الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التشبيه، فيلزم حيال النصوص الواردة بذلك أحد أمرين عندهم: إما تأويلها عن ظاهرها، وإما تفويضها مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، ولهذا يقول ناظم عقيدتهم:
وكل نص أوهم التشبيها
…
أوله أو فوض ورم تنزيها
سبحانك ربي عما يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كييرًا.
وقد أجرى الله الحق على لسان هذا الناظم؛ حيث قال "وكل نص أوهم التشبيها" فبين أن مذهبهم مبني على الوهم لا على الحق؛ لأنهم توهموا أن هذه النصوص تقتضي التشبيه؛ فراحوا يؤولونها.
وهل الوهم يا عباد الله تعارض به النصوص وتبنى عليه عقيدة؟!
إن الوهم أقل درجة من الظن، والله تعالى: يقول في الظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} 1
الرد على المنحرفين عن منهج السلف في أسماء الله وصفاته من المشبهة
والمعطلة:
المنحرفون عن منهج السلف في أسماء الله وصفاته طائفتان: المشبهة والمعطلة.
1 -
المشبهة:
وهؤلاء شبهوا الله بخلقه، وجعلوا صفاته من جنس صفات المخلوقين، ولذلك سموا ب (المشبهة) ، وأول من قال هذه المقالة هو هشام بن الحكم الرافضي وبيان بن سمعان التميمي الذي تنسب إليه البيانية من غالية الشيعة؛ فالمشبهة غلوا في إثبات الصفات، حتى أدخلوا في ذلك ما نفاه الله ورسوله. ما لا يليق به سبحانه من صفات النقص، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيراً،
1 سورة النجم، الآية 28.
ومن هؤلاء هشام بن سالم الجواليقي، وداود الجواربي.
وقد نفى الله في كتابه مشابهته لخلقه، ونهى عن ضرب الأمثال له؛ فقال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1،
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 2، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 3، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ} 4، فمن شبه صفات الله بصفات خلقه؛ لم يكن عابدًا لله في الحقيقة، وإنما يعبدون وثنا صوَّره له خياله ونحته له فكره؛ فهو من عباد الأوثان، لا من عباد الرحمن.
قال العلامة ابن القيم:
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا
…
إن المشبه عابد الأوثان
ومن شبه الله بصفات خلقه؛ فهو مشابه للنصارى الذين يعبدون المسيح بن مريم عليه السلام.
يقول العلامة ابن القيم:
من مثل الله العظيم بخلقه
…
فهو النسيب لمشرك نصراني
وقال نعيم بن حماد شيخ البخارى رحمهما الله: "من شبه الله بخلقه؛ فقد كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله؛ فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيه".
2 -
المعطلة:
وهؤلاء نفوا عن الله ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من صفات الكمال، زاعمين أن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم؛ فهم على طرفي نقيض مع المشبهة.
ومذهب التعطيل مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين.
1 سورة الشورى، الآية 11.
2 سورة مريم، الآية 65.
3 سورة الإخلاص، الآية 4.
4 سورة النحل، الآية 74.
وأول من حفظ عنه مقالة التعطيل في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المئة الثانية، وأخذ هذا المذهب الخبيث عنه الجهم بن صفوان وأظهره، وإليه نسبت الجهمية، ثم انتقل هذا المذهب إلى المعتزلة والأشاعرة، وهذه أسانيد مذهبهم، ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة، وهم في هذا التعطيل متفاوتون.
فالجهمية: ينفون الأسماء والصفات.
والمعتزلة: يثبتون الأسماء مجردة من معانيها وينفون الصفات.
والأشاعرة: يثبتون الأسماء وسبع صفات فقط؛ هي: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع والبصر، والكلام، وينفون بقية الصفات.
وشبهة الجميع فيما نفوه من الصفات أن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم بزعمهم؛ لأنه لا يشاهد موصوف بها إلا هذه الأجسام، والله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1؛ فتعين نفي الصفات وتعطيلها؛ تنزيها لله عن التشبيه بزعمهم، ولهذا يسمون من أثبتها مشبها.
ووقفوا من النصوص الدالة على إثباتها موقفين:
الموقف الأول: الإيمان بألفاظها وتفويض معانيها؛ بأن يسكتوا عن تفسيرها، ويفوضوه إلى الله، مع نفي دلالتها على شيء من الصفات، وسموا هذه الطريقة طريقة السلف، وقالوا: هي الأسلم.
الموقف الثاني: صرف هذه النصوص عن مدلولها إلى معان ابتدعوها، وهذا ما يسمونه بطريقة التأويل، وسموه طريقة الخلف، وقالوا: هي الأعلم والأحكم.
والرد على شبهتهم: أن نقول: لا ريب أن التمثيل قد نطق القرآن الكريم
1 سورة الشورى، الآية 11
بنفيه عن الله - تعالى؛ كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 2، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 3، وقوله:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} 4، وقوله:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ} 5، لكن مع نفيه سبحانه عن نفسه مشابهة المخلوقين أثبت لنفسه صفات الكمال؛ كما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 6، فجمع في هذه الآية الكريمة بين نفي التشبيه عنه وإثبات صفتي السمع والبصر لنفسه؛ فدل على أن إثبات الصفات لا يقتضي التشبيه؛ إذ لا تلازم بينهما.
وهكذا في كثير من آيات القرآن الكريم نجد إثبات الصفات مع نفي التشبيه جنبا إلى جنب، وهذا هو مذهب السلف الصالح؛ يثبتون الصفات وينفون عنه التشبيه والتمثيل.
ومن زعم أن إثبات الصفات لا يليق بالله؛ لأنه يقتضي التشبيه؛ فإنما جره إلى ذلك سوء فهمه؛ حيث فهم أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه، فأداه هذا الفهم الخاطىء إلى نفي ما أثبته الله عز وجل لنفسه، فكان هذا الجاهل مشبها أولا ومعطلاً ثانيا، وارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه طاهراً من أقذار التشبيه؛ لكان المتبادر عنده والسابق إلى فهمه؛ أن صفات الله عز وجل بالغة من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق التشبيه والمشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوقين، فيكون قلبه متسعّاً للإيمان بصفات الله على وجه يليق به، مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، أما من توهم أن صفات الله تشبه صفات المخلوقين؛ فإنه لم يعرف الله حق معرفته، ولم يقدره حق قدره، ولهذا وقع فيما وقع فيه من ورطة التعطيل، وصار يسمي من أثبت لله صفات الكمال ونزهه عن صفات النقص على مقتضى الكتاب والسنة؛ صار يسميه مشبها
1 سورة الشورى، ألاية 11.
2 سورة مريم، الآية 65.
3 سورة الإخلاص، الآية 4.
4 سورة البقرة، الآية 22.
5 سورة النحل، الآية 74.
6 سورة الشورى، الآية 11.
ومجسما؛ نظرًا لما قام من توهم أن صفات الله تشبه صفات خلقه، ولم يدر أن هذا الوصف أليق به؛ فهو الذي شبه أولاً، ثم عطل ثانيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال إمام الأئمة وناصر السنة أبو بكر محمد بن خزيمة رحمه الله في الرد على الجهمية وتلاميذهم ممن زعم أن إثبات الصفات لله عز وجل يقتضي التشبيه، وننقل كلامه مختصرًا في هذا الموضوع:
قال رحمه الله: "وزعمت الجهمية عليهم لعائن الله أن أهل السنة ومتبعي الآثار، والقائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، المثبتين لله عز وجل صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله، المثبت بين الدفتين، وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل، موصولاً إليه: مشبهة1؛ جهلاً منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وقلة معرفتهم الذين بلغتهم خوطبنا
…
".
إلى أن قال: "نحن نقول وعلماؤنا جميعا من جميع الأقطار: إن لمعبودنا عز وجل وجها كما أعلمنا الله في محكم تنزيله؛ فذَوَّاهُ بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء، ونفى عنه الهلاك، ونقول: إن لوجه ربنا عز وجل من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه؛ لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره
…
ونقول: إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك، ونقول: إن أوجه بني آدم محدثه مخلوقة، لم تكن فكونها الله بعد أن لم تكن مخلوقة، وأجدها بعد ما كانت عدما، وإن جميع وجوه بني آدم فانية غير باقية، تصير جميعا ميتا ثم رميما، ثم ينشئها الله بعدها صارت رميما، ثم تصير إما جنة منعمة فيها أو إلى النار معذبة فيها".
فهل يخطر يا ذوي الحجا ببال عاقل مركب فيه العقل، يفهم لغه العرب،
(هذا خبر إن التي تقدم في قوله إن أهل السنة
…
إلخ.)
ويعرف خطابها، ويعلم التشبيه: أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه، هل ها هنا أيها العقلاء تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا وبينَّا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم التي ذكرناها ووصفناها
…
ولو كان تشبيها من علمائنا؛ لكان كل قائل: إن لبني آدم وجها، وللخنازير والقردة والسباع والحمير والبغال والحيات والعقارب وجوها، قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب وغيرها مما ذكرت، ولست أحسب أن أعقل الجهمية المعطلة عند نفسه لو قال له أكرم الناس عليه: وجهك يسبه وجه الخنزير والقرد والكلب والحمار والبغل ونحو هذا؛ إلا غضب
…
".
إلى قال رحمه الله: "فإذا كان ما ذكرنا على ما وصفنا؛ ثبت عند العقلاء وأهل التمييز أن من رمى أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بالتشبيه؛ فقد قال الباطل والكذب والزور والبهتان، وخالف الكتاب والسنة، وخرج عن لسان العرب
…
".
إلى أن قال رحمه الله: " والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله، وصف بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لجهلهم بالعلم، وذلك أنهم وجدوا في القرآن أن الله قد أسماءً صفاته على بعض خلقه، فتوهموا لجهلهم بالعلم أن من وصف الله بتلك الصفة التي وصف الله بها نفسه قد شبهه بخلقه.
فاسمعوا يا ذوي الحجا ما أبيَّنُ من جهل هؤلاء المعطلة:
أقول: وجدت الله وصف نفسه في غير موضع من كتابه، فأعلم عباده المؤمنين أنه سميع بصير، فقال:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، وذكر عز وجل الإنسان، فقال:{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 2.
وأعلمنا جلَّ وعلا أنه يرى، فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
1 سورة الشورى، الآية 11.
2 سورة الإنسان، الآية 2.
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} 1، وقال لموسى وهارون عليهما السلام:{إنَّني معكُما أسمَعُ وأَرَى} 2؛ فأعلم عز وجل أنه يرى أعمال بني آدم، وأن رسوله وهو بشر يرى أعمالهم - أيضا، وقال:{أَلَم يَرواْ إلى الطَّيْر مسخَّراتٍ في جَوِّ السماء} 3، وبنو آدم يرون - أيضا - الطير مسخرات في جو السماء.
وقال عز وجل: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 4، وقال:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 5؛ فثبت ربنا لنفسه عينا، وثبت لنبي آدم أعينا؛ فقال:{تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} 6؛ فقد أخبرنا ربنا أن له عينا لبني آدم أعينا.
وقال لإبليس لعنه الله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 7، وقال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 8؛ فثبت ربنا جلَّ وعلا يدين وخبرنا أنَّ لبني آدم يدين.
أفتلزم عند هؤلاء الفسقة: أن ما يثبت ما أثبته الله في هذه أن يكون مشبها خالقه بخلقه؟!، حاش لله أن يكون هذا تشبيها كما ادعوا لجهلهم بالعلم
…
" انتهى كلامه.
هذا مما رد إمام الأئمة محمد بن خزيمة على الجهمية وتلاميذهم، وهو رد مفحم، لا يستطيعون الإجابة عنه، وقد رد عليهم - أيضا - كبار الأئمة، ومن أمثال الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم، ولا تزال ردودهم والحمد لله بأيدي أهل السنة والجماعة.
ونسوق من ذلك نموذجا من رد شيخ الإسلام ابن تيمية على طائفة من هؤلاء زعمت أن النصوص التي وردت في الكتاب والسنة في صفات الله عز وجل هي من قبيل المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ولا يعلم معناه إلا هو؛ فهذه النصوص بزعمهم ليست على ظاهرها؛ لأن ظاهرها عندهم التشبيه، بل لها
1 سورة التوبة، الآية 105.
2 سورة طه، الآية 46.
3 سورة النحل، الآية 79.
4 سورة هود، الآية 37.
5 سورة الطور، الآية 48.
6 سورة المائدة، الآية 83.
7 سورة ص، الآية 75.
8 سورة المائدة، الآية 64.
معنى لا يعلمه إلا الله؛ فيفوضون معناها إلى الله، ويزعمون أن هذه طريقة السلف، وقد كذبوا على السلف ونسبوا إليهم ما هم برآء منه؛ لأن عقيدة السلف إثبات صفات الله عزَّ وجلّض كما دل عليها الكتاب العزيز والسنة النبوية، وأنها على ظاهرها، ويفسرون معناها على ما يليق بجلال الله، ولا يفوضونها، بل وهي عندهم من المحكم لا من المتشابه.
قال رحمه الله: "وأما على قول أكابرهم [يعني: نفاة الصفات] : إن معاني هذه النصوص لا يعلمه إلا الله، وإن معناها الذي أراده الله بها هو ما يوجب صرفها عن ظواهرها، فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني نا أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ؛ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كرما لا يعقلون معناه
…
".
إلى أن قال رحمه الله: "ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذا كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبُّر القرآن وعقله، ومع هذا؛ فأشرف ما فيه، وهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقا لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر ونهى، ووعد وتوعد، أو ما أخبر به عن اليوم الآخر: لا يعلم أحد معناه؛ فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بيَّن للناس ما نُزَّلَ ولا بلَّغ البلاغ المبين".
وقال رحمه الله نافيا هذا القول عن السلف: "وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله؛ فنقول: ما الدليل على ذلك؟ فإنَّي ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة ولا أحمد
ابن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية [يعني: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
…
} 1 الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، نهوا عن تأويلات الجهمية، وردوها، وأبطلوها، التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه، ونصوص أحمد والأئمة قبله بيِّنة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، يقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها؛ فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا، وأن لا يسكت عن بيانه وتفسيره، بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة؛ من غير تحريف له عن مواضعه، أو إلحاد في أسماء الله وآياته".
هذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وحكاه عن الأئمة والسلف؛ أنهم لا يجعلون نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يفهم معناه ويجب تفويضه، بل كانوا يعلمون معاني هذه النصوص ويفسرونها، وإنما يفوِّضون علم كيفيتها إلى الله عز وجل؛ كما قال الإمام مالك وغيره:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "وأما قوله تعالى: {مَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2؛ فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدّا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت؛ من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله؛ فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3، بل الأمر كما قال الأئمة؛ منهم نعيم بن حماد
1 سورة آل عمران، الآية 7.
2 سورة الأعراف، الآية 54. وسورة يونس، الآية 3.
3 سورة الشورى، الآية 11.
الخزاعي شيخ البخاري؛ قال: من شبه الله بخلقه؛ فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه؛ فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص؛ فقد سلك سبيل الهدى
…
" انتهى.
هذا مذهب السلف في أسماء الله وصفاته، وهو إثباتها كما جاءت في الكتاب والسنة، من غير تشبيه لها بصفات المخلوقين، ومن غير تعطيل ونفي لها، بل إثبات بلا تشبيه، وتنزيه لله بلا تعطيل، على حد قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، فمن نسب إلى السلف أن مذهبهم التفويض؛ فقد كذب وافترى عليهم ورماهم بما هم بريئون منه.
نسأل الله العفو والعافية.
1 سورة الشورى، الآية 11.