المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌منهج ابن العنابي في الكتاب: - رائد التجديد الإسلامي محمد بن العنابي

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌الجديد عن ابن العنابي *

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌القسم الأول: حياته

- ‌عصره:

- ‌ثقافته:

- ‌وظائفه:

- ‌علاقته بالفرنسيين بعد احتلال الجزائر:

- ‌إجازاته وتلاميذه:

- ‌مؤلفاته:

- ‌اختصار كتابه:

- ‌مراسلاته:

- ‌شخصيته:

- ‌القسم الثاني: آثاره

- ‌أ - كتابه (السعي المحمود في نظام الجنود)

- ‌نسخ الكتاب ودافع تأليفه:

- ‌تحليل محتوى الكتاب:

- ‌القسم الثاني من كتاب (السعي المحمود):

- ‌منهج ابن العنابي في الكتاب:

- ‌ب - آثاره الأخرى

- ‌الفتاوى

- ‌ أجوبته على آداب مجلس قراءة القرآن:

- ‌ التحقيقات الإعجازية:

- ‌ صيانة الرياسة:

- ‌ متفرقات:

- ‌ مجموعة من الرسائل

- ‌ شرح متن البركوي في التوحيد

- ‌ شرح الدر المختار في الفقه الحنفي

- ‌القسم الثالث: نصوص منه وعنه

- ‌ مقدمة كتاب (السعي المحمود في نظام الجنود)

- ‌ مقدمة (بلوغ المقصود مختصر السعي المحمود)

- ‌ إجازة ابن العنابي لمحمد بيرم الرابع

- ‌ رأيه في المرأة

- ‌ من شعر ابن العنابي

- ‌ تقريظ محمد بيرم الرابع لكتاب(شرح الدر المختار)لابن العنابي

- ‌ رسالة من محمد بيرم الرابع إلى ابن العنابي

- ‌ مصطفى بيرم يستجير ابن العنابي

- ‌الفهارس

الفصل: ‌منهج ابن العنابي في الكتاب:

3 -

نصر المظلوم والأخذ على يد الظالم وكف يد القوي من الضعيف.

4 -

مراعاة الفقراء والمساكين وملاحظة ذوي الخصاصة والمستضعفين.

فإذا أخلوا بشيء من هذه الشروط الأربعة (تضعضعت قواعدهم وانتقض عليهم من أطراف ممالكهم) وانتصر عليهم عدوهم واضطربت عليهم الأمور وظهر عليهم باغي الفتنة وحاسد النعمة. وأنهى الخاتمة بالحديث عن التوبة وعن أمور أخرى في سلوك المسلم مستوحاة من السيرة وسلوك الصحابة، ومأخوذة من كلام المتقدمين والمفسرين. وأبى إلا أن يختم كتابه بالحديث عن الجند كما بدأه به فقال:(ينبغي لمن له مظلمة أو حق قبل جندي خرج غازيا أن يسامحه ويعفو عنه حتى لا يعود ضرر مظلمته على الإسلام)(40) والخاتمة، كما يبدو، وعظية أخلافية أكثر منها سياسية أو عسكرية. وأفكارها موجهة بالدرجة الأولى إلى الحكام والمسؤولين على الرعية بصفة عامة.

‌منهج ابن العنابي في الكتاب:

وبعد أن درسنا حياة المؤلف وأقسام ومحتوى كتابه يجدر بنا أن نقف قليلا عند منهجه وأهمية عمله. وأول ما نلاحظه هو أن تقسيم الكتاب على النحو الذي أوردناه يتبع منهجا غير سليم. فالكتاب أساسا جزآن عسكري وسياسي، ولكننا لاحظنا أن الجزء الأول هو الذي استأثر بحجم الكتاب، وهو الذي قسمه المؤلف إلى فصول وجعل لكل فصل عنوانا، وبذل في ذلك جهودا في النقل والاستشهاد والاحتجاج والإقناع. ولو جعل المؤلف كتابه قسما واحدا مكرسا (للأمور الحربية) وضم القسم الثاني إلى الخاتمة لكان أكثر توفيقا وأكثر منطقية حتى مع العنوان الذي اختاره لكتابه. حقا إنه قد وجد نفسه مضطرا عند تناول الأمور العسكرية، أن يشير إلى الأمور السياسية أيضا للتلازم بينهما في حياة الدولة، ولكن ملاحظتنا تنصب على المنهج لا على إدراج الفكرة في حد ذاتها. وقد لاحظنا كذلك أن الفصل الرابع عشر يحتوي على كثير من النقط التي جاء

(40) السعيي المحمود، ص 119.

ص: 79

بها في المقصد الثاني. ونختم هذه الملاحظات بأن توزيع مادة الكتاب على الفصول لم تكن منسجمة، فبعض الفصول قصير إلى درجة الإخلال وبعضها طويل إلى درجة الملل.

ويكثر ابن العنابي من النقل بطريقة جعلت شخصيته أحيانا تزول أو تكاد. فهو عادة يبدأ بتعريف عنوان الفصل لغويا ثم يورد لذلك المعنى حشدا من الآيات والأحاديث والأخبار، وكثيرا ما يبدأ الفصل بآية وحديث أو بعبارة قال فلان، الخ. فإذا أراد أن يبدي هو رأيه، وقليلا ما يفعل ذلك، يتدخل بكلمة (قلت) بعد ما يكون قد جاء بكلمة (قال) فلان. وطريقة ترجيحه لأحد الآراء طريقة فقهية مملة مثل (قلت وهو الأوجه عندي) أو (قلت وهو الأصح) الخ. وأحيانا يأتي بهذا التعبير الجدلي (فإن قالوا كذا قلنا

) ومن أجل ذلك يصعب على الباحث أن يفصل رأي ابن العنابي من آراء غيره في الكتاب، رغم أنه يأتي بكلمة:(انتهى) أو (انتهى منه) عند النقل. وتشيع في الكتاب روح دينية واضحة، رغم أن الموضوع دنيوي صريح. فمن نقوله إلى طريقة العرض إلى وجوه الاحتجاج إلى النتائج، كلها مشبعة بروح عالم فقيه حافظ للنصوص متمسك بالتقاليد. ولا عجب في ذلك فالرجل من طبقة العلماء القضاة ورجال الرأي والإفتاء في شؤون الدين، بل ولا عجب أيضا أنه كان يتحدث عن الجهاد وشروط المجاهد، وعن الاستعداد للحرب للدفاع عن الإسلام وأهله، وعن إعداد الجندي المسلم للقيام بهذه المهمة. أما أسلوبه فسهل إذا ترسل، رغم طول الجملة عنده. وقد يستعمل السجع في بعض الأماكن كالمقدمة. أما سائر الكتاب - الذي يكثر فيه النقل كما لاحظنا - فهو بحسب النص الذي ينقله. ولعل طريقة ابن العنابي في كتابه تجعله كتابا غير صالح للنشر كنص لأنه من محفوظه أكثر من معقوله. ولذلك، فيما نعتقد، أمر محمد علي بتلخيصه (أو بعبارة أصح بتجريده) فلخصه تلميذ المؤلف في حوالي نصفه.

ومما يلفت النظر في هذا الكتاب عدم تعرض صاحبه للقضايا المعاصرة تقريبا. فباستثناء ما جاء في المقدمة عن دوافع التأليف وظروفه، وما جاء في

ص: 80

الفصل الرابع عشر عن (القائم) بأمر الدولة العثمانية، فإن المرء لا يكاد يجد في الكتاب ما يدل على أنه من تآليف القرن التاسع عشر. لقد عرفنا الأحداث التي عاشها أو عاصرها المؤلف في الجزائر ومصر، وفي العالم، وهي أحداث كبيرة سياسيا وعسكريا واجتماعيا، ومع ذلك لا نجده يشير إلى واحدة منها في الاحتجاج أو الاستشهاد. فلا الحملات الأجنبية على الجزائر في عهده، ولا سفرته إلى المغرب في مهمة، ولا الحملة الفرنسية على مصر تجد لها مكانا في كتابه المخصص لتنظيم الجنود وتقليد الأجانب فيما اخترعوه من أدوات، الحرب والقتال. وقد رأى تفوق هؤلاء الأجانب واضحا في حملة اللورد إكسموث الإنكليزي على الجزائر، وغارة الأسطول الأمريكي بقيادة ديكاتور على الأسطول الجزائري، في عرض البحر، ومقتل الريس (الضابط) حميدو الشهير، ورأى تفوقهم أيضا في حملة نابليون على مصر، وفي موقعة نافرينو. فلماذا كان يبحث في التاريخ البعيد عن الشواهد بينما شواهده حية معاشة أمامه؟ هل هي روح الكاتب العربي المسلم الذي يبتعد باستمرار عن الواقع هروبا منه وبحثا له عن مكان آمن في التاريخ السحيق؟

وعلى أية حال فقد وجدناه ينقل عن جده بعض الآراء، ويستشهد بكلام، غير مباشر أيضا، من حسين خوجة صاحب (بشائر أهل الإيمان)، والسراج صاحب (الحلل السندسية)، وكلاهما قريب نسبيا. كذلك وجدناه يستعمل عبارة غامضة وهي (وذلك ما لا يخفى على من جرب) بعد حديثه عن تصنيف الجند. وهي عبارة نفهم منها أنه هو المجرب المقصود، ولكنه لم يفصح عن ذلك بحادث أو حوادث من عصره. وفي حديثه عن الحساب والطب في الفصل الأخير نقل رأي (جمع من مشائخنا) في أنهما من العلوم المفروضة كفاية رغم (أنهما من علوم كفار الفلاسفة)(41)، حسب تعبيره. والواقع أن هذه الإشارات والنقول من حوادث العصر ورجاله تعطى، رغم ندرتها، للكتاب أهمية خاصة.

(41) من الغريب أن يؤيد ابن العنابي ذلك، وهو المطلع على الحضارة الإسلامية والعارف بدور العرب والمسلمين في تقدم الطب والحساب. فكيف يصبحان في نظره من علوم كفار الفلاسفة؟

ص: 81

ويقف المؤلف موقفا مبدئيا إلى جانب الدولة العثمانية، فأرومته، كما لاحظنا، تعود إلى آل عثمان. وهو مدين لهم بالوظائف الرسمية التي تقلدها على أيديهم، كما تقلدها والده وجداه وغيرهم من أفراد أسرته. ومن جهة أخرى كان يعتقد أن الفضل كل الفضل يعود إلى هذه الدولة في إنقاذ الإسلام من براثن التتار، وغارات الأروبيين طيلة قرون. وقد عاصر هو أحداثا كانت فيها هذه الدولة في صراع ضد نفسها من ناحية وضد الخطر الخارجي من ناحية أخرى. فرأى أن الحل يكمن في تجديد هذه الدولة وعودتها إلى ما كانت عليه من القوة والرهبة، أو يكون مصيرها مصير الدولة العباسية ومصر الأمم الأخرى التي انقرضت أو تهاوت. فانتصر لتحديث الجند باعتباره أساس الدولة. وكان في ذلك يؤيد أيضا سياسة محمد علي في نفس الاتجاه، رغم أنه لم يشر إليه بالاسم. ولعل في ذلك تعريضا بما كانت عليه الانكشارية في الجزائر من استبداد وصلف وأنانية وتخلف.

والموقف من تجديد الدولة العثمانية يقودنا إلى الحديث عن موقف المؤلف من قضية التجديد عامة. فقد رأيناه يقف إلى جانب التيار التجديدي في مختلف الميادين، وليس في الميدان العسكري وحده. وإذا اتبعنا قياسه فإن كل ما يفيد المسلمين في دنياهم ويجعلهم أعزة أقوياء يجب الأخذ به لأن الشريعة الإسلامية لا تمنعه بل تفرضه، والتهاون فيه يؤدي إلى الإثم والعار. وقد رأيناه ينادي بضرورة تعلم اللغات والعلوم الآلية والصناعية، وعلوم الطب والحساب، والعلوم العسكرية. ولا يرى في ذلك غضاضة أو مخالفة للشريعة. والتجديد يعدي كما أن التقليد يعدي. فإذا عرفنا أنه نادى بتقصير الثياب، والنظر في أمر العمامة والاكمام الطويلة، واستعمال السلاح الحديث، عرفنا أنه ينادي، ضمنيا، بتجديد المجتمع الإسلامي أيضا، لأنه لا يستطيع أن يتصور، وهو المفتي والمجرب، أن يتعلم المسلمون تلك اللغات والعلوم كلها ولا يتغيرون في أنفسهم وعقولهم ومذاهبهم في الحياة. ومن ثمة يبرز ابن العنابي مجددا ومجتهدا أيضا. فهو كرجل دين استعمل عقله بحرية ليصل إلى آرائه التي طرحها في كتابه، ولو أنه تزمت أو تجمد أو أصر على ضرورة التمسك بالتقاليد لما توصل

ص: 82

إلى تلك الآراء. على أنه تجب الملاحظة إلى أنه بقدر ما كان المؤلف مجددا في الحياة العلمية والعلوم المفيدة بقدر ما كان محافظا بالنسبة للقوانين التي تسير المجتمع الإسلامي، فهو يرى أن تلك القوانين (الكتاب والسنة الخ) كافية لضمان حياة سعيدة لهذا المجتمع.

وفي هذا المضمار تدخل آراء ابن العنابي في السياسة. فقد ألح على ضرورة تمسك السلطان (ويسميه أحيانا الإمام وأحيانا الملك) بالتعاليم الدينية والأخلاقية. كما ألح على مبدأ المشورة وعدم الاستبداد بالرأي أو بالحكم. وبين أن صلاح السلطان يظهر في تقريب العلماء إليه، وهو لا يعني العلماء على الإطلاق، ولكنه يعني خاصة أولئك العلماء الذين تميزوا بالرأي والاجتهاد والاطلاع ومعرفة الدين ولذلك وصفهم بتلك الأوصاف التي أتينا عليها. فمجالس السلطان هي التي تنوره وتبصره بأفضل الطرق لنجاح جماعة المسلمين. أما الاستبداد والظلم والجور والانحراف عن التعاليم الدينية فقد قال إنها تؤدي إلى خراب الحكم وسقوط الدولة. وقد جعل العدل وقوة الجيش وصرف المال فيما يفيد الناس عامة أساسا للحكم الصالح. بالإضافة إلى أنه طالب بمزج الأهداف الدنيوية والدينية عند القيام بأي عمل في صالح الجميع، ومن ثمة ألح على ضرورة الانتصار لله وبالله، وضرورة التوبة من المعاصي. وهكذا تصبح الأخلاق والسياسة والدين أمورا متلازمة في نظر المؤلف، وهي بدون شك كذلك في نظر الدين الإسلامي.

ومن حقنا في النهاية أن نتساءل: لو أن حسين باشا أخذ بالنظام الذي دعا إليه ابن العنابي، فهل كان يواجه نفس المصر الذي لقيه على أيدي الفرنسيين؟ وهل كانت الحملة الفرنسية تنجح النجاح الذي حققته سنة 1830؟ إن الوثائق تتحدث عن أن ابن العنابي قد تولى الإفتاء في بداية عهد حسين باشا وفي أخريات عهده أيضا. ونعرف من دراستنا للعهد الثاني في الجزائر أن مقام المفتي الحنفي كان بمثابة شيخ الإسلام في إسطانبول، ومعنى هذا أن نفوذه كان عظيما وآراءه كانت محل ثقة الجميع. ولكننا نعرف من جهة أخرى أن مكانة

ص: 83

العلماء ورجال الدين قد ضعفت لدى الدايات في العهد الأخير من حكمهم، وأصبح هؤلاء يتصرفون بأمرهم ولا يعودون إلى العلماء إلا في الاحتفالات والمظاهر الشكلية. ولعل جرأة ابن العنابي أوائل الاحتلال الفرنسي لبلاده واستعداده لتجنيد الجند وتنظيم البلاد، حسبما تزعم المصادر الفرنسية، ينسجم مع آرائه في الكتاب أكثر مما ينسجم مع موقفه، كمفتي، زمن حسين باشا (*).

ومهما وجه إلى كتاب ابن العنابي من نقد فإنه يظل حلقة هامة في التراث الفكري الجزائري وفي تاريخ الفكر التقدمي لدى العرب والمسلمين، فهو من أوائل الكتب التي طرحت مفهوم التجديد على مستوى الدولة الإسلامية، ونادى صاحبه بعدم الانغلاق أمام الحضارات المعاصرة، ودعا إلى تحديث الجيش، واتباع العدل، والشورى، وتوفير المال، والتمسك بالأخلاق الكريمة، باعتبار كل ذلك أساسا لقوة وكرامة الأمة الإسلامية.

من غريب الصدف أن قضية التجديد التي طرحها ابن العنابي منذ قرن ونصف ما زالت لم تجد حلها إلى اليوم، ولعل فيما أورده من براهين دينية وتاريخية جوابا مفحما للذين ما زالوا منا غير مقتنعين بهذه القضية.

(*) انظر المدخل الجديد لهذه الطبعة.

ص: 84