الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمحمد بيرم التونسي أنه سمع عن جده محمد بن حسين (قطعة من أول كتاب فضائل القرآن ووقعت لي منه إجازة تتضمنه)(16) وأما الجاه فقد جاءه من توليه منصب قاضي الحنفية بالجرائر، وهو منصب بالغ الأهمية في عصره يجعل صاحبه في واجهة الأحداث والمجتمع. وقد توفي محمد بن حسين سنة 1203 م بمصر.
وكان والد ابن العنابي، محمود بن محمد، من طبقة العلماء أيضا، ولكننا لا نجده يتصدر للفتوى أو القضاء (حسب المعلومات التي لدينا). وكان ابنه (صاحب الترجمة) حريصا على أن يذكر مع كل اسم من الأسرة الوظائف التي تقلدها صاحبه، ولكنه بالنسبة لأبيه لم يذكره مقرونا بوظيفة رسمية. فقد اقتصر على قوله عنه إنه درس جل دروسه في صحيح البخاري على والده (وقعت لي رواية صحيح البخاري من طرق عديدة لكن طريق سماعي وقراءتي إنما هي على والدي المرحوم أبي الثتاء محمود بن محمد). وقد أضاف معلومات أخرى عن والده وهي أنه توفي سنة 1236 م عند منصرقه من الحج، وذلك ببحر السويس، وأنه قد دفن على ساحل ذلك البحر بالقرب من بلد القصير (17).
وتدل هذه الدراسة لبعض أفراد أسرة ابن العنابي أن مؤلف كتاب (السعي المحمود) كان ينتمي إلى أسرة جزائرية عريقة في العلم والوظائف الرسمية والفقه الحنفي.
ثقافته:
وتثقف ابن العنابي ثقافة واسعة بمفهوم عصره. ونحن نقول (بمفهوم عصره) لنمهد إلى القول بأن ثقافته تقليدية إذا ما حكمنا عليها من خلال كتابه
(16) مخطوط رقم 7451، تونس.
(17)
نفس المصدر. انظر أيضا إجازة ابن العنابي لتلمذيه إبراهيم السقا وعبد القادر الرافعي، وهي ما يعرف (بثبت الجزائري). وهي عندي. أما إجازته للأول فقد نسختها من نسخة للمرحوم نعيم النعيمي بداره بقسنطينة، بتاريخ 12 أبريل 1971، وأما إجازته للثاني فقد سلمني منها نسخة الأستاذ محمد بن عبد الكريم مشكورا.
المذكور وغيره من آثاره المكتوبة مثل فتاويه وثبته المعروف (بثبث الجزائري)(18)، فهو حافظ وناقل أكثر منه مفكرا ومجتهدا. ومهما يكن الأمر فقد تلقى العلم في وطنه على جده وعلى والده كما تلقاء على المفتي المالكي علي ابن مد القادر بن الأمين (19) وهؤلاء هم الذين ذكرهم في (ثبته) وهو يشير إلى روايته للحديث، وغيره. فقد قال إنه قرأ بعض صحيح البخاري على جده (يعني جده الأدنى) وأجازه ببقيته وبكتب الحديث، الستة الأخرى). أما عن والده فقد قرأ الفقه الحنفي وغيره من العلوم. وهو يروي البخاري:(بأعلى سند يوجد في الدنيا) عن شيخه علي بن عبد القادر المفتي المالكي المذكور. ويسميه تارة (شيخي أبي الحسن) وتارة (شيخنا ابن الأمين) وأحيانا يقول (صاحب شيخنا).
وقد بلغ به التأثر بابن الأمين أن قلده في منح الإجازات لمن أدرك حياته، فقال عنه (وقد أجاز جميع من أدرك حياته وفد اقتديت أنا به في ذلك فأجزت بكل ما أجازني به مشائخي جميع من أدرك حياتي (20) ولكننا إذا تأملنا في مصادر (السعي المحمود) وجدنا أن ابن العنابي كان عميق الثقافة، سواء منها تلك التي تمت بصلة إلى علوم الدين أو علوم الدنيا. أما في (الثبت) فهو يتحدث فقط عن روايته لمسلسلات الحديث الشريف وهي المعروفة (بالسند).
وقد كان في مدينة الجزائر علماء معاصرون له، نذكر منهم المفتي الشاعر محمد بن الشاهد (21)، والمفتي مصطفى بن الكبابطي (22)، والعالم محمد
(18) الاعلام، 7، ص 311. ورسالة الشيخ البوعبدلي إلى المؤلف.
(19)
توفي عن ثمانين سنة عام 1236 (1820). انظر (ثبت الجزائري).
(20)
انظر مخطوط 7451، تونس.
(21)
كان حيا سنة 1839 وكان بالإضافة إلى الشعر ينظم الموشحات وياحنها. ولا سيما في المولد النبوي وقد تولى الإفتاء عدة مرات. انظر مقالتنا عنه في كتابنا المذكور (تجارب في الأدب والرحلة).
(22)
تولى الإفتاء زمن الفرنسيين ثم نفوه لمعارضته ضم الأوقاف الإسلامية إلى أملاك الدولة الفرنسية وقد استوطن الإسكندرية، وكان شاعرا رقيقا أيضا وله شعر في الحنين إلى الوطن، وهو دفين الإسكندرية. توفي سنة 1277 هـ. انظر بحثنا عنه في كتاينا المذكور =
ابن مالك (23)، والكاتب السياسي حمدان خوجة (24). وجميع هؤلاء لعبوا أدوارا بارزة في بلادهم عندئذ.
ولعل الذي رشح ابن العنابي للوظائف الرسمية في الدولة هو مكانة أسرته ومنزلته العلمية. وقد عرفنا أن أسرته كانت ذات حظوة لدى دايات الجزائر منذ القرن الحادي عشر للهجرة (السابع عشر الميلادي). أما المنزلة العلمية فالظاهر أن ابن العنابي كان متمكنا في العلوم الشرعية خاصة، وأقدم نص وجدناه له يدل على ذلك. فقد عثرنا له على جواب أجاب به على مسألة في التوحيد بدأه هكذا (ورد علي سؤال نصه بعد عنوانه، إذا قيل حيث كان أهل الحق مطبقين على أن الحق تعالى يرى في الآخرة بالأبصار وأن الرؤية عبارة عن الإدراك المفسر بخلق الله تعالى فينا علما ضروريا عند ذلك فمتعلق هذا الإدراك نفس الذات العلية أم لا فأقول اعلم أولا أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة المتشكلة وإلى ما يدخل في الخيال كالذات العلية، وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة
…
) وعندما وصل في هذه المسألة إلى الفصل بين رأي المعتزلة وأهل السنة اختار ابن العنابي رأي أهل السنة قائلا عن رأي المعتزلة (ونحن لا نقول به لضيق مجاله فنسلمه لأربابه، سالكين مسلك الجمهور من أهل السنة لوضوح أدلتهم
…
) (25).
= (تجارب في الأدب والرحلة)، وكذلك دراستنا الأخرى عنه في كتابنا (أبحاث آراء في تريخ الجزائر الجزء الثاني، الجزائر 1985.
(23)
مذكرات، ص 81 ، 82 ، 91. وكان ابن مالك مدرسا وقاضيا للمالكيه وله تدخل في الأمور السياسية.
(24)
له عدة مؤلفات سنذكر بعضها. وقد تزعم حركة معارضة ضد الفرنسيين فنفوه، وبعد إقامة قصيرة في باريس استوطن إسطانبول وتولى بها بعض الوظائف وبها توفي حوالي 1845.
(25)
يقع النص في ورقتين ضمن مجموع ص 55 - 58. الخزانة العامة المغربية، ك 1089. والخط ليس خط المؤلف لأن نهاية النص هكذا: (انتهى ما نقل من خط المؤلف). وقد وقع اسمه هكذا: (قال هذا وكتبه بيده الفانية محمد بن محمود بن محمد بن حسين =
ويتضح من هدا النص القصير منطق ابن العنابي في معالجة هذه القضية الشائكة وترجيحه لرأي الجمهور المعروفين بتفضيل النقل عند تعارض الأدلة. فإذا عرفنا أن تاريخ هذا النص يعود إلى سنة 1226 هـ (1811 م) عرفنا منزلة ابن العنابي المبكرة لدى علماء عصره، وهي المنزلة التي جلبت إليه انتباه حكام عصره أيضا.
وتدل آثاره الأخرى التي اطلعنا عليها، بالإضافة إلى كتابه (السعي المحمود)، على تمكنه من علوم الأوائل، ولا سيما العلوم الشرعية، وهو يتمتع بحافظة قوية لذلك تجد إنتاجه يغلب عليه النقل من كتب وآراء الأقدمين. وهو يبهرك بكثرة نقوله واستدلالاته على كل جزئية يأتي بها، ولا غرو بعد ذلك أن يكون راوية سند إذ هذا يقتضي معرفة دقيقة بالرجال والتواريخ ونحوها، وبالإضافة إلى النقل كان ابن العنابي يتمتع بقدرة فائقة على التأويل والتخريج والتعليل. وقد عرفنا هذا من كتابه (السعي المحمود، كما عرفناه من أجوبته الفقهية وفتاويه التي أدلى بها في عدة مناسبات. فقد اطلعنا له على عدة أجوبة على أسئلة دقيقة تتعلق بقضايا الصيد والتقليد والمرأة وآداب مجلس قراءة القرآن ونحو ذلك، فكانت أجوبته في غاية الدقة والتحليل، وهو لا يترك مسألة حتى يقتلها بحثا وتعليلا واستنتاجا. وكل ذلك بأسلوب سهل واضح يكاد يكون خاصا به. فهو لا يلجأ إلى السجع ولا الجمل الطويلة إلا نادرا. وقد صدق الذين مدحوه، كما سنرى، بالتعمق في العلم والقوة في التحرير، والنظر، وبأنه عالم المنقول والمعقول (26) وسنورد بعض الفقرات له فيما بعد.
ولا شك أن قوة ثقافة ابن العنابي قد جاءت من اهتمام شخصي بالدرجة الأولى ومن تقاليد أسرته بالدرجة الثانية. فنحن نجده قد تلقى علومه في الجزائر
= الجزائري المدعو بابن العنابي أصلح الله حاله .. بتاريخ ذي القعدة سنة 1226) انظر أيضا كناش العمالي، مخطوط، مكتبة الشيخ البوعبدلي.
(26)
انظر مدح محمد بيرم الرابع له مخطوط رقم 9732 تونس، وكذلك مدح مصطفى بيرم له أيضا في المخطوط رقم 18763 (كناش الطواحني) تونس، واظر أيضا ما سيأتي.
على عدد من كبار الأساتذة عندئذ اشتهروا في النصف الأخير من القرن الثاني عشر الهجري (18 م)(27) وكان هو بحكم اقترابه من السلطة يكثر من الأسفار ويتابع مجريات الحوادث ويطالع في الكتب الهامة وينظر في تطورات الأحداث التي ذكرنا بعضها في البداية، وكان يساعده على كل ذلك ذكاء حاد وموهبة نادرة.
أما تقاليد الأسرة فهي التي أمدته بتراث غزير من الأحكام التي كان يصدرها آباؤه والشهرة التي كانوا يتمتعون بها لدى العامة والخاصة، والمكتبات التي كانوا ينشئونها لأنفسهم وأبنائهم، والمجالس التي كانوا يعقدونها للمناظرة والمسامرة مع الأصدقاء والخصوم. وقد عرفنا أنه تلقى العلم على والده وجده وعلى ابن الأمين وغيرهم من الجزائريين. كما عرفنا أنه قد حج على الأقل مرتين، وأرسل في مهمات سياسية، وتولى مناصب حساسة، كل ذلك أسهم في تكوينه الثقافي فجعل أحكامه عقلية تجريبية وآراءه معللة رزينة.
ويبدو أنه كانت لابن العنابي مكتبة ضخمة ورثها عن آبائه وأضاف إليها مقتنيات من عنده، وكان يعلق على الكتب التي يملكها ويكتب حواشي في أطراف الصفحات منبها أو ناقدا أو مصححا. ويبدو كذلك أن مكتبته الخاصة قد أصيبت بالتلف أثناء إجباره على مغادرة الجزائر سنة 1830 بعد الاحتلال مباشرة وأن ما بقى منها تلف بعد وفاته في الإسكندرية سنة 1267. ولهذا السبب عثرنا على بعض الكتب ذات الموضوع والخط الجزائري، وهي تحمل خطه وصيغة التملك بها. ومن ذلك ما وجدناه بخطه على كتاب (كعبة الطائفين)(28) حيث كتب ابن العنابي ما يلي على صفحة التملك:
(27) انظر بعضهم في دراستنا (مدارس الثقافة العربية في الجزائر) في كتابنا (أفكار جامحة)، الجزائر، 1988. وانظر أيضا كتابي (منطلقات فكرية) (فصل نماذج من الفكر التقدمي عند بعض الجزائريين). الدار العربية للكتاب، ليبيا- تونس ط 2، 1982.
(28)
انظر دراستنا عنه. في (المجلة التاريخية المغربية) عدد 7، 8 يناير 1977. وكذلك في كتابنا (أبحاث وآراء)، الجزء الأول، ط 2 ، 1982.