الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحمد لله تملكه الفقير إليه سبحانه محمد بن محمود بن محمد بن حسين العنابي بثمن قدره ست ريالات بوجه بتاريخ أواخر ذي الحجة سنة أربع وثلاثين واثني عشر مائة. وأودعت فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول (ص) وعلى آله وصحبه) وقد وجدنا على صفحات هذا الكتاب تعاليق لابن العنابي بخط يده (29) ورأينا له صيغة تملك أخرى بخطه أيضا على كتاب (الأزهار الشقيقة المتضوعة بعرف العقيقة) هذا نصها: (تملكه الفقير إليه سبحانه محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري الشهير بابن العنابي أصلح الله حاله وأفاض عليه بره ونواله بالنبي وآله سنة 1228)(30) وكلا المتاين مجلد وفي حالة جيدة وبخط جزائري كما ذكرنا. والظاهر أن هذه الكتب قد نقلها معه بعد نفيه ولكنها تفرقت أو بيعت بعد وفاته في المشرق.
وهكذا تجد أن ثقافة ابن العنابي، رغم أنها كانت تقليدية بمنطقنا اليوم، عميقة وواسعة، وقد تضافرت عدة عوامل على تعميقها وتوسيعها، وهي عوامل أسرية وشخصية. وهي نفس العوامل التي أهلته أيضا لأن يتبوأ الوظائف الرسمية في الدولة الجزائرية ويتولى القيام بمهمات صعبة في الأوقات الصعبة.
وظائفه:
والوظائف الرسمية التي تولاها ابن العنابي في الجزائر متنوعة. والظاهر أن أول من ولي ابن العنابي وظيفة القضاء الحنفي هو الداي أحمد باشا (1220 هـ 1805 م)(1223 هـ - 1808 م). ذلك أن النص الذي بين أيدينا ينسب إلى ابن العنابي عندئذ مهمتين كبيرتين الأولى وظيفة القضاء والثانية الكتابة إلى باي تونس. فقد جاء في مذكرات أحمد الزهار أن الباشا قد أمر (الفقيه محمد بن العنابي، قاضي الحنفية، أن يكتب كتابا إلى حمودة باشا (باي تونس). فكتب الكتاب وبعثوا به). ووعد الزهار أن يذكر نص الكتاب في مبيضته، ولكنه لم يفعل لأنه
(29) كعبة الطائفين 15 مجاميع، دار الكتب المصرية.
(30)
الأزهار الشقيقة، رقم 12160 ز، دار الكتب المصرية.
لم يبيض عمله. وعلى كل حال فقد أشار إليه بأنه يقع في (ورقة صغيرة)(31) ولو ذكره لعرفنا منه فحوى الكتاب وأسلوب كاتبه. ومهما يكن الأمر فإن هذا الخبر يشير إلى منزلة ابن العنابي لدى الداي، ولولا ذلك لا ستكتب الداي كتابه الرسميين (أو الخوجات) لنفس الغرض إذ المعروف أن قاضي الحنفية (أو القاضي عامة) لا يقوم بهذه المهمة.
ونعرف من مصدر آخر أن ابن العنابي كان ضمن العلماء في المنازعة التي وقعت بينهم وجعلت الباشا يتدخل في الموضوع. فقد جاء في (التشريفات) ص 77 أن مناقشة حادة جرت بين العلماء في المجلس الشرعي الذي كان يجتمع كل يوم خميس بحضور الباشا أو ممثله. ولما علم الباشا بما حدث (ونحن لا نعرف موضوع الخلاف) قرر عزل المفتي الحنفي، وهو محمد بن العنابي وتعويضه بالشيخ أحمد بن إبراهيم بن أحمد، كما قرر عزل المفتي المالكي، وهو علي بن الأمين وتعويضه بالشيخ محمد بن الحفاف. وكان ذلك يوم الجمعة الموافق أول شعبان 1226 (23/ 8/ 1811).
ويختفي اسم ابن العنابي فترة من الوظائف الرسمية، فلا يظهر من جديد إلا في عهد الداي عمر باشا (1230 هـ - 1814 م)(1232 هـ - 1816 م). فقد وجد اسمه عندئذ هكذا (محمد بن محمود) ضمن قائمة وزراء وأعيان الباشا المذكور، متقلدا وظيفة (نقيب أشراف مكة والمدينة) واضعا أمام ذلك ختمه الذي يحمل تاريخه (32).
(31) مذكرات، ص 97.
(32)
عبد الجليل التميمي (بحوث ووثائق في التاريخ المغربي) تونس، 1972، ص 255 ولم يستطع التميمي قراءة تاريخ الختم، ونرجح أن يكون سنة 1232 لوجوده في مكان آخر كذلك. ويذكر أحمد توفيق المدني في (مذكرات) الزهار ص 128 أن ابن العنابي قد تولى القضاء الحنفي لنفس الباشا، وكان آخر قضاته قبل وفاته. أما التميمي فيذكر ص 255 أن القاضي الحنفي كان يدعى سليمان بن محمد وأن المفتي الحنفي كان يدعى محمد بن أحمد. ولعل قصر مدة التولية لهؤلاء هو الذي سبب هذا الغموض.
وكما كلف الداي أحمد باشا ابن العنابي بالكتابة لباي تونس كلفه الداي عمر باشا بسفارة للمغرب الأقصى لدى السلطان المولى سليمان. ذلك أن الجزائر قد تعرضت إلى قصف الأسطول الإنكليزي سنة 1816 م (33) وقد أدى ذلك إلى هلاك معظم الأسطول الجزائري، فأرسل الباشا سفراء عنه إلى السلطان محمود الثاني والسلطان سليمان ويوسف باشا باي طرابلس يستعينهم على إعادة بناء الأسطول بنجدته بالسفن والأموال. والذي يهمنا من هذه المحادثة هو أن الباشا كتب إلى السلطان سليمان كتابا بعث به مع (السيد الحاج محمد العنابي، قاضي السادة الحنفية رسولا) - وقد ذهب ابن العنابي شخصيا إلى المغرب وسلم مكتوب الباشا إلى السلطان، (وبعد أن استراح التقى مع السلطان فأحسن إليه)، وجهزه ببعض المراكب (وأعطاه أموالا وأمره بتسليمها للمجاهدين). وعاد ابن العنابي بذلك إلى الجزائر، فكانت سفارته ناجحة، على الأقل إذا حكمنا من نتائجها (34).
وهكذا يتضح أن ابن العنابي لم يكن مجرد عالم بالفقه وما إليه من العلوم الشرعية بل كان أيضا دبلوماسيا ناجحا وخبيرا بشؤون الدول. ولعل سفارته إلى المغرب لم تكن أول خروج له من الجزائر فقد استعملت عبارة (الحاج) مع اسمه قبل ذلك. ومعنى هذا أنه قد يكون حج خلال سنوات 1808 - 1815 م (*).
(33) هي حملة اللورد اكسموث الشهيرة، وقد فصلها قنصل بريطانيا في الجزائر الضابط بليفير في كتابه (جلادة المسيحية) لندن 1884، ص 250 - 280. انظر كذلك عبد الجليل التميمي وثائق تركية غير منشورة عن ضرب مدينة الجزائر سنة 1816 في (مجلة الغرب الإسلامي والبحر الأبيض) رقم 5، سنة 1968 ص 111 - 133.
(34)
مذكرات، ص 127. ويذكر هذا الكتاب أن عهد عمر باشا كان نكبة على البلاد، فقد حل بها الجراد والوباء وغلاء المعيشة. وحملة الإنكليز، وموت القبطان (الريس) حميدو في معركة ضد الأسطول الأمريكي، وبالإضافة إلى أن هذا الباشا كان سفاكا للدماء. وعن سفارة ابن العنابي إلى المغرب انظر أيضا ديفوكس (التشريفات)، ص 78، وقد كانت السفارة سنة 1817 (1232).
(*) انظر المدخل الجديد لهذه الطبعة.
والحج عندئذ ليس مجرد أداء للفريضة، ولكنه تعلم وتعليم، وسياحة واطلاع، ومشاركة في كثير من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية. فماذا كان نصيب ابن العنابي من كل ذلك خلال حجه؟ هذا ما سيظهر عندما نعالج محتوى كتابه.
أما الآن فحسبنا أن نتتع نشاطه في الجزائر إلى سنة 1830 م وهو تاريخ احتلال فرنسا للجزائر وتاريخ فصل جديد من حياة ابن العنابي. وذلك أن وثائق سنوات 1817 - 1819 م تتحدث عنه كقاضي الأحناف في الجزائر زمن الداي علي خوجة (1232 - 1817) والداي حسين باشا (1233 هـ - 1818 م). فقد جاء في إحدى الوثائق أن ابن العنابي، قاضي الحنفية قد وضع ختمه بتاريخ 1232 هـ (1817 م) ضمن قائمة وزراء وموظفي الداي علي خوجة في رسالة بعث بها الداي إلى السلطان محمود الثاني (35) وورد في وثيقة أخرى أن أول قاض حنفي لدى الداي حسين باشا هو محمد بن محمود العنابي (36) فإذا عرفنا أن هذا الداي قد تولى سنة 1233 م (1818) وإنه قد ولى قاضيا حنفيا جديدا سنة 1235 و (1820 م)(37)، عرفنا أن ابن العنابي قد يكون توجه إلى المشرق خلال سنوات 1235 - 1244 هـ (*).
والمهم هو أن هذه الفترة من حياته ما تزال غامضة. ذلك أننا سنعرف أن كتابه (السعي المحمود) مكتوب سة 1242 هـ (1826 م) وأن اسمه يذكر عندئذ مقرونا بعبارة (نزيل مصر القاهرة) فهل كان مغضوبا عليه سياسيا؟ أو هل ذهب إلى الحج مرة ثانية وأطال الإقامة بالمشرق، وخاصة بمصر التي دفن فيها كل من
(35) التميمي، بحوث ص260. وقد حدثني الأستان التميمي أنه رأى وثيقة تثبت أن الداي قد أرسل ابن العنابي في مهمة إلى إسطانبول سنة 1817، فإذا صح هذا فإنها قد تكون هي نفس المهمة التي قام بها لدى سلطان المغرب.
(36)
مذكرات، ص 182. وجاء في (المؤسسات الدينية) لديفوكس أن ابن العنابي كان يومئذ (سنة 1818 - 1820) مفتيا وليس قاضيا.
(37)
جواخيم فونزليز (مشامير مسلمي مدينة الجزائر) الجزائر، 1886، ص 57. انظر كذلك نور الدين عبد القادر، (صفحات من تاريخ مدينة الجزائر)، الجزائر 1964 م ص 187 - 188.
(*) انظر المدخل الجديد.
والده وجده؟ أو هل ذهب في مهمة لدى محمد علي في عهد حسين باشا كما ذهب من قبل في مهمة لدى سلطان المغرب؟ أو هل أخذته قدماه إلى الآستانة في مهمة لدى السلطان محمود الثاني الذي ستجده يتحدث عن مآثره ومآثر أجداده في كتابه؟ كل هذه أسئلة يمكن طرحها في هذا المجال ما دام الغموض يكتنف هذه الفترة من حياته. وسيظل الجواب على هذه الأسئلة مرهونا باكتشاف ما تضمره الأيام عنه (*).
ومهما يكن الأمر فإن الوثائق تكشف عن أن ابن العنابي كان قد حل بتونس (38) في أواخر سنة 1244 م وظل بها فترة من الوقت لا ندري مداها، ويبدو أنه قد غادرها إلى الجزائر في بداية سنة 1245. وكان حلوله بتونس أثناء عودته من الحج، وهو الحج الثاني له، وقد يكون الثالث أو الرابع لأن عبارة (الحاج) قد وردت مرفوقة باسمه قبل هذا التاريخ بكثير. وإذا قارنا التاريخين: تاريخ وجوده بمصر (سنة 1242) وتاريخ وجوده بتونس (1244) فإنه يكاد يكون من المؤكد أن ابن العنابي لم يكن في الجزائر بين التاريخين. ومعنى ذلك أنه كان يعيش في المشرق خلال فترة حرجة كما نبهنا إلى ذلك في البداية. ونحن ندري الآن أنه كان أثناء ذلك في مصر والحجاز، ولكننا لا ندري ما إذا كان قد زار من جديد إسطانبول أيضا أو غيرها من البقاع الإسلامية. ويكشف وجوده بتونس عن تاريخ عودته إلى الجزائر (39) ولكنه لا يكشف عن تاريخ خروجه منها. فمتى خرج يا ترى؟ ذلك ما لا نستطيع تأكيده غير أننا ما زلنا نميل إلى ما كنا خمناه من أنه قد يكون مغضوبا عليه في بلاده فاختار العيش في المشرق فترة من الوقت، بين 1235 و 1244.
وقد أقام ابن العنابي في تونس مجعززا مكرما. فقد أحاط به العلماء الذين
(*) انظر المدخل الجديد ففيه بعض أجوبة على هذه الأسئلة.
(38)
مخطوط رقم 529، المكتبة الوطنية - تونس.
(39)
بالنسبة لتاريخ العودة يدل عليه ما جاء في المخطوط من أن ابن العنابي قدم إلى تونس راجعا من الحج (ومتوجها إلى بلده الجزائر وهي إذ ذاك دار إسلام) والعبارة الأخيرة تدل على أن الكاتب كتبها بعد احتلال فرنسا للجزائر. نفس المخطوط.
سنتحدث عن صلته بهم، ولا سيما أسرة بيرم، وكلهم قد أشادوا به واستجازوه ونوهوا بعمله ومدحوه بالنثر والشعر. ويبدو من هذه الكتابات أنه كان معروفا لديهم من قبل. ويهمنا بالدرجة الأولى هنا ما سجلته الوثائق من أن باي تونس عندئذ قد أكرم ابن العنابي وأحاطه بالتبجيل والتعظيم. وقد أضافت هذه الوثاتق أن ابن العنابي كان جديرا بذلك الاعتبار والحظوة فقد جاء في الوثيقة (فتلقاه أمير الوقت بمزيد من الإجلال، وهو بذلك حري، إذ مقامه في العلم كيي ..)(40) ويدل هذا النص على مقام ابن العنابي لدى أهل تونس من علماء وأمراء، ومما يلفت النظر أن وثائق تونس لا تذكر اسم ابن العنابي مقرونا بكلمة (مفتي) رغم أنها تصفه بالحافظ والمحقق والعالم ونحو ذلك، كما سنرى.
عاد ابن العنابي إذن إلى الجزائر سنة 1245، أي حوالي سنة واحدة قبل احتلالها من فرنسا ولذلك نجد اسمه يتردد من جديد بعد سنة 1244 (1829). فبعد تولية الشيخ أحمد بن إبراهيم، المذكور سابقا، يأتي المفتون: محمد بن عبد الرحمن بن راسيل (1825 - 1826) وأحمد بن عمر بن مصطفى (سنة 1244 - هـ 1829 م) ومحمد بن محمود (بدون كلمة العنابي وبدون تحديد تاريخ)، ويرد بعده اسم مصطفى أفندي (41)(بدون تاريخ أيضا) ثم محمد بن شعبان (سنة 1251 هـ - 1835 م)(42) فمتى عاد ابن العنابي بالضبط إلى الجزائر؟ وكيف تولى الإفتاء من جديد؟ وهل تولاه فعلا؟ أسئلة أخرى ليس من السهل الإجابة عليها الآن لعدم توفر المادة. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن المؤرخين يذكرون بعض الحوادث التي جرت في الأسابيع الأولى للاحتلال وورد خلالها اسم ابن العنابي (*).
(40) نفس المصدر.
(41)
حسب أحد توفيق المدني أنه م مصطفى بن الكبابطي الذي وقعت الكارثة (الاحتلال) في عهده، ولكن المعروف أن هذا كان مفتي المالكية وأنه هو الذي نفاه الفرنسيون سنة 1843 وليس وقت الاحتلال. انظر (مذكرات) ص 183.
(42)
انظر نور الدين، ص 187 - 188، وقونزاليز، ص 57 وكذلك (مذكرات) ص (182). (*) انظر المدخل الجديد.