الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عصره:
عاش ابن العنابي عمرا حافلا بالإنتاج العلمي والاضطراب السياسي. فقد ولد سنة 1189 هـ (1775 م) حسبما أكده بنفسه في إجازته للشيخ محمد بيرم التونسي سنة 1245 هـ (1) وتوفي بإجماع الباحثين في الإسكندرية (بمصر) سنة 1267 هـ (1851 م)(2).
وهذه الفترة الطويلة التي تتوزع على القرنين الثاني عشر والثالث عشر (18 و19 م) تعد من أحرج الفترات التاريخية لا في الجزائر فحسب ولكن في الدولة العثمانية والعالم الإسلامي قاطبة. فقد عاصر الثورة الفرنسية وما نتج عنها من أحداث مست جوانب متعددة من الحضارة الإسلامية، وعاصر في بلاده (الجزائر) حروبا خارجية ضد الإنكليز والأمريكان والفرنسيين والإسبان والتونسيين وغيرهم، وحروبا داخلية كثورة الطريقة الدرقاوية وثورة ابن الأحرش، والتنازع على السلطة بين الطائفة التركية نفسها سواء على مستوى السلطة المركزية في مدينة الجزائر أو على مستوى الأقاليم. وكان ضحية كل هذه الحروب (الخارجية والداخلية، هو
(1) مخطوط رقم 7451 ص 39 ظهرا، المكتبة الوطنية - تونس. والظاهر أنه ولد بمدية الجزائر رغم أن ذلك لم يذكره أحد.
(2)
على ذلك بروكلمان، ملحق 2، ص 739، والأعلام للزركلي، 7، ص 311. وشذ محمد ابن عبد الكريم فذكر أن ابن العنابي تولى الإفتاء في الإسكندرية سنة 1267 (1851) وتوفي بها سنة 1269 (1853) _ أنظر حمدان بن عثمان خوجة ومذكراته، بيروت 1972، ص 161، هامش 2.
الرجل العادي من الفلاحين وأصحاب الحرف والتجار، لأنه هو الدافع للضرائب وهو وقود الفتن.
وبالإضافة إلى ذلك عاصر ابن العنابي، الذي تولى عدة وظائف رسمية كما سنرى، بداية عهد التنظيمات في الدولة العثمانية من جهة وأخذ محمد علي والي مصر عندئذ بمبادىء التمدن الغربية من جهة أخرى. وسنرى أن هذه التنظيمات هي التي دفعته إلى كتابة كتابه (السعي المحمود) الذي سنتحدث عنه.
أما في الجزائر حيث كان يعمل فإننا لا نجد هذه الظاهرة قد وجدت لها مكانا. حقا إن الإنكشارية قد تدهورت كنظام وأصبحت عاملا سلبيا في الحياة السياسية والاقتصادية، بل أصبحت مثار فتنة واضطراب في البلاد، ولعل ذلك هو ما جعل الداي علي خوجة يحاول التخلص منهم سنة 1817 (3) بطريقة سبق بها السلطان محمود الثاني معهم. ولكن علي خوجة قد مات بالوباء (4) وفشل فيما رامه وعاد بعده الإنكشارية إلى صولتهم. ولعل ذلك هو ما ساعد على الاحتلال الفرنسي للجزائر بعد حوالي عشر سنوات من وفاته.
أسرته:
اسه الكامل هو محمد بن محمود بن محمد بن حيين الجزائري (5) وشهرته العنابي أو ابن العنابي (6) وكان على مذهب الحنفية. وأسرته قديمة في
(3) انظر الطريقة التي استعملها لضربهم في (مذكرات الحاج أحمد الشريف الزهار) تحقيق ونشر أحمد توفيق المدني الجزائر، 1974، ص 132 - 134.
(4)
عن هذا الوباء انظر نفس المصدر، ص 141، 151 وقد مات منه خلق كثير، دام حوالي سبع سنوات. وتوقف بسببه أداء فريضة الحج فترة.
(5)
لا ندري كيف ولا متى لصقت به هذه النسبة أولا لأن المؤلف يتوقف عنده. وقد كنا نرجح أن المؤلف أخذ هذه النسبة بعد خروجه من الجزائر لولا وجودها في اسمه في نص قديم يعود إلى سنة 1811 (1226 هـ) عندما كان في الجزائر ولولا وجودها مع أسماء أخرى من عائلته.
(6)
الذي كان يكتبه بنفسه هو (العنابي) و (ابن العنابي) ولكن بعض المؤلفين، ومنهم
تاريخ الجزائر (7) ولكنها ظهرت فيما يبدو بعد مجيء العثمانيين. فنحن نجد اسم جده الأعلى (حسين بن محمد بن العنابي) في قائمة المفتيين الأحناف في الجزائر سنة 1148 هـ (1735 م). والمفتي الحنفي في الجزائر العثمانية هو (شيخ الإسلام) الذي لا يفوقه في المنزلة والاعتبار سوى (الداي) أو رئيس الدولة.
وكان حسين العنابي، فيما يبدو، عالما واسع المعرفة بعلوم الشريعة، وله تفسير للقرآن الكريم ينقل عنه حفيده، موضوع هذا البحث، في كتابه (السعي المحمود) عدة مرات وفي غيره من فتاويه وكتاباته. وهو يشير إليه بهذه العبارة:((قال مولانا الجد الأكبر حسين بن محمد رحمه الله في تفسيره)) (8) وتذكر بعض المصادر أن حسين ابن العنابي قد تولى الفتوى أربع مرات، وتوفي سنة 1150 هـ (1737)(9).
وقد اشتهر من أسرة ابن العنابي عالم آخر تولى عدة وظائف وترك بعض الإنتاج، ولذلك نعرف عنه بعض الأمور التي لا تتوفر لغيره، ونعني به مصطفى
= بروكلمان يكتفون (بالعنابي) فقط. وهي شهرته، وهو قد استعملها كذلك في جوابه على مسألة التوحيد الذي يعود إلى سنة 1811 فقال بعد ذكر اسمه (المدعو بابن العنابي) ويستعل بعض المؤلفين عبارة (الشهير بابن العنابي) وقد استعمل الزهار، المعاصر له، مرة ابن العنابي ومرة العنابي فقط أما خوجة، المعاصر له أيضا، فقد استعمل العنابي، بخلاف ديرينو الذي استعمل ابن العنابي وهكذا. وهي في الواقع شهرة جده الأعلى أيضا، حسين بن محمد بن العنابي. ولكننا إذا أخذنا ما كتبه مصطفى بن رمضان العنابي الآتي في الاعتبار فان عبارة (العنابي) تصبح نسبة إلى عنابة (مدينة بالجزائر). انظر ما يأتي.
(7)
رسالة الشيخ المهدي البوعبدلي إلى المؤلف بتاريخ 27 مايو 1975.
(8)
فصول 8، 7، 6. انظر ايضا مخطوط رقم 9732 بالمكتبة الوطنية (تونس) المتضمن جملة من أجوبة له في الفقه.
(9)
انظر ديفوكس، نقلا عن ابن المفتي، في المجلة الإفريقية R.A سنة 1867 ص 392.
وجدناه مذكورا في عدة تواريخ أخرى بالأرشيف العثماني، وكان يسكن دار سوكالي المحاذية لجامع خضر باشا بالجرائر، وهذه التواريخ هي: 1129 ،1145 ،1148 انظر رقم (184) 1 - 32 M 228 بدار الوثائق الوطنية الفرنسية.
ابن رمضان، قريب المفتي حسين، الجد الأعلى لابن العنابي. فإذا أمعنا النظر في المعلومات التي لدينا عنه توصلنا إلى عدة أمور، منها أنه أصلا من مدينة عناية الجزائرية، وإنه ولد بها، ثم انتقل منها إلى مدينة الجزائر طلبا للجاه والحظوة، وتزوج بها وتثقف وعاش إلى سنة 1130 م. وأنه كان أيضا على مذهب الحنفية. وأنه كان يدعى (العنابي) وليس (ابن العنابي). فقد جاء في مقدمة أحد كتبه (يقول مصطفى بن رمضان الحنفي البوني العنابي المنشأ الجزائري الدار. وبعد فإنه لما انتقلت من بلدي، بلد العناب، دار القرابة والأحباب:
بلاد بها نيطت علي تمائمي
…
وأول أرض مس جلدي ترابها
واستوطنت الجزائر، المعجبة لكل زائر، بلدة قال فيها الشاعر:
وما الحسن ما ضم العراق وإنما
…
هو الحسن ما انضمت عليه الجزائر
بلاد بها الخيرات حلت وخيمت
…
وأول قصد الحر فيها وآخر) (10)
فهذم الشهادة لا تدع مجالا للشك في أن مصطفى بن رمضان من بلدة عنابة (خصوصا وقد أكدها بالبوني) وأن أسرته وأقاربه أيضا من هناك (وقد أكد ذلك بعبارة دار القرابة والأحباب)، وأنه قد انتقل منها إلى الجزائر ذات الجمال والرونق التي كان يطمح إليها كل زائر، لا سيما خلال القرن السابع عشر الميلادي الذي بلغت فيه شهرتها قمتها، ولعل الشيخ مصطفى قد توجه إلى مدينة الجزائر طمعا في تولي منصب هام كالقضاء، أو الفتيا وهو المنصب الذي كان يتنافس عليه علماء وقته كما أن مذهبه الحنفى يجعله مرشحا دون غيره لهذا
(10) من كتاب له مخطوط بجامع البرواقية، سنتعرض له، رقم 15.
ومما يؤكد نسبته إلى عنابة ما جاء في مقامة صديقه وبلديه، أحمد البوني، من مدح ووصف له بالعنابي ثم الجزيري (الجزائري) وبأنه قضاء حوائج. والمقامة مكتوبة سنة 1106 مما يدل أيضا على أن مصطفى العنابي كان قد انتقل الى الجزائر قبل هذا التاريخ. انظر هذه المقامة في كتابنا (تجارب في الأدب والرحلة)، الجزائر، 1984 م.
المنصب، وقد عرفنا أن قريبه الجد الأعلى لابن العنابي كان قد تولى الفتيا عدة مرات في مدينة الجزائر.
وتثقف مصطفى بن رمضان العنابي بثقافة عصره في عنابة ومدينة الجزائر، وفي الأخيرة درس على العالم الجزائري المغربي محمد بن محمد بن شقرون ابن أحمد المقري التلمساني ولازمه أكثر من اثني عشر سنة. ومما درس عليه كتب الحديث (شمائل الترمذي، وصحيح البخاري) والتوحيد، والمنطق، والأصول وعلم التصوف، وغير ذلك. وفي آخر المطاف، وعند بلوغ شيخه سن التقاعد طلب منه الإجازة، على العالة الجارية عندئذ، فأجازه الشيخ محمد بن شقرون، سنة 1087 هـ (11).
وممن أجازوا مصطفى بن رمضان أيضا محمد الطيب بن عبد القادر الفاسي عند مجيئه إلى الجزائر في الوفد المغربي سنة 1103 هـ وقد سماه الفاسي (الفقيه النبيه العلامة الدراكة المشارك النحرير أبو الخير مصطفى بن رمضان الحنفي الشهير بالعنابي) وتبلغ الأرجوزة التي أجازم بها حوالي سبعين بيتا، وقد جاء فيها:
أقول مجيبا مفصحا بلساني
…
أجزت الفقيه المصطفى التركماني (12)
ونستنتج من هذه الإجازة أن المجاز كان مشهورا (بالعنابي) نسبة إلى عنابة كما اشتهر صاحب كتاب السعي المحمود بعد ذلك (بابن العناب) كما نستنتج منها أن مصطفى بن رمضان كان من أصل تركماني أو (تركي). وقد اشتهر مصطفى بن رمضان، الذي يرد اسمه كثيرا بين علماء الجزائر
(11) الإجازة وخبرها موجودان في المخطوط رقم 15 بجامع البرواقية، وقد أرخ مصطفى العنابي لوفاة شيخه بعام 1087 وقال إنه توفي بعد أن كتب ورقتين من المسوة ودفن بمدينة الجزائر خارج باب الواد. غير أن ابن العنابي ذكر في إجازته لمحمد بيرم الرابع أن ابن شقرون قد توفي سنة 1084 (أنظر الإجازة في آخر الكتاب).
(12)
رسالة البوعبدلي الى المؤلف.
عندئذ، بعلوم الفقه والتأليف فيها. ومن تآليف التي وصلت إلينا (أرجوزة) في الفقه الحنفي (الفرائض) بدأها بقوله:
يقول راجي رحمة الوهاب
…
الحنفي مصطفى العنابي (13)
ومنها كتاب غريب الاسم والموضوع وهو (الروض البهيج بالنظر في أمور العزوبة والتزويج). وأصل الكتاب حسبما ذكره بنفسه في المقدمة، أنه لما انتقل إلى مدينة الجزائر طمعا في الراحة والأنس عزم على الزواج ولكن زواجه كان غير ناجح فطلق زوجته وألف هذا الكتاب الذي حذر فيه من الزواج وحبائله. فقد جاء في المقدمة عن الجزائر (فلما أعجبني بحسنها الرائق، وجمالها الفائق، تزوجت بها عرس (كذا) كي يحصل لي بها الأنس، فإذا الأمر بالعكس، وبليت بعد السرور بالنحس، ألفت عمد الطلاق، هذه الأوراق، جعلتها تذكرة لنفسي، ولمن هو مثلي من أبناء جنسي) فدافعه لتأليف هذا الكتاب إذن هو الصدمة النفسية التي حصلت له بعد فشله في الزواج. وقد رتب الكتاب على بابين:
الباب الأول: في حكم النكاح.
الباب الثاني: في التحذير منه.
وقسم كل باب إلى فصول. ولكن النسخة التي اطلعنا عليها مبتورة الآخر، ولذلك لا نعرف عنه إلا ما كتبه عن حكم الزواج وما جاء فيه من الأحاديث والآثار. أما الباب الثاني فلا وجود له في هذه النسخة (14) ومع ذلك فإن عنوان الكتاب يظل دليلا على أنه يفضل العزوبة على الزواج الفاشل، ويؤكد ذلك
(13) مخطوط البرواقية. وممن تتلمذ على الشيخ مصطفى بن رمضان العنابي الشيخ أحمد بن مصطفى برناز التونسي أثناء زيارته لمدينة الجزائر، انظر (بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان) لحسين خوجة. المكتبة الوطنية. الجزائر. كما تتلمذ عليه قريبه (محمد بن حسين) الجد الأدنى لابن العنابي موضوع حديثنا.
(14)
نفس المصدر. ويذكر البوعبدلي في رسالته إلى المؤلف أنه رأى له بعض التآليف في مكتبة الأوقاف بطرابلس الغرب، ولعلها هي التآليف التي ذكرناها.
بالباب الثاني من الكتاب. وعسى أن تكشف الأيام عن بقية هذا الكتاب لنعرف رأي المؤلف الكامل في الموضوع كما نتعرف على رأي قطب من أقطاب أسرة العنابي الشهيرة بأبحاثها في الفقه الحنفي والتشريع الإسلامي عامة. ومهما يكن الأمر فإن مصطفى بن رمضان قد توفي في سنة 1130 هـ، ويغلب على الظن أن وفاته كانت بمدية الجزائر (14م).
وقد أطلنا في الحديث عن مصطفى بن رمضان العنابي لسببين: الأول إننا لا نعرف إلا القليل عن الجد الأعلى لابن العنابي (صاحب هذه الدراسة) الذي طالما جاء بكلامه في التفسير ونحوه، والثاني إننا أردنا أن نعوض هذا النقص بالمعلومات التي وجدناها عن قريب ومعاصر لجده لنعرف أصول هذه الأسرة العنابية التي يبدو أنها استقرت نهائيا في مدينة الجزائر وبقيت تتوارث المناصب الفقهية في الجزائر العثمانية (15).
أما الجد الأدنى لابن العنابي فهو الشيخ محمد بن حسين الذي اشتهر أيضا بالعلم والجاه. أما العلم فيدل عليه ما قرأه على عمه ابن أم أبيه مصطفى ابن رمضان العنابي السابق الذكر، كما يدل عليه ما أخذه عنه حفيده محمد بن محمود (الذي نحن بصدد الترجمة له) من معارف. فقد جاء في إجازة الأخير
(14 مكرر) ورد اسم مصطفى العنابي في الأرشيف العثماني عدة مرات وبتواريخ مختلفة. وكان يسكن بدار سوكالي (أوسكالي) القريبة من جامه خضر باشا، وكان كراؤها من أوقاف مكة والمدية. وهذه بعض التواريخ: 1123، 1129، 1141. انظر الأرشيف المذكور رقم (184) 32 - 1 m 228 بدار الوثائق الوطنية بفرنسا.
(15)
تذكر بعض المصادر أن هناك عنابيا آخر قد ألف كتابا سماه (كشف البضائع) ولكننا لا ندري الآن هل هو من أسرة العنابي التي نتحدث عنها. كما أننا لم نطلع على هذا الكتاب. وقد جاء في بعض الماصادر أن أسرة العنابي (الحنفية) كانت تنافس أسرة قدورة (المالكي). ومن ذلك أن مصطفى العنابي وأخاه كانا يقفان ضد أحمد قدورة، وهو المفتي الذي حكم عليه الداي سنة 1118 بالإعدام بعد سجنه لتدخله في السياسة. انظر
R.A (1866) ص 293. انظر تفاصيل ذلك في كتابنا (تاريخ الجزائر الثقافي) ج 1 الجزائر، 1985، ط2 ص 167.