصغر من البندق أو البيذق). وتمشيا

(24) نفس المصدر، الفصل السابع.

(25)

نفس المصدر، الفصل الثامن.

(26)

نفس المصدر، الفصل التاسع.

ص: 70

مع هذا الاتجاه نقل عن السيدة عائشة أن لواء الرسول كان، يوم الفتح، أبيض وأن رايته كانت سوداء وتدعى (العقاب). ولاحظ وجوب إيثار قواد الجيوش بالراية أو العلم الأكبر إظهارا للتواضع حسب تعبيره.

ويبدو أن شخصية المؤلف تظهر تدريجيا في كتابه، وخاصة في حديثه عن التدريب على الأعمال الحربية، وعن الحصون والخنادق والأسلحة، وعن حيل الحرب (27) وقد عرف التدريب على أنه من الدربة (بالضم) وهو (تعليم صناعة الحرب التي هي علم بكيفية أعماله، مع مباشرتها، لتحصيل ملكته التي هي كيفية نفسانية تصدر عنها أفعاله الاختيارية من غير روية)، وهو تعريف معقد مؤداه أن الجندي يتدرب على فنون الحرب باستعمال أدواتها وخوضها عمليا حتى يصبح قادرا عليها تلقائيا. وآلات الحرب التي ذكرها كثيرة، منها المنجنيق والحراب والمصارعة. والغريب أنه لم يستعمل أسماء حديثة لهذه الآلات، سيما وقد عرفنا أنه يدعو إلى التجديد، وأنه اعتبر المنجنيق (كالشريعة المنسوخة). وقد سبق له أن ذكر في المقدمة عبارة (صواعق البارود) في مقابلة الآلات المذكورة. وعدد بعد ذلك جملة من الأمور التي على الجندي التدرب عليها، وإذا شئت بلغة اليوم ذكر برنامج التدريب العملى والنظري للجندي، مثل الاجتماع والافتراق، والإقدام والإحجام، والكر والفر، والظهور والنزول، والتجلد للأعداء، والتثبيت والتحريض، ورفع الصوت وخفضه، والحراسة، وركوب البحر، وغير ذلك. ويتصل بهذا إقامة الحصون وحفر الخنادق والاحتساب فيها. وقد أورد هنا رأيا شخصيا له عبر عنه بقوله (قلت ومن فرط فيها (الخنادق) استهوانا لأمر عدوه، واغترارا بكثرة جنده، فقد مكن عدوه من تبييته، وعرض نفسه للهزيمة والمعرة) (28) وأما حيل الحرب فهو يعني بها زرع الجواسيس في صفوف العدو، وتحطيم معنويات العدو بمنح الهدايا لقواده، ودس الكتب على ألسنتهم، واستعمال الخدعة. وقد أورد بهذه المناسبة قصة طويلة من حروب الأندلس.

(27) نفس المصدر، فصول 10، 11، 12.

(28)

نفس المصدر، ص 69.

ص: 71

وفي حديثه عن الحزم (29)، يقترب المؤلف من عصره رواية ورأيا. فقد عرف الحزم بأنه ضبط الرجل أمرم وأخذه بالثقة والمشاورة، لأن الرأي هو أساس الانطلاق نحو النجاح، ولذلك جاء ببيت المتنبي المشهور:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أولا وهي المحل الثاني

كما جاء بخبر عن المؤرخ ابن عبد الحكم خاصا بفتح الإسكندرية. وحول المشاورة وأهميتها نقل قصة طويلة عن فتح الأندلس أيضا على يد طارق ابن زياد، ونقل قصة أخرى في نفس المعنى عن حرب الأحباش والفرس من كتاب (الحلل السندسية في الأخبار التونسية) للوزير السراج. وختم ذلك بقوله (فانظر ماذا يتأتي على الملوك إذا عرفوا في الحروب من الحيلة. بالمكيدة). أما من كتاب (بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان) لحسين خوجة فقد جاء بقصة السلطان العثماني، مراد الأول الذي أهمل الحزم فقتله عدوه الجريح خدعة. ولنلاحظ أنه لم يشر بشيء إلى وقائع الحملة الفرنسية على مصر، رغم حداثة عهدها، فهل كان لميول محمد علي نحو فرنسا أثر في ذلك؟ كما أنه لم يستشهد بحوادث معاصرة له في الجزائر.

ولكن ابن العنابي يدخل عصره حقا في تناوله رحمة الضعفاء وإجراء العدل وبذل الحقوق لمستحقيها (30) والواقع أن زجه بهذا الموضوع (السياسي) وسط حديثه عن (الأمور الحربية) قد جعله وكأنه هو المقصود بالذات من الكتاب كله، رغم نشازه. فهو فصل معقود لتمجيد آل عثمان وتفضيلهم على غيرهم، وإظهار دورهم في التاريخ، ثم تحذير المعاصرين منهم من الظلم والاستبداد والانحراف عن سيرة أجدادهم. ولذلك مهد لهذه المعاني بقوله (إن قسوة القلب على الضعفاء، والجور في الأحكام الشرعية، ومنع الحقوق من مستحقيها، والإيثار بها لمن لا يستحق، من أسباب خراب الملك وزوال الدولة). ويظهر ابن العنابي مؤرخا وناقدا سياسيا وواعظا عند تناوله لتدهور واضمحلال الدولة

(29) نفس المصدر، الفصل 13.

(30)

نفس المصدر، الفصل 14.

ص: 72

العباسية لقسوة حكامها وجورهم ومنعهم الحقوق من أهلها وتقديمهم لها من لا يستحقها. وكان ذلك، في رأيه، في أخريات تلك الدولة حينما منح حكامها (الأموال العظيمة للمغنين والشعراء وأهل اللعب والبطالة، وأهملوا الرعية، وركنوا إلى اللذات وإشباع الشهوات، كما يعلم ذلك من سيرهم في الكتب المطلولة)(31).

وهذا درس قاس لسلاطين آل عثمان أيضا ساقه المؤلف إليهم بطريقة غير مباشرة. ذلك أن عاقبة العباسيين في اتباعهم تلك السيرة كانت زوال ملكهم بعصيان الممالك الإسلامية في أطراف الدولة، ثم تسلط عليهم التتار فأبادوا ملكهم ومحوا اسمهم من الوجود، فضعف شأن البلاد الإسلامية، ولا سيما الجزء المشرقي منها. فمن أنقذ الإسلام إذن من كبوته وأقاله من عثرته؟ إنهم العثمانيون طبعا، إذ لولاهم لكانت العاقبة سوءا. فهم الذين وردت فيهم الأحاديث النبوية، وتم على أيديهم النصر بفتح القسطنطينية، وهم القائمون اليوم (زمن المؤلف) على النهوض بهذه الدولة. فعلى هؤلاء الأعقاب أن يكونوا خير خلف لخير سلف. هذه هي الأفكار الرئيسية التي أوردها ابن العنابي في هذا الفصل.

وعلينا الآن أن نأتي على نصوص منه. فقد قال عن أهمية الدولة العثمانية، بعد وصفه لسقوط الدولة العباسية، ما يلي:(ولولا ظهور الدولة العثمانية - أعلى الله مقامها، ورفع بالتأييد والنصر أعلامها - فجدد القائمون بأعبائها معالم الدين، وأحيوا ما اندرس من شريعة سيد المرسلين، لاتسع الخرق، وعم الفساد سائر الخلق). فالمؤلف إذن صريح في عواطفه العثمانية، ولا غرابة في ذلك فهو منحدر من أسرة تركمانية (32)، خدمت العثمانيين في الجزائر زمنا طويلا. ولذلك نقل الحديث الشريف الذي يقول (لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)،، مؤكدا على أنه

(31) نفس المصدر، ص 90.

(32)

جاء في إجازة محمد الطيب الفاسي لمصطفى بن رمضان العنابي ما يلي:

أقول مجيبا مفصحا بلساني

أجزت الفقيه المصطفى التركماني

ص: 73

حديث صحيح الإسناد. وقد علق عليه بقوله (ففي هذا الحديث الكريم منقبة عظيمة ومأثرة جسيمة لآل عثمان اختصوا بها من بين سائر ملوك الإسلام). ولكي تتم الصورة التي وضعها ابن العنابي لآل عثمان اعتبر محاولات الأمويين والعباسيين (العرب) لفتح القسطنطينية مجرد مناوشات. أما الفتح الحقيقي لها فهو الذي تم على أيدي آل عثمان. فالمقصود إذن من كلمة (أمير) المبشر به في الحديث هو (أبو الفتوحات محمد)(محمد الفاتح) وأنها بعد ذلك تعم كل خلفائه سلاطين (أمراء) آل عثمان.

ولا نعتقد أن ابن العنابي أتى بجديد حول هذه النقطة، لأن الموضوع قد أخذ به كل المؤيدين للدولة العثانية خوفا أو طمعا أو اقتناعا، ولكن الجديد في الموضوع هو انتماء ابن العنابي إلى هذه الطائفة والأخذ برأيهم. ولعل ابن العنابي يفترق على هؤلاء في توجيهه النصح إلى القائمين عندئذ على شؤون هذه الدولة بأن يكونوا أقوياء وأن يراعوا حرمة وحق الرعية وأن يسيروا على هدى الصالحين من سلفهم، لأن ذلك هو سر وجودهم وسر بقائهم أيضا. وهذه عبارته (فعلى القائم منهم (33) أن يعرف بحق رتبة شرفه فيجري عش طريقة الأكرمين من سلفه، فإن بذلك سعادة الدنيا والآخرة) (34) ولا شك أن هذا من المؤلف موقف سليم، فهو يظهر النواحي الإيجابية لهذه الدولة ورجالها ويحذر من النواحي السلبية التي قد يكون فيها خرابها ونهايتهم كما كانت الدولة العباسية وخلفاؤها. ولذلك أيضا نصح باتباع الرحمة، وتوفير العدل، ومراعاة حقوق الضعفاء. ولأمر ما أورد بعد ذلك مباشرة حديثه عن اجتماع الكلمة والاتفاق (35)، مكتفيا فيه بتفسير قوله تعالى:{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} ناقلا في ذلك عن غيره، دون أن يكون له أي أثر أو رأي.

أما الموضوع الرئيسي الثالث والأخير فقد خصصه للحديث عن (جواز

(33) يعني بدون شك السلطان محمود الثاني.

(34)

السعي المحمود، ص 92.

(35)

نفس المصدر، الفصل 15.

ص: 74