الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب - آثاره الأخرى
(*)
بالإضافة إلى (السعي المحمود) ترك ابن العنابي آثارا أخرى كثيرة منها الرسائل و
الفتاوى
والإجازات والكتب والأشعار. وهي جميعا ثروة ضخمة لو جمعت، أو جمع منها البعض لعرفنا صورة صادقة عن شخصية ابن العنابي وعصره وثقافة علماء عصره. ولكن يد البحث ما زالت لم تمتد إلى هذا التراث بالجمع والفحص والتصنيف والنقد. وإلى أن يحين هذا نكتفي هنا بوقفات قصيرة فيما قد عثرنا عليه من إنتاج، تاركين البقية للباحين الآخرين.
1 -
الفتاوى:
وأول ما يلفت النظر كثرة فتاوى ابن العنابي. وقد نقل عنه هذه الفتاوى علماء الجزائر وعلماء تونس وعلماء مصر وغيرهم. ولا غرابة في ذلك فالرجل كان متمكنا من علوم الدين، حافظا، عميق المعرفة وله بعض الآراء المنسجمة مع روح العصر، وكان كثير الأسفار، مقربا من السلطة السياسية، ويبدو أنه كان يتمتع بجرأة كبيرة أيضا. ثم إنه تولى مناصب دينية عديدة تجعله عرضة لإبداء الرأي في كثير من القضايا التي ترد عليه سواء من رجال الدولة أو من رجال العلم أو من العامة فقد عرفنا أنه تولى منصب الفتيا والقضاء والتدريس والأوقاف ونحو ذلك، ولا شك أن له ثروة طائلة من الفتاوى بعضها ضاع وبعضها ما زال موجودا. وقد اطلعنا له على مجموعة من هذه الفتاوى، منها أجوبته على ستة أسئلة وجهها إليه بعضهم من بلاد الروم، ويغلب على الظن أنه من أناضوليا، وهو
(*) انظر قائمة كتبه من المدخل الجديد.
الذي تشير إليه الوثاثق باسم (الرومي). وقد وجدنا نسختين من هذه الأجوبة: نسخة مكتوبة بخط جيد لكن مليئة بالأخطاء وليس لها عنوان خاص، وهي تقع ضمن مجموع (1). أما النسخة الأخرى فهي مكتوبة بخط تونسي جيد، ولعله خط الشيخ محمد بيرم الرابع، وتكاد تخلو من الأخطاء (2). وليس في النسختين أية إشارة إلى تاريخ نسخها أوكتبها. غير أن في النص ما يدل على أن ابن العنابي قد كتب أجوبته قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر. ذلك أنه ذكر في جوابه على السؤال الثاني قوله في نهايته (وعلى هذا كان العلماء الورعون من حنفية بلادنا دار الجهاد والعلم، الجزائر حرسها الله تعالى)(3) وعبارة (دار الجهاد) كانت تستعمل للجزائر في العهد العثماني. ويس في العهد الفرنسي. ولكن تاريخ الإجابة يبقى، مع ذلك، غير محدد. أما مكانها فهو أيضا غير مذكور، ولكن يغلب على الظن أنه كتبها خارج الجزائر، بدليل العبارة السابقة، لأنه (ابن العنابي) لو كان في الجزائر لما قال عبارة وعلى ذلك (حنفية بلادنا) لأنها عبارة يستعملها العلماء عادة عندما يكونون خارج بلادهم.
ومما يلاحظ أننا لا نعرف بالضبط من توجه بهذه الأسئلة إلى ابن العنابي غير أن هناك ما يدل على أن السائل كان شخصا من بلاد الروم إيلي؟ فعنوان نسخة الشيخ محمد بيرم هو (الفتح القيومي بجواب أسئله الرومي) كذلك ورد في ثلاثة أماكن على الأقل من النص إشارة إلى بلاد الروم ففي مقدمة الأسئلة هذه العبارة (وهل إذا مات الميت وطلع شخص من الجن في صورة ذلك الميت وغيره ويجامع زوجته يجوز حرق ذلك الميت كما في بعض بلاد الروم أو لا) وفي الجواب على هذا السؤال أشار ابن العنابي إلى هذه البلاد (بلاد الروم) يقوله (على ما ذكر السائل وغيره ممن جال في تلك البلاد) وقد جاء في
(1) رقم 194، المكتبة الوطنية - تونس - ورقات 18 - 24.
(2)
رقم 9732 المكتبة الوطنية. تونس - ورقات 70 - 75، ضمن مجموع أيضا.
(3)
نفس المصدر. ورقة 72، كذلك ذكر في جوابه على السؤال السادس عندما نقل عن جده أنه كان مفتي الجزائر (حرسها الله) وهي عبارة تدل على أنها كانت غير محتلة من الفرنسيين انظر ورقة 74.
نهاية الأجوبة (فلا يبعد أن يكون ما أصاب بعض أهل البلاد الرومية من واقعة السؤال الخ) وهكذا يتضح أن السائل من بلاد الروم وأن هناك بعض الأمور التي كانت تجري في هذه البلاد دون غيرها فاستحقت استفتاء ابن العنابي عليها. والمهم أن الأمثلة عبارة عن استفتاءات وجهت إلى ابن العنابي، ولعلها قد وجهت إلى غيره أيضا فأجاب عنها كل عالم بما يرى، ومن ذلك رأي ابن العنابي خاصة.
ومهما كان مصدر وتاريخ ومكان هذه الأسئلة فإنها تتعلق بمسائل جديرة بالدرس اليوم، ولا سيما بعضها كما سنوضح. وجملة الأمثلة ستة. وهي كما يلي:
1 -
هل يجوز تقليد مذهب الغير في صلاة الجمعة والعيدين في القرى أو لا؟
2 -
وهل يجوز صيد الطير بالرصاص او الرش أو لا؟
3 -
وهل إذا اتخذت المرأة رجلا أجنبيا أخا لها في الله يجوز لها أن تكشف عليه وينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة أو لا؟
4 -
وهل يجوز للمسلم أن يؤاخي الذمي كما يؤاخي المسلم أو لا؟
5 -
وهل إذا مات الميت وطلع شخص من الجن في صورة ذلك الميت وغيره ويجامع زوجته يجوز حرق ذلك الميت كما في بعض بلاد الروم أو لا؟
6 -
وما السبب في ذلك؟
وهكذا وردت الأسئلة بالجملة. أما الأجوبة عليها فكانت بالتفصيل، فقد أجاب ابن العنابي على كل سؤال إجابة طويلة محللة ومعللة، كعادته، فبالنسبة للسؤال الأول كان رأيه الجواز ذلك أنه يجوز للعامي في القرى تقليد من يرى جواز إقامة تلك الصلوات. وقد عزز ابن العنابي رأيه بمواقف لعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وعدد آخر من الصحابة والتابعين، وبموقف الظاهرية وغيرهم. وقد أكد أن (التزام المذاهب المعين. غير ملزم ولا واجب مستدلا على ذلك بعدد كبير من أقوال الفقهاء والأصوليين. ومما يلفت النظر قول ابن العنابي في هذه المسألة أن (الواجب على العامي تقليد عالم لا بعينه كما يفيده
قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فمتى فعل ذلك فقد أتى بواجب عليه فصار خارجا من العهدة).
وفي جوابه على السؤال الثاني أكد ابن العنابي بأن القدماء لم يتعرضوا لمشكلة الصيد بالرش والرصاص لأن (الرمي البارودي مما حدث بعد المائة السابعة فلا ذكر لأحكام الصيد المصاب في كتب الأقدمين). كما أن المتأخرين لم يتعرضوا له (4)، وقد استعرض ما جاء في كتب (أصحابنا) عن الرمي بالبندقة والحجر والمعارض، مؤكدين أن صيدها غير حلال لأنها تقتل بالرمي والكسر ونحوهما ولا تجرح فيكون الميت بها (في حكم الموقوذة) وبناء على ابن العنابي فإن نتيجة هذا الصيد لا تنطبق على صيد (بنادق الرصاص ورشه المرمية بنار البارود) لأن الرمية بها تنفذ نفاذا أقوى من نفاذ السهام (كما يعرفه كل من تعاطى الرماية البارودية) وقد انتهى إلى تلخيص رأيه في الموضوع وهو أن كل رماية نافذة قاتلة بجرح لا بكسر أو رض يعتبر صيدها حلالا وهذا نص عبارته (فالذي يتعين أن يقال به في مرميه (الرمي البارودي) إنه متى تحقق جرحه وسيلان دمه بحيث يغلب على الظن أن موته من الجرح لا من رض أو كسر فإنه يحل أكله). وبعد أن استشهد لرأيه بنقول كثيرة من (أيمة المذهب) والأحاديث حكم بأن الرصاص والرش أقوى وسائل الصيد سيلانا للدم (كما هو معلوم بالمشاهدة الفاشية) لذلك فإن صيدهما حلال. وكان هذا هو المعلوم به حسب رأيه لدى علماء الحنفية بالجزائر.
ويتبين من هذا الجواب أن ابن العنابي يستعمل القياس وأنه لا يتردد في البحث عن أقوال الأقدمين والمتأخرين فيما عرض لهم، فإن وجده أخذ به أو ناقشه وإلا اعتمد على التجربة (والمشاهدة الفاشية) وهذا الموقف يجعله يسير
(4) علق الشيخ محمد بيرم على قول ابن العنابي انه لم ير من تعرض للمسألة من المتأخرين فقال انه اطليع على من علق على إجابة ابن العنابي كاتبا أن هذه المسألة قد (عرج عليها من المتأخرين صاحب البحر وصاحب المنح واتفقا فيها على عدم الحل) وأورد محمد بيرم نص ذلك. انظر الورقة 75 من الأجوبة
في نفس النهج الذي سلكه في كتابه (السعي المحمود) عندما دعا إلى التجديد والتطور في المسائل التي لم تعرض للقدماء والتي يحتاجها المجتمع الإسلامي الجديد.
ولابن العنابي رأي جدير بالتأمل نجده في إجابته على السؤال الثالث. ذلك أنه يرى أنه لا يجوز للمرأة الشابة أن تكشف وجهها للأجنبي كما لا يجوز لها أن تكشف له أكثر من باطن كفيها وما تحت الكعبين من قدميها. وإذا كان هذا رأيه في حكم النظر فأحرى أن يكون أشد محافظة في حكم المس. وهذا نص عبارته (لا يجوز للمرأة أن تكشف للأجنبي سوى باطن كفيها وما تحت الكعبين من قدميها. وأما الوجه فإنه وإن لم يكن عورة في حق الصلاة وحق النظر إليه، إن أمن الشهوة، فإنه تمنع المرأة الشابة من كشفه بين الأجانب دفعا للفتنة وحسما لمادة الفساد والشر، وحكم المس في ذلك أغلظ). وبعد أن استدل لرأيه السابق من بعض الكتب زاد رأيه مبالغة فقال إنه لا يجوز للمرأة (وإن كانت عجوزا فانية) أن تكشف للأجنبي عن (عضديها وذراعيها وما أشبه ذلك).
أما المؤاخاة بين المرأة والرجل الأجنبي في الله فقد وقف منها ابن العنابي موقفا صارما، ولم يعد في ذلك لأي موقف سابق للأقدمين بل اندفع يبدي رأيه الشخصي في الموضوع قائلا إنها (من كبائر المعاصي) وفصل الرأي في فاعلها فقال إن آخى الرجل المرأة معتقدا أن ذلك قربة (كما يقع من كثير من الدراويش المتقشفة) فهو كافر لأن هذا الرجل قد استحل حراما قطعيا، مستدلا بالآية الكريمة:{ولا يبدين زينتهن} ومعللا بأن إجماع المسلمين منعقد على ذلك. هذا إذا كان فاعله واعيا عاقلا. أما إذا كان فاعل الحرام القطعي (مؤاخاة المرأة) جاهلا أو غبيا فإنه يزجر ويشهر بعمله. فإذا تمادى في عمله فقد طالب ابن العنابي (أمراء الإسلام) بقتله لأنه في نظره زنديق ظاهر الزندقة. (والزنديق إذا أخذ قبل التوبة قتل ولا تقبل له توبة).
وقد خرج ابن العنابي عن موضوعه الأصلي ليحمل حملة كبيرة على من يسميهم تارة (بالزنادقة) وتارة (بالدراويش المتقشفة). فقد اعتبر عمل هؤلاء من
أعظم ما أصاب الإسلام وأهله من الفساد والشر وقال إن الضرب على أيدي هؤلاء (من أعظم ما يتقرب به إلى الله) بل هو الجهاد الحقيقي. وحكم على ما يبدونه من الورع والصلاح بأنه محض مكر وخداع. ودعا الله أن يكشفهم ويلعنهم ويسحقهم عن طريق (ملوك الإسلام الذابين عن حمى شريعة سيد المرسلين).
وهذه الحملة من ابن العنابي في ذلك الوقت لها أكثر من مبرر. فقد عرفنا أنه يكون كتب هذه الأجوبة خارج الجزائر (مثلا في اسطانبول أو مصر) وأنه كتبها قبل 1830، وهي الفترة التي تحدثنا عن أهميتها في تطور المجتمع الإسلامي وذلك أن هؤلاء الدراويش أو الزنادقة الذين يتحدث عنهم كانوا فعلا يشكلون حجر عثرة في طريق تقدم الإسلام وأهله. وقد عانت منهم الدولة العثمانية أشد المعاناة عندما وقفوا في طريق إلغاء نظام الإنكشارية ونحوه من النظم البالية، وعندما عارضوا كل تقدم كانت الدولة ستأخذ به من أجل تطوير المجتمع. وقد تحدث ابن العنابي عن هؤلاء القوم في كتابه (السعي المحمود) بطرق أخرى، تعرضنا إليها. وكان خروجه عن الموضوع الأمر (المؤاخاة في الله بين الرجل الأجنبي والمرأة) طفرة أخرى من الطفرات التي يدفعه إليها حبه للتجديد وثورته على التقاليد العقيمة التي تشكل الطائفة التي يشير إليها عقبة في طريق تحطيمها.
ولنورد فقرة صغيرة من هذا النص، وهي جديرة بالتأمل والوقوف. فهو يقول (ورفع فساد هؤلاء الزنادقة، الذين أدخلوا على الإسلام وأهله أعظم الفساد والشر، من أعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى، فهو من أعظم الجهاد. ولا يعتبر بما يظهرونه من الصلاح والنسك فإنه من مكر الزندقة وخداعها، أخزاهم الله وأبعدهم وسلط عليهم من ملوك الإسلام الذابين عن حمى شريعة سيد المرسلين، من يشتت شملهم ويحسم مادة فتنتهم وشرهم). وانظر أنه كرر عبارة (من أعظم) ثلاث مرات، وقد كرر عبارة (ملوك الإسلام) مع عبارته السابقة (أمراء الإسلام) ولكنه قيد العبارة الأولى بهذا الوصف المهم وهو (الذابين عن
حمى شريعة سيد المرسلين، ذلك أن ملوك الإسلام ليسوا جميعا في هذا المستوى الذي يطالب به، فمنهم من كان يتغاضى عمن اعتبرهم ابن العنابي زنادقة، مشجعين لهم على أفعالهم، ومنهم من كان هو نفسه زنديقا بمقتضى المقياس الذي ذكره ابن العنابي.
ومن المهم أن نقارن ما أثاره هنا من قضايا بما أثاره في كتابه (السعي المحمود) وخاصة حديثه الموجه إلى السلطان محمود الثاني العثماني. ولا نستغرب أن يكون ابن العنابي قد عنى بهؤلاء الزنادقة طائفة المتصوفة وأهل الطرق الذين كانت لهم مواقف من النوع الذي أشار إليه كإظهار النسك وإخفاء المحرمات. وهو في هذا يعد من الثوار على أهل الخرافة والشعوذة والطرقية والمتجارة بالدين في وقت مبكر نسبيا. ولعله من الأفضل مقارنة رأيه هذا فيهم برأي عبد الكريم الفكون فيهم أيضا، وهو الرأي الذي عبر عنه في كتابه (منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية) الذي ألفه قل كلام ابن العنابي بأكثر من قرن.
وفي جوابه على السؤال الرابع وهو (مؤاخاة المسلم للذمي) أباح ابن العنابي مؤاخاة المسلم للذمي بشرطين الأول الضرورة إلى ذلك والثاني عدم ميل القلب. وقد فسر الضرورة بأنها (مصلحة معاشية يبيحها الشرع) فإذا اقتضى الحال الاجتماعي ذلك وكان قلب المسلم خاليا من حب الكافر (فلا بأس بذلك) أما إذا آخى المسلم الذمي مع ميل القلب وتعظيم الكافر في الباطن فالأمر في نظره يختلف، فهو من أكبر الكبائر، بل اعتبر ذلك منافيا للإيمان الذي يشترط فيه (الحب في الله الشامل لجميع ما يحبه الله ورسوله والبغض في الله الشامل لجميع ما يبغضه الله ورسوله، وقد استدل ابن العنابي على رأيه هذا بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} الآية. ونصح بأن يروض المسلم نفسه على كراهة الكفار بقلبه وعلى تجنبهم في المعاشرة وعدم مخاطبتهم (إلا لضرورة لا بد منها) على أن يحترز المسلم من ميل القلب إليهم لأن ميل القلب إليهم يؤدي في نظره إلى سلب الإيمان من قلب المسلم.
ويلاحظ المرء على جوابه على هذه المسألة شدة حرصه على مراعاة المسائل الدنيوية الضرورية والمسائل الدينية. فهو بقدر ما كان متعصبا في شؤون الدين كميل القلب والإعجاب بآثار أهل الذمة ونحو ذلك كان متساهلا في الأخذ بأسباب الحياة منهم، وهو الموضوع الذي طرحه بشكل أوسع في كتابه (السعي المحمود).
وقد أفتى ابن العنابي (السؤال الخامس) بجواز حرق صورة الميت الذي يظهر بالطريقة التي أثارها السائل. ولكنه تحفظ كثيرا حول هذه النقطة ذلك أنه عالجها بطريقة فرضية لا قطعية فكأنه كان لا يؤمن في الواقع بمثل هذه الحوادث ولكنه أجاب مع ذلك بأنه إذا وقعت يقطع دابرها بالحرق. ومن ثمة نجده يكثر في جوابه من مثل (إذا شهدت التجربة الصادقة المستمرة)(وإن لم نطلع على حقيقة السر في ذلك) وقد قاس هذه المسألة، كعادته، على مسألة أخرى وهي تقوم على أن حرمة الحي مقدمة على حرمة الميت، كشق بطن المرأة الميتة إذا ثبت أن في بطنها طفلا حيا، رغم أنه من (المعلوم أن شق البطن فيه هتك حرمة الميت). كما قاسها على القاعدة التي تنص على أنه إذا تعارض ضرران يرتكب أخفهما قائلا (إذا تعارضت بليتان وجب ارتكاب أقلهما ضررا). وقد استدل لهذه النقط ونحوها في الجواب بآراء أيمة المذهب الحنفي، وبالسنة النبوية.
وآخر سؤال أجاب عنه هو قول القائل (وما السبب في ذلك؟) ولكن ابن العنابي كان غير مطمئن لذلك أيضا فأجاب بأنه لا يكاد يجزم به. وهذه هي عبارته (إن هذا أمر مغيب لا نقطع فيه بشيء) ولكنه استنتج من الحادثة (سوء عاقبة) صاحبها ذلك أن المؤمن الحقيقي لا يواجه مثل ذلك. وقد استدل ابن العنابي على شقاء من وقعت له هذه الحوادث بآيات وأحاديث وآراء في التفسير. ومن هذه النقول التي اعتمد عليها نقله عن جده الأكبر في تفسيره متى تكون البشرى للمؤمن فقال إنها في ثلاثة مواضع (عند الموت وفي القبر وعند البعث).
كذلك نقل عن جده الأكبر أيضا تفسيره معنى قوله تعالى: {نحن أولياؤكم} حيث فسرها بقوله (أي تقول لهم الملائكة عند نزولهم للبشرى، نحن أولياؤكم
أي أنصاركم وأحباؤكم في الحياة الدنيا فنلهمكم الحق ونحملكم على الخير وفي الآخرة بالشفاعة والكرامة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة).
واستنتج ابن العنابي من ذلك بأن ما قد حدث لهذا الميت من تصور الشيطان بصورته يدل على أن الميت كان بعيدا عن مصاحبة الملائكة له. وأضاف بأنه قد (لا يبعد أن يكون هذا نوع من المسخ الواقع في آخر الزمان) مستدلا بحديث مروي عن أمارات الساعة التي قد يكون منها ما تحدث عنه السائل. ويهمنا أن نعرف أن ابن العنابي كان يؤمن بأن هناك أمورا قد بدأت تحدث في (آخر الزمان) وأن هذه الأمة إذا تظاهرت وتجاهرت بفظائح المنكرات ابتلاها الله تعالى بنوع من المسخ لبعض أشقيائها). وهو استنتاج لا شك مستوحى من واقع الحياة عندئذ. ففيه تعريض بأن هناك أمورا كانت تجري في المجتمع الإسلامي في عصره تعتبر من (أمارات الساعة).
وتوضح إجابات ابن العنابي على هذه الأسئلة قدرته على معالجة عدد من القضايا التي كانت تواجه المجتمع سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية أو حتى خرافية. ومن جهة أخرى تبرهن على عمق ثقافته فهو يستدل لكل قضية بالعديد من الآيات والأحاديث والوقائع في صبر وأناة، وفي منطق واستدلال، وفي توسع وتعمق، لا تكاد تظفر به إلا عند أمثاله.
ونلاحظ أن إجابته وإن كانت في ظاهرها تتناول قضايا تجريدية أو فرضية فإنه كان دائما يربطها بواقع الحياة. وقد فعل ذلك في جوابه على جواز تقليد العامي للعالم، وعلى حلية الصيد بالرصاص والرش، وعلى منع المرأة من مؤاخاة الأجنبي عنها، وعلى تجويز ربط العلاقة بين المسلم والذمي، وأخيرا في معالجته لقضية الميت المتطور في شكل شيطان في بعض البلاد. ويحس الدارس له أنه كان يعيش مشاكل المجتمع الإسلامي وأنه كان يبث أفكاره لإصلاحه عن طريق هذه الفتاوى التي ذكرنا بعضها والتي ذكر بعض الباحثين أن له من أمثالها الكثير.