الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا كفارة مع الصوم عنه أو الإطعام، ولا يلزم القضاء إلا في حق شخص أمكنه صوم ما نذره. بأن مضى ما يتسع لفعله قبل موته فلم يصمه، فيفعل عنه لثبوته في ذمته كقضاء دينه من تركته، وإن لم يمكنه إلا بعضه لم يقض إلا ذلك البعض، كمن نذر صوم شهر ومات قبل ثلاثين يومًا، فيصام عنه ما مضى دون الباقي، لأنه لم يثبت في ذمته. وإن كان مريضا. لأن المرض لا يمنع ثبوت الصوم في ذمته.
وكذا لو مات وعليه حج منذور فعل عنه. ولو لم يمكنه فعله في حياته لجواز النيابة فيه حال الحياة، فبعد الموت أولى، ومن مات قبل دخول شهر نذر صومه لم يصم، ولم يقض عنه، قال المجد هذا مذهب سائر الأئمة ولا أعلم فيه خلافًا.
باب صوم التطوع
أي باب بيان فضل صوم التطوع وعظيم أجره. وقد ورد في فضله آيات وأحاديث كثيرة. وتقدم "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" وقال أحمد: الصيام أفضل ما تطوع به. لأنه لا يدخله رياء.
قال تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي زاد على الواجب. وتطوع بالشيء تبرع به {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} وأعظم أجرًا، والخير اسم جامع لكل ما ينتفع به.
(وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل عمل ابن آدم له الحسنة) منه (بعشر أمثالها) أي كل أعمال ابن آدم تضاعف الحسنة بعشر أمثالها، قال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (إلى سبعمائة ضعف) أي أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس. وإنما تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله (قال الله تعالى إلا الصوم) أي فإنه أحب العبادات إلي. ولا ينحصر تضعيفه بل يضاعفه الله أضعافًا كثيرة. ويثيب عليه بغير تقدير. وهو جنة يستجن به من النار ومن الصبر والصبر ثوابه الجنة. قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} واتفقوا على أن المراد بالصوم هنا المصون من المعاصي قولاً وفعلاً (فإنه لي) خصه تعالى بإضافته إليه دون سائر الأعمال تنويهًا بالتشريف والتعظيم والتفخيم.
ثم قال (وأنا أجزي به) أي أجازي عليه جزاء جزيلاً بلا عدد ولا حساب. لأنه لم يشاركني فيه أحد. ولم يعبد به غيري.
فأنا أتولى الجزاء عليه بنفسي. على قدر اختصاصه بي. ولأنه سر بين الله وبين عبده لا يطلع عليه سواه. فلا يكون العبد صائمًا حقيقة إلا وهو مخلص في الطاعة.
وفيه بيان عظم فضل الصوم والحث عليه وعظم فضله. وكثرة ثوابه. لأن الكريم إذا أخبر أنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظم ذلك الجزاء وسعة العطاء. وله من الفضائل والمثوبة ما لا
يحصيه إلا الله. قال تعالى: (يدع طعامه وشرابه) وشهوة الجماع (من أجلي متفق عليه) ولم يصرح بنسبته إلى الله تعالى للعلم بذلك.
فيتقرب إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام والشراب والنكاح من أجل الله في صورة من لا حاجة له في الدنيا إلا رضى الله عز وجل. وهي أعظم شهوات النفس. فتنكسر سورتها الحاملة لها على الأشر والبطر والغفلة. ويتخلى القلب للذكر والفكر. ويعرف قدر نعمة الله عليه بأقداره على ما منعه كثيرًا من الفقراء. وفيه "والذي نفسي بيده: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه".
وفي فضل الصوم أحاديث كثيرة: منها عن علي مرفوعًا من منعه الصيام من الطعام والشراب أطعمه الله من ثمار الجنة وسقاه من شرابها" وفي الصحيحين "في الجنة باب يدعى الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فيقال لهم يوم القيامة {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} .
(وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له صم من كل شهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها) أي تضاعف بعشر أمثالها وكان رضي الله عنه قال إني أقوى أكثر من ذلك فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى الأرفق به شفقة عليه. وإرشادًا له إلى
مصلحته. وحثًا له على ما يطيق الدوام عليه. ونهيًا له عن الإكثار من العبادة التي يخاف عليه الملل بسببها. أو ترك بعضها. كما قال "عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا""وأحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه".
ثم قال (وذلك) اي صيام ثلاثة أيام من كل شهر (مثل صيام الدهر متفق عليه) وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها فيعدل صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الشهر كله. فيكون كمن صام الدهر من غير حصول المشقة في صومه. وللترمذي من حديث أبي ذر "من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر) فأنزل الله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) اليوم بعشر.
وقال الشيخ مراده أن من فعل هذا حصل له أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر. ولمسلم "يصوم من كل شهر ثلاثة الأيام" وللبخاري من حديث أبي هريرة "أوصاني خليلي بثلاث، صيام ثلاثة أيام من كل شهر" الحديث ولأبي داود: "من كل شهر أول اثنين وخميسين" ولمسلم "ما يبالي من أي الشهر صام" فيحصل أصل السنة بصوم ثلاثة من أي أيام الشهر. واتفق أهل العلم على سنية صيام ثلاثة من كل شهر.
(وللخمسة من حديث أبي قتادة وغيره) فرواه أصحاب
السنن عن قتادة بن ملحان القيسي البصري له صحبة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم (البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة) وقال "هي كهيئة الدهر" وعن أبي ذر "أمرنا أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" رواه الترمذي وصححه ابن حبان وغيره.
ورواه أحمد وغيره من حديث أبي هريرة "فإن كنت صائمًا فصم الغر" أي البيض. والنسائي من حديث جرير "صيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر ثلاثة الأيام البيض" وورد من طرق عديدة. ولا معارضة بينها وبين ما تقدم. فإنها كلها دالة على ندبية صوم ثلاثة أيام من كل شهر والبيض منها أشهر. وما أمر به صلى الله عليه وسلم وحث عليه ووصى به أولى وأفضل. والبيض على حذف مضاف أي أيام ليالي البيض. وهي الليالي التي لياليهن مقمرة خصت لتعميم لياليها بالنور المناسب للعبادة والشكر على ذلك.
وقيل من داوم على صيامها لم يعتل. لأن الفضلات تهيج في البدن في كل شهر وهذه الليالي أشد لقوة القمر. والصوم يذهب فضلات البدن. فمن صامها سلم. واتفق العلماء على أنه يستحب أن تكون الثلاثة المذكورة وسط الشهر. كما حكاه النووي وغيره. وقال الروياني وغيره صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب. فإن اتفقت أيام البيض كان أحب.
و (فيها) أي في مسند أحمد والسنن (عن عائشة) وأسامة ابن زيد وغيرهما (كان) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم (يتحرى صيام الاثنين والخميس) أي يقصد ويجتهد في الطلب والعزم على تخصيص صيام يوم الاثنين والخميس، صححه الترمذي.
وللخمسة وغيرهم من حديث أبي هريرة وأسامة (وقال هما يومان تعرض الأعمال فيهما) أي في يوم الإثنين والخميس على رب العالمين.
وورد أنه تعرض أعمال العباد كل يوم. ففيه أنه أيضا تعرض الأعمال في يوم الاثين والخميس. ثم أعمال السنة في شعبان. ولكل عرض حكمة (فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) ونحوه في صحيح مسلم. ولفظ أبي داود كان يصومهما. فسئل عن ذلك فقال "إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس" ولمسلم قال له رجل أرايت الاثنين قال "فيه ولدت وفيه أنزل علي القرآن"فيسن صومهما اتفاقا لفعله صلى الله عليه وسلم وحثه عليه وسمي الاثنين لأنه ثاني الأسبوع. والخميس لأنه خامسه.
(وعن أبي أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان ثم أتبعه) أي أتبع رمضان بالصوم (ستًا من شوال) ستا
أصله سدس. ولو ميز بالهاء لكان صحيحًا. لأن العدد المميز إذاكان غير مذكور لفظا جاز تذكير مميزه وتأنيثه بالهاء
أي ستة أيام من شهر شوال من شالت الإبل بأذنابها
للطراق (كان كصيام الدهر رواه مسلم) ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة.
ولفظ ثوبان "من صام رمضان فشهره بعشرة ومن صام ستة أيام بعد الفطر فذلك صيامه السنة" رواه أحمد وغيره وهو حديث مستفيض. وذكروا أنه متواتر. عن النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بالتشبيه في حصول العبادة به على وجه لا مشقة فيه. وإنما كره صوم الدهر لما فيه من الضعف والتشبه بالتبتل. ولولا ذلك لكان فيه فضل عظيم. لاستغراق الزمان بالطاعة والعبادة.
فدل الحديث على سنية صوم ست من شوال. وحكى الموفق وغيره اتفاق أهل العلم على أن صومها سنة. وقال النووي وغيره كره مالك ذلك وعلله بأنه ربما ظن وجوبها وهو باطل في مقابلة السنة الصحيحة. ولا تترك السنة لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها قال ويلزمه ذلك في سائر أنواع الصوم وغيره المرغب فيه. ولا قائل به. وقال ابن عبد البر: لم يبلغ مالك هذا الحديث.
واتباع الست يحتمل أن يكون بلا فاصل إلا بما لا يصلح للصوم ويحتمل إطلاقه مع الفاصل. ويستحب تتابعها. وكونها عقب العيد. لما فيه من المسارعة إلى الخير. ويحصل فضلها متتابعة ومتفرقة وفي أول الشهر وفي آخره. واختاره الشيخ وغيره. لظاهر الخبر. وذكره قول الجمهور. وذكر بعضهم أنها تحصل
الفضيلة بصومها في غير شوال. كما في خبر ثوبان وغيره. وصام ستة أيام بعد الفطر. ولعل تقييده بشوال لسهولة الصوم فيه لاعتياده.
(وله) أي ولمسلم وأهل السنن وغيرهم (عن أبي هريرة مرفوعًا) إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصيام بعد رمضان أفضل فقال (أفضل الصيام بعد رمضان) أي بعد صيام رمضان لأن الواجب أفضل من المسنون وأعظم أجرًا. كما أن أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل. فحيث علم فضل صيام رمضان، فأفضل الصيام بعد صيامه (شهر الله المحرم) إضافة إلى الله تعالى تشريفًا وتفخيمًا وتعظيمًا. كقولهم بيت الله.
قال بعض أهل العلم وهو أفضل الأشهر يعني بعد رمضان. والمعنى أفضل شهر تطوع به كاملا بعد شهر رمضان في الفضيلة شهر الله المحرم. لأن بعض التطوع قد يكون أفضل من أيامه كعرفة وعشر ذي الحجة. فالتطوع المطلق بشهر كامل سوى رمضان أفضله المحرم. وهذا الخبر الصحيح صريح في فضل صومه. ولم يكن صلى الله عليه وسلم يكثر فيه الصوم. إما لعذر أو لم يوح إليه بفضله إلا في آخر حياته.
ويدل على فضله أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم سأله رجل أي شهر تأمرني أن أصومه بعد شهر رمضان فقال "إن كنت صائمًا بعد شهر رمضان فصم المحرم. فإنه شهر الله فيه يوم تاب الله فيه على
قوم. ويتوب فيه على قوم" حسنه الترمذي. وسمي محرمًا لكونه شهرًا محرمًا تصريحًا بفضله وتأكيدًا لتحريمه. لأن العرب كانت تتقلب فيه فتحله عامًا وتحرمه عامًا. وهو أول شهور العالم.
(وله عن ابن عباس) أن النبي صلى الله عليه وسلم (صام العاشر) أي من شهر المحرم وعليه جماهير العلماء ويسمى عاشوراء. ولفظه صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء (وأمر بصيامه) ولهما عنه سئل عن صوم عاشوراء فقال ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم. وعن عائشة كان يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان قال "من شاء صامه ومن شاء تركه".
ومن حديث معاوية قال: "إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء صام ومن شاء أفطر" وأكثرها يدل على أن صومه وجب ثم نسخ. وقاله الإمام أحمد وغيره. وهو مذهب أبي حنيفة واختاره الشيخ وغيره. وبقي استحباب صومه إجماعًا. وأخباره مستفيضة أو متواترة (فقيل له إنه يوم تعظمه اليهود) والنصارى. ولهما عن أبي موسى كان يوم عاشوراء تعظمه اليهود وتتخذه عيدًا فقال "صوموه أنتم".
ومن حديث ابن عباس قدم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال "ما هذا" قالو هذا يوم صالح نجى الله
فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. فقال "أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه" وعزم على مخالفتهم (فقال لئن بقيت إلى قابل) أي العام المقبل (لأصمن التاسع) وفي رواية "إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
واستحب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء الجمع بينهما. لأنه صلى الله عليه وسلم صام العاشر وأمر بصيامه. وأجمعوا على سنيته. ونوى صيام التاسع. وفي الحديث إشارة إليه (ولأحمد)"لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع (والعاشر) رواه هو والخلال بسند جيد. وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "صوموا يوم عاشوراء. وخالفوا فيه اليهود. صوموا قبله يوما أو بعده يوما" وفي رواية "صوموا قبله يوما وبعده يوما" وسنده ضعيف وروي نحوه. وسكت عنه في التلخيص.
وهو صريح في مشروعية ضم اليومين إلى يوم عاشوراء. وقال أحمد إن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام ليتيقن صومها. وكره ابن عباس أفراد العاشر. وروي عنه صوموا التاسع والعاشر. وخالفوا اليهود. وهو مقتضى كلام أحمد وغيره. للأمر بمخالفة اليهود. وقال الشيخ لا يكره إفراده بالصوم مع مبالغته في مخالفة المشركين. وتصريحه في الأمر
بمخالفتهم.
وما روي فيه من التوسعة على العيال فقال أحمد لا أصل له. وقال الشيخ موضوع مكذوب عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما يفعل من الكحل والاغتسال والحنا والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وغير ذلك لم يرو في ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه. ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين. لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم.
وقال وقوم يستحبون الاكتحال والاغتسال والتوسعة على العيال واتخاذ أطعمة غير معتادة. وهو بدعة أصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين رضي الله عنه. وكل بدعة ضلالة. بل المستحب يوم عاشوراء الصيام عند جمهور أهل العلم.
(وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من أيام العمل) الصالح (فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر) وفي لفظ "ما العمل الصالح في أيام أفضل منه في هذه العشر" فدل الحديث أن العمل في أيام العشر أفضل من العمل في غيرها. ومن العمل في صيامها. وفي رواية القاسم بن أبي أيوب "ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى".
وعند أبي عوانة وابن حبان من حديث جابر "ما من أيام أفضل عندالله من عشر ذي الحجة" وعند أحمد من حديث ابن عمر "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيها من
هذه الأيام العشر. فأكثروا فيها من التهليل والتكبير والتحميد" وتقدم {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} أيام العشر وقال {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} إنها المعنية. وسميت بذلك للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها. وآخرها يوم النحر.
(قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله) فيه فضل الجهاد. وتقرر فضله عندهم. وأنه لا يعدله عمل (قال ولا الجهاد في سبيل الله) أي لا يكون الجهاد في سبيل الله أحب إلى الله من العمل في هذه الأيام العشر. واتفق أهل العلم على فضلها (إلا رجل) اي إلا عمل رجل وفي لفظ إلا من (خرج) أي في سبيل الله (بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء رواه البخاري) وأهل السنن وغيرهم.
أي فيكون من لم يرجع بشيء من ذلك أفضل من العامل في أيام العشر أو مساويًا له. وشيء نكرة في سياق النفي فتعم ما ذكر. وعند ابن عوانة "إلا من عقر جواده وأهريق دمه" وفي رواية له "إلا من لم يرجع بنفسه وماله" فدل الحديث على فضيلة أيام العشر على غيرها من السنة. وتخصيصها بهذه المزية اجتماع أمهات العبادة فيها الحج والصدقة والصيام والصلاة ولا يتأتى ذلك في غيرها.
والعمل في أيامها لا ينحصر. فمنه قوله "فأكثروا فيها من
التهليل والتكبير والتحميد" فكذا الصيام. وفي حديث ابن عباس "وأن صيام يوم منها يعدل صايم سنة والعمل بسبعمائة ضعف" وللترمذي من حديث أبي هريرة "يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة فيها بقيام ليلة القدر" وفيها ضعف. ولأحمد وأبي داود والنسائي وغيرهم عن حفصة وغيرها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة. وصومه مندرج في فضيلة العمل فيها. فإن العمل يضاعف في المكان والزمان الفاضل.
وما رواه مسلم عن عائشة ما رأيته صائمًا في العشر قط. فقال أهل العلم المراد أنه لم يصمها لعارض وعدم رؤيتها له صائمًا لا يستلزم العدم. على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها. وكذا من فعله أنه لم يكن يدع صيامها. وكان يصوم يوم عرفة. وقال "يكفر سنتين" وروى أبو الشيخ وابن النجار وغيرهما من حديث ابن عباس "صوم يوم التروية كفارة سنة" فترادفت الأخبار من قوله وفعله على استحباب صيام تسع ذي الحجة وهو قول جمهور أهل العلم وأفضلها التاسع ثم الثامن.
(ولمسلم عن أبي قتادة مرفوعًا صيام يوم عرفة) تاسع ذي الحجة (يكفر السنة الماضية والآتية) وفي لفظ "يكفر سنتين ماضية ومستقبلة" وفي لفظ "احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" أي قبل وقوع المكفر. أو يلطف به
بسبب صيامه. فلا يأتي بذنب. أو يوفقه فيها لما يكفره.
وصومه أوكد أيام العشر إجماعا. وسمي بيوم عرفة للوقوف فيه بعرفة. وقيل هو يوم الحج الأكبر. وجعل على الضعف من عاشوراء. فقيل لأن يوم عرفة محمدي وعاشوراء موسوي وأعمالنا على الضعف. ولو رأى أهل بلد هلال ذي الحجة ولم يثبت عند الحاكم فقال الشيخ لهم أن يصوموا اليوم الذي هو التاسع ظاهرا وأن كان في الباطن العاشر. لحديث "صومكم يوم تصومون" وتقدم.
وقال: صوم اليوم الذي يشك فيه هل هو التاسع أو العاشر جائز بلا نزاع. لأن الأصل عدم العاشر كليلة الثلاثين من رمضان. وظهر الحديث يستحب صومه مطلقًا. وفعله صلى الله عليه وسلم وخلفائه يدل على أنه لا يستحب للحاج أن يصوم يوم عرفة بعرفة. وهو مذهب مالك والشافعي وجمهور أهل العلم. وكرهه بعضهم. لما روى أبو داود من حديث أبي هريرة "نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة" ولفطره بها صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس. متفق عليه.
قال ابن عمر لم يصمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان. وليتقوى على العبادة والدعاء في ذلك اليوم. وللقيام بأعمال الحجز وقال الشيخ: لأنه يوم عيد. ويشهد له ما روى عقبة بن عامر مرفوعا "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق
عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب وذكر لله" صححه الترمذي (ويوم عاشوراء يكفر السنة الماضية) وأجمع أهل العلم على أن صومه سنة واستحبوا يوما قبله أو يوما بعده. أو يومًا قبله ويومًا بعده على ما تقدم.
وإن قيل إذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجمعات ورمضان وعرفة وعاشوراء وغير ذلك؟ قيل كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره. وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتب به حسنات ورفعت به درجات وإن صادق كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر. ويأتي قول الشيخ إن إطلاق التكفير بالعمرة متناول الكبائر فكذا هذا الخبر ونحوه.
(وعن عائشة) رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يصوم) في سائر أيام السنة (حتى نقول لا يفطر) أي ينتهي صومه إلى غاية نقول لا يفطر. بل كان صلى الله عليه وسلم يسرد الصيام أحيانًا. فيستحب أن لا يخلي المرء شهرًا من صيام. وفيه أن صوم النفل غير مختص بزمان معين. بل كل السنة صالحة له إلا رمضان لوجوبه والعيدين والتشريق للنهي عنها.
(ويفطر حتى نقول لا يصوم) أي ينتهي فطره إلى غاية نقول لا يصوم أي يسرد الفطر أحيانا. ولعله صلى الله عليه وسلم يسرد الفطر أحيانًا لأشغاله. فيفعل ما يقتضيه الحال من تجرده عن
الأشغال. فيتابع الصوم. وعكس ذلك فيتابع الإفطار (وما رأيته استكمل شهرًا قط إلا رمضان" لئلا يظن وجوبه (وما رأيته في شهر) أي غير رمضان (أكثر منه صيامًا) يعني تطوعًا (في شعبان متفق عليه) لرفع أعمال العباد فيه.
ففي النسائي عن أسامة قلت لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان. قال "ذاك: شهر يغفل الناس عنه وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" وعن أنس سئل أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال "شعبان لتعظيم رمضان" رواه الترمذي وقال غريب.
وكان أحب الشهور إليه. فهو أفضل لمحافظته عليه أو أكثره. وكونه كالمقدمة لرمضان ويكون المحرم كما تقدم أفضل مما قبل رمضان أو بعده تشبيها لهما بالسنن الرواتب مع قيام الليل فهو أفضل التطوع بعد المكتوبة أي ورواتبها والوتر فشعبان والست ليس من المطلق بل هو أفضل لتبعية رمضان والمطلق أفضله المحرم. وكان يصوم شعبان إلا قليلاً. وقالت ما علمته صام شهرًا كله إلا رمضان. ولا أفطره كله حتى لا يصوم منه حتى مضى لسبيله متفق عليه وفي رواية بل كان يصوم شعبان كله.
والمراد بكله غالبه لما تقدم. ولأنه جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول صام الشهر كله. وله نظائر. ولمسلم
ولا صام شهرًا كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان. ويحمل لفظه كله على حذف أداة الاستثناء. يعني قوله إلا قليلاً. ولا يكره إفراد شهر بالصوم غير شهر رجب. قال في المبدع اتفاقًا. وقال المجد لا نعلم فيه خلافًا للأخبار.
قال الشيخ وكل حديث يروى في فضل صوم أو صلاة فيه فكذب باتفاق أهل العلم بالحديث. وقال من صامه يعتقد أنه أفضل من غيره من الأشهر إثم وعذر. وحمل عليه قول عمر رواه ابن أبي شيبة وغيره أنه كان يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان. ويقول كلوا فإنما هو شهر تعظمه الجاهلية. وله من حديث زيد بن أسلم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم رجب فقال "أين أنتم عن شعبان؟ " ولابن ماجه عن ابن عباس بسند ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن صيام رجب".
وقال الشيخ وكراهية إفراد رجب والجمعة سدًا لذريعة اتخاذ شرع لم يأذن به الله من تخصيص زمان أو مكان لم يخصه الله به. كما وقع من أهل الكتاب. وقال يكفر من فضل رجب على رمضان. وقال من نذر صومه كل سنة أفطر بعضه وقضاه.
(ولهما عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه (قال صم يومًا وأفطر يومًا)"فذلك صيام داود وهو أفضل الصيام" أي فالزيادة عليه مفضولة. فقال إني أطيق أفضل من ذلك فقال: "لا أفضل من ذلك" ونهى عليه الصلاة والسلام من
يسرد الصوم. وقال "لا صم فوق صوم داود".
وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم أرشده إلى الأرفق به حثا له على ما يطيق الدوام عليه. وقال ابن مسعود لما قيل له إنك تقل الصيام. قال إني أخاف أن تضعف نفسي عن القراءة والقرآن أحب إلي من الصيام. وقال صلى الله عليه وسلم "إن لنفسك عليك حقا" الحديث ويشترط أن لا يضعف البدن حتى يعجز عما هو أفضل من الصيام كالقيام بحقوق الله تعالى وحقق عباده اللازمة. وإلا فتركه أفضل اختاره الشيخ وغيره. فإن من حق النفس اللطف بها حتى توصل صاحبها إلى المنزل.
ويحرم صيام الدهر إن أدخل فيه العيدين وأيام التشريق. فإن أفطرها جاز نص عليه أحمد ومالك والشافعي وذكر مالك أنه سمع أهل العلم يقولونه. لقول حمزة بن عمرو يا رسول الله إني أسرد الصوم أفأصوم في السفر: قال "إن شئت فصم وإن شئت فافطر" متفق عليه. ولأن أبا طلحة وغيره من الصحابة وغيرهم فعلوه. ولأن الصوم أمر مطلوب للشاعر إلا ما استثناه.
وأجابوا عن حديث عبد الله بن عمرو أنه خشية عليه، حتى تمنى أنه قبل الرخصة. قالوا ولا يبعد لو أن شخصًا
لا يفوته من الأعمال الصالحة شيء بالصيام أصلاً.
ولا يصوم يومي العيدين وأيام التشريق. ولا يفوته حق من
الحقوق التي خوطب بها أن يجوز في حقه وظاهر مجموع النصوص أنه يختلف باختلاف الأحوال. ومنه آخرون وأجابوا بأن سرد الصوم لا يستلزم صوم الدهر. بل المراد كثرة الصيام. وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم يسرد الصوم. مع ما ثبت أنه لم يصم شهرًا كاملاً إلا رمضان. وقال "أما أنا فأصوم وأفطر فمن رغب عن سنتي فليس مني".
(وقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو (لا صام من صام الأبد) أي لا صام من صام الدهر دعاء عليه. وإن كان معناه الخبر. أخبر عنه أنه لم يصم. وإذا لم يصم شرعا فكيف يكتب له ثواب فلمسلم من حديث أبي قتادة "لا صام ولا أفطر" وللترمذي "لم يصم ولم يفطر" أي لم يحصل له أجر الصوم لمخالفته. ولم يفطر لأنه أمسك. فثبت كراهته من وجوه.
وقد حكم صلى الله عليه وسلم بأن صوم يوم وإفطار يوم أفضل الصيام. ولاقتضاء العادة بالمشقة والتقصير في حقوق أخرى حث الشارع عليها فيجب مراعاتها. قال الشيخ والصواب أن الأولى ترك صيام الدهر أو كراهته. وقال ابن القيم وكيف يكون أفضل الصيام مع قوله "لا صام من صام الأبد" وقوله "أفضل الصيام صيام داود" وهذا نص صحيح صريح رافع للإشكال. يبين أن صوم يوم وفطر يوم أفضل من سرد الصوم مع أنه أكثر عملا. وهذا يدل على انه مكروه. لأنه إذا كان الفطرأفضل منه لم يمكن أن يقال بإباحته واستواء طرفيه.
(ولمسلم عن عائشة) رضي الله عنها قالت (أهدي لنا حيس) بفتح فسكون طعام يتخذ من التمر والأقط والسمن. وقد يجعل عوض الأقط: الدقيق والفتيت (فقال أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل) وفي لفظ قال طلحة فحدثت مجاهدًا بهذا الحديث فقال تلك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها. ورواه النسائي عن عائشة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ له قال. "يا عائشة إنما منزلة من صام في غير رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة من ماله فجاد منها بما شاء فأمضاه".
قال الموفق وغيره لو نوى الصدقة بمال مقدر وشرع في الصدقة فأخرج بعضه لم يلزمه الصدقة بباقيه إجماعًا. وكذا القراءة ولاأذكار بلا نزاع وعن أم هانئ قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا صائمة فأتى بإناء من لبن فشرب ثم ناولني فشربت فقلت إني كنت صائمة ولكني كرهت أن أرد سؤرك فقال "إن كان من قضاء رمضان فاقضي يومًا مكانه" ون كان من غيره فإن شئت فاقضي وإنشئت فلا تقضي رواه أحمد وغيره.
(وقال) النبي صلى الله عليه وسلم (لأم هانئ) بنت أبي طالب بن عبد المطلب ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم. وعاشت بعد علي رضي الله عنهما. وذلك أنه دخل عليها فدعا بشراب ثم ناولها فشربت قالت إني كنت صائمة فقال (الصائم المتطوع أمير نفسه) أو أمين نفسه (إن شاء صام) ومضى في صيامه (وإن شاء أفطر رواه
الترمذي) وقال فيه مقال. ورواه أبو داود وابن ماجه وصححه أحمد. قال الترمذي والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الصائم المتطوع إذا أفطر فلا قضاء عليه إلا أن يجب أن يقضيه وهو قول سفيان وأحمد وإسحاق والشافعي.
ودلت هذه الأحاديث على جواز الفطر للمتطوع. وعدم وجوب القضاء، وهو مذهب جمهور أهل العلم. لجواز فطره. ولأن القضاء يتبع المقضي عنه. فإذا لم يكن واجبا لم يكن القضاء واجبا. وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز له الفطر. وإن أفطر لزمه القضاء. واستدلوا بما رواه الدارقطني والبيهقي من حديث عائشة. وأقضي يوما مكانه وعمومات أخر. وقال أحمد خبر عائشة لا يثبت. ولا يقضي من أفطر لعذر لا صنع له فيه إجماعًا.
وأما الفرض فيجب القطع لرد معصوم عن هلكة. وإنقاذ غريق ونحوهما. ويحرم خروجه منه بلا عذر. قال المجد وغيره لا نعلم فيه خلافا. وكذا من دخل في واجب موسع كقضاء رمضان ومكتوبة أول وقتها وغير ذلك كنذر مطلق وكفارة يجوز تأخيرها بلا عذر اتفاقا. فيستحب إتمام النفل لغير عذر خروجا من خلاف من أوجبه. ولعموم (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) وإن قضاه فحسن. فإن الخروج من الخلاف مستحب بلا خلاف، ولأن به تكمل العبادة وذلك مطلوب شرعا.