الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين ظهراني وضوئه
…
فذكره.
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الأذان وأذكاره
ثبت عنه أنَّه سَنَّ التَّأذين بترجيعٍ وغير ترجيعٍ، وشرع الإقامة مثنى وفُرادى، ولكنَّ الذي صحَّ عنه تثنية كلمة الإقامة «قد قامت الصَّلاة» ، ولم يصحَّ عنه إفرادها البتَّة. وكذلك الذي صحَّ عنه تكرار لفظ التَّكبير في أوَّل الأذان، ولم يصحَّ عنه الاقتصار على مرَّتين. وأمَّا حديث «أمر بلال أن يَشْفَع الأذان ويُوتِر الإقامة»
(1)
فلا ينافي الشَّفع بأربعٍ، وقد صحَّ التَّربيع صريحًا في حديث عبد الله بن زيدٍ، وعمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما، وأبي محذورة.
وأمَّا إفراد الإقامة فقد صحَّ عن ابن عمر استثناء كلمة الإقامة، فقال:«إنَّما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّتين مرَّتين، والإقامة مرَّةً مرَّةً، غيرأنَّه يقول: قد قامت الصَّلاة، قد قامت الصَّلاة»
(2)
. وفي «صحيح البخاريِّ»
(3)
عن أنس: «أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة
(4)
إلا
(1)
رواه البخاري (603) ومسلم (378/ 3) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد (5569) وأبو داود (510) من حديث ابن عمر- رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (374) ابن حبان (1674) والحاكم (1/ 197) والنووي في «المجموع» (3/ 95)، وحسنه الألباني في «صحيح أبي داود- الأم» (2/ 437).
(3)
برقم (605)، ورواه أيضًا مسلم (378/ 2).
(4)
سقطت سبعة أسطر «فلا ينافي
…
ويوتر الإقامة» من ك.
الإقامة
(1)
». وصحَّ في حديث عبد الله بن زيدٍ وعمر في الإقامة «قد قامت الصَّلاة قد قامت الصَّلاة»
(2)
. وصحَّ من حديث أبي محذورة تثنية كلمة الإقامة مع سائر كلمات الأذان.
وكلُّ هذه الوجوه جائزةٌ مُجزِئةٌ لا كراهة فيها، وإن كان بعضُها أفضلَ من بعضٍ، فالإمام أحمد أخذ بأذان بلال وإقامته، والشَّافعيُّ أخذ بأذان أبي محذورة وإقامة بلال، وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، ومالك أخذ بما رأى عليه عمل أهل المدينة من الاقتصار على التَّكبير في الأذان مرَّتين، وعلى كلمة الإقامة مرَّةً واحدةً، ورضي الله عنهم كلِّهم
(3)
، فإنَّهم اجتهدوا في متابعة السنَّة.
فصل
وأمَّا هديه في الذِّكر عند الأذان وبعده، فشرع لأمَّته منه خمسة أنواعٍ:
أحدها: أن يقول السَّامع كما يقول المؤذِّن، إلا في لفظ «حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح» ، فإنَّه صحَّ عنه إبدالهما بـ «لا حول ولا قوَّة إلا بالله»
(4)
، ولم يجئ عنه الجمعُ بينها
(5)
وبين «حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على
(1)
«إلا الإقامة» ليست في ص.
(2)
رواه أحمد (16478) وأبو داود (499)، وصححه ابن حبان (1679)، وحسنه الألباني في «الإرواء» (1/ 265).
(3)
في المطبوع: «رحمهم الله كلهم» . والمثبت من النسخ.
(4)
رواه مسلم (385) من حديث عمر رضي الله عنه.
(5)
ص، ك:«بينهما» .
الفلاح» ولا الاقتصارُ على الحيعلة، وهديه الذي صحَّ عنه إبدالُها بالحوقلة. وهذا مقتضى الحكمة المطابقة لحال المؤذِّن والسَّامع، فإنَّ كلمات الأذان ذكرٌ، فسنَّ للسَّامع أن يقولها، وكلمتا الحيعلة دعاءٌ إلى الصَّلاة لمن سمعه، فسنَّ للسَّامع أن
(1)
يستعين على هذه الدَّعوة بكلمة الإعانة، وهي «لا حول ولا قوَّة إلا بالله» .
الثَّاني: أن يقول: «رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ رسولًا» ، وأخبر أنَّ من قال ذلك غُفِر له ذنبه
(2)
.
الثَّالث: أن يصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من إجابة المؤذِّن، وأكملُ ما يُصلَّى عليه كما علَّمه أمَّته أن يصلُّوا عليه، فلا صلاةَ عليه أكملُ منها، وإن تحذلقَ المتحذلقون.
الرَّابع: أن يقول بعد صلاته عليه: «اللَّهمَّ ربَّ هذه الدَّعوة التَّامَّة، والصَّلاة القائمة، آتِ محمَّدًا الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثْه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه، إنَّك لا تُخلِف الميعاد»
(3)
. هكذا بهذا اللَّفظ بلا ألفٍ ولامٍ، هكذا
(1)
«يقولها
…
للسامع أن» ساقطة من ك.
(2)
رواه مسلم (386) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(3)
رواه البيهقي (1/ 410) بهذه الزيادة: «إنك لا تخلف الميعاد» من حديث جابر- رضي الله عنه، وجاء عند البخاري (614) وغيره من حديث جابر رضي الله عنه بدون هذه الزيادة، وقد اختلف في هذه الزيادة هل هي مقبولة أو شاذة؟ ذهب إلى الأول عبد العزيز ابن باز في «تحفة الأخيار» (ص 38)، وإلى الثاني الألباني في «الإرواء» (1/ 260).
صحَّ عنه
(1)
.
الخامس: أن يدعو لنفسه بعد ذلك، ويسأل الله من فضله، فإنَّه يُستجاب له، كما في «السُّنن»
(2)
عنه صلى الله عليه وسلم: «قلُ كما يقولون ــ يعني المؤذِّنين ــ فإذا انتهيتَ فسَلْ تُعْطَه» .
وذكر الإمام أحمد
(3)
وقالت أم سلمة: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب: «اللَّهمَّ هذا إقبالُ ليلِك، وإدبارُ نهارِك، وأصواتُ دعاتِك، فاغفر لي» . ذكره الترمذي
(4)
.
(1)
وردت هذه اللفظة بالتنكير عند البخاري وغيره، ووردت بالتعريف عند النسائي (680) وابن خزيمة (420) وابن حبان (1689)، ورجح ابن القيم والألباني رواية التنكير. انظر:«بدائع الفوائد» (4/ 1486 - 1488) و «صحيح أبي داود - الأم» (3/ 27).
(2)
رواه أبو داود (524) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (1695) والألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (3/ 19)، وحسَّنه ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 368).
(3)
برقم (14619)، وفي إسناده لين.
(4)
برقم (3589) وضعفه، حيث قال:«هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه، وحفصة بنت أبي كثير لا نعرفها ولا أباها» .
وذكر الحاكم في «المستدرك»
(1)
من حديث أبي أمامة يرفعه: أنَّه كان إذا سمع الأذان قال: «اللَّهمَّ ربَّ هذه الدَّعوة التَّامَّة
(2)
المستجابة المستجاب لها، دعوة الحقِّ وكلمة التَّقوى، توفَّني عليها وأَحيِني عليها، واجعلني من صالحِ أهلها عملًا يوم القيامة». وذكره البيهقي
(3)
من حديث ابن عمر موقوفًا
(4)
عليه.
وذُكِر عنه أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند كلمة الإقامة: «أقامَها الله وأدامَها»
(5)
.
وفي «السُّنن»
(6)
عنه: «الدُّعاء لا يُرَدُّ بين الأذان والإقامة» ، قالوا: فما نقول يا رسول اللَّه؟ قال: «سَلوا
(7)
الله العافية في الدُّنيا والآخرة». حديثٌ صحيحٌ.
وفيها
(8)
عنه: «ساعتان تُفتح فيهما أبواب السَّماء، وقلَّما تُرَدُّ على داعٍ
(1)
(1/ 546)، في إسناده عُفير بن معدان، قال ابن حجر في «التقريب»:«ضعيف» .
(2)
«التامة» ليست في ص، ك، ج.
(3)
في «السنن الكبرى» (1/ 411).
(4)
«من صالح
…
موقوفًا» ساقطة من ق.
(5)
رواه أبو داود (528) في سنده راوٍ مبهم، وأيضًا شهر بن حوشب ومحمد بن ثابت العبدي متكلم فيهما. انظر:«الإرواء» (1/ 258) و «ضعيف أبي داود - الأم» (1/ 189).
(6)
رواه أحمد (12200) والترمذي (3594) من حديث أنس- رضي الله عنه، والحديث صحيح دون قوله:«سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة» . انظر: «تخريج الكلم الطيب» (ص 97) و «الإرواء» (1/ 262).
(7)
ص: «اسألوا» .
(8)
رواه أبو داود (2540) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما مرفوعًا، وصححه ابن حبان (1720) والألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (1/ 225).
دعوتُه: عند حضور النِّداء، والصَّفِّ في سبيل اللَّه».
وقد تقدَّم هديُه في أذكار الصلوات مفصَّلًا والأذكار بعد انقضائها، والأذكار في العيدين والجنائز والكسوف، وأنَّه أمر في الكسوف بالفزع إلى ذكر الله، وأنَّه كان يسبِّح في صلاتها قائمًا رافعًا يديه، يهلِّل ويكبِّر ويحمد ويدعو حتَّى حُسِر عن الشَّمس.
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم يُكثِر الدُّعاء
(1)
في عشر ذي الحجَّة، ويأمر فيه بالإكثار من التَّهليل والتَّكبير والتحميد
(2)
.
ويُذكر عنه أنَّه كان يكبِّر من صلاة الفجر يومَ عرفة إلى العصر من آخر أيَّام التَّشريق، فيقول:«اللَّه أكبر الله أكبر، لا إله إلا اللَّه، والله أكبر الله أكبر، وللَّه الحمد»
(3)
. وهذا وإن كان لا يصحُّ إسناده فالعمل عليه، ولفظه هكذا بشَفْعِ التَّكبير، وأمَّا كونُه ثلاثًا فإنَّما رُوي عن جابر وابن عبَّاسٍ فعلُهما ثلاثًا نَسقًا فقط
(4)
، وكلاهما حسنٌ.
قال الشافعيُّ
(5)
: وإن زاد فقال: «الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا،
(1)
ص، ج:«الذكر» .
(2)
رواه البخاري (969) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
رواه الدارقطني (1737) من حديث جابر مرفوعًا، وفي إسناده عمرو بن شمر وجابر الجعفي متكلم فيهما. انظر:«الإرواء» (3/ 124 - 126).
(4)
رواه الدارقطني (1745، 1746).
(5)
في «الأم» (2/ 520 - 521).
وسبحان الله بكرةً وأصيلًا، لا إله إلا اللَّه، ولا نعبد إلا إيَّاه، مخلصين له الدِّين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدَقَ وعدَه، ونَصرَ عبدَه، وهَزَم الأحزابَ وحده، لا إله إلا الله والله أكبر» = كان حسنًا.
فصل
في هديه في الذِّكر عند رؤية الهلال
يُذكر عنه أنَّه كان يقول: «اللَّهمَّ أَهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسَّلامة والإسلام، ربِّي وربُّك اللَّه» . قال الترمذي
(1)
: حديثٌ حسنٌ.
ويُذكر عنه أنَّه كان يقول عند رؤيته: «اللَّه أكبر، اللَّهمَّ أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسَّلامة والإسلام
(2)
، والتَّوفيق لما تحبُّ وترضى، ربُّنا وربُّك اللَّه». ذكره الدارمي
(3)
.
وذكر أبو داود
(4)
عن قتادة أنَّه بلغه أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: «هلالُ خيرٍ ورشدٍ، هلال خيرٍ ورشدٍ
(5)
، آمنتُ بالَّذي خلقك» ثلاث مرَّاتٍ، ثمَّ يقول:«الحمد لله الذي ذهبَ بشهر كذا، وجاء بشهر كذا» . وفي أسانيدها لينٌ.
(1)
برقم (3451) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وحسنه، وصححه لشواهده الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1816).
(2)
«ربي وربك
…
والسلامة والإسلام» ساقطة من ك بسبب انتقال النظر.
(3)
برقم (1729)، والحديث صححه لشواهده الألباني في «تخريج الكلم الطيب» (ص 139).
(4)
برقم (5092)، وهو مرسل. انظر:«السلسلة الضعيفة» (3506).
(5)
«هلال خير ورشد» الثانية ساقطة من ق، ك.
يُذكر عن أبي داود
(1)
ــ وهو في بعض نسخ «سننه» ــ أنَّه قال: ليس في هذا الباب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثٌ مسندٌ صحيحٌ.
فصل
في هديه في أذكار الطَّعام قبله وبعده
كان إذا وضع يده في الطَّعام قال: «بسم الله» ، ويأمر الآكل بالتَّسمية ويقول:«إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوَّله فليقل: بسم الله في أوَّله وآخره»
(2)
. حديثٌ صحيحٌ.
والصَّحيح وجوب التَّسمية عند الأكل، وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد، وأحاديث الأمر بها صحيحةٌ صريحةٌ
(3)
لا معارِضَ لها، ولا إجماع يُسوِّغ مخالفَها
(4)
ويُخرِجها عن ظاهرها، وتاركُها شريك الشَّيطان في طعامه وشرابه
(5)
.
فصل
وهاهنا مسألةٌ تدعو الحاجة إليها، وهي أنَّ الآكلين إذا كانوا جماعةً،
(1)
بعد حديث (5093).
(2)
رواه أحمد (25733) وأبو داود (3767) والترمذي (1858) من حديث عائشة رضي الله عنها.، والحديث صححه الترمذي والمصنف والألباني في «الإرواء» (7/ 24).
(3)
كقول النبي لعمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما: «يا غلام، سَمِّ الله وكلْ بيمينك، وكلْ مما يليك» ، رواه البخاري (5376) ومسلم (2022/ 108).
(4)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «مخالفتها» . وليس في ج: «يسوغ مخالفها» .
(5)
«ويخرجها
…
وشرابه» ساقطة من ق.
فسمَّى أحدهم، هل تزول مشاركة الشَّيطان لهم في طعامهم بتسميته وحده، أم لا تزول إلا بتسمية الجميع؟ فنصَّ الشافعيُّ على إجزاء تسمية الواحد عن الباقين، وجعله أصحابه كردِّ السلام وتشميت العاطس.
وقد يقال: لا ترتفع مشاركة الشَّيطان للآكل إلا بتسميته هو، ولا يكفيه تسمية غيره، ولهذا في حديث حذيفة: إنَّا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا، فجاءت جاريةٌ كأنَّها تُدفَع، فذهبتْ لتضع يدها في الطَّعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثمَّ جاء أعرابيٌّ فأخذ بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّيطان يستحلُّ الطَّعامَ أن لا يُذكَر اسم الله عليه، وإنَّه جاء بهذه الجارية ليستحلَّ
(1)
بها، فأخذتُ بيدها، فجاء بهذا الأعرابيِّ ليستحلَّ به فأخذتُ بيده، والَّذي نفسي بيده إنَّ يده لفي
(2)
يدي مع يديهما»، ثمَّ ذكر اسم الله وأكل
(3)
. ولو كانت تسمية الواحد تكفي لما وضعَ الشَّيطانُ يدَه في ذلك الطَّعام.
ولكن قد يُجاب عن هذا بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن وضع يدَه وسمَّى بعدُ، ولكنَّ الجارية ابتدأت بالوضع بغير تسميةٍ، وكذلك الأعرابيُّ، فشاركَهما الشَّيطان، فمن أين لكم أنَّ الشَّيطان يشارك من لم يُسمِّ بعد تسمية غيره؟ فهذا ممَّا يمكن أن يقال، لكن قد روى الترمذي
(4)
وصحَّحه من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعامًا في ستَّةٍ من أصحابه، فجاء أعرابيٌّ فأكله
(1)
ص، ك، ج:«يستحل» .
(2)
ج: «في» .
(3)
رواه مسلم (2017/ 102) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(4)
برقم (1858) من حديث عائشة رضي الله عنها وصححه، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل» (ص 107).
بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَمَا إنَّه لو سمَّى لكفاكم» . ومن المعلوم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولئك الستَّة سَمَّوا، فلمَّا جاء هذا الأعرابيُّ فأكل ولم يُسَمِّ، شاركه الشَّيطان في أكله، فأكل الطَّعام بلقمتين، ولو سَمَّى لكفى الجميعَ.
وأمَّا مسألة ردِّ السَّلام وتشميت العاطس ففيهما نظرٌ، وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إذا عطسَ أحدكم، فحمِدَ اللَّه، فحقٌّ على كلِّ من
(1)
سمعه أن يُشمِّته»
(2)
. وإن سُلِّم الحكم فيهما فالفرق بينهما وبين مسألة الأكل ظاهرٌ، فإنَّ الشَّيطان إنَّما يتوصَّل إلى مشاركة الآكل في أكله إذا لم يُسمِّ، فإذا سمَّى غيرُه لم تُجزِه تسميةُ من لم يُسمِّ من مقارنة الشَّيطان
(3)
له
(4)
فيأكل معه، بل تَقِلُّ مشاركة الشياطين بتسمية بعضهم، وتبقى الشَّركة بين من لم يُسمِّ وبينهم، والله أعلم.
ويُذكر عن جابر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَن نسي أن يُسمِّي على طعامه فليقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إذا فرغ» . وفي ثبوت هذا الحديث نظرٌ
(5)
.
وكان إذا رُفِع الطَّعام من بين يديه يقول: «الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، غيرَ مَكْفِيٍّ ولا مُوَدَّعٍ ولا مُستغنًى عنه ربُّنا عز وجل» . ذكره
(1)
ص: «كل مسلم» .
(2)
رواه البخاري (6223) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
ص، ج:«شيطانه» .
(4)
«إذا لم يسم
…
الشيطان له» ساقطة من ك.
(5)
رواه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (460) وأبو نعيم في «الحلية» (10/ 114)، وفي إسناده حمزة النصيبي، قال ابن عدي في «الكامل» (3/ 262):«يضع الحديث» .
البخاريُّ
(1)
.
وربَّما كان يقول: «الحمد لله الذي أطعمَنا وسَقانا وجعلنا مسلمين»
(2)
.
وكان يقول: «الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوَّغه وجعلَ له مخرجًا»
(3)
.
وذكر البخاريُّ
(4)
عنه أنَّه كان يقول: «الحمد لله الذي كفانا وآوانا
(5)
».
وذكر الترمذي
(6)
عنه أنَّه قال: «من أكل طعامًا فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا من غير حولٍ منِّي ولا قوَّةٍ، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه» . حديثٌ حسنٌ.
ويُذكَر
(7)
عنه أنَّه كان إذا قُرِّب إليه الطَّعام قال: «بسم اللَّه» ، فإذا فرغ من
(1)
برقم (5458) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد (11276) والترمذي (3457) من حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه، وضعفه الألباني في «تخريج الكلم الطيب» (ص 152).
(3)
رواه أبو داود (3851) من حديث أبي أيوب- رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5220) والألباني في «السلسلة الصحيحة» (2061)
(4)
برقم (5459) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
(5)
كذا في الأصول، ولفظ البخاري:«وأَرْوَانا غيرَ مَكفيٍّ ولا مَكفُور» . وأما «كفانا وآوانا» فورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه، وقد سبق (1/ 158).
(6)
برقم (3458)، وأحمد (15632) وابن ماجه (3285) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه. وحسنه الترمذي والألباني في «الإرواء» (7/ 48)، وصححه الحاكم (1/ 507).
(7)
رواه أحمد (16595) والنسائي في «السنن الكبرى» (6871) من حديث رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم، وحسنه النووي في «الأذكار» (ص 236)، وصححه المصنف وابن حجر في «الفتح» (9/ 719) والألباني في «السلسلة الصحيحة» (71).
طعامه قال: «اللَّهمَّ أطعمتَ وسَقيتَ، وأغنيتَ وأقنيتَ، وهديتَ وأحييتَ، فلك الحمد على ما أعطيتَ» . وإسناده صحيحٌ.
وفي «السُّنن»
(1)
عنه أنَّه كان يقول إذا فرغ: «الحمد لله الذي مَنَّ علينا وهدانا، والَّذي أشبعنا وأروانا، وكلَّ الإحسان آتانا» . حديثٌ حسنٌ.
وفي «السُّنن»
(2)
عنه أيضًا: «إذا أكل أحدكم طعامًا فليقل: اللَّهمَّ بارِكْ لنا فيه وأطعِمْنا خيرًا منه. ومن سقاه الله لبنًا فليقل
(3)
: اللَّهمَّ بارِكْ لنا فيه
(4)
وزِدْنا منه»
(5)
. حديثٌ حسنٌ.
ويُذكر عنه أنَّه كان إذا شرب في الإناء تنفَّسَ ثلاثة أنفاسٍ، يحمد الله في كلِّ نفسٍ، ويشكره في آخرهنَّ
(6)
.
(1)
لم أجده في «السنن» ، ورواه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (466) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي إسناده محمد بن أبي الزعيزعة، قال البخاري في «التاريخ الكبير» (244) فيه:«منكر الحديث جدًّا» .
(2)
رواه الترمذي (3451)، وأحمد (1978)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، إسناده ضعيف، ولكن له طرق يتقوى بها، والحديث حسنه الترمذي والألباني. انظر:«السلسلة الصحيحة» (2320).
(3)
«فليقل» ليست في ص.
(4)
«وأطعمنا
…
لنا فيه» ساقطة من ك، ب.
(5)
بعدها في المطبوع زيادة: «فإنه ليس شيء يجزئ عن الطعام والشراب غير اللبن» وليست في النسخ.
(6)
رواه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (471)، وفي إسناده المعلى بن عرفان، قال البخاري في «التاريخ الكبير» (1725) فيه:«منكر الحديث» ، وأعله به الألباني في «السلسلة الضعيفة» (4203).
فصل
وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على أهله ربَّما سألهم: هل عندهم
(1)
طعامٌ؟
(2)
وما عاب طعامًا قطُّ، بل كان إذا اشتهاه أكله، وإن كرهه تركَه وسكت
(3)
. وربَّما قال: «أجِدُني أَعافُه، إنِّي لا أشتهيه»
(4)
.
وكان يمدح الطَّعام أحيانًا، كقوله لمَّا سأل أهله عن الأُدْم، فقالوا: ما عندنا إلا خلٌّ، فجعل يأكل منه ويقول:«نعمَ الأُدْم الخلُّ»
(5)
. وليس في هذا تفضيلٌ
(6)
له على اللَّبن واللَّحم والعسل والمَرَق، وإنَّما هو مدحٌ له في تلك الحال الَّتي حضر فيها، ولو حضر
(7)
لحمٌ أو لبنٌ لكان أولى بالمدح منه، فقال هذا جبرًا وتطييبًا لقلب من قدَّمه، لا تفضيلًا له على سائر أنواع الأُدْم
(8)
.
وكان إذا قُرِّب إليه طعامٌ وهو صائمٌ قال: «إنِّي صائمٌ»
(9)
، وأمر من قرِّب إليه الطَّعام وهو صائمٌ أن يصلِّي أي يدعو لمن قدَّمه، وإن كان مفطرًا أن يأكل
(1)
ب، مب:«عندكم» . والمثبت من بقية النسخ.
(2)
رواه مسلم (1076) من حديث أم عطية رضي الله عنها. وقد تقدم.
(3)
رواه البخاري (5409) ومسلم (2064/ 187) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (5537) ومسلم (1945) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
رواه مسلم (2052/ 166) من حديث جابر رضي الله عنه.
(6)
ج: «تفضيلا» .
(7)
ص: «حضر فيها» .
(8)
ق: «الإدام» .
(9)
رواه البخاري (1982) من حديث أنس رضي الله عنه.
منه
(1)
.
وكان إذا دُعي لطعامٍ وتبعه أحدٌ أعلمَ به ربَّ المنزل وقال: «إنَّ هذا تَبِعنا، فإن شئتَ أن تأذنَ له وإن شئتَ رَجَع»
(2)
.
وكان يتحدَّث على طعامه كما تقدَّم في حديث الخلِّ، وكما قال لربيبه وهو يؤاكله: «سَمِّ الله
(3)
، وكلْ ممَّا يليك»
(4)
.
وربَّما كان يكرِّر على أضيافه عرْضَ الأكل عليهم مرارًا، كما يفعله أهل الكرم، كما في حديث أبي هريرة
(5)
في قصَّة شرب اللَّبن، وقوله له مرارًا:«اشرَبْ» ، فما زال يقول «اشرَبْ» حتَّى قال: والَّذي بعثك بالحقِّ لا أجدُ له مسلكًا.
وكان إذا أكل عند قومٍ لم يخرج حتَّى يدعو لهم، فدعا في منزل عبد الله بن بُسْرٍ
(6)
، فقال:«اللَّهمَّ بارِكْ لهم فيما رزقتَهم، واغفرْ لهم وارحَمْهم» . ذكره مسلم
(7)
.
ودَعا في منزل سعد بن عُبادة فقال: «أفطر عندكم الصَّائمون، وأكل
(1)
رواه مسلم (1431) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (5434) ومسلم (2036/ 138) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
(3)
بعدها في ج: «وكل بيمينك» . وليست في بقية النسخ.
(4)
رواه البخاري (5376) ومسلم (2022/ 108). وقد تقدم.
(5)
رواه البخاري (6452).
(6)
ق، ك، ب:«بشر» ، مصحفًا.
(7)
برقم (2042) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
طعامَكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة»
(1)
. وذكر أبو داود
(2)
عنه أنَّه لمَّا دعاه أبو الهيثم بن التَّيهان هو وأصحابه فأكلوا، فلمَّا فرغوا قال:«أَثِيبوا أخاكم» ، قالوا
(3)
: يا رسول الله، وما إثابته؟ قال:«إنَّ الرَّجل إذا دُخِل بيتُه فأُكِل طعامُه وشُرِب شرابه فدَعَوا له، فذلك إثابتُه» .
وصحَّ عنه أنَّه دخل منزله ليلةً، فالتمس طعامًا فلم يجده، فقال:«اللَّهمَّ أطعِمْ من أطعَمَني، واسْقِ من سقاني»
(4)
.
وذُكِر عنه أنَّ عمرو بن الحَمِق
(5)
سقاه لبنًا فقال: «اللَّهمَّ أمتِعْه بشبابه» ، فمرَّت عليه ثمانون سنةً لم يَرَ شعرةً بيضاء
(6)
.
وكان يدعو لمن يُضيف المساكين، ويُثني عليهم، فقال مرَّةً:«ألا رجلٌ يضيف هذا رحمه الله!» ، وقال للأنصاريِّ وامرأته اللَّذين آثرا بقُوْتِهما وقُوْتِ
(1)
رواه أبو داود (3854) من حديث أنس- رضي الله عنه، وصححه النووي في «الأذكار» (ص 191) وابن الملقن في «البدر المنير» (8/ 29) وابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/ 199).
(2)
برقم (3853) من حديث جابر- رضي الله عنه، وفي إسناده يزيد الدالاني ضعيف عن رجل لم يسم، وانظر:«تخريج الكلم الطيب» (ص 154) و «السلسلة الضعيفة» (1928).
(3)
ص، ج:«قال» .
(4)
رواه مسلم (2055) من حديث المقداد رضي الله عنه.
(5)
مكان «الحمق» بياض في ق، ك، ب، مب.
(6)
رواه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (475) من حديث عمرو بن الحمق- رضي الله عنه، وفي سنده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك كما في «التقريب» (368).
صبيانهما ضيفَهما: «لقد عجِبَ الله من صنيعكما بضيفكما اللَّيلَة»
(1)
.
وكان لا يأنف من مؤاكلة أحدٍ صغيرًا كان أو كبيرًا، حرًّا أو عبدًا، أعرابيًّا أو مهاجرًا، حتَّى لقد روى أصحاب السُّنن
(2)
عنه أنَّه أخذ بيدِ مجذومٍ، فوضعها معه في القَصْعة وقال:«كُلْ بسم الله، ثقةً باللَّه، وتوكُّلًا عليه» .
وكان يأمر بالأكل باليمين وينهى عن الأكل بالشِّمال، ويقول:«إنَّ الشَّيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»
(3)
. ومقتضى هذا تحريمُ الأكل بها، وهو الصَّحيح، فإنَّ الآكل بها إمَّا شيطانٌ وإمَّا مشبَّهٌ بالشيطان. وصحَّ عنه أنَّه قال لرجلٍ أكلَ عنده بشماله:«كلْ بيمينك» ، فقال: لا أستطيع، فقال:«لا استطعتَ» ، فما رفع يده إلى فيه بعدها
(4)
. فلو كان ذلك جائزًا لما دعا عليه بفعله، وإن كان كِبْره
(5)
قد حمَلَه على ترك امتثال الأمر فذلك أبلغ في العصيان واستحقاقِ الدُّعاء عليه.
وأمر من شَكَا إليه أنَّهم لا يَشْبَعون أن يجتمعوا على طعامهم ولا يتفرَّقوا، وأن يذكروا اسم الله عليه، يُباركْ لهم فيه
(6)
.
(1)
رواه البخاري (4889) ومسلم (2054/ 172) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه أبو داود (3925) والترمذي (1817) وابن ماجه (3542)، وفي إسناده مفضل بن فضالة أبو مالك البصري متكلم فيه. انظر:«تهذيب الكمال» (28/ 413).
(3)
رواه مسلم (2020/ 105) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
رواه مسلم (2021) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(5)
ص، ج:«الكبر» .
(6)
رواه أبو داود (3764) وابن ماجه (3286) من حديث وحشي بن حرب رضي الله عنه، والحديث حسن. انظر:«السلسلة الصحيحة» (664).
وصحَّ عنه أنَّه قال: «إنَّ الله ليرضى عن العبد يأكل الأَكْلَة يَحْمده عليها، ويشرب الشَّربةَ يحمده
(1)
عليها»
(2)
.
ورُوِي عنه أنَّه قال: «أَذِيبوا طعامَكم بذكر الله عز وجل والصَّلاة، ولا تناموا عليه فتَقْسُوَ قلوبُكم»
(3)
. وأَحْرِ
(4)
بهذا الحديث أن يكون صحيحًا، والواقع في التَّجربة يشهد به.
فصل
في هديه في السَّلام والاستئذان وتشميت العاطس
ثبت عنه في «الصَّحيحين»
(5)
(6)
أنَّ أفضل الإسلام وخيرَه إطعامُ الطَّعام، وأن تقرأ
(7)
السَّلامَ على من عرفتَ ومَن لم تَعرِفْ
(8)
.
(1)
ص: «فيحمده» .
(2)
رواه مسلم (2734) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
رواه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (488)، وفي إسناده بزيع أبو الخليل، قال ابن طاهر المقدسي في «تذكرة الحفاظ»:«يروي الموضوعات عن الثقات» ، والحديث ذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 69) والسيوطي في «اللآلئ المصنوعة» (2/ 215) والشوكاني في «الفوائد المجموعة» (ص 156) والألباني في «السلسلة الضعيفة» (115).
(4)
ب، مب:«وأحرى» .
(5)
رواه البخاري (28) ومسلم (39) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(6)
بعدها في المطبوع: «عن أبي هريرة» . وهو خطأ. وليس الحديث عنه.
(7)
ص، ج، م:«يقرأ» .
(8)
ص، ج:«على من عرف ومن لم يعرف» .
وفيهما
(1)
أنَّ آدم لمَّا خلقه الله قال له: اذهَبْ إلى أولئك النَّفر من الملائكة، فسَلِّم عليهم، واستمِعْ ما يُحيُّونك، فإنَّها تحيَّتك وتحيَّة ذرِّيَّتك، فقال: السَّلام عليكم، فقالوا: السَّلام عليك ورحمة اللَّه، فزادوه «ورحمة اللَّه»
(2)
.
وفيهما أنَّه أمر بإفشاء السَّلام، وأخبرهم
(3)
أنَّهم إذا أفْشَوا السَّلام بينهم تَحابُّوا، وأنَّهم لا يدخلون الجنَّة حتَّى يؤمنوا، ولا يؤمنون حتَّى يتحابُّوا
(4)
.
وقال البخاريُّ في «صحيحه»
(5)
قال عمار: ثلاثٌ من جمعَهنَّ فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السَّلام للعالم، والإنفاق من الإقتار.
وقد تضمَّنت هذه الكلمات أصولَ الخير وفروعَه، فإنَّ الإنصاف يوجب عليه أداءَ حقوق الله كاملةً موفَّرةً، وأداء حقوق النَّاس كذلك، وأن لا يطالبهم بما ليس له، ولا يُحمِّلهم فوقَ وُسْعهم، ويعاملهم بما يحبُّ أن يعاملوه به، ويُعفِيهم ممَّا يحبُّ أن يُعْفُوه منه، ويحكم لهم وعليهم بما يحكم به لنفسه
(1)
البخاري (3326) ومسلم (2841) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
«فزادوه ورحمة الله» ليست في ك.
(3)
ق، ص:«وأخبر» .
(4)
رواه مسلم (54) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
معلقًا بصيغة الجزم (1/ 82)، ووصله ابن أبي شيبة (31080). والأثر صححه ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (7/ 225) وابن حجر في «تغليق التعليق» (2/ 38) والألباني في «تخريج الكلم الطيب» (ص 155) و «مختصر صحيح البخاري» (1/ 27).
وعليها، ويدخل في هذا إنصافه نفسه من نفسه، فلا يدَّعي لها ما ليس لها، ولا يُخفيها
(1)
بتَدْسِيَتِه لها، وتصغيرِه إيَّاها، وتحقيرِها بمعاصي الله، ويُنمِّيها ويُكبِّرها ويَرفَعُها بطاعة الله وتوحيده، وحبِّه وخوفه ورجائه، والتَّوكُّل عليه والإنابة إليه
(2)
، وإيثارِ مَراضِيه ومَحابِّه على مَراضي الخلقِ ومَحابِّهم، ولا يكون بها مع الخلق ولا مع الله، بل يَعزِلُها من البين
(3)
كما عَزَلَها اللَّه، ويكون بالله لا بنفسه في حبِّه وبغضه، وعطائه ومنعه، وكلامه وسكوته، ومدخله ومخرجه، فيُنْجِي نفسَه من البين، ولا يرى لها مكانةً يعمل عليها
(4)
، فيكون ممَّن ذمَّهم الله بقوله:{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135].
فالعبد المحض ليس له مكانةٌ يعمل عليها، فإنَّه يستحقُّ المنافع
(5)
والأعمال لسيِّده، ونفسه مِلْكٌ له، فهو عاملٌ على أن يؤدِّي إلى سيِّده ما هو مستحقٌّ له عليه
(6)
، ليس له مكانةٌ أصلًا، بل قد كُوتِب على حقوقٍ مُنَجَّمةٍ، كلَّما أدَّى نَجْمًا حلَّ عليه نجمٌ آخر، ولا يزال المُكاتَب عبدًا ما بقيَ عليه شيءٌ من نجوم الكتابة.
والمقصود أنَّ إنصافه من نفسه يُوجِب عليه معرفةَ ربِّه وحقِّه عليه، ومعرفةَ نفسِه وما خُلِقَتْ له، وأن لا يزاحمَ بها مالكها وفاطرها، ويدَّعيَ لها
(1)
ج: «يخيبها» .
(2)
«وحبه
…
إليه» ليست في ق، ب، ك، م، مب. والمثبت من بقية النسخ.
(3)
ك: «البغي» هنا وفيما يأتي.
(4)
«عليها» ليست في ك.
(5)
ك: «مستحق للمنافع» .
(6)
ص، ج:«عليه له» .
الملكة والاستحقاق، ويزاحمَ مرادَ سيِّده منه بمراده هو ويدفعَه به، أو يُقدِّمه ويُؤثِره عليه، أو يَقسِم إرادتَه بين مراد سيِّده ومراده، وهو قِسْمةٌ ضِيْزى، أو مثل قسمة الذين قالوا:{هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136].
فلينظرِ العبدُ لا يكون من أهل هذه القسمة بين نفسه وشركائه وبين الله، ولجهله وظلمِه واللَّبْسِ عليه لا يَشعُر، فإنَّ الإنسان خُلِق ظلومًا جهولًا، وكيف يطلب الإنصاف ممَّن وصفُه الظُّلم والجهل؟ وكيف يُنصِف الخلقَ من لم يُنصِف الخالق؟ كما في أثرٍ إلهيٍّ:«يقول الله عز وجل: ابنَ آدم ما أنصفتَني، خيري إليك نازلٌ وشرُّك إليَّ صاعدٌ، كم أتحبَّبُ إليك بالنِّعم وأنا غنيٌّ عنك، وكم تتبغَّض إليَّ بالمعاصي وأنت فقيرٌ إليَّ، ولا يزال الملَكُ الكريم يَعْرُج إليَّ منك بعملٍ قبيحٍ»
(1)
.
وفي أثرٍ آخر: «ابنَ آدم ما أنصفتَني، خلقتُك وتعبدُ غيري، وأرزُقُك وتَشكُر سواي»
(2)
.
(1)
رواه الدينوري في «المجالسة» (2/ 33) عن وهب بن منبه قال: قرأتُ في بعض الكتب
…
وإسناده واهٍ بمرة. وانظر تعليق المحقق عليه.
(2)
رواه أبو يعلى الخليلي في «الإرشاد» (3/ 950)، وعزاه الرافعي في «التدوين» (1/ 193) إلى ابن فارس في «أماليه» من حديث ابن عمر رضي الله عنه بنحوه، وفي إسناده نوفل بن سليمان الهنائي من أهل بلخ، قال الخليلي: «يروي عن عبيد الله بن عمر أحاديث لا يتابع عليها
…
وأحاديثه تدل على ضعفه». ثم ساق الخليلي هذا الحديث بإسناده.
ثمَّ كيف يُنصِف غيرَه من لم يُنصِف نفسَه، وظَلَمَها أقبحَ الظُّلم، وسَعى في ضررها أعظمَ السَّعي، ومَنعَها أعظمَ لذَّاتها من حيث ظنَّ أنَّه يعطيها إيَّاها، وأتعبَها كلَّ التَّعب وأشقاها كلَّ الشَّقاء من حيث ظنَّ أنَّه يُرِيحها ويُسعِدها، وجَدَّ كلَّ الجِدِّ
(1)
في حرمانها حظَّها من اللَّه وهو يظنُّ أنَّه يُنِيلُها حظوظَها، ودَسَّاها كلَّ التَّدسية وهو يظنُّ أنَّه يُكبِّرها ويُنمِّيها، وحَقَّرها كلَّ التَّحقير وهو يظنُّ أنَّه يُعظِّمها، فكيف يُرجى الإنصافُ ممَّن هذا إنصافه لنفسه؟
إذا كان هذا فِعْلَ عبدٍ بنفسه
…
فماذا تَراه بالأجانبِ يَفعلُ
(2)
والمقصود أنَّ قول عمار رضي الله عنه: «ثلاثٌ مَن جمعهنَّ فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السَّلام للعالم، والإنفاق من الإقتار» كلامٌ جامعٌ لأصول الخير وفروعه.
وبذل السَّلام للعالم يتضمَّن تواضعَه، وأنَّه لا يتكبَّر على أحدٍ، بل يَبذُل السَّلام للصَّغير والكبير، والشَّريف والوضيع، ومن يعرفه ومن لا يعرفه. والمتكبِّر ضدُّ هذا، فإنَّه لا يردُّ السَّلام على كلِّ من
(3)
سلَّم عليه كِبْرًا منه وتِيهًا، فكيف يَبذُل السَّلامَ لكلِّ أحدٍ؟
وأمَّا الإنفاق من الإقتار فلا يَصدُر إلا عن قوَّة ثقةٍ باللَّه، وأنَّ الله يُخلِف ما أنفقه، وعن قوَّة يقينٍ وتوكُّلٍ ورحمةٍ، وزهدٍ في الدُّنيا، وسخاء نفسٍ بها، ووُثوقٍ بوعدِ من وعدَه مغفرةً منه وفضلًا، وتكذيبٍ بوعدِ مَن يَعِدُه الفقرَ
(1)
ج: «الجهد» .
(2)
لم أجد البيت في المصادر، ولعله للمؤلف. وقد كُتب في المطبوع بصورة نثر.
(3)
ك: «كل أحد» .
ويأمره بالفحشاء. والله المستعان.
فصل
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه مرَّ بصبيانٍ فسلَّم عليهم. ذكره مسلم
(1)
.
وذكر الترمذي
(2)
في «جامعه» عنه أنه مرَّ يومًا بجماعة نسوةٍ فأَلوى بيده بالتَّسليم.
وقال أبو داود
(3)
: عن أسماء بنت يزيد: مرَّ علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم في نسوةٍ فسلَّم علينا. وهي رواية حديث الترمذي، والظَّاهر أنَّ القصَّة واحدةٌ وأنَّه سلَّم عليهنَّ بيده.
وفي «صحيح البخاريِّ»
(4)
: أنَّ الصَّحابة كانوا ينصرفون من الجمعة فيمرُّون على عجوزٍ في طريقهم فيسلِّمون عليها، فتُقدِّم لهم طعامًا من أصول السِّلْق
(5)
والشَّعير.
وهذا هو الصَّواب في مسألة السَّلام على النِّساء، يُسلَّم على العجوز
(1)
برقم (2168) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
برقم (2697)، وأحمد (2697)، من حديث أسماء بنت يزيد- رضي الله عنه، وفي إسناده شهر بن حوشب مختلف فيه، وله طريق وشاهد يقويه. انظر:«السلسلة الصحيحة» (823).
(3)
برقم (5204) وابن ماجه (3701)، وهو الحديث السابق كما ذكره المؤلف.
(4)
برقم (938) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما.
(5)
بقلة لها ورقٌ طوال وأصلٌ ذاهب في الأرض، وورقُها غضٌّ طرِيٌّ يُؤكل مطبوخًا.
وذواتِ المحارم دونَ غيرهنَّ.
فصل
وثبت عنه في «صحيح البخاريِّ»
(1)
وغيره تسليمُ
(2)
الصَّغير على الكبير، والمارِّ على القاعد، والرَّاكبِ على الماشي، والقليلِ على الكثير.
وفي «جامع الترمذي»
(3)
عنه: «يُسلِّم الماشي على القائم» .
وفي «مسند البزار»
(4)
عنه: «يسلِّم الرَّاكب على الماشي، والماشي على القاعد، والماشيانِ أيُّهما بدأ فهو أفضل» .
وفي «سنن أبي داود»
(5)
عنه: «إنَّ أولى النَّاس بالله مَن بَدأهم بالسَّلام» .
وكان من هديه السَّلامُ عند المجيء إلى القوم، والسَّلام عند الانصراف عنهم، وثبت عنه أنَّه قال: «إذا قعدَ أحدُكم فلْيُسلِّم، وإذا قام فليسلِّم، فليست
(1)
برقم (6231، 6232) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
ص، ك، ج:«يسلم» .
(3)
برقم (2705)، والبخاري في «الأدب المفرد» (999)، من حديث فضالة بن عبيد- رضي الله عنه، وصححه الترمذي.
(4)
كما في «كشف الأستار» (2006) من حديث جابر- رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (498) وابن حجر في «مختصر زوائد مسند البزار» (2/ 395) والألباني في «السلسلة الصحيحة» (1146). وصح موقوفًا عن جابر أيضًا عند البخاري في «الأدب المفرد» (983).
(5)
برقم (5197) من حديث أبي أمامة- رضي الله عنه، قال النووي في «رياض الصالحين» (ص 276):«إسناد جيد» ، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (3382).
الأولى بأحقَّ من الآخرة»
(1)
.
وذكر أبو داود
(2)
وقال أنس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتماشَون، فإذا لَقِيَتْهم شجرةٌ أو أَكَمةٌ
(3)
تفرَّقوا يمينًا وشمالًا، وإذا التقَوا من ورائها سلَّم بعضُهم على بعضٍ
(4)
.
ومن هديه أنَّ الدَّاخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحيَّة المسجد، ثمَّ يجيء فيسلِّم على القوم، فتكون تحيَّة المسجد قبل تحيَّة أهله، فإنَّ تلك حقٌّ لله، والسَّلام على الخلق
(5)
هو
(6)
حقٌّ لهم، وحقُّ الله في مثل هذا أولى بالتَّقديم بخلاف الحقوق الماليَّة، فإنَّ فيها نزاعًا معروفًا، والفرق بينهما حاجة الآدميِّ وعدم اتِّساع الحقِّ الماليِّ لأداء الحقَّين، بخلاف السَّلام.
(1)
رواه أحمد (7142) وأبو داود (5208) والترمذي (2706) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، والحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (494) والألباني في «السلسلة الصحيحة» (183).
(2)
برقم (5200) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، والحديث صحيح، انظر:«السلسلة الصحيحة» (186).
(3)
الأكمة: التلّ أو الموضع يكون أشدَّ ارتفاعًا مما حوله.
(4)
رواه البخاري في «الأدب المفرد» (1011) والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (13/ 155) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (245). وهو حديث صحيح.
(5)
ص، ج:«الجلوس» .
(6)
«هو» ليست في ص، ج.
وكانَ عادة القوم معه هكذا، يدخل أحدهم المسجد فيصلِّي ركعتين، ثمَّ يجيء فيسلِّم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا في حديث رِفاعة
(1)
بن رافع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو جالسٌ في المسجد يومًا، قال رفاعة: ونحن معه، إذ جاء رجلٌ كالبدويِّ، فصلَّى فأخفَّ صلاته، ثمَّ انصرف فسلَّم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وعليك
(2)
، فارجعْ فصلِّ فإنَّك لم تُصلِّ»
(3)
…
وذكر الحديث. فأنكر عليه صلاته، ولم يُنكِر عليه تأخير السَّلام ــ عليه الصلاة والسلام ــ إلى ما بعد الصَّلاة.
وعلى هذا: فيُسَنُّ لداخل المسجد إذا كان فيه جماعةٌ ثلاث تحيَّاتٍ مترتِّبةٍ: أحدها أن يقول عند دخوله: «بسم الله والصَّلاة
(4)
على رسول اللَّه»، ثمَّ يصلِّي ركعتين تحيَّة المسجد، ثمَّ يسلِّم على القوم.
فصل
وكان إذا دخل على أهله باللَّيل سَلَّم تسليمًا لا يُوقِظ النَّائمَ، ويُسمِعُ اليقظان. ذكره مسلم
(5)
.
(1)
ص: «أبي رفاعة» .
(2)
«وعليك» ليست في ق.
(3)
رواه الترمذي (302) من حديث رفاعة رضي الله عنه وحسّنه، وصححه ابن خزيمة (545). والحديث عند البخاري (757) ومسلم (397/ 45) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
مب، م:«والصلاة والسلام» .
(5)
برقم (2055) من حديث المقداد رضي الله عنه.
فصل
وذكر الترمذي
(1)
عنه: «السَّلام قبل الكلام» .
وفي لفظٍ آخر
(2)
: «لا تَدْعُوا أحدًا إلى الطَّعام حتَّى يسلِّم» .
وهذا وإن كان إسناده وما قبله ضعيفًا، فالعمل عليه.
وقد روى أبو أحمد
(3)
بإسنادٍ أحسنَ منه من حديث عبد العزيز بن أبي روَّادٍ، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السَّلام قبل السُّؤال، فمن بدأكم بالسُّؤال قبل السَّلام فلا تجيبوه» .
ويُذكر عنه أنَّه كان لا يأذن لمن لم يبدأ بالسَّلام. ويُذكر عنه: «لا تَأذنوا لمن لم
(4)
يبدأ بالسَّلام»
(5)
.
(1)
برقم (2699) من حديث جابر- رضي الله عنه، وقال:«هذا حديث منكر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه» . وفي إسناده عنبسة بن عبد الرحمن الأموي متروك، رماه أبو حاتم بالوضع كما في «التقريب». وثبت عن جابر بنحوه. انظر:«السلسلة الصحيحة» (816).
(2)
برقم (2699)، وفي إسناده عنبسة بن عبد الرحمن، وقد تقدم.
(3)
هو ابن عدي، رواه في «الكامل» (6/ 508 - 509)، وفي إسناده السري بن عاصم، وحفص بن عمر الأبلي متكلم فيهما. انظر:«لسان الميزان» (2649، 3364).
(4)
ص: «لا» .
(5)
رواه أبو يعلى الموصلي (1809) والبيهقي في «شعب الإيمان» (8433) من حديث جابر رضي الله عنه، وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخوزي أبو إسماعيل المكي متروك الحديث كما في «التقريب» (272).
وأجود منهما ما رواه الترمذي
(1)
عن كَلَدَةَ بن حنبل: أنَّ صفوان بن أميَّة بعثه بلَبنٍ ولِبَأٍ وضَغَابِيسَ
(2)
إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم والنبيُّ صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، قال: فدخلت عليه، ولم أسلِّم ولم أستأذن، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ارجِعْ فقلْ: السَّلام عليكم، أأدخلُ؟» ، قال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وكان إذا أتى بابَ قومٍ لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، فيقول:«السَّلام عليكم، السَّلام عليكم»
(3)
.
فصل
وكان يُسلِّم بنفسه على من يواجهه، ويُحمِّل السَّلام لمن يريد السَّلام عليه من الغائبين عنه
(4)
، ويتحمَّل السَّلام لمن يبلِّغه إليه، كما تحمَّل السَّلام من الله عز وجل على صدِّيقة النِّساء خديجة بنت خُويلدٍ لمَّا قال له جبريل: «هذه خديجة قد أتتك بطعامٍ، فاقرأْها
(5)
السَّلام من ربِّها، وبشِّرها ببيتٍ في الجنَّة»
(6)
.
(1)
برقم (2710)، ورواه أحمد (15425) والبخاري في «الأدب المفرد» (1081) وأبو داود (5176)، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني. وانظر:«تخريج هداية الرواة» (4/ 325) و «السلسلة الصحيحة» (817 - 819).
(2)
اللِّبَأ: أول اللبن عند الولادة قبل أن يَرِقَّ. والضغابيس: صغار القِثَّاء.
(3)
رواه أبو داود (5186)، قال الألباني في «تخريج هداية الرواة» (4/ 325 - 326):«إسناد جيد» .
(4)
رواه مسلم (1894) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5)
كذا في النسخ، وفي «الصحيحين»:«فاقرأ عليها» .
(6)
رواه البخاري (3820) ومسلم (2432) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال للصِّدِّيقة الثَّانية بنت الصِّدِّيق عائشة: «هذا جبريل يقرأ عليكِ السَّلام» ، فقالت: وعليه السَّلام ورحمة الله وبركاته، يرى ما لا نرى
(1)
.
فصل
وكان هديه انتهاء السَّلام إلى «وبركاته» ، فذكر النَّسائيُّ عنه أنَّ رجلًا جاء فقال: السَّلام عليكم، فردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:«عشرةٌ» ، ثمَّ جلس، ثمَّ جاء آخر فقال: السَّلام عليكم ورحمة اللَّه، فردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:«عشرون» ، ثمَّ جلس، وجاء آخر فقال: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«ثلاثون» . رواه النَّسائيُّ والتِّرمذيُّ
(2)
من حديث عمران بن حُصينٍ، وحسَّنه.
وذكره أبو داود
(3)
من حديث معاذ بن أنس، وزاد فيه:«ثمَّ أتى آخر فقال: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: «أربعون» ، قال: هكذا تكون الفضائل». ولا يثبت هذا الحديث، فإنَّ له ثلاث عللٍ:
إحداها: أنَّه من رواية أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون، ولا يُحتجُّ به
(4)
.
(1)
رواه البخاري (6201) ومسلم (2447/ 91) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
النسائي في «الكبرى» (10097) والترمذي (2689)، ورواه أحمد (19948) وأبو داود (5195). وحسَّنه أيضًا ابن حجر كما في «الفتوحات الربانية» (5/ 290) والألباني في «تخريج الكلم الطيب» (ص 156).
(3)
برقم (5196) ضعَّفه الألباني في «ضعيف الترغيب والترهيب» (2/ 196).
(4)
انظر: «تهذيب الكمال» (18/ 42).
الثَّانية: أنَّ فيه أيضًا سهل بن معاذ
(1)
، وهو كذلك.
الثَّالثة: أنَّ سعيد بن أبي مريم أحد رواته لم يجزم بالرِّواية، بل قال: أظنُّ أنِّي سمعت نافع بن يزيد.
وأضعف من هذا الحديثُ الآخر عن أنس: كان رجلٌ يمرُّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم فيقول: السَّلام عليك يا رسول اللَّه، فيقول له النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(2)
: «وعليك السَّلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه» ، فقيل له: يا رسول الله، تُسلِّم على هذا سلامًا ما تُسلِّمه على أحدٍ من أصحابك؟ قال:«وما يمنعني من ذلك وهو ينصرف بأجر بضعة عشر رجلًا» ، وكان يرعى على أصحابه
(3)
.
فصل
وكان من هديه أن يسلِّم ثلاثًا كما في «صحيح البخاريِّ»
(4)
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلَّم بكلمةٍ أعادها ثلاثًا حتَّى تُفْهَم عنه، وإذا أتى على قومٍ فسلَّم عليهم سلَّم عليهم ثلاثًا.
ولعلَّ هذا كان هديَه في السَّلام على الجمع الكثير الذين لا يبلغهم سلامٌ واحدٌ، أو هديه في إسماع السَّلام الثَّاني والثَّالث، إذا ظنَّ أنَّ الأوَّل لم يحصل به الإسماع، كما سلَّم لمَّا انتهى إلى منزل سعد بن عبادة ثلاثًا، فلمَّا لم يجبه
(1)
انظر: «تهذيب الكمال» (12/ 208).
(2)
«له النبي صلى الله عليه وسلم» ليست في ك.
(3)
رواه ابن السني (235) وأعله ابن حجر بنوح بن ذكوان ويوسف بن أبي كثير وبقية بن الوليد. انظر: «الفتوحات الربانية» لابن علان (5/ 292).
(4)
برقم (95).
أحدٌ رجع
(1)
. وإلَّا فلو كان هديه الدَّائم التَّسليم ثلاثًا لكان أصحابه يسلِّمون عليه كذلك، ولكان يسلِّم على كلِّ
(2)
من لقيه ثلاثًا، وإذا دخل بيته سلَّم ثلاثًا. ومن تأمَّل هديه علم أنَّ الأمر ليس كذلك، وأنَّ تكرار السَّلام كان منه أمرًا عارضًا في الأحيان
(3)
، والله أعلم.
فصل
وكان يبدأ من لقيه بالسَّلام، وإذا سلَّم عليه أحدٌ ردَّ عليه مثلَ تحيَّته أو أفضلَ منها على الفور من غير تأخيرٍ، إلا لعذرٍ مثل حالة الصَّلاة، أو حالة قضاء الحاجة.
وكان يُسمِع المسلمَ ردَّه عليه، ولم يكن يردُّ بيده ولا رأسه ولا إصبعه إلا في الصَّلاة، فإنَّه كان يردُّ على من سلَّم عليه إشارةً، ثبت ذلك عنه في عدَّة أحاديث، ولم يجئ عنه ما يعارضها إلا شيءٌ باطلٌ لا يصحُّ عنه، كحديثٍ يرويه أبو غَطفان رجلٌ مجهولٌ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من أشار في صلاته إشارةً تُفْهَم عنه فلْيُعِدْ صلاتَه»
(4)
. قال الدَّارقطنيُّ
(5)
: قال لنا
(1)
رواه البخاري في «الأدب المفرد» (1073) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وصححه الألباني في «صحيح الأدب المفرد» (ص 412 - 413).
(2)
«كل» ليست في ك.
(3)
في المطبوع: «بعض الأحيان» خلاف جميع النسخ.
(4)
رواه أبو داود (944)، وقال:«هذا الحديث وهم» . والحديث ضعيف. انظر: «التنقيح» لابن عبد الهادي (2/ 299)، «السلسلة الضعيفة» (1104)، «ضعيف أبي داود - الأم» (1/ 359).
(5)
في «سننه» (1867).
ابن أبي داود: أبو غطفان هذا رجلٌ مجهولٌ. والصَّحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يشير في الصَّلاة
(1)
، رواه أنس وجابر وغيرهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
فصل
وكان هديه في ابتداء السَّلام أن يقول: «السَّلام عليكم ورحمة اللَّه» ، وكان يكره أن يقول المبتدئ: عليك السَّلام.
قال أبو جُرَي
(3)
الهُجَيمي: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السَّلام يا رسول اللَّه، فقال
(4)
: «لا تَقُلْ عليك السَّلام، فإنَّ عليك السَّلام تحيَّة الموتى»
(5)
. حديثٌ صحيحٌ.
وقد أشكل هذا الحديث على طائفةٍ، وظنُّوه معارضًا لما ثبت عنه في السَّلام على الأموات بلفظ:«السَّلام عليكم» بتقديم السَّلام، وظنُّوا أنَّ قوله «فإنَّ عليك السَّلام تحيَّة الموتى» إخبارٌ
(6)
عن المشروع، وغَلِطوا في ذلك غلطًا أوجب لهم ظنَّ التَّعارض. وإنَّما معنى قوله: «فإنَّ عليك السَّلام تحيَّة
(1)
تقدم تخريجها في الجزء الأول.
(2)
إلى هنا كلام الدارقطني.
(3)
م، مب:«أبو جرير» ، تحريف.
(4)
ص، ك، ج:«قال» .
(5)
رواه أحمد (15955) وأبو داود (5209) والترمذي (2722)، وصححه الترمذي، والنووي في «الأذكار» (ص 250) والمصنف والألباني في «السلسلة الصحيحة» (1403).
(6)
ك: «إخبارا» .
الموتى» إخبارٌ عن الواقع، لا عن المشروع، أي
(1)
: أنَّ الشُّعراء وغيرهم يُحيُّون الموتى بهذه اللَّفظة، كقول قائلهم
(2)
:
عليك سلامُ الله قيسُ بنَ عاصم
…
ورحمتُه ما شاء أن يترحَّما
فما كان قيسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ
…
ولكنَّه بنيانُ قومٍ تهدَّما
فكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُحيَّى بتحيَّة الأموات، ومن كراهته لذلك لم يردَّ على المسلِّم
(3)
.
وكان يردُّ على المسلِّم «وعليك السَّلام» بالواو، وبتقديم «عليك» على لفظ السَّلام.
وتكلَّم النَّاس هاهنا في مسألةٍ، وهي لو حذف الرَّادُّ الواو فقال: عليك السَّلام، هل يكون ردًّا صحيحًا؟
فقالت طائفةٌ منهم المتولِّي وغيره
(4)
: لا يكون جوابًا، ولا يسقط به فرض الردِّ، لأنَّه مخالفٌ لسنة الردِّ، ولأنَّه لا يعلم هل هو ردٌّ أو ابتداء تحيَّةٍ، فإنَّ صورته صالحةٌ لهما، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب
(1)
«ظن التعارض
…
أي» ساقطة من ب.
(2)
هو عَبْدة بن الطبيب كما في «حماسة أبي تمام» (1/ 387) و «الشعر والشعراء» (2/ 728) و «عيون الأخبار» (1/ 287) و «الأغاني» (10/ 191، 14/ 83) وغيرها.
(3)
ج: «عليه السلام» بدل «على المسلِّم» . وانظر كلام المؤلف على هذه المسألة في «تهذيب سنن أبي داود» (3/ 62 - 64) و «بدائع الفوائد» (2/ 660 - 663).
(4)
انظر: «المجموع» للنووي (4/ 596) و «مغني المحتاج» (1/ 365) و «روضة الطالبين» (10/ 227).
فقولوا: وعليكم»
(1)
، فهذا تنبيهٌ منه على وجوب الواو في الردِّ على أهل الإسلام، فإنَّ الواو في مثل هذا الكلام تقتضي تقرير الأوَّل وإثبات الثَّاني، فإذا أمر بالواو في الردِّ على أهل الكتاب الذين يقولون: السَّام عليكم، فقال:«إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب فقولوا: وعليكم» = فذِكْرُها في الرَّدِّ على المسلمين أولى وأحرى.
وذهبت طائفةٌ أخرى إلى أنَّ ذلك ردٌّ صحيحٌ، كما لو كان بالواو، ونصَّ عليه الشَّافعيُّ في كتابه الكبير
(2)
، واحتجَّ لهذا القول بقوله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [الذاريات: 24 - 25]، أي: سلامٌ عليكم، لا بدَّ من هذا، ولكن حَسُنَ الحذف في الردِّ لأجل الحذف في الابتداء.
واحتجُّوا بما في «الصَّحيحين»
(3)
عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدمَ طولُه ستُّون ذراعًا، فلمَّا خلقه قال له: اذهَبْ فسلِّم على أولئك النَّفر من الملائكة، فاستمِعْ ما يُحيُّونك، فإنَّها تحيَّتك وتحيَّة ذرِّيَّتك، فقال: السَّلام عليكم، فقالوا: السَّلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة اللَّه» . فقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا تحيَّته وتحيَّة ذرِّيَّته.
قالوا: ولأنَّ المسلَّم عليه مأمورٌ أن يُحيِّي المسلِّمَ بمثل تحيَّته عدلًا،
(1)
رواه البخاري (6258) ومسلم (2163) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
أي كتاب «الأم» ، كما عزاه إليه النووي في «المجموع» (4/ 596). ولم أجده في المطبوع من «الأم» .
(3)
رواه البخاري (6227) ومسلم (2841).
وأحسنَ
(1)
منها فضلًا، فإذا ردَّ عليه بمثل سلامه كان قد أتى بالعدل.
وأمَّا قوله: «إذا سلَّم أهلُ الكتاب فقولوا: وعليكم» ، فهذا الحديث قد اختُلِف في لفظة الواو فيه، فرُوِي على ثلاثة أوجهٍ، أحدها: بالواو. قال أبو داود
(2)
: كذلك رواه مالك عن عبد الله بن دينارٍ، ورواه الثوريُّ عن عبد الله بن دينارٍ، وقال فيه:«فعليكم» . وحديث سفيان في «الصَّحيحين»
(3)
. ورواه النَّسائيُّ
(4)
من حديث ابن عيينة عن عبد الله بن دينارٍ بإسقاط الواو، وفي لفظٍ لمسلم والنَّسائيِّ
(5)
: «فقُلْ: عليك» بغير واوٍ.
قال الخطّابي
(6)
: عامَّة المحدِّثين يروونه «وعليكم» بالواو، وكان سفيان بن عيينة يرويه «عليكم» بحذف الواو، وهو الصَّواب، وذلك أنَّه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه
(7)
مردودًا عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدُّخول فيما قالوه، لأنَّ الواو حرف العطف والاجتماع بين الشَّيئين. انتهى كلامه.
(1)
ص، ج:«أو أحسنَ» .
(2)
في «سننه» (5206).
(3)
يعني حديث سفيان الثوري، وهو عند مسلم (2164/ 9) بلفظ:«وعليك» ، وعند البخاري (6928) بدون الواو:«عليك» . وفي رواية السرخسي وحده: «عليكم» . انظر: «فتح الباري» (11/ 43 - 44) لمعرفة الاختلاف في هذا اللفظ.
(4)
رواه في «السنن الكبرى» برقم (10139).
(5)
رواه مسلم (2164/ 8) والنسائي في «السنن الكبرى» (10138) كلاهما من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار.
(6)
في «معالم السنن» (4/ 154).
(7)
ك: «نفسه» .
وما ذكره من أمر الواو ليس بمشكلٍ، فإنَّ «السَّام» الأكثرون على أنَّه الموت، والمسلِّم والمسلَّم عليه مشتركون فيه، فيكون في الإتيان بالواو بيانٌ
(1)
لعدم الاختصاص وإثباتِ المشاركة، وفي حذفها إشعارٌ بأنَّ المسلِّم أحقُّ به وأولى من المسلَّم عليه، وعلى هذا فيكون الإتيان بالواو هو الصَّواب، أو هو أحسن من حذفها، كما رواه مالك وغيره.
ولكن قد فُسِّر «السَّام» بالسَّآمة، وهي الملالة وسآمة الدِّين، قالوا: وعلى هذا فالوجه حذف الواو ولا بدَّ، ولكنَّ هذا خلاف المعروف من هذه اللَّفظة في اللُّغة؛ ولهذا في الحديث:«الحبَّة السَّوداء شِفاءٌ من كلِّ داءٍ إلا السَّام»
(2)
، ولا يختلفون أنَّه الموت.
وقد ذهب بعض المتحذلقين إلى أنَّه يردُّ عليهم: «السِّلام عليكم» بكسر السِّين، وهي الحجارة، جمعُ سَلِمَةٍ
(3)
. ورَدُّ هذا الردِّ متعيِّنٌ.
فصل
في هديه في السلام على أهل الكتاب
صحَّ عنه أنَّه قال: «لا تَبدؤوهم بالسَّلام، وإذا لقيتموهم في الطَّريق
(4)
فاضطرُّوهم إلى أضيق الطَّريق»
(5)
. لكن قد قيل: إنَّ هذا كان في قضيَّةٍ خاصَّةٍ
(1)
«بيان» ليست في ك.
(2)
رواه البخاري (5688) ومسلم (2215/ 88) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
انظر: «شرح صحيح مسلم» للنووي (14/ 144).
(4)
«في الطريق» ليست في ك.
(5)
رواه أبو داود (5205) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.والحديث عند مسلم كما سيأتي.
لمَّا ساروا إلى بني قُريظة قال: «لا تبدؤوهم بالسَّلام» ، فهل هذا حكمٌ عامٌّ لأهل الذمَّة مطلقًا، أو يختصُّ بمن كانت حاله كحال أولئك؟ هذا موضع نظرٍ، ولكن قد روى مسلم في «صحيحه»
(1)
من حديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدؤوا اليهود والنَّصارى بالسَّلام، وإذا لقيتم أحدَهم في الطَّريق فاضطرُّوه إلى أضيقِه» ، والظَّاهر أنَّ هذا حكمٌ عامٌّ.
وقد اختلف السَّلف والخلف في ذلك
(2)
، فقال أكثرهم: لا يُبْدَؤون
(3)
بالسَّلام، وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يردُّ عليهم، رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ وأبي أمامة وابن مُحَيرِيز
(4)
، وهو وجهٌ في مذهب الشَّافعيِّ. لكن صاحب هذا الوجه قال: يقال له: السَّلام عليك فقط بدون ذكر الرَّحمة، وبلفظ الإفراد. وقالت طائفةٌ: يجوز الابتداء لمصلحةٍ راجحةٍ من حاجةٍ تكون له إليه، أو خوفٍ من أذاه، أو لقرابةٍ بينهما، أو لسببٍ يقتضي ذلك، يُروى ذلك عن إبراهيم النَّخعيِّ وعلقمة. وقال الأوزاعيُّ: إن سلَّمتَ فقد سلَّم الصَّالحون، وإن تركتَ فقد ترك الصَّالحون.
واختلفوا في وجوب
(5)
الردِّ عليهم، فالجمهور على وجوبه، وهو
(1)
برقم (2167)، ورواه أيضًا الترمذي (1602) واللفظ له.
(2)
انظر في هذا الموضوع: «التمهيد» (17/ 91 - 94)، و «المجموع» (4/ 605، 606)، و «شرح صحيح مسلم» للنووي (14/ 145)، و «الفتح» (11/ 45).
(3)
ك: «لا تبدأوهم» .
(4)
ق، ب، م، مب:«أبي محيريز» ، خطأ. وهو عبد الله بن محيريز.
(5)
«وجوب» ليست في ك.
الصَّواب، وقالت طائفةٌ: لا يجب الردُّ عليهم، كما لا يجب على
(1)
أهل البدع وأولى، والصَّواب الأوَّل، والفرق أنَّا مأمورون بهَجْر أهل البدع تعزيرًا لهم وتحذيرًا منهم، بخلاف أهل الذِّمَّة.
فصل
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه مرَّ على مجلسٍ فيهم أخلاطٌ من المسلمين والمشركين وعبدةِ الأوثان واليهود، فسلَّم عليهم
(2)
.
وصحَّ عنه أنَّه كتب إلى هِرقلَ وغيرِه بالسَّلام على من اتَّبع الهدى
(3)
.
فصل
ويذكر عنه أنَّه قال: «يُجزِئ عن الجماعة إذا مَرُّوا أن يُسلِّم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يردَّ أحدهم» ، فذهب إلى هذا الحديث من قال: إنَّ الردَّ فرض كفايةٍ يقوم فيه الواحد مقام الجميع، لكن ما أحسَنَه لو كان ثابتًا، فإنَّ هذا الحديث رواه أبو داود
(4)
من رواية سعيد بن خالد الخزاعي المدني
(5)
. قال أبو زرعة الرَّازيُّ: مدنيٌّ ضعيفٌ، وقال أبو حاتمٍ الرَّازيُّ: ضعيف الحديث، وقال البخاريُّ: فيه نظرٌ، وقال الدَّارقطنيُّ: ليس
(1)
ص: «الرد على» . والمثبت من بقية النسخ.
(2)
رواه البخاري (6254) ومسلم (1798) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(3)
رواه البخاري (6260) ومسلم (1773) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
برقم (5210) من حديث علي- رضي الله عنه، وفي إسناده ضعف، لكن له شواهد يتقوى بها. انظر:«تخريج الكلم الطيب» (ص 156).
(5)
م: «المدلجي» ، تحريف.
بالقويِّ
(1)
.
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا بلَّغه أحدٌ السَّلام عن غيره أن يردَّ عليه وعلى المبلِّغ، كما في «السُّنن»
(2)
أنَّ رجلًا قال له: إنَّ أبي يُقرِئك السَّلام، فقال له:«عليك وعلى أبيك السَّلام» .
وكان من هديه تركُ السَّلام ابتداءً وردًّا على من أحدث حدثًا حتَّى يتوب منه
(3)
، كما هجر كعبَ بن مالكٍ وصاحبيه، وكان كعب يسلِّم عليه ولا يدري هل حرَّك
(4)
شفتيه بردِّ السَّلام عليه أم لا؟
(5)
.
وسلَّم عليه عمَّار بن ياسرٍ، وقد خلَّقه أهله بزعفرانٍ، فلم يردَّ عليه، وقال:«اذهبْ فاغسِلْ هذا عنك» . وهجر زينبَ
(6)
شهرين وبعضَ الثَّالث لمَّا قال لها: تُعطي صفية ظهرًا لمَّا اعتلَّ بعيرُها، فقالت: أنا أُعطي تلك اليهوديَّة؟ ذكرهما أبو داود
(7)
.
(1)
انظر هذه الأقوال في «التاريخ الكبير» للبخاري (3/ 469) و «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (4/ 16) و «علل الدارقطني» (4/ 22).
(2)
رواه أبو داود (5231) والنسائي في «السنن الكبرى» (10133)، وفي سنده من لم يُسمَّ.
(3)
«منه» ليست في ج.
(4)
ك: «أحرك» .
(5)
رواه البخاري (4418) ومسلم (2769/ 53) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
(6)
في المطبوع بعدها: «بنت جحش» . وليست في النسخ.
(7)
أما حديث عمار رضي الله عنه فرواه أبو داود (4176، 4601)، وإسناده ضعيف. انظر:«تخريج هداية الرواة» (4/ 236) وأما قصة زينب رضي الله عنها فرواه أبو داود (4602) من حديث عائشة رضي الله عنها.، انظر:«السلسلة الصحيحة» (3205).
فصل
في هديه في الاستئذان
صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «الاستئذانُ ثلاثٌ، فإن أُذِنَ لك وإلَّا فارجِعْ»
(1)
.
وصحَّ عنه: «إنَّما جُعِلَ الاستئذان من أجل البصر»
(2)
.
وصحَّ عنه أنَّه أراد أن يَفْقَأَ عينَ الذي نظر إليه من جُحْرٍ من حجرته، وقال:«إنَّما جُعِلَ الاستئذانُ من أجل البصر»
(3)
.
وصحَّ عنه أنَّه قال: «لو أنَّ امرأً اطَّلع عليك بغير إذنٍ، فخذفتَه بحصاةٍ ففَقأتَ عينه، لم يكن عليك جناحٌ»
(4)
.
وصحَّ عنه: «من اطَّلع
(5)
على قومٍ في بيتهم بغير إذنهم، فقد حلَّ لهم أن يَفْقَؤوا عينَه»
(6)
.
(1)
رواه البخاري (6245) ومسلم (2153/ 34) واللفظ له من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (6241) ــ واللفظ له ــ ومسلم (2156/ 40) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(3)
جزء من الحديث السابق.
(4)
رواه البخاري (6902) ــ واللفظ له ــ ومسلم (2158/ 44) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
«عليك بغير إذن
…
من اطلع» ساقطة من ب.
(6)
رواه مسلم (2158/ 43) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وصحَّ عنه: «من اطَّلع في بيت قومٍ بغير إذنهم، ففَقأوا عينَه، فلا ديةَ له
(1)
ولا قصاصَ»
(2)
.
وصحَّ عنه التَّسليمُ قبل الاستئذان فعلًا وتعليمًا، واستأذن عليه رجلٌ فقال: أَأَلِجُ
(3)
؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ
(4)
: «اخرُجْ إلى هذا، فعلِّمْه الاستئذان، فقلْ له: السَّلام عليكم، أَأَدخلُ؟» فسمعه الرَّجل، فقال: السَّلام عليكم، أَأَدخلُ؟ فأذِنَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم فدخل
(5)
.
ولمَّا استأذن عليه عمر وهو في مَشْرُبتِه مُؤْلِيًا من نسائه، قال: السَّلام عليك يا رسول اللَّه، السَّلام عليكم، أيدخلُ عمر؟
(6)
.
وقد تقدَّم قوله صلى الله عليه وسلم لكَلَدَةَ بن الحَنْبَل لمَّا دخل عليه ولم يسلِّم: «ارجِعْ
(1)
«له» ليست في ج.
(2)
رواه أحمد (8997) والنسائي (4860) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (6004) والبيهقي في «مختصر الخلافيات» (5/ 31) وابن الملقن في «البدر المنير» (9/ 17)، وقال الألباني في «الإرواء» (7/ 284):«إسناده صحيح على شرط مسلم» .
(3)
ص: «ألا ألج» .
(4)
«لرجل» ليست في ص.
(5)
رواه أبو داود (5177) من حديث رجل من بني عامر، وصححه النووي في «الأذكار» (ص 259) والألباني في «السلسلة الصحيحة» (819).
(6)
رواه أحمد (2756) والبخاري في «الأدب المفرد» (1085) وأبو داود (5201) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث صحيح. وأصله عند البخاري (5843) ومسلم (1479/ 31) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
فقل: السَّلام عليكم، أَأَدخلُ؟»
(1)
.
وفي هذه السُّنن ردٌّ على من قال: يُقدَّم الاستئذان على السَّلام، وردٌّ على من قال: إن وقعتْ عينُه على صاحب المنزل قبل دخوله بدأ بالسَّلام، وإن لم تقع عينُه عليه بدأ بالاستئذان. والقولان مخالفان للسُّنَّة.
وكان من هديه إذا استأذن ثلاثًا ولم يُؤذَن له انصرف
(2)
. وهو ردٌّ على من يقول: إن ظنَّ أنَّهم لم يسمعوا زاد على الثَّلاث، وردٌّ على من قال: يعيده بلفظٍ آخر. والقولان مخالفان للسُّنَّة.
فصل
ومن هديه أنَّ المستأذن إذا قيل له: من أنت؟ يقول: فلان بن فلانٍ، أو يذكر كنيته أو لقبه، ولا يقول: أنا، كما قال جبريل للملائكة
(3)
لمَّا استفتح باب السَّماء فسألوه: من؟ فقال: جبريل. واستمرَّ ذلك في كلِّ سماءٍ سماءٍ
(4)
.
وكذلك في «الصَّحيحين»
(5)
: لمَّا جلس النبيُّ صلى الله عليه وسلم في البستان، وجاء أبو
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه في قصة سعد بن عبادة رضي الله عنه.
(3)
بعدها في المطبوع: «في ليلة المعراج» . وليست في النسخ.
(4)
رواه البخاري (3887) ومسلم (164/ 264) من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه. والقصة متواترة، ومجموع من رواها خمسة وأربعون صحابياً. انظر:«نظم المتناثر» للكتاني (ص 207 - 208).
(5)
رواه البخاري (3693) ومسلم (2403/ 28) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
بكر فاستأذن، فقال: مَن؟ قال: أبو بكر، ثمَّ جاء عمر فاستأذن فقال: مَن؟ قال: عمر، ثمَّ عثمان كذلك.
وفي «الصَّحيحين»
(1)
عن جابر: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فدَقَقْتُ الباب
(2)
، فقال:«من ذا؟» فقلت: أنا، فقال:«أنا أنا!» كأنَّه كرهها.
ولمَّا استأذنتْ أمُّ هانئ، قال لها:«من هذه؟» ، قالت: أم هانئ، فلم يكره ذِكرها الكنيةَ
(3)
. وكذلك لمَّا قال لأبي ذر: «من هذا؟» ، قال: أبو ذر
(4)
. وكذلك لمَّا قال لأبي قتادة: «من هذا؟» ، قال: أبو قتادة
(5)
.
فصل
وقد روى أبو داود
(6)
عنه صلى الله عليه وسلم من حديث قتادة
(7)
، عن أبي رافع، عن أبي هريرة:«رسول الرَّجل إلى الرَّجل إذنه» . وفي لفظٍ
(8)
: «إذا دُعِيَ أحدكم
(1)
البخاري (6250) ومسلم (2155/ 39) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
ك: «عليه الباب» .
(3)
رواه البخاري (280) ومسلم (336/ 82) من حديث أم هانئ رضي الله عنها.
(4)
رواه البخاري (6443) ومسلم (94/ 33) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(5)
رواه مسلم (681) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(6)
برقم (5189) من طريق حماد عن حبيب وهشام عن محمد عن أبي هريرة. أما حديث قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة فهو الحديث الآتي. وصححه ابن حبان (5811)، وقال الألباني في «الإرواء» (7/ 17):«هذا سند صحيح على شرط مسلم» .
(7)
ك: «أبي قتادة» ، خطأ.
(8)
رواه أبو داود (5190)، وأعله بالانقطاع حيث قال:«قتادة لم يسمع من أبي رافع شيئًا» . وتعقبه ابن حجر في «الفتح» (11/ 31، 32) بأنه قد ثبت سماعه من أبي رافع، ومع هذا فإنَّ للحديث متابعًا. وساق الحديث الذي قبله، والحديث صححه الألباني في «الإرواء» (7/ 16).
إلى طعامٍ، ثمَّ جاء مع الرَّسول، فإنَّ ذلك له إذنٌ». وهذا الحديث فيه مقالٌ، قال أبو عليٍّ اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: قتادة لم يسمع من أبي رافع. وقال البخاريُّ في «صحيحه»
(1)
: وقال سعيد عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«هو إذنه» ، فذكره تعليقًا لأجل الانقطاع في إسناده.
وذكر البخاريُّ
(2)
في هذا الباب حديثًا يدلُّ على اعتبار
(3)
الاستئذان بعد الدَّعوة، وهو حديث مجاهد، عن أبي هريرة: دخلت مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فوجدتُ لبنًا في قَدَحٍ، فقال: «أبا هِرٍّ الْحَقْ
(4)
أهل الصُّفَّة فادْعُهم إليَّ»، قال: فأتيتُهم فدعوتُهم، فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم فدخلوا.
وقد قالت طائفةٌ: بأنَّ الحديثين على حالين، فإن جاء الدَّاعي على الفور من غير تراخٍ لم يحتج إلى استئذانٍ، وإن تراخى مجيئه عن الدَّعوة وطال الوقت احتاج إلى استئذانٍ.
وقال آخرون: إن كان عند الدَّاعي من قد أذن له قبل مجيء المدعوِّ لم يحتج إلى استئذانٍ
(5)
آخر، وإن لم يكن عنده من قد أذن له لم يدخل حتَّى يستأذن.
(1)
(11/ 31 مع «الفتح»).
(2)
برقم (6246)
(3)
ق، ب، م، مب:«الاعتبار» .
(4)
كذا في ص، ج والبخاري. وفي بقية النسخ:«اذهبْ إلى» .
(5)
«وإن تراخى
…
استئذان» ساقطة من ك بسبب انتقال النظر.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل إلى مكانٍ يحبُّ الانفراد فيه أمرَ من يمسك الباب، فلا يدخل عليه أحدٌ إلا بإذنٍ
(1)
.
فصل
وأمَّا الاستئذان الذي أمر الله به المماليكَ ومن لم يبلغ الحُلُم في العورات الثَّلاث: قبل الفجر، ووقتَ الظَّهيرة، وعند النَّوم، فكان ابن عبَّاسٍ يأمر به، ويقول: ترك النَّاس العملَ به= فقالت طائفةٌ
(2)
: الآية منسوخةٌ. ولم تأت بحجَّةٍ.
وقالت طائفةٌ: أمر نَدْبٍ وإرشادٍ، لا حَتْمٍ وإيجابٍ، وليس معها ما يدلُّ على صرف الأمر عن ظاهره.
وقالت طائفةٌ: المأمور بذلك النِّساء خاصَّةً، وأمَّا الرِّجال فيستأذنون
(3)
في جميع الأوقات. وهذا ظاهر البطلان، فإنَّ جمع «الذين» لا يختصُّ المؤنَّثَ، وإن جاز إطلاقه عليهنَّ مع الذُّكور تغليبًا.
وقالت طائفةٌ عكس هذا: إنَّ المأمور بذلك الرِّجال دون النِّساء، نظرًا إلى لفظ «الذين» في الموضعين. ولكن سياق الآية يأباه، فتأمَّلْه.
(1)
رواه البخاري (3693) ومسلم (2403/ 28) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
انظر اختلاف العلماء في المراد بهذه الآية في «الجامع لأحكام القرآن» (15/ 329، 330) طبعة الرسالة.
(3)
ج: «فيستأذنوا» .
وقالت طائفةٌ: كان الأمر بالاستئذان ذلك
(1)
الوقتَ للحاجة، ثمَّ زالت، والحكم إذا ثبت بعلَّةٍ زال
(2)
بزوالها، فروى أبو داود في «سننه»
(3)
أنَّ نفرًا من أهل العراق قالوا لابن عبَّاسٍ: يا أبا عبَّاسٍ
(4)
! كيف ترى هذه الآية الَّتي أمرنا فيها بما أمرنا، ولا يعمل بها أحدٌ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية [النُّور: 58]. فقال ابن عبَّاسٍ: إنَّ الله حكيمٌ رحيمٌ بالمؤمنين، يحبُّ السِّتر، وكان النَّاس ليس لبيوتهم ستورٌ ولا حِجالٌ، فربَّما دخل الخادم أو الولد
(5)
أو يتيمة الرَّجل، والرَّجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالسُّتور والخير، فلم أرَ أحدًا يعمل بذلك بعدُ.
وقد أنكر بعضهم ثبوت هذا عن ابن عبَّاسٍ، وطعن في عكرمة، ولم يصنع شيئًا. وطعن في عمرو بن أبي
(6)
عمرٍو
(7)
، وقد احتجَّ به صاحبا الصَّحيح، فإنكار هذا تعنُّتٌ واستبعادٌ لا وجهَ له.
وقالت طائفةٌ: الآية محكمةٌ عامَّةٌ لا معارضَ لها ولا دافعَ، والعمل بها
(1)
في المطبوع: «في ذلك» .
(2)
ك: «يزول» .
(3)
برقم (5192)، وإسناده حسن.
(4)
في المطبوع: «يا ابن عباس» خلاف النسخ. وأبو العباس كنية عبد الله بن عباس. وسقطت «يا أبا عباس» من ك.
(5)
ك: «السواد» ، تحريف.
(6)
«أبي» ليست في ك.
(7)
في المطبوع بعدها: «مولى المطلب» ، وليست في النسخ.
واجبٌ وإن تركه أكثر النَّاس.
والصَّحيح: أنَّه
(1)
إن كان هناك ما يقوم مقامَ الاستئذان: من فتْحِ بابٍ فتحُه دليلٌ على الدُّخول، أو رَفْعِ سترٍ، أو تردُّدِ الدَّاخلِ والخارج ونحوه= أغنى ذلك عن الاستئذان، وإن لم يكن ما يقوم مقامه فلا بدَّ منه. والحكم معلَّلٌ
(2)
بعلَّةٍ قد
(3)
أشارت إليها الآية، فإذا وُجِدت وُجِد الحكم، وإذا انتفتْ انتفى، والله أعلم.
فصل
في هديه في أذكار العُطاس
ثبت عنه أنّ الله يحبُّ العطاس، ويكره التَّثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمِدَ اللَّه، كان حقًّا على كلِّ مسلمٍ سمعه أن يقول له
(4)
: يرحمك اللَّه. وأمَّا التَّثاؤب فإنَّما هو من الشَّيطان، فإذا تثاءبَ أحدكم فليردَّه ما استطاع، فإنَّ أحدكم إذا تثاءب ضحك الشَّيطان. ذكره البخاريُّ
(5)
.
وثبت عنه في «صحيحه»
(6)
أيضًا: «إذا عَطَسَ أحدكم فليقلْ: الحمد للَّه، وليقلْ له أخوه أو صاحبه: يرحمك اللَّه، فإذا قال له: يرحمك اللَّه، فليقلْ:
(1)
«أنه» ليست في ج.
(2)
ج: «يعلل» .
(3)
«قد» ليست في ك.
(4)
«له» ليست في ص، ج، مب.
(5)
برقم (6226) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
برقم (6224) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
يهديكم الله ويُصلِحُ بالكم».
وفي «الصَّحيحين»
(1)
أنَّه عطسَ عنده رجلان، فشَمَّت أحدَهما، ولم يُشمِّت الآخرَ، فقال الذي لم يُشمِّته: عطسَ فلانٌ فشَمَّتَّه، وعطستُ فلم تُشمِّتني، فقال: «هذا حَمِدَ اللَّه، وأنت
(2)
لم تحمد اللَّه».
وثبت عنه في «صحيح مسلم»
(3)
: «إذا عطسَ أحدكم فحَمِدَ الله فشَمِّتوه، فإن لم يحمد اللَّه فلا تُشمِّتوه» .
وثبت عنه في «صحيحه»
(4)
: «حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيتَه فسلِّمْ عليه، وإذا دعاك فأجِبْه، وإذا استنصحك فانصَحْ له، وإذا عطَسَ فحمِدَ اللَّه فشَمِّتْه، [وإذا مرِضَ فعُدْه]
(5)
، وإذا مات فاتبِعْه».
وروى أبو داود
(6)
عنه بإسنادٍ صحيحٍ: «إذا عطسَ أحدكم فليقلْ: الحمد لله
(7)
على كلِّ حالٍ، وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك اللَّه، ويقول هو: يهديكم الله ويُصلِح بالكم».
(1)
رواه البخاري (6225) ومسلم (2991) واللفظ له من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
ص، ج:«وإنك» .
(3)
برقم (2992) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(4)
برقم (2162/ 5) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
ما بين المعكوفتين ليس في النسخ، وهو في «صحيح مسلم» .
(6)
برقم (5033) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، وصححه المصنف، وهو عند البخاري (6224) دون قوله:«على كل حال» .
(7)
ك: «فليحمد الله» .
وروى الترمذي
(1)
أنَّ رجلًا عطَسَ عند ابن عمر، فقال: الحمد لله والسَّلام على رسول اللَّه، فقال ابن عمر: وأنا أقول: الحمد لله والسَّلام على رسول الله، وليس هكذا علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنْ
(2)
عَلَّمنا أن نقول: «الحمد لله على كلِّ حالٍ» .
وذكر مالك
(3)
عن نافع، عن ابن عمر: إذا عطَسَ
(4)
فقيل
(5)
له: يرحمك اللَّه، فيقول: يرحمنا الله وإيَّاكم، ويغفر لنا ولكم.
وظاهرُ الحديث المبدوء به: أنَّ التَّشميت فرض عينٍ على كلِّ من سمع العاطس يحمد اللَّه، ولا يُجزِئ تشميتُ الواحد عنهم، وهذا أحد قولي العلماء، اختاره ابن أبي زيد وابن العربيِّ المالكي
(6)
، ولا دافعَ له.
وقد روى أبو داود
(7)
أنَّ رجلًا عطسَ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: السَّلام عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وعليك السَّلام وعلى أمِّك» ، ثمَّ قال:«إذا عطس أحدكم فلْيحمدِ الله» ، قال: فذكر بعض المحامد، «وليقلْ له مَن عنده:
(1)
برقم (2738)، وصححه الحاكم (4/ 265) والألباني في «الإرواء» (3/ 245).
(2)
«ولكن» ليست في ص، ج، ك.
(3)
برقم (2770).
(4)
بعدها في م، مب:«أحدكم» ، وهو خطأ، فالضمير لابن عمر.
(5)
ك: «فقل» .
(6)
انظر: «المسالك في شرح الموطأ» (7/ 518).
(7)
برقم (5031) والترمذي (2740) وقال: «هذا حديث اختلفوا في روايته عن منصور، وقد أدخلوا بين هلال بن يساف وسالم رجلًا» . وقال الحاكم (4/ 267): «إن هلال بن يساف لم يدرك سالم بن عبيد ولم يره، وبينهما رجل مجهول» . وانظر: «الإرواء» (3/ 246 - 247).
يرحمك اللَّه، وليردَّ ــ يعني عليهم ــ: يغفر الله لنا ولكم».
وفي السَّلام على أمِّ هذا المسلِّم نكتةٌ لطيفةٌ، وهي إشعاره بأنَّ سلامه قد وقع في غير موقعه اللَّائق به، كما وقع هذا السَّلام على أمِّه، فكما أنَّ هذا سلامٌ في غير موضعه فهكذا سلامه هو.
ونكتةٌ أخرى ألطفُ منها، وهي تذكيره بأمِّه ونَسَبُه له إليها، وكأنَّه أمِّيٌّ محضٌ، منسوبٌ إلى الأمِّ، باقٍ على تربيتها، لم تُرَبِّه الرِّجال، وهذا أحد الأقوال في «الأمِّيِّ» ، أنَّه الباقي على نسبته إلى أمِّه.
وأمَّا النبيُّ الأمِّيُّ، فهو الذي لا يُحسن الكتابة ولا يقرأ الكتاب.
وأمَّا الأمِّيُّ الذي لا تصحُّ الصَّلاة خلفه، فهو الذي لا يصحِّح الفاتحة، ولو كان عالمًا بعلومٍ كثيرةٍ.
ونظير ذكر الأمِّ هاهنا ذِكْرُ هَنِ الأب لمن تعزَّى بعزاء الجاهليَّة
(1)
، فيقال له: اعْضَضْ هَنَ أبيك، وكان ذِكرُ الأب هاهنا أحسنَ تذكيرًا لهذا المتكبِّر بدعوى الجاهليَّة بالعضو الذي خرج منه، وهو هَنُ أبيه، فلا ينبغي له أن يتعدَّى طوره، كما أنَّ ذِكْر الأمِّ هاهنا أحسنُ تذكيرًا له بأنَّه باقٍ على أمِّيَّته. والله أعلم بمراد رسوله.
ولمَّا كان العاطس قد حصلَ له بالعطاس نعمةٌ ومنفعةٌ بخروج الأبخرة المُحْتقِنة
(2)
في دماغه الَّتي لو بقيتْ فيه أحدثتْ فيه أدواءً عسرةً، شُرِعَ له
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
ب: «المتخلفة» . مب: «المختلفة» .
حمد الله على هذه النِّعمة مع بقاء أعضائه
(1)
على التئامها وهيئتها بعد هذه الزَّلزلة الَّتي هي للبدن كزلزلة الأرض لها
(2)
، ولهذا يقال: شَمَّتَه
(3)
بالشين والسين.
فقيل: هما بمعنًى واحدٍ، قاله أبو عُبيد
(4)
وغيره. قال: وكلُّ داعٍ بخيرٍ، فهو مشمِّتٌ ومسمِّتٌ.
وقيل: بالمهملة دعاءٌ له بحسن السَّمت، وعَودِه
(5)
إلى حالته من السُّكون والدَّعة، فإنَّ العُطاس يُحدِث في الأعضاء حركةً وانزعاجًا. وبالمعجمة: دعاءٌ له بأن يَصرف الله عنه ما يشمِّت به أعداءه، فشمَّتَه: إذا أزال عنه الشَّماتة، كقرَّد البعيرَ: إذا أزال قُرادَه عنه
(6)
.
وقيل: هو دعاءٌ له بثباته على قوائمه في طاعة اللَّه، مأخوذٌ من الشَّوامت وهي القوائم.
وقيل: هو تشميتٌ له بالشَّيطان، لإغاظته بحمد الله له
(7)
على نعمة العطاس، وما حصل به من مَحابِّ اللَّه، فإنَّ الله يحبُّه، فإذا ذكر العبد الله
(1)
«أعضائه» ليست في ك.
(2)
ص، ج:«له» . وليست في ك.
(3)
ك، المطبوع:«شمته وسمته» .
(4)
في المطبوع: «أبو عبيدة» خلافًا للنسخ. وانظر: «غريب الحديث» له (2/ 184) و «عارضة الأحوذي» (10/ 206) و «لسان العرب» (شمت).
(5)
ج: «وعودته» .
(6)
ج: «أزال القراد» .
(7)
«له» ليست في ق والمطبوع.
وحمِدَه ساء ذلك الشَّيطانَ من وجوهٍ:
منها: نفس العطاس الذي يحبُّه اللَّه
(1)
، وحَمْدُ الله عليه، ودعاء المسلمين له بالرَّحمة، ودعاؤه لهم بالهداية وإصلاحِ البال، وذلك كلُّه غائظٌ
(2)
للشَّيطان، مُحزِنٌ له، فيُشَمَّتُ المؤمن بغيظِ عدوِّه وحزنه
(3)
وكآبته، فسمِّي الدُّعاء له بالرَّحمة تشميتًا
(4)
، لما في ضمنه من شماتته بعدوِّه. وهذا معنًى لطيفٌ إذا تنبَّه له العاطس والمشمِّت انتفعا به، وعظُمتْ عندهما منفعة العطاس في البدن والقلب، وتبيَّن السِّرُّ في محبَّة الله له، فللَّه الحمد الذي هو أهله كما ينبغي لكريم
(5)
وجهه وعزِّ جلاله.
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في العُطاس ما ذكره أبو داود
(6)
عن أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطَسَ وضعَ يده أو ثوبه على فيه، وخَفضَ
(7)
أو غَضَّ بها صوتَه. قال الترمذي: حديثٌ صحيحٌ.
(1)
بعدها في ك: «فإن الله يحبه» . وليست في بقية النسخ.
(2)
ك: «غائض» ، خطأ.
(3)
ك: «مغيظ عدوه ومحزنه» .
(4)
بعدها في ق والمطبوع: «له» . وليست في بقية النسخ.
(5)
م، مب:«لكرم» .
(6)
بعدها في المطبوع: «والترمذي» . وليست في النسخ. ورواه أبو داود (5029) ــ واللفظ له ــ والترمذي (2745) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، وصححه الترمذي والحاكم (4/ 293)، وقال الألباني في «المشكاة» (3/ 1340):«إسناده جيد» .
(7)
«وخفض» ليست في ق.
ويُذكر عنه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ التَّثاؤب الرفيع
(1)
والعَطْسَة الشَّديدة من الشَّيطان»
(2)
.
ويُذكر عنه: «إنَّ الله يكره رفْعَ الصَّوت بالتَّثاؤب والعطاس»
(3)
.
وصحَّ عنه أنَّه عطسَ عنده رجلٌ فقال له: «يرحمك الله» ، ثمَّ عطسَ أخرى، فقال:«الرَّجل مزكومٌ» . هذا لفظ مسلم
(4)
أنَّه قاله في المرَّة الثَّانية، وأمَّا الترمذي
(5)
فقال فيه عن سلمة
(6)
: عطسَ رجلٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاهدٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يرحمك الله» ، ثمَّ عطس الثَّانية والثَّالثة
(7)
، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(8)
: «هذا رجلٌ مزكومٌ» . قال
(9)
: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
(1)
في المطبوع: «الشديد» .
(2)
رواه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (264) من حديث أم سلمة رضي الله عنها؛ وفي الإسناد عمرو بن عبد الرحمن بن عمرو بن قيس مجهول، وبه ضعفه الألباني في «السلسلة الضعيفة» (3423).
(3)
رواه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (267)، وفي إسناده علي بن عروة متكلم فيه. انظر:«تهذيب الكمال» (21/ 69).
(4)
برقم (2993) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(5)
برقم (2743).
(6)
بعده في المطبوع: «بن الأكوع» . وليس في النسخ.
(7)
ص: «ثانية وثالثة» .
(8)
«يرحمك الله
…
صلى الله عليه وسلم» ساقطة من ك بسبب انتقال النظر.
(9)
بعدها في المطبوع: «الترمذي» . وليس في النسخ.
وقد روى أبو داود
(1)
عن سعيد بن أبي سعيدٍ عن أبي هريرة موقوفًا عليه: شَمِّتْ أخاك ثلاثًا، فما زاد فهو زكامٌ
(2)
.
وفي روايةٍ عن سعيد
(3)
، قال: لا أعلمه إلا أنَّه رفع الحديث إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمعناه. قال أبو داود
(4)
: رواه أبو نعيم، عن موسى بن قيس، عن محمَّد بن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. انتهى. وموسى بن قيس هذا الذي رفعه يُعرف بعصفور الجنة كوفي. قال يحيى بن معينٍ: ثقةٌ. وقال أبو حاتمٍ الرازيُّ: لا بأس به
(5)
.
وذكر أبو داود
(6)
عن عُبيد بن رِفاعة الزُّرقي، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «تُشَمِّت
(7)
العاطسَ ثلاثًا، فإن شئتَ فشَمِّتْه، وإن شئتَ فكُفَّ». ولكنْ له علَّتان، إحداهما: إرساله، فإنَّ عبيدًا هذا ليست له صحبةٌ. والثَّانية: أنَّ فيه يزيد بن عبد الرحمن الدالاني، وقد تُكلِّم فيه
(8)
.
(1)
برقم (5034) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا، وصححه الألباني في «صحيح الأدب المفرد» (ص 348).
(2)
ك: «مزكوم» .
(3)
رواها أبو داود (5035)، قال الألباني في «تخريج الهداية»:«وإسناده حسن» ثم ذكر أن ابن أبي حاتم نقل في «العلل» (6/ 125) عن أبيه تقويتَه وترجيحَ رفعه.
(4)
في «السنن» (5035).
(5)
انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» (29/ 134).
(6)
برقم (5036)، وإسناده ضعيف. انظر:«السلسلةالضعيفة» (4830).
(7)
ص، ج:«يشمت» . ك: «فشمت» . والمثبت من بقية النسخ موافق للرواية.
(8)
انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» (33/ 273).
وفي الباب حديثٌ آخر عن أبي هريرة يرفعه: «إذا عطسَ أحدُكم فلْيُشَمِّتْه جليسُه، وإن زاد على الثَّلاث
(1)
فهو مزكومٌ، ولا تشمِّته بعد الثَّلاث
(2)
». وهذا الحديث هو حديث أبي داود
(3)
الذي قال فيه: رواه أبو نعيم، عن موسى بن قيس، عن محمَّد بن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة. وهو حديثٌ حسنٌ.
فإن قيل: فإذا كان الذي به زكامٌ، فهو أولى أن يُدعى له ممَّن لا علَّة به؟
قيل له: يُدعى له كما يُدعى للمريض ومن به داءٌ ووجعٌ. وأمَّا سنَّة العطاس الذي يحبُّه اللَّه، وهو نعمةٌ، ويدلُّ على خفَّة البدن وخروجِ الأبخرة المحتقنة= فإنَّما يكون إلى تمام الثَّلاث
(4)
، وما زاد عليها يُدعى لصاحبه بالعافية.
وقوله في هذا
(5)
الحديث: «الرَّجل مزكومٌ» تنبيهٌ على الدُّعاء له بالعافية؛ لأنَّ الزُّكمة علَّةٌ، وفيه اعتذارٌ من ترك تشميته بعد الثَّلاث، وفيه تنبيهٌ على هذه العلَّة ليتداركها، ولا يُهمِلها فيصعب أمرها، فكلامه صلى الله عليه وسلم كلُّه حكمةٌ ورحمةٌ وعلمٌ وهدًى.
وقد اختلف النَّاس هاهنا في مسألتين:
(1)
ص، ج، ك:«الثالث» . والمثبت من ق، ب، مب.
(2)
ص: «الثالث» .
(3)
برقم (5035).
(4)
ص: «الثالث» .
(5)
«هذا» في ب، مب، وليست في بقية النسخ.
إحداهما: أنَّ العاطس إذا حمد الله فسمعه بعض الحاضرين دون بعضٍ، هل يُسَنُّ لمن لم يسمعه تشميتُه؟ فيه قولان، والأظهر: أنَّه يُشمِّته إذا تحقَّق أنَّه حمد اللَّه، وليس المقصود سماع المشمِّت للحمد، وإنَّما المقصود نفسُ حمْدِه، فمتى تحقَّق ترتَّب عليه التَّشميت، كما لو كان المشمِّت أخرسَ ورأى حركة شفتيه بالحمد، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال:«فإن حمِدَ الله فشَمِّتوه» . فهذا هو الصَّواب.
الثَّانية: إذا ترك الحمدَ فهل يُستحبُّ لمن حضره أن يُذكِّره الحمد؟ قال ابن العربي: لا يذكِّره، قال: وهذا جهلٌ من فاعله. وقال النووي
(1)
: أخطأ من زعم ذلك، بل يذكِّره، وهو مرويٌّ عن إبراهيم النَّخعيِّ. قال: وهو من باب النَّصيحة، والأمر بالمعروف، والتَّعاون على البرِّ والتَّقوى. وظاهر السُّنَّة يقوِّي قول ابن العربي، لأنَّ
(2)
النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يشمِّت الذي لم يحمد اللَّه، ولم يذكِّره، وهذا تعزيرٌ له، وحرمانٌ لبركة
(3)
الدُّعاء لمَّا حَرَمَ نفسَه بركةَ الحمد، فنسي اللَّه، فصرف قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدُّعاء له، ولو كان تذكيره سنَّةً لكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أولى بفعلها وتعليمها والإعانة عليها.
فصل
وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّ اليهود كانوا يتعاطسون عنده، يرجون أن يقول لهم: يرحمكم اللَّه، فيقول:«يهديكم الله ويصلح بالكم»
(4)
.
(1)
في «الأذكار» (ص 274، 275) تعقيبًا على قول ابن العربي.
(2)
ق، ب، ك، م، مب:«أن» .
(3)
ق، ب، ص، م:«لتركه» .
(4)
رواه أحمد (19586) وأبو داود (5038) والترمذي (2739) من حديث أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه، وصححه الترمذي والنووي في «الأذكار» (ص 275) والألباني في «الإرواء» (5/ 119).
فصل
في هديه في أذكار السَّفر وآدابه
صحَّ عنه أنَّه قال: «إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركعْ ركعتين من غير الفريضة، ثمَّ ليقلْ: اللَّهمَّ إنِّي أستخيرُك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك
(1)
، فإنَّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب. اللَّهمَّ إن كنت تعلم هذا
(2)
الأمر خيرًا لي في ديني ومعاشي، وعاجلِ أمري وآجلِه، فاقدُرْه لي، ويَسِّرْه لي، وبارِكْ لي فيه، وإن كنت تعلمه شرًّا لي في ديني ومعاشي، وعاجلِ أمري وآجلِه، فاصرِفْه عنِّي، واصرِفْني عنه، واقدُرْ لي الخير حيث كان، ثمَّ رَضِّني به
(3)
. ويسمِّي حاجته». رواه البخاريُّ
(4)
.
فعوَّض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّته بهذا الدُّعاء، عمَّا كان عليه أهل
(5)
الجاهليَّة من زجر الطَّير والاستقسام بالأزلام، الذي نظيره هذه القرعة الَّتي يفعلها إخوان المشركين، يطلبون بها علمَ ما قُسِم لهم في الغيب، ولهذا سُمِّي ذلك استقسامًا، وهو استفعالٌ من القَسْم، والسِّين فيه للطَّلب. وعوَّضهم بهذا الدُّعاء الذي هو توحيدٌ وافتقارٌ، وعبوديَّةٌ وتوكُّلٌ، وسؤالٌ لمن بيده الخير
(1)
بعدها في المطبوع: «العظيم» . وليس في النسخ.
(2)
ق، مب:«أن هذا» .
(3)
«به» ليست في ب.
(4)
برقم (6382) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5)
«أهل» ليست في ج.
كلُّه
(1)
، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يَصرِف السَّيِّئاتِ إلا هو، الذي إذا فتح لعبده رحمةً لم يستطع أحدٌ حَبْسَها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحدٌ إرسالَها إليه عن التَّطيُّر والتَّنجيم واختيار
(2)
الطَّالع ونحوه. فهذا الدُّعاء هو الطَّالع الميمون السَّعيد، طالع أهل السَّعادة والتَّوفيق، الذين سبقَتْ لهم من الله الحسنى، لا طالع أهل
(3)
الشِّرك والشَّقاء والخذلان، الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر، فسوف يعلمون.
فتضمَّن هذا الدُّعاء
(4)
الإقرارَ بوجوده سبحانه، والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة، والإقرار بربوبيَّته، وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به، والتَّوكُّل عليه، والخروج من عهدة نفسه، والتَّبرِّي من الحول والقوَّة إلا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها وإرادته لها، وأنَّ ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ.
(5)
من حديث سعد بن أبي وقَّاصٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إنَّ من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه بما قضى اللَّه، وإن من شقاوة ابن آدم ترْكَ استخارة اللَّه، وسَخَطَه بما قضى اللَّه» .
فتأمَّلْ كيف وقع المقدور مكتنفًا بأمرين: التَّوكُّل الذي هو مضمون
(1)
بعدها في ج: «وإليه يرجع الأمر كله» . وليست في بقية النسخ.
(2)
ص، ج:«اخبار» .
(3)
ق، ب، م، مب:«لأهل» .
(4)
«الدعاء» ليست في ك.
(5)
برقم (1444) من حديث سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه، وفي إسناده محمد بن أبي حميد متكلم فيه. انظر:«السلسلة الضعيفة» (1906).
الاستخارة قبله، والرِّضى بما يقضي الله له بعده، وهما عنوان السَّعادة. وعنوانُ الشَّقاء أن يكتنفه تركُ التَّوكُّل والاستخارةِ قبله، والسَّخطُ بعده. فالتَّوكُّل قبل القضاء، فإذا أُبرِم القضاء وتمَّ انتقلت العبوديَّة إلى الرِّضى بعده، كما في «المسند» والنَّسائيِّ
(1)
في الدُّعاء المشهور: «وأسألك الرِّضى بعد القضاء» . وهذا أبلغ من الرِّضى بالقضاء، فإنَّه قد يكون عزمًا، فإذا وقع القضاء تنحلُّ العزيمة، وإذا حصل الرِّضى
(2)
بعد القضاء كان حالًا أو مقامًا.
والمقصود أنَّ الاستخارة توكُّلٌ على الله، وتفويضٌ إليه، واستقسامٌ بقدرته وعلمه
(3)
وحسنِ اختياره لعبده، وهي من لوازم الرِّضى به ربًّا
(4)
، الذي لا يذوق طعمَ الإسلام من لم يكن كذلك، فإن رضيَ بالمقدور بعدها فذلك علامة سعادته.
وذكر البيهقي
(5)
وغيره عن أنس قال: لم يُرِد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرًا قطُّ إلا قال حين ينهض من جلوسه: «اللَّهمَّ بك انتشرتُ، وإليك توجَّهتُ
(6)
، وبك اعتصمتُ، وعليك توكَّلتُ. اللَّهمَّ أنت ثقتي، وأنت رجائي. اللَّهمَّ
(1)
أحمد (18325) والنسائي (1305) من حديث عمار بن ياسر- رضي الله عنه، والحديث صححه الحاكم (1/ 524) والألباني في «تخريج الكلم الطيب» (ص 109 - 110).
(2)
«الرضى» ليست في ص.
(3)
ج: «بعلمه وقدرته» .
(4)
ص، ج:«أما» .
(5)
(5/ 250)، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 130):«وفيه عمر بن مساور، وهو ضعيف» انتهى. وفيه أيضًا عنعنة الحسن البصري، ولم يصرح بالتحديث.
(6)
م، مب:«وجهت» .
اكْفِني ما أهمَّني، وما لا أهتمُّ له، وما أنت أعلم به منِّي
(1)
. عزَّ جارك، وجلَّ ثناؤك، ولا إله غيرك. اللَّهمَّ زَوِّدْني التَّقوى، واغفِرْ لي ذنبي، ووَجِّهْني للخير أينما توجَّهتُ». ثمَّ يخرج.
فصل
وكان إذا ركب راحلته كبَّر ثلاثًا، ثمَّ قال:«سبحان الذي سَخَّر لنا هذا، وما كنَّا له مُقرِنين، وإنَّا إلى ربِّنا لمنقلبون» . ثمَّ يقول: «اللَّهمَّ إنِّي أسألك في سفري هذا البرَّ والتَّقوى، ومن العمل ما ترضى. اللَّهمَّ هَوِّنْ علينا السَّفَر، واطْوِ عنَّا البعيدَ
(2)
. اللَّهمَّ أنت الصَّاحب في السَّفر، والخليفة في الأهل. اللَّهمَّ اصْحَبْنا في سفرنا، واخْلُفْنا في أهلنا». وكان إذا رجع قال:«آئبون تائبون إن شاء الله، عابدون لربِّنا حامدون»
(3)
.
وذكر أحمد
(4)
عنه أنَّه كان يقول: «اللهمَّ أنت الصَّاحبُ في السَّفر، والخليفةُ في الأهل، اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من الضِّبْنَة
(5)
في السَّفر، والكآبة في
(1)
«مني» ليست في ك.
(2)
في المطبوع: «هوِّن علينا سفرنا هذا واطوِ عنا بعده» . والمثبت من النسخ موافق لرواية أحمد.
(3)
رواه مسلم (1342/ 425) وأحمد (6311) واللفظ له من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
برقم (2311) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (2716)، وحسنه ابن حجر كما في «الفتوحات الربانية» (5/ 172) والألباني في «التعليقات الحسان» (4/ 341).
(5)
ق، ب، ج، ص، م، مب:«الضنّة» ، خطأ. قال ابن الأثير في «النهاية» (3/ 73): الضِّبنة: ما تحت يدك من مالٍ وعيالٍ ومن تلزمك نفقته.
المنقلَب، اللَّهمَّ اقبِضْ لنا الأرض، وهوِّنْ علينا السَّفر». وإذا أراد الرُّجوع قال:«تائبون عابدون، لربِّنا حامدون» . وإذا دخل البلد
(1)
قال: «تَوبًا تَوبًا، لربِّنا أوبًا، لا يغادر علينا حَوْبًا» .
وفي «صحيح مسلم»
(2)
: أنَّه كان إذا سافر قال: «اللَّهمَّ أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهمَّ اصْحَبْنا في سفرنا واخلُفْنا في أهلنا
(3)
. اللهم إنِّي أعوذ بك من وَعْثَاء السَّفر، وكآبةِ المنقلَب، ومن الحَور بعد الكَور، ومن دعوة المظلوم، ومن سوء المنظر في الأهل والمال».
فصل
وكان إذا وضع رِجلَه في الرِّكاب لركوب دابَّته قال: «بسم الله» ، فإذا استوى على ظهرها، قال:«الحمد لله» ، ثمَّ يقول:«سبحانَ الذي سخَّر لنا هذا، وما كنَّا له مُقرِنين، وإنَّا إلى ربِّنا لمنقلبون» ، ثمَّ يقول:«الحمد لله الحمد لله الحمد لله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر» ، ثمَّ يقول:«سبحان الله سبحان الله سبحان الله» ، ثمَّ يقول: «لا إله إلا أنت، سبحانك
(4)
إنِّي ظلمتُ نفسي، فاغفِرْ لي، إنَّه لا يغفر الذُّنوب إلا أنت»
(5)
.
(1)
ص، ج:«دخل على أهله» .
(2)
برقم (1342، 1343) من حديث ابن عمر وعبد الله بن سرجس رضي الله عنهما، وقد جمع المؤلف بينهما واختار منهما.
(3)
«اللهم أنت
…
أهلنا» ليست في المطبوع.
(4)
في المطبوع بعدها: «إني كنت من الظالمين، سبحانك» . وليست في النسخ.
(5)
رواه أحمد (1056) وأبو داود (2602) والترمذي (3446) من حديث علي- رضي الله عنه، والحديث صححه الترمذي وابن حبان (2698) والنووي في «الأذكار» (ص 219) والألباني في «تخريج الكلم الطيب» (ص 144).
وكان إذا ودَّع أصحابه في السَّفر يقول لأحدهم: «أستودِعُ الله دينَك وأمانَتك وخواتيمَ عملِك»
(1)
.
وجاء إليه رجلٌ فقال: يا رسول اللَّه، إنِّي أريد سفرًا، فزَوِّدْني. فقال:«زوَّدك الله التَّقوى» . قال: زِدْني. قال: «وغفرَ لك ذنبك» . قال: زِدْني. قال: «ويسَّرَ لك الخيرَ حيثُما كنتَ
(2)
»
(3)
.
وقال له رجلٌ: إنِّي أريد سفرًا، فقال:«أوصيك بتقوى اللَّه، والتَّكبير على كلِّ شَرَفٍ» ، فلمَّا ولَّى قال:«اللَّهمَّ ازْوِ له الأرضَ، وهَوِّنْ عليه السَّفر»
(4)
.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا عَلَوا الثَّنايا كبَّروا، وإذا هبطوا سبَّحوا،
(1)
رواه أحمد (4957) وأبو داود (2600) والترمذي (3443) وابن ماجه (2826) من حديث ابن عمر- رضي الله عنه، والحديث صححه الترمذي وابن حبان (2693) والحاكم (2/ 97) والألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (7/ 353).
(2)
بعدها في ك: «فلما ولّى قال: اللهم ازوِ له الأرض» . وليست في بقية النسخ. وستأتي في الحديث الآتي.
(3)
رواه الترمذي (3444) من حديث أنس- رضي الله عنه، وحسنه الترمذي والألباني «تخريج الكلم الطيب» (ص 143)، وصححه ابن خزيمة (2532).
(4)
رواه أحمد (8310) والترمذي (3445) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، وحسنه الترمذي والبغوي (1346)، وصححه ابن خزيمة (2561) وابن حبان (2692) والحاكم (1/ 445). وانظر:«السلسلة الصحيحة» (1730) و «تخريج الكلم الطيب» (ص 143).
فوضعت الصَّلاة على ذلك
(1)
.
وقال أنس: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا علا شَرَفًا من الأرض أو نَشَزًا قال: «اللَّهمَّ لك الشَّرف على كلِّ شرفٍ، ولك الحمد على كلِّ حال
(2)
»
(3)
.
وكان سيره في حجِّه العَنَق، فإذا وجد فَجْوةً رفع السَّير فوق ذلك، وكان يقول:«لا تَصْحَبُ الملائكة رُفْقةً فيها كلبٌ ولا جرسٌ»
(4)
.
وكان يكره للمسافر وحده أن يسير باللَّيل فقال: «لو يعلم النَّاس ما في الوحدة ما سار أحدٌ وحدَه بليلٍ»
(5)
.
بل كان يكره السَّفر للواحد بلا رفقةٍ، وأخبر:«أنَّ الواحد شيطانٌ، والاثنان شيطانان، والثَّلاثة ركبٌ»
(6)
.
(1)
رواه أبو داود (2599) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو صحيح دون قوله:«فوضعت الصلاة» ، فهو مدرج. انظر:«صحيح أبي داود - الأم» (7/ 351).
(2)
في المطبوع: «حمد» خلاف النسخ والرواية.
(3)
رواه أحمد (13504) وأبو يعلى (4297)، وفي إسناده عمارة بن زاذان وزياد النميري متكلم فيهما. انظر:«تهذيب الكمال» ترجمة برقم (4184، 2055).
(4)
رواه مسلم (2113) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
رواه البخاري (2998) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(6)
رواه مالك (2801) ومن طريقه أبو داود (2607) والترمذي (1674) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وحسنه الترمذي وابن مفلح في «الآداب الشرعية» (1/ 428)، وصححه ابن خزيمة (2570) والحاكم (2/ 102) والألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (3/ 202). وانظر:«صحيح أبي داود - الأم» (7/ 361) و «السلسلة الصحيحة» (62).
(1)
.
ولفظ مسلم
(2)
وذكر أحمد
(3)
عنه أنَّه كان إذا غزا أو سافر فأدركه اللَّيل قال: «يا أرضُ، ربِّي وربُّك اللَّه، أعوذ بالله من شرِّك وشرِّ ما فيك، وشرِّ ما خُلِقَ فيك، وشرِّ ما دَبَّ عليك، أعوذ بالله من شرِّ كلِّ أَسَدٍ وأَسْوَد، وحيَّةٍ وعقربٍ، ومن شرِّ ساكن البلد، ومن شرِّ والدٍ وما ولد» .
وكان يقول: «إذا سافرتم في الخِصْب فأَعطُوا الإبل حظَّها من الأرض، وإذا سافرتم في السَّنة فبادِرُوا نِقْيَها» . وفي لفظٍ: «فأَسرِعوا عليها السَّير، وإذا عَرَّستم فاجتنبوا الطُّرق
(4)
، فإنَّها طُرق الدَّوابِّ ومأوى الهَوامِّ باللَّيل»
(5)
.
وكان إذا رأى قريةً يريد دخولها قال حين يراها: «اللَّهمَّ ربَّ السَّماوات السَّبعِ وما أَظللنَ، وربَّ الأرضينَ السَّبعِ وما أَقللن، وربَّ الشَّياطين وما أضللن، وربَّ الرِّياحِ
(6)
وما ذَرَينَ، فإنَّا نسألك خيرَ هذه القرية وخيرَ أهلها،
(1)
رواه مسلم (2708/ 55) من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها.
(2)
رواه مسلم (2708/ 54) من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها.
(3)
برقم (6161) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف. انظر:«السلسلة الضعيفة» (4837) و «ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 323).
(4)
مب: «الطريق» .
(5)
رواهما مسلم (1926) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
في المطبوع: «الريح» خلاف النسخ.
ونعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما فيها»
(1)
.
وكان إذا بدا له الفجر في السَّفر قال: «سمِعَ سامعٌ بحمد الله ونعمتِه
(2)
وحُسنِ بلائه علينا، ربَّنا صاحِبْنا فأَفضِلْ علينا، عائذٌ
(3)
بالله من النَّار» يقول ذلك ثلاث مرات، ويرفع بها صوته
(4)
(5)
.
وكان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوِّ مخافةَ أن يناله العدوُّ
(6)
.
وكان ينهى المرأة أن تسافر بغير مَحْرمٍ
(7)
، ولو مسافةَ بَرِيدٍ
(8)
.
(1)
رواه النسائي في «السنن الكبرى» (8776) من حديث صهيب- رضي الله عنه، وفي إسناده أبو مروان لم تثبت له صحبة، وليس بالمعروف، ولكن للحديث شاهد يصححه، وقد صححه ابن خزيمة (2565) وابن حبان (2709) و الحاكم (1/ 446) والألباني في «تخريج الكلم الطيب» (ص 148) و «السلسلة الصحيحة» (2757).
(2)
«ونعمته» ساقطة من المطبوع.
(3)
كذا في النسخ مرفوعًا. وفي المطبوع ومصادر التخريج: «عائذًا» .
(4)
«يقول
…
صوته» ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة عند ابن خزيمة والحاكم.
(5)
رواه ابن خزيمة (2571) والحاكم (1/ 446) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، وهو عند مسلم (2718) بدون قوله:«ونعمته» وقوله: «يقول ذلك ثلاث مرات ويرفع بها صوته» .
(6)
رواه البخاري (2990) ومسلم (1869/ 192) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(7)
رواه البخاري (1862) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي الباب عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنه. انظر: «نصب الراية» (3/ 11).
(8)
جاءت لفظة البريد عند أبي داود (1725)، وهي شاذة. انظر:«علل الدارقطني» (10/ 338) و «ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 140).
وكان يأمر المسافر إذا قضى نَهْمَتَه من سفره، أن يُعجِّل
(1)
إلى أهله
(2)
.
وكان إذا قَفَلَ من سفره يكبِّر على كلِّ شَرَفٍ من الأرض ثلاثَ تكبيراتٍ، ثمَّ يقول:«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، آئبون تائبون، عابدون، لربِّنا حامدون، صدق الله وعْدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَه»
(3)
.
وكان ينهى أن يَطْرُقَ الرَّجلُ أهلَه ليلًا إذا طالتْ غَيبتُه عنهم
(4)
.
وفي «الصَّحيحين»
(5)
: كان لا يَطْرُق أهلَه ليلًا، يدخلُ عليهنَّ
(6)
غدوةً أو عَشيَّةً.
وكان إذا قَدِمَ من سفرٍ تُلُقِّي
(7)
بالولدان من أهل بيته. قال عبد الله بن جعفر: وإنَّه قَدِمَ مرَّةً من سفرٍ، فسُبِقَ بي إليه، فحملني بين يديه، ثمَّ جِيءَ بأحد
(8)
ابنَي فاطمة، إمَّا حسن وإمَّا حسين، فأردفه خلفه. قال: فدخلنا
(1)
بعدها في المطبوع: «الأوبة» ، وليست في النسخ والرواية.
(2)
رواه البخاري (1804) ومسلم (1927) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (6385) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
رواه البخاري (5244) ومسلم (715/ 183) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5)
رواه البخاري (1800) ومسلم (1928) من حديث أنس رضي الله عنه.
(6)
ج: «عليهم» .
(7)
المطبوع: «سفره يُلقَّى» . والمثبت من النسخ، وكذا الرواية.
(8)
ص، ج:«بإحدى» .
المدينةَ ثلاثةً على دابَّةٍ
(1)
.
وكان يعتنق القادمَ من سفره، ويُقبِّله إذا كان من أهله. قال الزُّهريُّ عن عروة، عن عائشة: قدِمَ زيد بن حارثة المدينةَ ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه فقَرعَ البابَ، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانًا يَجُرُّ ثوبه، والله ما رأيته عريانًا قبله ولا بعده، فاعتنقه وقبَّله
(2)
.
وقالت عائشة: لمَّا قدِمَ جعفر وأصحابه تلقَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقبَّل ما
(3)
بين عينيه واعتنقه
(4)
.
قال الشَّعبيُّ: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قَدِموا من سفرٍ تعانقوا
(5)
.
وكان إذا قدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين
(6)
.
(1)
رواه مسلم (2428) من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما.
(2)
رواه الترمذي (2732) من حديث عائشة رضي الله عنها.، وفيه ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه، وفيه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن عباد المدني، وأبوه، وبهؤلاء ضعفه الألباني في «نقد نصوص حديثية» (ص 16).
(3)
المطبوع: «معا» ، تحريف.
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في «الإخوان» (142) وأبو يعلى في «معجمه» (166) والبيهقي في الشعب (8562)، وفي إسناده محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير متكلم فيه. انظر:«الميزان» (7734). والحديث ثابت من رواية جابر رضي الله عنه. انظر: «السلسلة الصحيحة» (2657).
(5)
رواه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (6906) والبيهقي (7/ 100)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» تحت رقم (160).
(6)
رواه البخاري (4418) ومسلم (2769/ 53) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
فصل
في هديه في أذكار النكاح
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه علَّمهم خطبة الحاجة: «الحمد لله
(1)
، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ــ وفي لفظ
(2)
: وسيِّئات أعمالنا ــ، من يَهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله». ثمَّ يقرأ الثَّلاثَ آيات
(3)
: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} الآية
(4)
[النساء: 1]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)} إلى قوله
(5)
: {عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]
(6)
.
قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: هذه في خطبة النِّكاح أو في غيرها؟ قال:
(1)
بعدها في المطبوع: «نحمده» . وليست في النسخ.
(2)
«وفي لفظ» ليست في المطبوع.
(3)
في المطبوع: «الآيات الثلاث» خلاف النسخ.
(4)
كذا في النسخ. وقد ذكرت الآية بتمامها في المطبوع.
(5)
كذا في أكثر النسخ. وأُكملت الآية في مب والمطبوع.
(6)
رواه الترمذي (1105) وابن ماجه (1892) من طرق عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود- رضي الله عنه، ورواه الطيالسي (336) وأبو داود (2118) من طرق عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، والحديث حسنه الترمذي، وصححه القرطبي والألباني. انظر:«صحيح أبي داود - الأم» (6/ 345).
في كلِّ حاجةٍ
(1)
.
وقال: «إذا أفاد أحدكم امرأةً أو خادمًا أو دابَّةً فليأخذ بناصيتها، ولْيدعُ الله بالبركة، ولْيُسَمِّ
(2)
الله عز وجل، وليقُلْ: اللَّهمَّ إنِّي أسألك خيرَها وخيرَ ما جُبِلَتْ عليه، وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما جُبِلَتْ عليه»
(3)
.
وكان يقول للمتزوِّج: «باركَ الله لك وباركَ عليك، وجمعَ بينكم
(4)
في خيرٍ»
(5)
.
وقال: «لو أنَّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهلَه قال: بسم الله، اللَّهمَّ جَنِّبْنا الشَّيطانَ وجنِّبِ الشَّيطانَ ما رزقتنا، فإنَّه إن يُقدَّر بينهما ولدٌ في ذلك لم يضرَّه شيطانٌ
(6)
أبدًا»
(7)
.
(1)
رواه الطيالسي (336)، ومن طريقه البيهقي (7/ 146).
(2)
في المطبوع: «ويسمي» .
(3)
رواه أبو داود (2160) وابن ماجه (1918) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (2/ 185)، وجوَّده العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (2/ 847)، وحسنه الألباني في «آداب الزفاف» (ص 93).
(4)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «بينكما» كما في مصادر التخريج.
(5)
رواه أحمد (8957) وأبو داود (2130) والترمذي (1091) وابن ماجه (1905)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما، والحديث صححه الترمذي والحاكم (2/ 183) والنووي في «الأذكار» (ص 283) وابن الملقن في «البدر المنير» (7/ 534) والألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 351).
(6)
ص، ك، ج:«الشيطان» . والمثبت من ق، ب.
(7)
رواه البخاري (7396) ومسلم (1434) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.