الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمقصود أن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحد، وهو إخلاص العبادة لله، والنهي عن الشرك والفساد، وإن تنوعت شرائعهم حسب الظروف والحاجات، إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي عمت رسالته الخلق، وامتدت إلى آخر الدنيا؛ لا تبدل ولا تغير ولا تنسخ، وهي صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان، ولا نبي بعده عليه الصلاة والسلام إلى آخر الزمان، وهو يأمر بما أمر به المرسلون من قبله من الإيمان وإخلاص العبادة لله بما شرعه من الأحكام، وهو مصدق لإخوانه المرسلين، وإخوانه المرسلون قد بشروا به، خصوصا أقرب الرسل إليه زمانا، وهو المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، حين قال لقومه:{يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 1.
وفي الكتب السابقة من بيان صفات هذا الرسول وخصائصه ما هو من أوضح الواضحات، وإن جحده من جحده من اليهود والنصارى حسدًا وتكبرًا؛ كما قال الله تعالى:{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} 2.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
ذكر خصائص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم جمالا
…
ذكر خصائص الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إجمالا:
للرسول محمد صلى الله عليه وسلم خصائص اختص بها عن غيره من الأنبياء، وخصائص اختص بها عن أمته:
1-
أنه خاتم النبيين؛ قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 3، وقال صلى الله عليه وسلم:"أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي".
1 سورة الصف، الآية:6.
2 سورة البقرة، الآية:146.
3 سورة الأحزاب، الآية:40.
2-
المقام المحمود، وهو الشفاعة العظمى؛ كما في قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 1، وكما في حديث الشفاعة الطويل المتفق على صحته؛ أن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ربكم؟ فيأتون آدم، ثم نوحا، ثم موسى، ثم عيسى، ثم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ فكلهم يقول: اذهبوا إلى غيري؛ إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يقول: أنا لها، فيخر ساجدًا، إلى أن يؤذن له بالشفاعة، وبهذا يظهر فضله على جميع الخلق، واختصاصه بهذا المقام.
3-
عموم بعثته إلى الثقلين الجن والإنس؛ قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 2، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} 3، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 4، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 5، {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} 6، وهذا مجمع عليه.
والآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق الجن والإنس؛ إذ كانت رسالته عامة للثقلين، وإن كان من أسباب النزول ما كان موجودًا في العرب؛ فليس شيء من الآيات مختصا بالسبب المعيَّن الذي نزل فيه باتفاق المسلمين؛ فلم يقل أحد من المسلمين: إن آيات الطلاق أو الظهار أو اللعان أو حد السرقة والمحاربين
…
وغير ذلك يختص بالشخص المعين الذي كان سبب نزول الآية.
والمقصود هنا: أن بعض آيات القرآن، وإن كان سببه أمورًا كانت في
1 سورة الإسراء، الآية:79.
2 سورة الأعراف، الآية:158.
3 سورة سبأ، الآية:28.
4 سورة الفرقان، الآية:1.
5 سورة الأنبياء، الآية:107.
6 سورة الأحقاف، الآية:29.
العرب؛ فحكم الآيات عام، يتناول ما تقتضيه الآيات لفظا ومعنى، في أي نوع كان، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن؛ فدعوته صلى الله عليه وسلم شاملة للثقلين الإنس والجن، على اختلاف أجناسهم؛ فلا يظن أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلاً، بل إنما علق الأحكام باسم مسلم وكافر ومؤمن ومنافق وبر وفاجر ومحسن وظالم وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث، وليس في القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة، وإنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغضه؛ فأمر بما يحبه الله ودعا إليه بحسب الإمكان، ونهى عما يبغضه الله وحسم مادته بحسب الإمكان؛ لم يخص العرب بنوع من أنواع الشريعة؛ إذ كانت دعوته لجميع البرية، لكن؛ نزل القرآن بلسانهم، بل بلسان قريش؛ لأجل التبليغ؛ لأنه بلغ قومه أولاً، ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم، وأمره بتبليغ قومه أولاً، ثم بتبليغ الأقرب فالأقرب إليه؛ كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب.
وكما كان صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس؛ فهو مبعوث - أيضا - إلى الجن؛ فقد استمع الجن لقراءته، وولَّوا إلى قومهم منذرين؛ كما أخبر الله عز وجل وهذا متفق عليه بين المسلمين.
وقد ذكر الله في القرآن من خطاب الثقلين ما يبين هذا الأصل؛ كقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
…
} 1 الآية، وأخبر الله عن الجن أنهم قالوا:{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} 2، أي مذاهب شتى؛ مسلمون وكفار، وأهل سنة وأهل بدعة، وقالوا: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ
…
} 3 الآية، والقاسط: الجائر؛ يقال: قسط: إذا جار، وأقسط: إذا عدل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يجب على الإنسان أن يعلم أن الله - عز
1 سورة الأنعام، الآية:130.
2 سورة الجن، الآية:11.
3 سورة الجن، الآية:14.
وجل - أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين الإنس والجن، وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته، وأن يحللوا ما حلل الله ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، ويحبوا ما أحبه الله ورسوله، ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله، وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الإنس والجن، فلم يؤمن به؛ استحق عقاب الله - تعالى، كما يستحقه أمثاله من الكافرين، الذين بعث إليهم الرسول، وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين".
4-
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم الذي أذعن لإعجازه الثقلان، وأحجم عن معارضته مصاقيع الإنس والجان، واعترف بالعجز عن الإتيان بأقصر سورة من مثله أهل الفصاحة والبلاغة من سائر الأديان، وقد سبق تفصيل ذلك.
5-
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم المعراج إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع في صريف الأقلام؛ فكان قاب قوسين أو أدنى.
وأما الخصائص التي اختص بها دون أمته:
فقد قال القرطبي في (تفسيره) : "خص الله تعالى رسوله من أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض والتحريم والتحليل، مزية على الأمة، وهبة له، ومرتبة خص بها؛ ففرضت عليه أشياء ما فرضت على غيره، وحرمت عليه أشياء لم تحرم عليهم، وحللت له أشياء لم تحلل لهم؛ منها متفق عليه، ومنها مختلف فيه".
ثم ذكر هذه الخصائص، ومنها: التهجد بالليل؛ يقال: إن قيام الليل كان واجبا عليه إلى أن مات؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً} 1، والمنصوص أنه كان واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} 2. ومنها: أنه إذا عمل عملاً أثبته.
1 المزمل: 2.
2 الإسراء: 79.
ومنها: تحريم الزكاة عليه وعلى آله. ومنها أنه أحل له الوصال في الصيام، وأحل له الزيادة على أربع نسوة. ومنها: أنه أحل له القتال بمكة. ومنها: أنه لا يورث. ومنها: بقاء زوجيَّتِه بعد الموت، وإذا طلق امرأة تبقى حرمته عليها؛ فلا تنكح
…
إلى غير ذلك من الخصائص النبوية.
ولنتكلم عن ثلاث من أعظم خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي: الإسراء والمعراج، وعموم رسالته، وختم النبوة به صلى الله عليه وسلم.
1-
الإسراء والمعراج.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: "يمجد تعالى نفسه، ويعظم شأنه؛ لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه؛ فلا إله غيره، ولا رب سواه. {الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ؛ يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم. {لَيْلاً} ؛ أي: في جنح الليل. {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} :وهو مسجد مكة. {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} : وهو بيت المقدس الذي بإيليا معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا جمعوا له هناك كلهم، فأمهم في محلتهم ودارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم والرئيس المقدم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وقوله تعالى:{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ؛ أي: في الزروع والثمار. {لِنُرِيَهُ} ؛ أي: محمدًا. {مِنْ آيَاتِنَا} ؛ أي: العظام؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 2. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3؛ أي: السميع لأقوال عباده؛ مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم ومكذبهم، البصير بهم؛ فيعطي كلاًّ منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة) انتهى.
1 الإسراء: 1.
2 النجم: 18.
3الإسراء: 1.
و (المعراج) : مفعال من المعروج؛ أي: الآلة التي يعرج فيها؛ أي: يصعد، وهو بمنزلة السلم، لكن لا يعلم كيف هو إلا الله.
وحكمه كحكم غيره من المغيبات؛ نؤمن به، ولا نشتغل بكيفيته.
والذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة وقبل الهجرة بسنة، وقيل: سنة وشهرين؛ ذكره ابن عبد البر.
صفة الإسراء والمعراج المستفادة من النصوص:
قال الحافظ ابن كثير في (تفسيره) : "والحق أنه عليه السلام أسري به يقظة لا مناما، من مكة إلى بيت المقدس، راكبا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد؛ ربط الدابة عند الباب، ودخله، فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم، ذو درج يرقى فيها، فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقرَّبوها، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مر بموسى الكليم في السادسة وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام [أي: أقلام القدر] بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جبريل على صورته، وله ست مائة جناح، ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية، مسند ظهره إليه؛ لأنه الكعبة السماوية، يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، ثم يتعبدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ورأى الجنة والنار، وفرض عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس؛ رحمة منه، ولطفا بعباده، وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها، ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط
معه الأنبياء، فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ، ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه أمهم ببيت المقدس، ولكن في بعضها أنه كان أو دخوله إليه، والظاهر أنه بد رجوعه إليه؛ لأنه لما مر بهم في منازلهم؛ جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً، وهو يخبر بهم، وهذا هو اللائق؛ لأنه كان أولاً مطلوبا إلى الجناب العلوي؛ ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله - تعالى، ثم لما فرغ من الذي أريد به؛ اجتمع فيه [أي: بيت المقدس] هو وإخوانه من النبيين، ثم ظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام في ذلك، ثم خرج من بيت المقدس، فركب البراق، وعاد إلى مكة بغلس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط؟
اختلف الناس؛ هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط على قولين:
فالأكثرون من العلماء على أنه أسرى ببدنه وروحه يقظة لا مناما، والدليل على ذلك قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} 1؛ فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناما؛ لم يكن فيه شيء كبير، ولم يكن متستعظما، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة ممَّن كان قد أسلم، وأيضا قال - سبحانه:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} 2؛ قال ابن عباس: "هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به"، رواه البخاري، و قال - سبحانه - {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} 3،
1 سورة الإسراء، الآية:1.
2سورة الإسراء، الآية:60.
3 سورة النجم، الآية:117.
فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرى رؤيا؛ إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناما قبله؛ ليكون ذلك من باب الإرهاص والتوطئة والتثبيت والإيناس
…
والله أعلم".
هل تكرر المعراج؟:
قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق الأحاديث الواردة في هذا الموضوع: (وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، فَحُصِّلَ مضمون ما اتفقت عليه من إسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه، أو نقص منه؛ فإن الخطأ على من عدا الأنبياء عليهم السلام.
ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة؛ فأثبت إسراءات متعددة؛ فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب ولم يتحصل على مطلب.
وقد صرح بعض المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس فقط ومنه إلى السماء، وفرح بهذا المسلك وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات، وهذا بعيد جدّاً، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد؛ لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته، ولنقله الناس على التعدد والتكرار.
وزعم بعض الصوفية أن المعراج وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة، وقال بعضهم: أربعا وثلاثين مرة؛ واحدة منها بجسمه الشريف، والباقي بروحه.
وقيل: كان الإسراء مرتين: مرة يقظة، ومرة مناما. وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله:"ثم استيقظت"، وبين سائر الروايات.
وكذلك منهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي، ومرتين بعده
…
وكلما اشتبه عليهم لفظه؛ زادوا مرة للتوفيق) .
قال ابن القيم: "يا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارًا؛ كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة يفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا، فيقول: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي
…
ثم يعيدها في المرة الثانية خمسين ثم يحطها إلى خمس". وقال ابن كثير: "وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به أو ينساه، أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو يبسط تارة فيسوقه كله، وتارة يحذف عن مخاطبه بما هو الأنفع عنده، ومن جعل كل رواية إسراء على حدة؛ كما تقدم عن بعضهم؛ فقد أبعد جدّاً، وذلك أن كل السياقات فيها السلام على الأنبياء، وفي كل منها يعرفه بهم، وفي كلها يفرض عليه الصلوات؛ فكيف يمكن أن يدَّعي تعدد ذلك؟! هذا في غاية البعد والاستحالة، والله أعلم".
2-
عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والرد على من أنكره.
يقول جماعة من اليهود والنصارى ومن قلّدهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب دون أهل الكتاب، ويلبسّون بقولهم: إن كان دينه حقا؛ فديننا - أيضا - حق، والطرق إلى الله تعالى متنوعة!، ويشبهون ذلك بمذاهب الأئمة؛ فإنه وإن كان أحد المذاهب راجحا؛ فأهل المذاهب الأخر ليسوا كفاراً.
وهذا القول ظاهر البطلان؛ لأنهم لما صدقوا برسالته؛ لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال: إنه رسول الله إلى الناس عامة، والرسول لا يكذب؛ فلزم تصديقه حتما، وقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الأطراف يدعو إلى الإسلام، ثم مقاتلته
لأهل الكتاب وسبي ذراريهم واستباحة دمائهم وضرب الجزية عليهم أمر معلوم بالتواتر والضرورة؛ فإنه دعا المشركين إلى الإيمان به، ودعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وجاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين؛ فجاهد بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، وأهل خيبر، وهؤلاء كلهم يهود، وسبى ذراريهم ونساءهم وغنم أموالهم، وغزا النصارى عام تبوك بنفسه وبسراياه، حتى قتل في محاربتهم زيد بن حارثة مولاه وجعفر وغيرهما من أهله، وضرب الجزية على نصارى نجران، وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده جاهدوا أهل الكتاب وقاتلوا من قاتلهم وضربوا الجزية على من أعطاهم منهم عن يد وهم صاغرون.
وهذا القرآن - الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى إتباعه، ويكفِّر من لم يتبعه منهم ويلعنه، كما جاء بتكفير من لم يتبعه من المشركين وذمِّه؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ
…
} 1 الآية، وفي القرآن من قوله:{يَا أَهْلَ الْكِتَاب} ، {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} ؛ ما لا يحصى إلا بكلفة، وقال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ
…
} إلى قوله: {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} 2، ومثل هذا في القرآن كثير جدّاً.
وقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 3، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} 4.
واستفاض عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "فضلت على الأنبياء بخمس"، ذكر منها أنه:"وكان يبعث النبي إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"، بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الجن والإنس.
فإذا علم بالاضطرار وبالنقل المتواتر الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته؛
1 سورة النساء، الآية:47.
2 سورة البينة، الآيات: 1 ـ 7.
3 سورة الأعراف، الآية:158.
4 سورة سبأ، الآية:28.
أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه حكم بكفر من لم يؤمن به منهم، وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه، وأنه ضرب الجزية عليهم وقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وغنم أموالهم؛ فحاصر بني قينقاع ثم أجلاهم إلى أذرعات، وحاصر بني النضير ثم أجلاهم إلى خيبر، وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر، ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العقد وقتل رجالهم وسبى حريمهم وأخذ أموالهم، وقد ذكره الله تعالى في سورة الأحزاب، وقاتل أهل خيبر حتى فتحها وقتل من قتل من رجالهم وسبى من سبى من ريمهم وقسم أرضهم على المؤمنين، وقد ذكره الله تعالى في سورة الفتح، وضرب الجزية على النصارى، وفيهم أنزل الله سورة آل عمران، وغزا النصارى عام تبوك، وفيها أنزل الله سورة براءة، وفي عامة السور المدنية مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وغير ذلك من السور المدنية من دعوة أهل الكتاب وخطابهم ما لا يتسع المقام لنشره.
ثم خلفاؤه بعده أبو بكر وعمر ومن معهما من المهاجرين والأنصار، الذين يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له، وأطوعهم لأمره، وأحفظهم بعهده، وقد غزوا الورم كما غزوا فارس، وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس؛ فقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون.
ومن الأحاديث الصحيحة عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي؛ إلا دخل النار"؛ قال سعيد بن جبير: "تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُه} 1، ومعنى الحديث متواتر عنه معلوم بالاضطرار.
فإذا كان الأمر كذلك؛ لزم أنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى كل الطوائف؛ فإنه يقرر بأنه رسول الله إلى أهل الكتاب وغيرهم؛ فإن رسول الله لا يكذب، ولا يقاتل الناس
1 سورة هود، الآية:17.
على طاعته بغير أمر الله، ولا يستحل دماءهم وأموالهم وديارهم بغير إذن الله؛ فمن ادعى أن الله أمره بذلك، ولم يكن أمره؛ كان كاذبا مفتريا ظالما، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} 1، وكان مع كونه ظالما مفتريا من أعظم المريدين علوّاً في الأرض وفساداً، وكان شرّاً من الملوك الجبابرة الظالمين؛ فإن الملوك الجبابرة يقاتلون الناس على طاعتهم، ولا يقولون: إنا رسل الله إليكم، ومن أطاعنا دخل الجنة، ومن عصانا دخل النار، بل فرعون وأمثاله لا يدخلون في مثل هذا، ولا يدخل في هذا إلا نبي صادق أو متنبىء كذاب؛ كمسيلمة والأسود وأمثالهما.
فإذا علم أنه نبي؛ لزم أن يكون ما أخبر به عن الله حقا، وإذا كان رسول الله؛ وجبت طاعته في كل ما يأمر به؛ كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 2، وإذا أخبر أنه رسول الله إلى أهل الكتاب، وأنه تجب عليهم طاعته؛ كان ذلك حقا.
ومن أقر بأنه رسول الله، وأنكر أن يكون مرسلاً إلى أهل الكتاب؛ فهو بمنزلة من يقول: إن موسى كان رسولاً، ولم يكن يجب أن يدخل أرض الشام، ولا يخرج بني إسرائيل من مصر، وإن الله لم يأمره بذلك، وإنه لم يأمره بالسبت، ولا أنزل عليه التوارة، ولا كلمه على الطور، ومن يقول: إن عيسى كان رسول الله، ولم يبعث إلى بني إسرائيل، ولا كان يجب على بني إسرائيل طاعته، وإنه ظلم اليهود
…
وأمثال ذلك من المقالات التي هي أكفر المقالات.
1 سورة الأنعام، الآية:93.
2 سورة النساء، الآية:64.
3 سورة النساء، الآية:150.
3 -
ختم الرسالات ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد ختم الله سبحانه وتعالى النبوة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1، وقال صلى الله عليه وسلم:"أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي"، وذلك يستلزم ختم المرسلين لأن ختم الأعم يستلزم ختم الأخص.
ومعنى ختم النبوة بنبوته عليه الصلاة والسلام: أنه لا تبدأ نبوة ولا تشرع شريعة بعد نبوته وشرعته، وأما نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان؛ فلا ينافي ذلك؛ لأن عيسى عليه السلام إذا نزل؛ إنما يتعبد بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم دون شريعته المتقدمة؛ أنها منسوخة؛ فلا يتعبد بهذه الشريعة أصولاً وفروعا، فيكون خليفة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وحاكما من حكام ملته بين أمته.
فهذا النبي الخاتم للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قد بعث بخير كتاب وأتم شريعة وأفضل ملة وأكل دين، جاء بشريعة كافية لحاجة الخليفة في كل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، وكمل به عقد النبيين؛ فلا نبي بعده.
وفي (الصحيحين) وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"ومثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها؛ إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلون ويعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة"، زاد مسلم:"فجئت فختمت الأنبياء".
وفي (الصحيحين) - أيضا - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه معناه، وفيه:"فجعل الناس يطوفون به ويقولون: هلا وضعت اللبنة. فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين".
وقال صلى الله عليه وسلم: "كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء، لكما هلك نفي خلفه
1 سورة الاحزاب، الآية:40.
نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء"، رواه البخاري.
وعن جابر بن سمرة؛ قال: "رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام"، رواه مسلم.
قال الحافظ في (الفتح) : "قال القرطبي: اتفقت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئا بارزًا أحمر عند كتفه الأيسر، قدره إذا قلل قدر بيضة الحمامة، وإذا كبر جمع اليد1، والله أعلم".
قال العلماء: السر في ذلك أن القلب في تلك الجهة.
قال السهيلي: "وضع خاتم النبوة عند كتفه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع يدخل منه الشيطان".
وقال الحافظ ابن كثير: "فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء المرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده؛ ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده؛ فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل، ولو تخرف وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات؛ فكلها محال وضلال عند أولي الألباب؛ كما أجرى الله تعالى على يد الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله، وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة، حتى يختموا بالمسيح الدجال؛ فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها.
وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه؛ فإنهم بضرورة الواقع [أي: الكذابون] لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر؛ إلا على سبيل الاتقاء، أو
1 يعني: مقدار جمع اليد.
لما لهم من القاصد إلى غيره، ويكونون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم؛ كما قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 1.
وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإنهم في غاية الصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويأمرون به وينهون عنه، مع ما يؤيَّدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات؛ فصلوات الله وسلامه عليهم دائما مستمرًا ما دامت الأرض والسماوات.
وليس الناس بحاجة إلى بعثة نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكمال شريعته، ووفائها بحاجة البشرية.
وماذا عسى أن يقتضي بعثة نبي جديد بعد محمد صلى الله عليه وسلم؟!.
وإن قيل: إن الأمة قد فسدت؛ فالعمل على إصلاحها يحتاج إلى بعثة نبي جديد.
قلنا: هل بعث نبي في الدنيا لمجرد الإصلاح حتى يبعث في هذا الزمان لمجرد هذا الغرض؟!
إن النبي لا يبعث إلا ليوحى إليه، ولا تكون الحاجة إلى الوحي إلا لتبليغ رسالة جديدة، أو إكمال رسالة متقدمة، أو لتطهيرها من شوائب التحريف والتبديل، فلما قضت كل هذه الحاجات إلى الوحي بحفظ القرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم وإكمال الدين على يده صلى الله عليه وسلم؛ فلم تبق الحاجة الآن إلى الأنبياء، وإنما هي إلى المصلحين) . انتهى بتصرف يسير من (الرد على القاديانية) .
وقد أعلن الله ختم النبوات والرسالات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {مَا كَانَ
1سورة الشعراء، الآيتان: 221 ـ 222.
مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} 1.
ومن البدهي الذي لا يقبل الاعتراض أن استمرار بقاء القرآن الحاوي بشرائعه وأحكامه أسس مطالب البشر التشريعية كلها محفوظا كما أنزل على محمد مع استمرار بقاء سيرة الرسول وسنته المبينة لمعاني القرآن صحيحة ثابتة هو بمثابة استمرار وجود الرسول فينا على قيد الحياة.
قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته.
وبذلك؛ فقد أصبح العالم بغنية عن بعث أنبياء وإرسال رسل وتجديد شرائع للناس بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لو بعث الله رسلاً وأنبياء؛ فلن يحدثوا شيئا، ولن يزيدوا على ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من أسس في العقيدة أو في التشريع؛ فقد أكمل الله الدين وأتم الشريعة؛ حيث يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} 3.
وإن كان الغرض من إرسال الرسل هو نشر هذه الرسالة ودعوة الناس إليها؛ فهذه وظيفة علماء المسلمين؛ فعليهم أن يقوموا بتبليغ هذه الدعوة للناس.
فمن ادعى عدم ختم النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أو صدق من يدعي ذلك؛ فهو مرتد عن دين الإسلام، ولهذا؛ حكم الصحابة على من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم بالردة، وقاتلوه هو وأتباعه، وسموهم بالمرتدين، وهذا مما أجمع عليه علماء المسلمين سلفا وخلفا.
1 سورة الأحزاب، الآية:40.
2 سورة النساء، الآية:59.
3 سورة المائدة، الآية:3.
الحكمة في ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وكانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة للنبوات؛ لأنه بعث إلى الناس كافة إلى أن تقوم الساعة؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 1، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 3، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 4.
وإذا كانت رسالته عامة للناس؛ فلا بد أن تكون شريعته كاملة شاملة لمصالح البشر، لا يحتاج معها إلى شريعة أخرى وبعثة نبي آخر؛ كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} 5، وقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 6، وقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} 7.
قال الشيخ أبو الأعلى المودودي في (رده على القاديانية) : "ونحن إذا تتبعناه [أي: القرآن] بغية أن نعرف الأسباب التي لأجلها ظهرت الحاجة إلى إرسال نبي في أمة من أمم الأرض؛ علمنا أن هذه الأسباب أربعة:
1-
كانت هذه الأمة ما جاءها من الله نبي من قبل، ولا كان لتعاليم نبي مبعوث في أمة غيرها أن تصل إليها.
2-
كان قد أرسل إليها نبي من قبل، ولكن كان تعليمه قد انمحى أو لعبث به يد النسيان أو التحريف حتى لم يعد بإمكان الناس أن يتبعوه اتباعا كاملاً صحيحا.
3-
كان قد أرسل إليها نبي من قبل، ولكن تعاليمه ما كانت شاملة لمن يأتي بعده وافية لمتطلبات عصرهم؛ فألحت الحاجة إلى المزيد من الأنبياء
1 سورة سبأ، الآية:28.
2 سورة الأنبياء، الآية:107.
3 سورة الفرقات، الآية:1.
4 سورة الأعراف، الآية:158.
5 سورة المائدة، الآية:3.
6 سورة النحل، الآية:89.
7 سورة المائدة، الآية:48.
لإكمال الدين.
4-
كان قد أرسل إليها نبي، ولكن كانت الحاجة تقتضي أن يرسل معه نبي آخر لتصديقه وتأييده.
وكل سبب من هذه الأسباب الأربعة قد زال بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا حادة للأمة الإسلامية ولا أمة أخرى في العالم إلى أن يرسل إليها نبي جديد بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد تولى القرآن بنفسه بيان أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ولهداية الناس عامة؛ قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 1.
وأيضا مما يدل عليه تاريخ الحضارة في الدنيا أن الظروف في العالم ما زالت منذ بعثته صلى الله عليه وسلم ولا تزال مهيأة بحيث من الممكن أن تصل دعوته إلى كل صقع من أصقاع العالم، وإلى كل أمة من أممة؛ فلا حاجة بعد ذلك إلى نبي جديد إلى أمة من أمم الدنيا أو صقع من أصقاعها؛ فذلك قد زال السبب الأول.
ومما يشهد به القرآن كذلك، تؤيده عليه ذخيرة كتب الحديث والسيرة أن التعليم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال حيا محفوظا على صورته الحقيقة، ولم تلعب به يد النسيان ولا التحريف والتبديل، وأما الكتاب الذي جاء به؛ فما وقع التحريف ولا النقص ولا الزيادة في أي حرف من أحرفه، ولا من الممكن أن يقع إلى يوم القيامة، وأما الهداية التي أعطاها للناس بأقواله وأفعاله؛ فإننا نجد آثارها ختى اليوم حية مصونة كأننا أمام شخصه صلى الله عليه وسلم وفي زمانه؛ فبذلك قد زال السبب الثاني.
ثم إن القرآن ليصرح كذلك بأن الله تعالى قد أكمل دينه بواسطة محمد
1 سورة الأعراف، الآية:158.