الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في ليلة القدر
أي في بيان فضل ليلة القدر والحث على قيامها. وتحريمها في أوتار العشر الأخير. وما يتعلق بذلك. قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي العمل الصالح في ليلة القدر {خَيْرٌ مِنْ} العمل في {أَلْفِ شَهْرٍ} ليس فيها ليلة القدر وروي أنه صلى الله عليه وسلم أري أعمال الناس قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته أن يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر. وقيل ذكر له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب هو والمسلمون من ذلك وتمنى ذلك لأمته. فقال "يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارا وأقلها عملا" فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر.
وسميت ليلة القدر لأن فيها تقدير الأمور والأحكام والأرزاق والآجال وما يكون في تلك السنة إلى مثلها من السنة المقبلة. قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} والمراد التقدير الخاص لا العام. فإن الله قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض. وقيل لعظم قدرها وشرفها عند الله. كقوله {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} .
وقال في هذه السورة تنويها بشرفها {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} يعني القرآن العظيم جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ونزل به جبرائيل من الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفصلا بحسب الوقائع {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي: أي
شيء يبلغ درايتك قدرها ومبلغ فضلها وعظم قدر الطاعات فيها. وهذا على سبيل التعظيم لها والتشويق إلى خيرها. وهي أفضل الليالي على الإطلاق. وأفضل الأيام يوم الجمعة. ويوم النحر أفضل أيام العام. وقيل يوم عرفة.
ثم قال: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} تعظيما لكثرة بركتها {وَالرُّوحُ} جبرائيل عليه السلام والملائكة عليهم السلام يتنزلون من تنزل البركة والرحمة والمغفرة. كما يتنزلون عند تلاوة القرآن. ويحضرون حلق الذكر. ويضعون أجنحتهم لطالب العلم. (فيها) أي تنزل في ليلة القدر (من كل أمر) أي بكل أمر من الخير والبركة (سلام) على أولياء الله وأهل طاعته يصلون ويسلمون على كل عبد صالح قائم أو قاعد يذكر الله عز وجل (هي) يعني ليلة القدر سلامة وخير {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي يدوم ذلك السلام والخير إلى مطلع الفجر. ولأحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضر رمضان قال "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" ونقل جمع من أهل المذاهب أنها خاصة بهذه الأمة.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قام ليلة القدر) بالتهجد فيها والصلاة والذكر والدعاء والفكر. وهذه صيغة تغريب وندب دون إيجاب. وأجمعت الأمة على استحبابه
ويحصل بمطلق ما يصدق عليه القيام. وقيل أكثر الليل. وليس من شرطه استغراق جميع أوقات الليل. (إيمانا) تصديقا بأنه حق مقتصد فضيلته (واحتسابا) لثوابها عند الله لا يريد إلا الله وحده لا يريد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص.
(غفر له ما تقدم من ذنبه، متفق عليه. زاد أحمد وماتأخر) أي من ذنبه. وله عن عبادة "من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وللنسائي من حديث قتيبة "غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" قال الحافظ وإسناده على شرط الصحيح. أي يقوم يصلي ويقرأ ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة. لعله يوافقها.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان. ويقرأ قراءة مرلتلة لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ. فجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر. وهذا أفضل الأعمال في ليالي العشر وغيرها. وقيامها يكفر الذنوب لمن وافقت له شعر بها أو لم يشعر. وهي باقية لم ترفع للأخبار المتواترة بطلبها.
(ولهما عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحروا) أي أطلبوا (ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) قال ابن عباس دعا عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر. وتقدم الحث على قيام العشر الأواخر من رمضان. وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها.
ويعتكفها هو ونساؤه. وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اعتكفت الأول التمس هذه الليلة ثم الأوسط ثم أتيت فقيل لي إنها العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف" فاعتكف الناس معه. وقالت عائشة "كان إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله" حتى قال بعض السلف {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} إنه طلب ليلة القدر. والمعنى أن الله لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام. أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر.
فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل خصوصا في الليالي المرجوة فيها. فمن ههنا كان يصيب من أهله في العشرين من رمضان ثم يعتزل نساءه ليتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر فيعتكفها قطعا لأشغاله وتفريغا لباله وتخليا لمناجات ربه وذكره ودعائه.
(وللبخاري عنها) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تحروا ليلة القدر (في الوتر منها) أي من العشر الأواخر من رمضان. ولمسلم عن ابن عمر وأحمد عن علي وغيره. وهي آكد عند جمهور العلماء. قال الشيخ فعلى هذا إن كان الشهر تامًا فكل ليلة من العشر وتر إما باعتبار الماضي كإحدى وعشرين. وإما باعتبار الباقي كالثانية. وإن كان ناقصًا فالأوتار باعتبار الباقي موافقة لها باعتبار الماضي.
وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأخير كله. كما قال صلى الله عليه وسلم "تحروها في العشر الأواخر" وللبخاري عن ابن عباس مرفوعا "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان. ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى" وفي رواية "سبع يمضين أو في سبع يبقين".
ولمسلم من حديث أبي سعيد "أبينت لي فنيستها فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان. التمسوها في التاسعة والخامسة والسابعة" قيل لأبي سعيد ما التاسعة والخامسة والسابعة قال إذا مضت إحدى وعشرون فالتي تليها اثنتان وعشرون. فهي التاسعة. فإذ مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة. فإذا مضت خمس وعشرون. فالتي تليها الخامسة. وللترمذي وصححه من حديث أبي بكرة "التمسوها في تسع بقين أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة" فدلت هذه الأحاديث على أن أرجى وجودها في تلك الليالي.
(ولهما من حديث ابن عمر) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من كان متحريها) أي من كان ملتمسا لليلة القدر طالبا جزيل الثواب فيها (فليتحرها في السبع الأواخر) وذلك أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر. فقال "أرى رؤياكم قد تواطأت" ولمسلم قال "التمسوها
في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أوعجز فلا يغلب
على السبع البواقي" ولأحمد من حديث أبي ذر "التمسوها
في السبع الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها".
(ولأحمد) من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (تحروها ليلة سبع وعشرين) وفي رواية "من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين" ولمسلم عن أبي بن كعب قال والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله بقيامها. وهي ليلة سبع وعشرين. وفي لفظ كان يحلف على ذلك. ويقول بالآية والعلامة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وله عن ابن عباس مرفوعا: عليك بالسابعة وإسناده على شرط الصحيح. وله عن معاوية ليلة القدر ليلة سبع وعشرين. وصححوا وقفه.
ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قام بهم في السابعة إلى آخر الليل حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح. وجمع أهله ليلتئذ وجمع الناس. واستدل أبي عليها بطلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها. ورأى بعض السلف الملائكة في الهواء طائفين بالبيت الحرام. ورجل بالسواد يرى النخل واضعا سعفه بالأرض. وذكر غير ذلك.
قال الشيخ وقد يكشف الله لبعض الناس في المنام أو اليقظة فيرى أنوارها. أويرى من يقول له هذه ليلة القدر. وقد يفتح الله على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر.
وإن وقع ليلة جمعة في وتر منها فهي أرجى من غيرها. ولم يرد نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها في ليلة معينة. والحكمة في ذلك والله أعلم ليجتهد المؤمن في طلبها في هذه الليالي
الشريفة. كل ليلة يجد في العبادة طمعًا في إدراكها. يقول في كل ليلة هذه الليلة ليلة القدر. واجتهاده صلى الله عليه وسلم في هذه الليالي العشر واعتكافه فيها لأجل هذه الليلة يدل على ذلك. وفيه أوقال أرجحها أنها في وتر العشر الأواخر. وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين.
(وعن عائشة قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟) استفهام استرشاد أي: ما أقول فيها من الدعاء الجامع (قال قولي اللهم إنك عفو) العفو عفو الله عن خلقه. والصفح عن الذنوب. وترك مجازاة المسيء. والمحو من عفت الريح الأثر إذا درسته. فكان العافي عن الذنب يمحوه بصفحه عنه (تحب العفو) التجاوز عن الذنوب (فاعف عني) تجاوز عني فلا تؤاخذني بجرمي واستر على ذنبي وأكفني عذابك واصرف عني عقابك رواه أحمد والنسائي وابن ماجه و (صححه الترمذي) والحاكم وغيرهما.
وللنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا "سلوا الله العفو العافية والمعافاة الدائمة فما أوتي أحد بعد يقين خيرا من معافاة" فإن الشر الماضي يزول بالعفو والحاضر بالعافية. والمستقبل بالمعافاة لتضمنها دوام العافية ويكثر من الدعاء والاستغفار فيها لأن الدعاء فيها مستجاب ويذكر حاجته في دعائه الذي يدعو به تلك الليلة.