الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ الصِّيَام
الصوم ترك الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك. وكان معروفا قبل مستعملا. كما في الصحيحين "يوم عاشوراء" كان يوما تصومه قريش في الجاهلية" فهو لغة مجرد الإمساك. وشرعا إمساك بنية عن اشياء مخصوصة في زمن معين من شخص مخصوص. فرض في السنة الثانية من الهجرة. وهو أحد أركان الإسلام. وفرض من فروض الله المعلومة بالضرورة من دين الإسلام. بل من العلم العام الذي توارثته الأمة خلفا عن سلف. وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع. ويأتي ذكر فضله.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ} أي فرض {عَلَيْكُمْ} وأوجب {الصِّيَامُ} أي الإمساك عن الطعام والشراب والجماع. من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. بنية خالصة. لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها عن الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة. والضمير عائد إلى المسلم دون الكافر إجماعا. فلا يجب عليه الصوم ولو مرتدا. لأنه عبادة بدنية محضة
تفتقر إلى نية فكان من شرطها الإسلام ولا يصح صوم كافر بأي كفر كان إجماعا. وتمنع الردة صحته إجماعا.
{كَمَا كُتِبَ} أي فرض {عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني الأنبياء والأمم. والمعنى كما أوجبه عليكم فقد أوجبه على من كان قبلكم فلكم فيهم أسوة. فاجتهدوا في أدائه أكمل من أولئك {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني بالصوم. لأن الصوم وصلة إلى التقوى. لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات. وذكر أياما معدودات أي مقدرات. (إلى قوله){شَهْرُ رَمَضَانَ} أي كتب عليكم الصيام.
ثم بينه تعالى فقال {شَهْرُ رَمَضَانَ} وسمي الشهر شهرا لشهرته. ورمضان اسم للشهر. سمي به من الرمضاء. قيل كان في شدة الحر حينما كانوا يصومون. ثم مدح تعالى شهر رمضان من بين سائر الشهور. بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم. وكان ذلك في ليلة القدر. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي أنزله جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا. وأنزل من الله مفرقا بحسب الوقائع. وفي الحديث "أنه الشهر الذي أنزل الله فيه الكتب الإلهية على الأنبياء" وسمي قرآنا لجمعه السور والآي والحروف والقصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والحلال والحرام.
{هُدًى لِلنَّاسِ} من الضلالات {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى}
دلالات واضحات (والفرقان) بين الحق والباطل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} هذا إيجاب من الله ختم على من شهد منكم الشهر كله فليصم الشهر كله ومن لم يشهد منكم الشهر كله فليصم ما شهد منه. يوضحه إفطاره صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الفتح والمخاطب بالوجوب المكلف. فلا يجب على صغير ولا مجنون اتفاقا لخبر "رفع القلم عن ثلاثة مجنون حتى يفيق وصغير حتى يبلغ". ويصح من المميز كصلاته. ولا يصح من مجنون وإن أفاق من نواه جزءامن النهار صح اتفاقا ومن نام ولو جميعه صح.
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا} أي ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام أو يؤذيه فأفطر. فعدة من أيام أخر. {أو} كان منكم {عَلَى سَفَرٍ} أي في حال السفر فأفطر {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة من أيام أخر أي ما أفطره في السفر من الأيام صامه من أيام أخر غير أيام مرضه وسفره {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} أي إنما رخص لكم فيالفطر في حال المرض وفي السفر مع تحتمه عليكم في حق المقيم الصحيح تيسيرا عليكم ورحمة بكم.
{وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فالدين كله يسر {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} أي عدد الأيام التي أفطرتم فيها بعذر السفر والمرض. وكذا الحيض والنفاس لتقضوها بعددها {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ} ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على نعمه فيسن الفطر لمريض يضره الصوم إجماعا في الجملة. ويكره له الصوم لإضراره بنفسه وترك تخفيف الله له ورخصة الله المطلوب إتيانها. وأجمعوا على أنه إذا كان الصوم يزيد في مرضه أنه يفطر ويقضي.
وإذا احتمل وصام أجزأ. ولم يذكروا خلافا في الإجزاء. ولا يفطر إن لم يتضرر اتفاقا. وقال أحمد الفطر للمسافر افضل. وإن لم يجهده الصوم. لأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت في السنن أن من الصحابة من يفطر إذا فارق عامر قريته. ويذكر أن ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والفطر في السفر جائز بالنصوص وإجماع المسلمين. وقال الشيخ سواء كان كان سفر حج أو جهاد أو تجارة ونحو ذلك من الأسفار التي لا يكرهها الله ورسوله. وتنازعوا في سفر المعصية.
وقال يجوز في كل سفر. وإن كن قصيرا. فإن شق بأن جهده كره له فعله. وكان الفطر أفضل. وصومه صحيح. وحكاه الوزير وغيره اتفاقا. واتفقوا على أنه يجوز له أن يصوم ويفطر. وكذا إن سافر في أثناء يوم لما تقدم وكما بعد سفره إجماعا. قال البغوي لا فرق عند عامة أهل العلم بين من ينشئ السفر في شهر رمضان وبين من يدخل عليه وهو مسافر. وجاءت الآثار في الفطر لمن أنشأ السفر في أثناء يوم.
(وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس) شهادة أن لا إله
إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإتياء الزكاة (وفيه وصوم رمضان) فهو ركن من أركان الإسلام التي لا ينبني الإسلام إلا عليها (و) كذا (حج البيت) الحرام من استطاع غليه سبيلا وجاء إليه صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال ماذا فرض الله علي من الصيام قال "شهر رمضان" وغير ذلك من الأحاديث الدالة على فرضيته.
(وفي الصحيحين وغيرهما) من غير وجه. قال الطحاوي تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه قال صوموا لرؤيته) أي رؤية هلال شهر رمضان. فيجب صومه برؤيته بإجماع المسلمين. والمراد إذا ثبتت رؤيته. كما سيأتي. فيلزم الناس كلهم الصوم إذا اتفقت المطالع وإلا فلا. ويستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان احتياطا لصومهم وحذرا من الاختلاف.
وعن عائشة "كان يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين ثم صام" صححه الدارقطني.
ويستحب قول ما ورد: ومنه الله أكبر ثلاثا. لا إله إلا الله ثلاثا. اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى ربي وربك الله. هلال رشد وخير الحمد لله الذي جاء بشهر رمضان وذهب بشهر شعبان (وأفطروا لرؤيته) إجماعا وليس المراد جميع الناس بل يثبت بعدلين بعدلين إجماعا.
(فإن غم عليكم) من غممت الشيء إذا غطيته. أي حال بينكم وبينه سحاب أو قتر هائج من الأبخرة. كنحو ما يحصل في الصيف من الأغيرة والأدخنة. فإنه لا يمكن رؤيته في مثل ذلك. كما يمكن في مثل صفاء الجو. وفي لفظ غبي عليكم وغمي. وهو بمعنى غم. وللترمذي وغيره "فإن حال بينكم وبينه سحاب"(فاكلموا عدة شعبان ثلاثين).
وثبت من غير وجه "لا تصوموا حتى تروه" والمراد إذا لم يكمل شعبان ثلاثين يوما "ولا تفطروا حتى تروه" أي أو تكملوا ثلاثين "فإن حال دونه غياية فاكلموا ثلاثين يوما" وفي رواية "فاقدروا له" أي احسبا له قدره. وذلك ثلاثون. من قدر الشيء وليس من اضيق في شيء. بل قال الحافظ الزركشي السنة الصحيحة ترد تأويلهم ورواه الترمذي. وقال العمل عليه عند أهل العلم. كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان.
وإن كان يصوم صوما فوافق صيامه فلا بأس به عندهم. وله عن ابن عباس مرفوعا "لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته" الخ وصح من غير وجه النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين ويأتي "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم "وصنف جامعة من أهل العلم في كراهة صوم يوم الشك أو تحريمه. وذهب إليه المحققون من أصحاب أحمد
وغيره. وهو رواية عن أحمد. وفاقا للثلاثة. واختاره الشيخ وغيره. وأجمعوا على أنه لا اعتبار بالحساب لهذا الخبر وغيره.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما قال (تراءى الناس) أي اجتمعوا للرؤية وتكلفوا النظر ليروا (الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم) وحدي (أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود) وصححه ابن حبان والحاكم وابن حزم.
وللخمسة عن ابن عباس أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال فقال "أتشهد أن لا إله إلا الله" قال نعم قال "أتشهد أن محمدا رسول الله" قال نعم. فقال "أذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا" صححه ابن خزيمة.
قال الترمذي العمل عليه أكثر أهل العلم. قالوا تقبل شهادة رجل واحد في الصيام. وبه يقول الشافعي وأحمد وأهل الكوفة. قال النووي وهو الأصح. ولأنه خبر ديني لا تهمة فيه. وأحوط للعبادة. ويقبل خبره رجلا كان أو امرأة بدون لفظ الشهادة. لأنه من باب الرواية. فيصام بقوله رأيت الهلال. ولو لم يقل أشهد. وتعتبر عدالته. (وله) أي لأبي داود وأحمد وغيرهما ورجاله رجال الصحيح عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال اختلف الناس في آخر يوم من رمضان و (أن أعرابيين) قدما على النبي صلى الله عليه وسلم و (شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم) بالله
(أنهما رأيا الهلال بالأمس عشية. وأمس علم على اليوم الذي قبل يومك (فأمر صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا) وأن يغدوا إلى مصلاكم" وتقدم نحوه عن أبي عمير صححه ابن المنذر وغيره.
وثبت أنه قال صلى الله عليه وسلم "إن شهد اثنان فصوموا وافطروا) فلا يقبل في الفطر إلا اثنان عدلان. وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما فلم ير الهلال لم يفطروا. كما لو شهد بهلال شوال بالإجماع. لأن الصوم إنما كان احتياطا. والأصل بقاء رمضان.
وموافقة الأصل أولى. ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله. أو رأى هلال شوال فمع الناس قال الشيخ لا يزلمه الصوم أي ولا الفطر. ولا الأحكام المتعلقة بالهلال من طلاق وغيره. وقال يصوم مع الناس ويفطر مع الناس. وهذا أظهر الأقوال. إلا أن يكون في مكان ليس فيه غيره.
(وعن أبي هريرة مرفوعا صومكم يوم تصومون) يعني أنتم معشر المسلمين (وفطركم يوم تفطرون) ماض لا وزر ولا عتب ولا شيء عليكم (رواه الترمذي) وغيره وحسنه.
وسكت عنه أبو داود والمنذري. ورجال إسناده ثقات. وللترمذي وصححه عن عائشة قال" الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس" قال الشيخ أي هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم والفطر والأضحى فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكم.
وقال أحمد وغيره يصوم ويفطر مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحوة والغيم. وقال يد الله على الجماعة. وقال الشيخ فسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس. ولأنه لو رأى هلال النحر وحده لم يقف دون سائر الحاج. وأصل هذه المسألة أن الله علق أحكاما شرعية بمسمى الهلال والشهر. كالصوم والفطر والنحر. وذكر الآيات. وتنازع الناس في الصوم. ثم قال: لكن النحر ما علمت أن أحدا قال من رآه ييقف وحده دون سائر الحاج. وذكر تنازعهم في الصوم وتناقضهم.
ثم قال: وتناقض هذه الأقوال يدل على أن الصحيح صنعه مثل ذلك في ذي الحجة. وحينئذ فشرط كونه هلالا وشهرا شهرته بين الناس واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة. أو لكونهم لم يشهدوا به كان حكمهم حكم سائر المسلمين. فلذلك لا يصوموا إلا مع المسلمين ولا يفطرون إلا معهم. فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين فكذلك لا يصومون ولا يفطرون إلا مع المسلمين وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم "صومكم يوم تصومون ونحركم وأضحاكم" الحديث.
وقال: الأصل أن الله علق الحكم بالهلال والشهر والهلال اسم لما يستهل به أي يعلن به ويجهر به فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلال. وكذا الشهر مأخوذ من
الشهرة فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل وعلى هذا تفترق أحكام الشهر هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم أو لا يبين ذلك قوله " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
فإنما أمر بالصوم من شهد اشهر والمشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس حتى يتصور شهوده والغيبة عنه وقوله "إذا رأيتموه فصوموا. وإذا رأيتموه فافطروا" من الواضح الوضح. ونحو ذلك خطاب للجماعة. قال ولا يلزمه طلاقه وعتقه المعلق بالهلال وغير ذلك من خصائص الرمضانية. وذكر ابن عبد البر أنه قول أكثر العلماء.
وأما الفطر فلاحتمال خطئه وتهمته. فوجب الاحتياط. وحكى بعضهم الإجماع على أنه لا يجوز إظهار الفطر وقال الشيخ باتفاق العلماء إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر. وقال عمر وعائشة وغيرهما لا يفطر. قال الموفق لا يعلم لهما مخالف فكان إجماعا وهو المذهب وفاقا لأبي حنيفة ومالك. وقال الشيخ هو أصح القولين.
(وعن حمزة بن عمرو) هو أبو صالح أو محمد الأسلمي الحجازي روى عنه ابنه محمد وعائشة. مات سنة إحدى وستين وله ثمانون (أنه قال يا رسول الله أجد بي قوة على الصوم في السفر فهل على جناح) أي إثم وميل إن صمت في السفر (فقال هي رخصة من الله) أي تسهيل وتخفيف من الله لعباده
(فمن أخذ بها) أي برخصة الله (فحسن) ولا إثم عليه.
(ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه رواه مسلم) وهو عند الجماعة بلفظ "إن شئت فصم وإن شئت فافطر" وللبخاري "إن أفطرت فحسن. وإن صمت فلا بأس" وفي المسند "إن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يكره أن تؤتى معصيته" وفي الصحيحين "ليس من البر الصيام في السفر" وفيه أنه قد ظلل عليه وفي حديث حمزة "وهو اهـ. ون علي من أن أؤخره" وعلل بعضهم بالكراهة للضرر والمشقة. وحكي إذا جهده كره اتفاقا. لكن إن فعله أجزأ إجماعا.
وقال الشيخ جائز باتفاق الأئمة. سواء كان قادرا على الصوم أو عاجزا. وسواء شق عليه الصوم أو لم يشق. ومن قال إن الفطر لا يجوز لا لمن عجز عن الصيام فإنه يستتاب. وكذلك من أنكر على المفطر أو أن عليه إثما فإن هذه الأقوال خلاف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة.
(وله عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة) عام الفتح سنة ثمان في رمضان (فصام حتى بلغ كراع الغميم) بضم الكاف واد أمام عسفان من أموال أعالي المدينة. ولهما عن ابن عباس خرج منالمدينة ومعه عشرة آلاف فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون. حتى إذا بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد من أموال أعالي المدينة. والجميع من عمل عسفان والقضية واحدة.
(وصام الناس معه فقيل) له إن الناس (قد شق عليهم) الصيام وإن الناس ينظرون فيما فعلت (فدعا بقدح من ماء) بعد العصر (فشرب) والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم (وبلغه أن أناسا صاموا فقال أولئك العصاة) ولفظ الصحيحين أفطر وأفطروا وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر. وله طرق.
وفيه دليل على أنه يجوز للمسافر أن يفطر بعد أن نوى الصيام من الليل وهو قول الجمهور. وحكاه في الفروع اتفاقا. وبما شاء وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. لأن من له الأكل فله الجماع. إذا فارق عامر قريته أو خيام قومه لظاهر الآية والأخبار. ومنها ما روى عبيد بن جبير قال ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط في شهر رمضان ثم قرب غداءه.
فقلت الست ترى البيوت قال أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود وغيره. وعن أنس نحوه رواه الترمذي وصححه ابن العربي.
فصرح هذان الصحابيان أنه سنة. ولأن السفر مبيح للفطر كالمرض الطارئ. ورجح الشيخ وغيره جوازه. وقال كما ثبت في السنن أن من الصحابة من يفطر إذا خرج من يومه. ويذكر أن ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر الحديث. والأفضل لمن سافر في أثناء يوم نوى صومه إتمام صوم ذلك اليوم. خروجا من خلاف من لم يبح له الفطر. ولا يفطر قبل خروجه اتفاقا.
(وقال ابن عباس) يعني في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي يتجشمونه. وفي قراءة أخرى (يطوقونه){فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (رخص للشيخ الكبير) يعني الفاني الذي لا يستطيع الصوم (أن يفطر) في رمضان (ويطعم عن كل يوم مسكينا) وفي رواية نزلت في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا.
قال ابن القيم أفتى ابن عباس وغيره من الصحابة المريض المايوس منه. والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم بأن يفطر ويطعما كل يوم مسكينا. إقامة للإطعام مقام الصيام رحمة وتخفيفا اهـ. وثبت عنه من غير وجه بألفاظ متقاربة. وقال ابن كثير وغيره حاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه لقوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
وأما الشيخ الفاني الهرم والمرأة الكبيرة اللذان لا يستطيعان الصيام فلهما أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكينا. ولا قضاء عليهما. وقد أطعم أنس رضي الله عنه لما كبر. قال ابن كثير وه والصحيح وعليه أكثر العلماء. ومثله المريض الذي لا يرجى زوال مرضه قاله ابن عباس وغيره. قال ابن القيم ولا يصار إلى الفدية إلا عند الياس من القضاء.
(وقال) يعني ابن عباس رضي الله عنهما (في الحامل والمرضع) إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما (يفطران
ويطعمان) لدخولهما في الآية الكريمة. وعن ابن عمر نحوه. ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة. قال ابن القيم أفتى ابن عباس وغيره في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أن تفطرا وتطعما كل يوم مسكينا. إقامة للإطعام مقام الصيام اهـ.
ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة من طريق الخلقة فوجب به الكفارة كالشيخ الهرم وثبت أيضا عن ابن عباس أنه قال في الآية: أثبتت للحبلى والمرضع. وظاهره نسخ الحكم في غيرهما.
والكبير الهرم. وهو مذهب الجمهور. وقالوا وحكم الإطعام باق في حق من لم يطق الصيام وذهب ابن عباس وابن عمر إلى عدم القضاء. وقال أحمد أذهب إلى حديث أبي هريرة "إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم" قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم تفطران وتطعمان وتقضيان كالمريض إذا خاف على نفسه.
وقال الشيخ تفطر وتقضي عن كل يوم يوما وتطعم عن كل يوم مسكينا رطلا من خبز بأدمه. وقال غير واحد على الفور. ويجوز إلى واحد جملة بلا نزاع. وحكى الوزير وغيره الاتفاق بدون إطعام. بخلاف خوفهما على ولديهما فقط أو الكبير لقدرتهما عليه. وكره صومهما مع خوف الضرر اتفاقا. وإن صامتا أجزأ كالمريض والمسافر. وحكم ظئر مرضعه لغير ولدها كأم.
ويجب الفطر على من احتاجه لإنقاذ معصوم من هلكة
كغريق وتقدم سنية الفطر لمريض يضره الصوم وفي الإنصاف إن خاف المريض زيادة مرضه أو طوله. وصحيح مرضًا في يومه أو خاف مرضا لأجل العطش استحب له الفطر. وكره صومه وإتمامه إجماعا. وقال ابن القيم أسباب الفطر أربعة: السفر. والمرض. والحيض. والخوف على هلاك من يخشى عليه. كالمرضع. والحامل ومثله مسالة الغريق.
وأجاز شيخ الإسلام الفطر للتقوي على الجهاد. وفعله وأفتى به لما نزل العدو دمشق في رمضان وأنكر عليه بعض المتفقهة. وقال ليس هذا بسفر فقال الشيخ هذا فطر للتقوي على جهاد العدو وهو أولى من الفطر للسفر. والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فهموربما أضعفهم الصوم عن القتال فاستباح العدو بيضة المسلمين.
وهل يشك فقيه أن الفطر هنا أولىمن فطر المسافر. وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح بالفطر للتقوي على عدوهم. قال ابن القيم إذا جاز فطر الحامل والمرضع لخوفهما. وفطر من يخلص الغريق. ففطر المقاتلين أولى بالجواز. وهذا من باب قياس الأولى. ومن باب دلالة النص وإيمائه.
(وعن حفصة) يعني أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم (مرفوعا) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لم يبيت) أي ينوي (الصيام من الليل) يقال بيت
فلان رأيه إذا فكر فيه وخمره وكل ما فكر فيه ودبر بليل فقد بيت (فلا صيام له رواه الخمسة وصححه الترمذي) وفي لفظ "من لم يجمع الصيام" أي يعزم عليه ويحكم النية "من الليل فلا صيام له" وللدراقطني عن عائشة مرفوعا "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له".
فدلت الأحاديث على وجوب تعيين النية. وهو قول الجمهور. وفي الصحيحين "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وأصل النية في الصوم كغيره وإن كان تطوعا بالإجماع. ولأن النية عند ابتداء الصيام كالصلاة والحج.
وحكى الشيخ ثلاثة أقوال ثالثها أن الفرض لا يجزئ إلا بتبييت النية من الليل. لما دل عليه حديث حفصة وابن عمر. لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم. والنية لا تنعطف على الماضي. وقال هذا أوسط الأقوال. ولا فرق بين أول الليل ووسطه وآخره.
ويكفي في النية الأكل والشرب بنية الصوم يدل نيته قال الشيخ هو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم. ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي ورمضان. وقال كل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقدنوى صومه. وهو فعل عامة المسلمين. واتفقوا على أن ما ثبت في الذمة من الصوم كقضاء رمضان والنذر والكفارات لا يجزئ صومه إلا بالنية من
اليل. وعند أحمد تكفي النية أول الشهر ما لم يقطعها وهو مذهب مالك وأبي حنيفة.
(ولمسلم عن عائشة قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال هل عندكم شيء فقلنا لا قال فإني إذا صائم) وإذا للاستقبال. قالت "ثم أتانا يوما آخر فقلنا اهـ. دي لنا حيس فقال أرينيه فلقدأصبحت صائما فأكل" وفي رواية كان يدخل على بعض أزواجه فيقول "هل من غداء" فإن قالوا لا قال "فإني صائم" وله ألفاظ: منها فإن قلنا ننعم "تغدى" فدل على انه كان مفطرا. وإن قلنا لا قال "إني صائم" وثبت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
فدل على جواز تأخير نية الصوم عن أول النهار إذا كان تطوعا. وإفطاره قبل الليل. واتفقوا علىن صوم النفل كله يجوز بنية من النهار قبل الزوال وبعده. إلا ما روي عن مالك. قال الشيخ يجزئ كما دل عليه الخبر. وكالمكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض ما لا يجب في التطوع توسيعا من الله على عباده طرق التطوع. فإن أنواع التطوعات دائما أوسع من أنواع المفروضات. وهذا أوسط الأقوال.
وشرطه أن لا يوجد مناف غير نية الإفطار. اقتصارا على مقتضى الدليل. ونظرا إلى أن الإمساك هو المقصود الأعظم فلا يعفىعنه أصلا. فإن فعل قبل النية ما يفطره لم يجز