المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة والزكاة

- ‌فصلفي أسباب شرح الصَّدر وحصولها على الكمال له صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الصِّيام

- ‌فصلفي هديه في صيام التطوع

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في حجِّه وعُمَره

- ‌فصلفي سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجَّته

- ‌فصلغَلِط في عُمَر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خمس طوائف:

- ‌فصلفي أعذار القائلين بهذه الأقوال، وبيان منشأ الوهم والغلط

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الهدايا والضحايا والعقيقة

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في تسمية المولود وختانه

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكنى

- ‌فصلفي فقه هذا الباب

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الذِّكر

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم عند دخوله منزلَه

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار الوضوء

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الأذان وأذكاره

- ‌فصلفيما يقوله مَن رأى مُبتلًى

- ‌فصلفيما يقوله من لحقَتْه طِيَرَة

- ‌فصلفيما يقوله مَن رأى في منامه ما يكرهه

- ‌فصلفيما يقوله ويفعله من بُلِيَ(7)بالوسواس

- ‌فصلفيما يقوله ويفعله مَن اشتدَّ غضبُه

- ‌فصلوكان صلى الله عليه وسلم يدعو لمن تقرَّب إليه بما يحبُّ

الفصل: ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام

‌فصل

في هديه صلى الله عليه وسلم في الصِّيام

لمَّا

(1)

كان المقصود من الصِّيام حَبْسَ النَّفس عن الشَّهوات، وفِطامها عن المألوفات، وتعديل قوَّتها الشَّهوانيَّة، لتستعدَّ لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبولِ ما تزكو

(2)

به ممَّا فيه حياتها الأبديَّة، ويكسر الجوع والظَّمأ من حدَّتها وسَوْرتها، ويذكِّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، ويُضيِّق

(3)

مجاريَ الشَّيطان من العبد بتضييق مجاري الطَّعام والشَّراب، ويَحْبِس

(4)

قوى الأعضاء عن استرسالها بحكم الطَّبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسكِّن كلَّ عضوٍ منها وكلَّ قوَّةٍ عن جماحه ويلتجم

(5)

بلجامه. فهو لِجام المتَّقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين من بين سائر الأعمال، فإنَّ الصَّائم لا يفعل شيئًا، وإنَّما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو تركُ محبوبات النَّفس وملذوذاتها

(6)

إيثارًا لمحبَّة الله ومرضاته، فهو سرٌّ بين العبد وبين الله لا يطَّلع عليه سواه، والعباد

(7)

قد يطَّلعون منه على تركه

(8)

المفطراتِ الظَّاهرة، وأمَّا

(1)

جواب (لما) لم يأتِ صراحةً، وهو مفهوم مما ذُكر في وصف الصيام وآثاره.

(2)

ج، ع:«تذكر» ، تحريف.

(3)

في المطبوع: «وتضيق» . ع، م، مب:«تضييق» . والمثبت من بقية النسخ.

(4)

في المطبوع: «وتحبس» . والمثبت من الأصول.

(5)

في المطبوع: «وتلجم» خلاف النسخ.

(6)

في المطبوع: «وتلذذاتها» خلاف النسخ.

(7)

ص، ج، ع:«إذ العباد» . والمثبت من ق، ك.

(8)

في المطبوع: «ترك» . والمثبت من الأصول.

ص: 34

كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فأمرٌ

(1)

لا يطَّلع عليه بشرٌ، وذلك حقيقة الصَّوم.

وللصيام تأثيرٌ عجيبٌ في حفظ الجوارح الظَّاهرة والقوى الباطنة، وحِمْيتها عن التَّخليط الجالب لها الموادَّ الفاسدة الَّتي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغِ الموادِّ الرَّديئة المانعة لها

(2)

من صحَّتها، فالصَّوم يحفظ على القلب

(3)

والجوارح صحَّتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشَّهوات، فهو من أكبر العونِ على التَّقوى، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الصَّوم جُنَّةٌ»

(4)

.

وأمر من اشتدَّت به شهوة النِّكاح ولا قدرةَ له عليه بالصِّيام، وجعلَه وِجاءَ هذه الشَّهوة

(5)

.

والمقصود أنَّ مصالح الصَّوم لمَّا كانت مشهودةً بالعقول السَّليمة والفِطَر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمةً بهم

(6)

، وإحسانًا إليهم، وحميةً

(1)

في المطبوع: «فهو أمر» . والمثبت من الأصول.

(2)

في النسخ: «له» . والمثبت من المطبوع يقتضيه السياق.

(3)

ع: «القلوب» .

(4)

رواه البخاري (7492) ومسلم (1151/ 162) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.

(5)

رواه البخاري (5066) ومسلم (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

(6)

ق، م، مب:«لهم» .

ص: 35

لهم وجُنَّةً.

وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكملَ هديٍ

(1)

، وأعظمَه تحصيلًا

(2)

للمقصود، وأسهلَه على النُّفوس.

ولمَّا كان فَطْم النُّفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشقِّ الأمور وأصعبها عليها، أُخِّر

(3)

فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لمَّا توطَّنت النُّفوس على التَّوحيد والصَّلاة، وأَلِفتْ أوامرَ القرآن، فنُقِلتْ إليه بالتَّدريج.

وكان فرضه في السَّنة الثَّانية من الهجرة، فتوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضاناتٍ

(4)

، وفُرِض أوَّلًا على وجه التَّخيير بينه وبينَ أن يطعمَ كلَّ

(5)

يومٍ مسكينًا، ثمَّ نُقل عن

(6)

ذلك التَّخيير إلى تحتُّم الصَّوم

(7)

، وجُعل الإطعام للشَّيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا الصِّيام، فإنَّهما يفطران ويطعمان عن كلِّ يومٍ مسكينًا

(8)

، ورُخِّص للمريض والمسافر أن يفطرا ويقضيا، وللحامل

(1)

ع: «الهدي» .

(2)

في المطبوع: «أعظم تحصيل» خلاف النسخ.

(3)

ك: «فأخر» . ق، م، مب:«تأخر» .

(4)

إجماعًا، حكاه ابن مفلح في «الفروع» (4/ 405) والمرداوي في «الإنصاف» (3/ 269).

(5)

في المطبوع: «عن كل» .

(6)

في المطبوع: «من» .

(7)

رواه البخاري معلقًا (4/ 188 - فتح الباري)، ووصله البيهقي (4/ 200) عن ابن أبي ليلى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنده صحيح. وانظر:«صحيح أبي داود - الأم» (2/ 431).

(8)

يدلُّ عليه ما رواه البخاري (4505) عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ {وعلى الذين يطوقونه فلا يطيقونه فدية طعام مسكين} ، قال ابن عباس:«ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا» .

ص: 36

والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك، وإن خافتا على ولديهما زادتا مع القضاء إطعامَ مسكينٍ لكلِّ يومٍ، فإنَّ فطرهما لم يكن لخوف مرضٍ، وإنَّما كان مع الصِّحَّة، فجُبِر بإطعام المسكين

(1)

كفطر الصَّحيح في أوَّل الإسلام.

وكان للصَّوم رتبٌ ثلاثٌ

(2)

:

إحداها: إيجابه بوصف التَّخيير.

والثَّانية: تحتُّمه، لكن كان الصَّائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطَّعام والشَّراب إلى اللَّيلة القابلة، فنسخ ذلك بالرُّتبة الثَّالثة، وهي الَّتي استقرَّ عليها الشَّرع إلى يوم القيامة.

فصل

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثارُ من أنواع العبادات، وكان

(3)

جبريل يدارسه القرآنَ في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجودَ بالخير من الرِّيح المرسلة، وكان أجود النَّاس، وأجود ما يكون في رمضان

(4)

، يكثر فيه من الصَّدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصَّلاة والذِّكر والاعتكاف.

(1)

ك: «بالطعام للمسكين» .

(2)

ص، ج، ع، م، مب:«ثلاثة» .

(3)

م، مب:«فكان» .

(4)

رواه البخاري (3554)، ومسلم (2308) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 37

وكان يخصُّ رمضان من العبادة بما

(1)

لا يخصُّ به غيره من الشُّهور، حتَّى إنَّه كان ليواصل فيه

(2)

أحيانًا ليوفِّر ساعاتِ ليله ونهاره على العبادة، وكان ينهى أصحابه عن الوصال، فيقولون له: فإنَّك تواصل، فيقول: «لستُ كهيئتِكم، إنِّي أبيت ـ وفي روايةٍ: إنِّي

(3)

أظلُّ ـ عند ربِّي يُطعمني ويَسقيني»

(4)

.

وقد اختلف النَّاس في هذا الطَّعام والشَّراب المذكور

(5)

على قولين.

أحدهما: أنَّه طعامٌ وشرابٌ حسِّيٌّ للفم، قالوا: وهذا حقيقة اللَّفظ، ولا موجِبَ للعدول عنها.

والثَّاني: أنَّ المراد به ما يُغذِّيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذَّة مناجاته، وقُرَّة عينه بقربه، ونعيمه

(6)

بحبِّه، والشَّوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال الَّتي هي غذاء القلوب، ونعيم الأرواح، وقرَّة العين، وبهجة النُّفوس. فللرُّوح والقلب بها

(7)

أعظمُ غذاءٍ وأجلُّه وأنفعُه، وقد يَقوى هذا

(1)

ق: «ما» .

(2)

«فيه» من ق، مب. وليست في بقية النسخ.

(3)

«إني» من ق، مب، وليست في بقية النسخ.

(4)

أما الرواية الأولى فرواها البخاري (1964) ومسلم (1105) من حديث عائشة رضي الله عنها.، وأمَّا الرواية الثانية فرواها البخاري (7241) ومسلم (1104/ 60) من حديث أنس رضي الله عنه.

(5)

في المطبوع: «المذكورين» . والمثبت من الأصول.

(6)

في المطبوع: «وتنعمه» ، م:«وتنعيمه» . والمثبت من بقية الأصول.

(7)

في المطبوع: «بما هو» خلاف النسخ.

ص: 38

الغذاءُ حتَّى يُغني عن غذاء الأجسام مدَّةً من الزَّمان، كما قيل

(1)

:

لها أحاديثُ من ذكراك تَشْغَلُها

عن الشَّراب وتُلهِيها عن الزَّادِ

لها بوجهك نورٌ تستضيء به

ومن حديثك في أعقابها حادي

إذا شَكَتْ

(2)

من كَلالِ السَّير أوعدَها

روح القدوم فتحيا عند ميعاد

ومن له أدنى تجربةٍ وذوق

(3)

يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والرُّوح عن كثيرٍ من الغذاء الحيوانيِّ، ولا سيَّما المسرور الفرحان الظَّافر بمطلوبه، الذي قد قرَّت عينُه بمحبوبه، وتنعَّم بقربه، والرِّضى عنه، وألطافُ محبوبه وهداياه وتُحَفُه تصل إليه كلَّ وقتٍ، ومحبوبه حفيٌّ به، معتنٍ بأمره، مُكرِمٌ له غايةَ الإكرام مع المحبَّة التَّامَّة له، أفليس في هذا أعظمُ غذاءٍ لهذا المحبِّ؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجلُّ منه ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحسانًا إذا امتلأ قلب المحبِّ بحبِّه، وملكَ حبُّه

(4)

جميعَ أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكَّن حبُّه منه أعظمَ تمكُّنٍ. وهذا حاله مع حبيبه، أفليس هذا المحبُّ عند حبيبه يُطعمه ويَسقيه ليلًا ونهارًا؟ ولهذا قال:«إنِّي أظلُّ عند ربِّي يُطعمني ويَسقيني» . ولو كان ذلك طعامًا وشرابًا للفم لما كان صائمًا فضلًا عن أن يكون مواصلًا.

(1)

الأبيات لإدريس بن أبي حفصة في «ديوان المعاني» (1/ 63) وغيره. وأنشدها المؤلف في «روضة المحبين» (ص 113، 114)، وهناك التخريج.

(2)

ك: «اشتكت» .

(3)

ق، م، مب:«شوق» . والمثبت من بقية النسخ.

(4)

بعدها في ص، ج، ك، ع:«عليه» . وليست في ق، م، مب.

ص: 39

وأيضًا فلو كان ذلك باللَّيل لم يكن مواصلًا، ولقال للصحابة ــ إذ قالوا له: إنَّك تواصل ــ: لستُ

(1)

أواصل، ولم يقل:«لستُ كهيئتكم» ، فأقرَّهم على نسبة الوصال إليه، وقطعَ الإلحاقَ بينه وبينهم في ذلك بما بيَّنه من الفارق، كما في «صحيح مسلم»

(2)

من حديث عبد الله بن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم واصلَ في رمضان فواصلَ النَّاس، فنهاهم، قيل له: أنت تواصل، قال:«إنِّي لستُ مثلكم، إنِّي أُطعَم وأُسقى» .

وفي

(3)

سياق البخاريِّ

(4)

لهذا الحديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، قالوا: إنَّك تواصل. قال

(5)

: «إنِّي لستُ مثلكم، إنِّي أُطعَم وأُسقى» .

وفي «الصَّحيحين»

(6)

من حديث أبي هريرة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقال رجلٌ من المسلمين: فإنَّك يا رسول الله تواصل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وأيُّكم مثلي؟ إنِّي أبيتُ يُطعِمني ربِّي ويَسقيني» .

وفي «الصحيحين» مثله من حديث عائشة وأنس

(7)

. وفي بعض ألفاظ

(1)

قبلها في ك، ع:«قال» . وليست في بقية النسخ.

(2)

برقم (1102/ 55).

(3)

«في» ليست في ق، م، مب.

(4)

برقم (1962) من حديث ابن عمر، ورواه أيضًا مسلم (1102/ 56).

(5)

بعدها في ق، م، مب:«وأيكم مثلي» . وليست في بقية النسخ والبخاري.

(6)

البخاري (1965) ومسلم (1103/ 57).

(7)

حديث عائشة عند البخاري (1964) ومسلم (1105)، وحديث أنس عند البخاري (1961) ومسلم (1104).

ص: 40

حديث أنس

(1)

: «إني أظلُّ يُطعمني ربي ويَسقيني»

(2)

.

وأيضًا فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا نهاهم عن الوصال فأبَوا أن ينتهوا واصلَ بهم يومًا، ثمَّ يومًا

(3)

، ثمَّ رأوا الهلال فقال:«لو تأخَّر الهلال لزدتُكم» كالمنكِّل لهم حين أبَوا أن ينتهوا عن الوصال

(4)

.

وفي لفظٍ آخر

(5)

: «لو مُدَّ لنا الشَّهر لواصَلْنا وِصالًا يَدَعُ المتعمِّقون تعمُّقهم، إنِّي لستُ مثلكم» ، أو قال:«إنَّكم لستم مثلي، إنِّي أظلُّ يُطعِمني ربِّي ويسقيني» . فأخبر أنَّه يُطعَم ويسقى مع كونه مواصلًا، وقد فعل فعْلَهم منكِّلًا بهم معجِّزًا لهم

(6)

، فلو كان يأكل ويشرب لما كان في ذلك تنكيلٌ

(7)

ولا تعجيزٌ، بل ولا وصالٌ، وهذا بحمد الله واضحٌ.

وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً بالأمَّة، وأذن فيه إلى السَّحر، ففي «صحيح البخاريِّ»

(8)

عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أنَّه سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تُواصِلوا، فأيُّكم أراد أن يواصلَ فليواصلْ إلى السَّحر» .

(1)

عند البخاري (7241) ومسلم (1104/ 60).

(2)

«وفي الصحيحين مثله

ويسقيني» ساقطة من ق، م، مب والمطبوع.

(3)

بعدها في ج: «ثم يومًا» . وليست في بقية النسخ و «الصحيحين» .

(4)

رواه البخاري (7242) ومسلم (1103/ 57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

رواه مسلم (1104/ 60) من حديث أنس رضي الله عنه .

(6)

«لهم» ليست في ق.

(7)

في بعض النسخ: «تنكيلًا» و «تعجيزًا» و «وصالًا» . والمثبت من ك. أما المطبوع فليس فيه «في» ، وهي مثبتة في جميع النسخ.

(8)

برقم (1963، 1967).

ص: 41

فإن قيل: فما حكم هذه المسألة، وهل الوصال جائزٌ أو محرَّمٌ أو مكروهٌ؟

قيل: قد اختلف النَّاس في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ:

أحدها: أنَّه جائزٌ لمن

(1)

قدر عليه، وهذا يُروى عن عبد الله بن الزبير

(2)

وغيره من السَّلف

(3)

، وكان ابن الزبير يواصل الأيَّام. ومن حجَّة أرباب هذا القول أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم واصل بالصَّحابة مع نهيه لهم عن الوصال، كما في «الصَّحيحين»

(4)

من حديث أبي هريرة: أنَّه نهى عن الوصال وقال: «إنِّي لستُ كهيئتكم» ، فلمَّا أبوا أن ينتهوا واصلَ بهم يومًا ثمَّ يومًا

(5)

. فهذا فيه وصاله بهم بعد نهيه عن الوصال، فلو كان النَّهي للتَّحريم لما أبوا أن ينتهوا، ولَمَا أقرَّهم عليه بعد ذلك.

قالوا: فلمَّا فعلوه بعد نهيه وهو يعلم ويُقِرُّهم، عُلِم أنَّه أراد الرَّحمة بهم والتَّخفيف عنهم، وقد قالت عائشة:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً لهم» . متَّفقٌ عليه

(6)

.

وقالت طائفةٌ أخرى: لا يجوز الوصال، منهم مالك وأبو حنيفة

(1)

ق، م، مب:«إن» .

(2)

روى ابن أبي شيبة (9692) عن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: «دخلت على ابن الزبير صبيحة خمسة عشر من الشهر، وهو مواصل» . رجاله كلهم ثقات.

(3)

انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (9690، 9691).

(4)

ليس فيهما، بل هو عند مالك (828) ومن طريقه عند الشافعي كما في «معرفة السنن» (6/ 344).

(5)

بعدها في ص، ق، ع، ج، م، مب:«ثم يومًا» . وليست في ك و «الصحيحين» .

(6)

رواه البخاري (1964) ومسلم (1105). وقد تقدم.

ص: 42

والشَّافعيُّ والثَّوريُّ. قال ابن عبد البرِّ

(1)

ــ وقد حكاه عنهم ــ: إنَّهم لم يجيزوه لأحدٍ

(2)

.

قلت: الشَّافعيُّ نصَّ على كراهته

(3)

، واختلف أصحابه هل هي كراهة تحريمٍ أو تنزيهٍ؟ على وجهين، واحتجَّ المحرِّمون بنهي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: والنَّهي يقتضي التَّحريم.

قالوا: وقول عائشة: «رحمةً لهم» لا يمنع أن يكون للتَّحريم، بل يؤكِّده، فإنَّ من رحمته لهم أن حرَّمه عليهم، بل سائر مناهيه للأمَّة رحمةٌ وحميةٌ

(4)

وصيانةٌ.

قالوا: وأمَّا مواصلته بهم بعد نهيه فلم يكن تقريرًا لهم، كيف وقد نهاهم، ولكن تقريعًا وتنكيلًا، فاحتمل منهم الوصال بعد نهيه لأجل مصلحة النَّهي في تأكيد زجرهم، وبيانِ الحكمة في نهيهم عنه بظهور المفسدة الَّتي نهاهم لأجلها لهم، فإذا ظهرت لهم مفسدة الوصال وظهرت حكمة النَّهي عنه كان ذلك أدعى إلى قبولهم وتركهم له، فإنَّهم إذا ظهر لهم ما في

(5)

الوصال وأحسُّوا منه بالملل في العبادة والتَّقصير فيما هو أهمُّ وأرجح من وظائف الدِّين: من القوَّة في أمر اللَّه، والخشوع في فرائضه، والإتيان بحقوقها الظَّاهرة والباطنة، والجوع الشَّديد ينافي ذلك ويحول بين العبد وبينه= تبيَّن لهم

(1)

في «التمهيد» (14/ 363).

(2)

«لأحد» ليست في ع.

(3)

في «مختصر المزني» (ص 59).

(4)

«وحمية» ليست في ك، ج، ع.

(5)

ج، ع، مب:«مفسدة» بدل «ما في» .

ص: 43

حكمة النَّهي عن الوصال، والمفسدة الَّتي فيه لهم دونه صلى الله عليه وسلم.

قالوا: وليس إقراره لهم على الوصال لهذه المصلحة الرَّاجحة بأعظم من إقرار

(1)

الأعرابيِّ على البول في مسجده

(2)

لمصلحة التَّأليف، ولئلَّا ينفِر عن الإسلام، ولا بأعظم من إقراره المسيء في صلاته على الصَّلاة الَّتي أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّها ليست صلاةً

(3)

، وأنَّ فاعلها غير مصلٍّ، بل هي صلاةٌ باطلةٌ في دينه، فأقرَّه عليها لمصلحة تعليمه وقبوله بعد الفراغ، فإنَّه أبلغ في التَّعليم والتَّعلُّم.

قالوا: وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتُكم بشيء فأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه»

(4)

.

قالوا: وقد ذكر في الحديث ما يدلُّ على أنَّ الوصال من خصائصه، فقال:«إنِّي لست كهيئتكم» ، ولو كان مباحًا لم يكن من خصائصه.

قالوا: وفي «الصَّحيحين»

(5)

من حديث عمر بن الخطَّاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل اللَّيلُ من هاهنا، وأدبر النَّهار من هاهنا

(6)

، وغَرَبتِ الشَّمس، فقد أفطر الصَّائم». وفي «الصَّحيحين» نحوه

(7)

من حديث

(1)

ك: «إقراره» .

(2)

رواه البخاري (6025) ومسلم (284/ 98) من حديث أنس رضي الله عنه .

(3)

ع: «بصلاة» .

(4)

رواه البخاري (7288) ومسلم (1337/ 130) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(5)

رواه البخاري (1954) ومسلم (1100).

(6)

«وأدبر النهار من هاهنا» ليست في ق، م، مب. وشطب عليها في ص. والمثبت من بقية النسخ موافق لما في البخاري.

(7)

«نحوه» ليست في ك.

ص: 44

عبد الله بن أبي أوفى

(1)

.

قالوا: فجعله مفطرًا حكمًا بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر، وذلك يحيل الوصال شرعًا.

قالوا: وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمَّتي على الفطرة، ولا تزال أمَّتي بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر»

(2)

.

وفي «السُّنن»

(3)

عنه: «لا يزال الدِّين ظاهرًا ما عجَّل النَّاس الفطر، لأنَّ

(4)

اليهود والنَّصارى يؤخِّرون».

وفي «السُّنن»

(5)

عنه قال: «قال الله عز وجل: أحبُّ عبادي إليَّ أعجلُهم فطرًا» .

(1)

رواه البخاري (1955) ومسلم (1101).

(2)

أخرجه أحمد (23534، 23582) وأبو داود (418) وابن خزيمة (339) والحاكم (1/ 190) من حديث عقبة بن عامر، وفيه:«ما لم يؤخّروا المغرب حتى تشتبك النجوم» . وأخرجه البخاري (1957) ومسلم (1098) من حديث سهل بن سعد بلفظ: «لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر» .

(3)

أبو داود (2353) والنسائي في «الكبرى» (3299) وابن ماجه (1698) من حديث أبي هريرة، ورواه أيضًا أحمد (9810). وصححه ابن خزيمة (2060) وابن حبَّان (3503) والحاكم (1/ 431). وليس عند ابن ماجه ذكر:«النصارى» .

(4)

ق، م، مب:«إن» .

(5)

الترمذي (700)، ورواه أحمد (7241) وابن حبَّان (3507)، كلهم من حديث أبي هريرة. وفي إسناده قُرَّة بن عبد الرحمن المعافري، متكلم فيه. انظر:«تهذيب التهذيب» (8/ 372).

ص: 45

وهذا يقتضي كراهة تأخير الفطور

(1)

، فكيف تركه، وإذا كان مكروهًا لم يكن عبادةً، فإنَّ أقلَّ درجات العبادة أن تكون مستحبَّةً.

والقول الثَّالث وهو أعدل الأقوال: إنَّ الوصال يجوز من سَحرٍ إلى سَحرٍ، وهذا هو المحفوظ عن أحمد وإسحاق، لحديث أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:«لا تُواصِلوا، فأيُّكم أراد أن يواصلَ فليواصلْ إلى السَّحَر» . رواه البخاريُّ

(2)

.

وهذا أعدل الوصال وأسهله على الصَّائم، وهو في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنَّه تأخَّر، فالصَّائم له في اليوم واللَّيلة أكلةٌ، فإذا أكلها في السَّحر كان قد نقلها من أوَّل اللَّيل إلى آخره. والله أعلم.

فصل

وكان من هديه أنه لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤيةٍ محقَّقةٍ، أو شهادة شاهدٍ واحدٍ، كما صام بشهادة ابن عمر

(3)

، وصام مرَّةً بشهادة أعرابيٍّ

(4)

،

(1)

مب، ع:«الفطر» . والمثبت من بقية النسخ.

(2)

برقم (1963، 1967). وقد تقدم.

(3)

رواه أبو داود (2342) عن ابن عمر قال: «ترائى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه وأمر الناس بصيامه» . وصححه ابن حبَّان (3447) والحاكم (1/ 423) وابن حزم في «المحلى» (6/ 236).

(4)

رواه الترمذي (691) وابن ماجه (1652) والحاكم (1/ 424) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث في إسناده اضطراب؛ فإنَّ سماكًا روايته عن عكرمة مضطربة، وتغير بأخرة، فهنا رواه موصولًا ومرَّة رواه مرسلًا. انظر:«إرواء الغليل» (4/ 15) و «ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 261).

ص: 46

واعتمد على خبرهما، ولم يكلِّفهما لفظ الشَّهادة. فإن كان ذلك إخبارًا فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادةً فلم يكلِّف الشَّاهد لفظَ الشَّهادة. فإن لم تكن رؤيةٌ ولا شهادةٌ أكمل عدَّة شعبان ثلاثين يومًا.

وكان إذا حالَ ليلةَ الثَّلاثين دون منظره غيمٌ أو سحابٌ أكمل شعبان

(1)

ثلاثين يومًا ثمَّ صام. ولم يكن يصوم يوم الإغمام ولا أمر به، بل أمر بأن يكمل عدَّة شعبان ثلاثين إذا غُمَّ، وكان يفعل كذلك. فهذا فعله وأمره، ولا يناقض هذا قولَه:«فإن غُمَّ عليكم فاقدِروا له»

(2)

، فإنَّ القدْر هو الحساب المقدَّر، والمراد به الإكمال كما قال:«فأكمِلوا العدَّة»

(3)

، والمراد بالإكمال إكمال

(4)

عدَّة الشَّهر الذي غُمَّ، كما قال في الحديث الصَّحيح الذي رواه البخاريُّ

(5)

: «فأكمِلوا عدَّة شعبان» . وقال: «لا تصوموا حتَّى تَرَوه، ولا تفطروا حتَّى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدَّة»

(6)

. فالذي أمر

(7)

بإكمال

(1)

مب، ع:«عدة شعبان» . والمثبت من بقية النسخ.

(2)

رواه البخاري (1900) ومسلم (1080/ 8) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

سيأتي لفظه بتمامه.

(4)

«إكمال» ساقطة من ك.

(5)

برقم (1909).

(6)

رواه مالك (783) عن ثور بن يزيد الديلي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه انقطاع؛ لأنَّ ثورًا لم يدرك ابن عباس. وللحديث طرق أخرى يصحُّ بها حديث ابن عباس رضي الله عنهما، منها ما رواه مسلم (1088/ 30) من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عنه به، ولفظه:«إن الله قد أمدَّه لرؤيته، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة» ، ومنها ما سيأتي بعد حديثين. وانظر:«صحيح أبي داود - الأم» (7/ 94) و «إرواء الغليل» (4/ 5).

(7)

ص، ع:«أمرنا» .

ص: 47

عدَّته هو الشَّهر الذي يغمُّ، وهو عند صيامه وعند الفطر منه.

وأصرح من هذا قوله: «الشَّهر تسعٌ وعشرون، فلا تصوموا حتَّى تروه، فإن غمَّ عليكم فأكملوا العدَّة»

(1)

. وهذا راجعٌ إلى أوَّل الشَّهر بلفظه وإلى آخره بمعناه، فلا يجوز إلغاء ما دلَّ عليه لفظه، واعتبارُ ما دلَّ عليه من جهة المعنى.

وقال: «الشَّهر ثلاثون، والشَّهر تسع وعشرون، فإن غُمَّ عليكم فعدُّوا ثلاثين»

(2)

.

وقال: «لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حالت دونه غَيايةٌ

(3)

فأكمِلوا ثلاثين»

(4)

.

وقال: «لا تَقدَّموا الشَّهر حتَّى تروا الهلال أو تُكمِلوا العدَّة، ثمَّ صوموا

(5)

حتَّى تروا الهلال أو تكملوا العدَّة»

(6)

.

(1)

رواه البخاري (1907) ومسلم (1080/ 4 - 7 و 9) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .

(2)

رواه بهذا اللفظ ابن حبان (3451) من حديث ابن عمر. وأصله عند البخاري ومسلم، كما في تخريج الحديث السابق.

(3)

في المطبوع: «غمامة» ، والمثبت من النسخ. والغياية: كل ما أظلَّ الإنسان فوق رأسه، كالسحابة والغبرة والظل ونحو ذلك.

(4)

رواه أبو داود (2327) والترمذي (688) والنسائي (2130) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وصححه الترمذي وابن حبان (3590) والحاكم (1/ 424). وانظر:«التلخيص الحبير» (2/ 197) و «صحيح أبي داود - الأم» (7/ 94).

(5)

ك: «تصوموا» .

(6)

رواه أبو داود (2326) والنسائي (2126) من حديث حذيفة- رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1911) وابن حبان (3458). وانظر:«نصب الراية» (2/ 439) و «التلخيص الحبير» (2/ 198).

ص: 48

وقالت عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفَّظ من هلال شعبان ما لا يتحفَّظ من غيره، ثمَّ يصوم لرؤيته، فإن غُمَّ عليه عدَّ شعبان ثلاثين يومًا، ثمَّ صام»

(1)

. صحَّحه الدَّارقطنيُّ وابن حبَّان.

وقال: «صوموا لرؤيته وأفطِروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فاقدِروا ثلاثين»

(2)

.

وقال: «لا تصوموا حتَّى تروه، ولا تُفطِروا حتَّى تروه

(3)

، فإن أُغمِيَ

(4)

عليكم فاقدُروا له»

(5)

.

وقال: «لا تَقدَّموا رمضان»

(6)

. وفي لفظٍ: «لا تَقدَّموا بين يدي رمضان بيومٍ أو يومين، إلا رجلٌ

(7)

كان يصوم صيامًا فليصُمْه»

(8)

.

(1)

رواه أحمد (25161) وأبو داود (2325). والحديث صححه ابن خزيمة (1910) وابن حبان (3444) والدارقطني (2149) والحاكم (1/ 423).

(2)

رواه البخاري (1909) ومسلم (1081/ 19) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(3)

«ولا تفطروا حتى تروه» ليست في ك.

(4)

أي حال دون رؤيته غيم أو قترة.

(5)

رواه مسلم (1080/ 3) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .

(6)

رواه البخاري (1914) ومسلم (1082/ 21) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(7)

كذا في الأصول ومصادر التخريج. وفي المطبوع: «رجلًا» .

(8)

رواه أحمد (7200، 8575) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (3592).

ص: 49

والدَّليل على أنَّ يوم الإغمام داخلٌ في هذا النَّهي حديثُ ابن عبَّاسٍ يرفعه: «لا تصوموا قبلَ رمضان، صُوموا لرؤيته وأفطِروا لرؤيته، فإن حالتْ دونه غَيايةٌ فأكملوا ثلاثين» . ذكره ابن حبَّان في «صحيحه»

(1)

. فهذا صريحٌ في أنَّ صوم يوم الإغمام من غير رؤيةٍ ولا إكمالِ ثلاثين صومٌ قبل رمضان.

وقال: «لا تَقدَّموا الشَّهر إلا أن تروا الهلالَ أو تُكمِلوا العدَّة، ولا تُفطِروا حتَّى تَروا الهلال أو تُكمِلوا العدَّة»

(2)

.

وقال: «صوموا لرؤيته وأفطِروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحابٌ فكمِّلوا العدَّة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشَّهر استقبالًا»

(3)

. قال الترمذي

(4)

: حديثٌ صحيحٌ

(5)

.

وفي النَّسائيِّ

(6)

: من حديث [أبي] يونس، عن سِماك، عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ يرفعه: «صوموا لرؤيته وأفطِروا لرؤيته

(7)

، فإن حالَ

(8)

بينكم وبينه

(1)

تقدم تخريجه قريبًا.

(2)

تقدم تخريجه من حديث حذيفة رضي الله عنه .

(3)

رواه أحمد (1985) والدارمي (1725) والنسائي (2199)، كلهم بهذا اللفظ من حديث ابن عباس، وللحديث طرق يصح بها. انظر:«السلسلة الصحيحة» (1917).

(4)

ورواه بنحوه (688)، وقد تقدم تخريجه قريبًا.

(5)

كذا في الأصول. وفي المطبوع والترمذي: «حسن صحيح» .

(6)

برقم (2189). وفي ج، ع:«الترمذي» ، خطأ.

(7)

بعدها زيادة في ج، ع:«ثم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فعدُّوا ثلاثين يومًا ثم صوموا، ولا تصوموا قبله» . وكذا في المطبوع. وهذه الزيادة محلها في الحديث الآتي كما في بقية النسخ، وليست في رواية النسائي.

(8)

مب: «كان» .

ص: 50

سحابٌ فأكمِلوا العدَّة عدَّة شعبان».

وقال سِماك عن عكرمة عن ابن عبَّاسٍ: تَمارى النَّاسُ في رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم: غدًا، فجاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكر أنَّه رآه، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«تشهدُ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه؟» ، قال: نعم. فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بلالًا فنادى في النَّاس: صوموا. ثمَّ قال: «صوموا لرؤيته وأفطِروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فقدِّروا

(1)

ثلاثين يومًا ثمَّ صوموا، ولا تصوموا قبله يومًا»

(2)

.

وكلُّ هذه الأحاديث صحيحةٌ، فبعضها في «الصَّحيحين» ، وبعضها في «صحيح ابن حبَّان» والحاكم وغيرهما، وإن كان قد أُعِلَّ بعضها بما لا يقدح في صحَّة الاستدلال بمجموعها، وتفسيرِ بعضها ببعض، واعتبارِ بعضها ببعضٍ، وكلُّها يصدِّق بعضها بعضًا، والمراد منها متَّفقٌ.

فإن قيل

(3)

: فإذا كان هذا هديه صلى الله عليه وسلم فكيف خالفه عمر بن الخطَّاب، وعليُّ بن أبي طالبٍ، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالكٍ، وأبو هريرة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، والحكم بن أيوب

(4)

الغِفاري، وعائشة

(1)

ك: «فاقدروا» . وفي الدارقطني: «فعدُّوا» .

(2)

رواه الدارقطني (2152) والطوسي في «مستخرجه» (3/ 311)، وصححه المصنف. ورواه الحفاظ عن سماك عن عكرمة مرسلًا وأعلُّوه به، انظر:«سنن أبي داود» (2341) والترمذي (691) والنسائي (2112 - 2115). وفي «تحفة الأشراف» (5/ 137، 138): وسماك إذا تفرد بأصل لم يكن حجة، لأنه كان يلقَّن فيتلقن.

(3)

جوابه بعد خمس صفحات.

(4)

كذا في النسخ، والصواب:«الحكم بن عمرو» كما نبَّه على ذلك الشيخ ابن باز، انظر:«التعليقات البازية على زاد المعاد» (ص 172).

ص: 51

وأسماء ابنتا أبي بكر

(1)

؟ وخالفه سالم بن عبد اللَّه، ومجاهد، وطاوس، وأبو عثمان النَّهديُّ، ومُطرِّف بن الشِّخِّير، وميمون بن مِهْران، وبكر بن عبد الله المزنيُّ

(2)

؟ وكيف خالفه إمام أهل الحديث والسُّنة أحمد بن حنبل

(3)

؟ ونحن نُوجِدكم أقوال هؤلاء مسندةً.

فأمَّا عمر، فقال الوليد بن مسلمٍ: أخبرني ابن

(4)

ثوبان، عن أبيه، عن مكحول أنَّ عمر بن الخطَّاب كان يصوم إذا كانت السَّماء في تلك اللَّيلة مغيَّمةً، ويقول: ليس هذا بالتَّقدُّم، ولكنَّه التَّحرِّي

(5)

.

وأمَّا الرِّواية عن علي، فقال الشَّافعيُّ

(6)

: أخبرنا عبد العزيز بن محمَّدٍ الدَّراورديُّ، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أمِّه فاطمة بنت حسين أنَّ عليَّ بن أبي طالبٍ قال: «أصومُ يومًا من شعبان أحبُّ إليَّ من

(7)

(1)

هذه الآثار سيأتي تخريجها.

(2)

أثر أبي عثمان النهدي عند ابن أبي شيبة (9601)، وأما بقية الآثار فتنظر في:«درء اللوم والضيم» لابن الجوزي (ص 52).

(3)

سيأتي قريبًا.

(4)

«ابن» ساقطة من المطبوع.

(5)

رواه ابن الجوزي في «درء اللوم والضيم» (ص 52)؛ وإسناده فيه علتان: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلفٌ فيه، أنكروا عليه أحاديث يرويها عن أبيه عن مكحولٍ، والثانية: مكحولٌ لم يدرك عُمر- رضي الله عنه، وبها أعله العراقي. ينظر:«تهذيب التهذيب» (6/ 150) و «طرح التثريب» (4/ 110).

(6)

في «الأم» (2/ 232)، ومن طريقه الدارقطني (2205) والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 212) وفي «معرفة السنن والآثار» (6/ 244)، وفي الإسناد انقطاع؛ لأن فاطمة لم تدرك جدَّها عليًّا رضي الله عنه .

(7)

«من» ليست في ص، ج، ك، ع، م، مب. والمثبت من ق.

ص: 52

أن أفطر يومًا من رمضان».

وأمَّا الرِّواية عن ابن عمر، ففي كتاب عبد الرزاق

(1)

: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن عمر قال: «كان

(2)

إذا كان سحابٌ أصبح صائمًا، وإذا لم يكن سحابٌ أصبح مفطرًا».

وفي «الصَّحيحين»

(3)

عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطِروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدِروا له» .

زاد الإمام أحمد

(4)

بإسنادٍ صحيحٍ عن نافع قال: كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعةٌ وعشرون يومًا يبعثُ من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لم يرَ ولم يَحُلْ دون منظره سحابٌ ولا قَتَرٌ أصبح مفطرًا، وإن حال دون منظره سحابٌ أو قترٌ أصبح صائمًا.

وأمَّا الرِّواية عن أنس، فقال أحمد: ثنا

(5)

إسماعيل بن إبراهيم، ثنا يحيى بن أبي إسحاق قال: رأيتُ الهلال إمَّا الظُّهرَ وإمَّا قريبًا منه، فأفطر ناسٌ من النَّاس، فأتينا أنس بن مالكٍ فأخبرناه برؤية الهلال وبإفطارِ من أفطر، فقال: هذا اليوم يكمل لي أحدٌ وثلاثون يومًا، وذلك أنّ الحكم بن أيوب

(1)

«المصنَّف» برقم (7323)، ومن طريقه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (6/ 233).

(2)

«كان» ليست في ك.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

في «المسند» برقم (4488)، ورواه الدارقطني (2168) وأبو نعيم في «المستخرج» (3/ 147) من طريق إسماعيل عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما .

(5)

ك: «أنبأنا» .

ص: 53

أرسل إليَّ قبل صيام النَّاس: إنِّي صائمٌ غدًا، فكرهتُ الخلافَ عليه فصمتُ، وأنا مُتِمٌّ يومي هذا إلى اللَّيل

(1)

.

وأمَّا الرِّواية عن معاوية، فقال أحمد: ثنا المغيرة، ثنا سعيد بن عبد العزيز قال: حدَّثني مكحول وابن حَلْبَس

(2)

أنَّ معاوية بن أبي سفيان كان يقول: لأن أصوم يومًا من شعبان أحبُّ إليَّ من

(3)

أن أُفطِر يومًا من رمضان

(4)

.

وأمَّا الرِّواية عن عمرو بن العاص، فقال أحمد

(5)

: ثنا زيد بن الحُباب، قال: أخبرني ابن لَهِيعة، عن عبد الله بن هُبَيرة، عن عمرو بن العاص أنَّه كان يصوم اليوم الذي يشكُّ فيه من

(6)

رمضان.

وأمَّا الرِّواية عن أبي هريرة، فقال أحمد

(7)

: ثنا عبد الرَّحمن بن مهديٍّ، ثنا معاوية بن صالح، عن أبي مريم

(8)

، قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: لأن

(1)

رواه أبو بكر الشافعي في «الغيلانيات» (208)، ومن طريقه ابن الجوزي في «درء اللوم والضيم» (ص 54). ورواه ابن أبي شيبة مختصرًا (9542).

(2)

كذا في الأصول. وفي المطبوع: «يونس بن ميسرة بن حلبس» ، وهو تمام اسمه.

(3)

«من» في ك، ع، وليست في بقية النسخ.

(4)

ذكره ابن الجوزي في «درء اللوم والضيم» (ص 54). والصواب في شيخ أحمد: «أبو المغيرة» .

(5)

ذكره ابن الجوزي في «درء اللوم والضيم» (ص 55). وابن لهيعة فيه مقال.

(6)

ك: «أنه من» . والمثبت من بقية النسخ. وكلمة «يشك» ساقطة من ع.

(7)

«أحمد» ساقطة من المطبوع.

(8)

ق، م، مب:«ابن أبي مريم» ، خطأ. انظر:«تهذيب التهذيب» (12/ 231). وفي المطبوع بعده زيادة «مولى أبي هريرة» ليست في الأصول.

ص: 54

أتعجَّل في صوم رمضان بيومٍ أحبُّ إليَّ من أن أتأخَّر، لأنِّي إذا تعجَّلتُ لم يفُتْني، وإذا تأخَّرتُ فاتَني

(1)

.

وأمَّا الرِّواية عن عائشة، فقال سعيد بن منصورٍ

(2)

: ثنا أبو عوانة، عن يزيد بن خُمَير، عن الرَّسول الذي أتى عائشة في اليوم الذي يشكُّ فيه من رمضان قال: قالت عائشة: لأن أصوم يومًا من شعبان أحبُّ إليَّ من أن أُفطر يومًا من رمضان.

وأمَّا الرِّواية عن أسماء بنت أبي بكر، فقال سعيد أيضًا

(3)

: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر قالت: ما غُمَّ هلال رمضان إلا كانت أسماء تتقدَّمه

(4)

بيوم وتأمر بتقدُّمه.

وقال أحمد

(5)

: ثنا رَوْح بن عُبادة

(6)

، عن حمَّاد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء أنَّها كانت تصوم اليوم الذي يشكُّ فيه من رمضان.

وكلُّ ما ذكرناه عن أحمد فمن مسائل الفضل بن زياد عنه

(7)

. وقد قال في رواية الأثرم: إذا كان في السَّماء سحابةٌ أو علَّةٌ أصبح صائمًا، وإن لم يكن

(1)

ذكره ابن الجوزي في «درء اللوم والضيم» (ص 55).

(2)

رواه ابن الجوزي في «درء اللوم والضيم» (ص 55). ورواه أحمد (24945) من طريق شعبة عن يزيد بن خمير، وصححه الألباني في «الإرواء» (4/ 11).

(3)

رواه ابن الجوزي في «درء اللوم والضيم» (ص 56).

(4)

في المطبوع: «متقدمة» خلاف النسخ.

(5)

رواه البيهقي (4/ 211)، وذكره ابن الجوزي في «درء اللوم والضيم» (ص 56).

(6)

في المطبوع: «عباد» ، خطأ.

(7)

انظر: «درء اللوم والضيم» (ص 56).

ص: 55

في السَّماء علَّةٌ أصبح مفطرًا. وكذلك نقل عنه ابناه صالح وعبد الله، والمرُّوذي

(1)

، والفضل بن زياد، وغيرهم

(2)

.

فالجواب

(3)

من وجوهٍ:

أحدها: أن يقال: ليس فيما ذكرتم عن الصَّحابة أثرٌ صريحٌ

(4)

في وجوب صومه حتَّى يكون فعلهم مخالفًا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

(5)

، وإنَّما غاية المنقول عنهم صومه احتياطًا، وقد صرَّح أنس بأنَّه إنَّما صامه كراهةً للخلاف على الأمراء، ولهذا قال أحمد في روايةٍ: النَّاس تبعٌ للإمام في صومه وإفطاره

(6)

. والنُّصوص الَّتي حكيناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله آنفًا

(7)

تدلُّ على أنَّه لا يجب صوم يوم الإغمام، ولا تدلُّ على تحريمه، فمن أفطره فقد أخذ بالجواز، ومن صامه أخذ بالاحتياط.

الثَّاني: أنَّ الصَّحابة قد كان بعضهم يصومه كما حكيتم، وكان بعضهم لا يصومه، وأصحُّ وأصرح من رُوي عنه صومه عبد الله بن عمر، قال ابن عبد البرِّ

(8)

: وإلى قوله ذهب طاوس اليماني

(9)

وأحمد بن حنبلٍ، وروي مثل

(1)

في المطبوع: «المروزي» ، خطأ.

(2)

انظر: «درء اللوم والضيم» (ص 51 - 52).

(3)

جواب «فإن قيل» قبل خمس صفحات.

(4)

ج، ع:«صحيح صريح» . والمثبت من بقية النسخ.

(5)

بعدها خرم كبير في م إلى مبحث طواف القدوم.

(6)

انظر: «المغني» لابن قدامة (4/ 330).

(7)

ق، ك، مب:«إنما» . والمثبت من بقية النسخ.

(8)

في «الاستذكار» (3/ 277).

(9)

انظر: «مصنف عبد الرزاق» (7324).

ص: 56

ذلك عن عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، ولا أعلم أحدًا ذهب مذهب ابن عمر غيرهم

(1)

.

قال

(2)

: وممَّن روي عنه كراهة صوم

(3)

يوم الشَّكِّ عمر بن الخطَّاب، وعليُّ بن أبي طالبٍ، وابن مسعودٍ، وحذيفة، وابن عبَّاسٍ، وأبو هريرة، وأنس بن مالكٍ

(4)

.

قلت: المنقول عن عمر وعلي وعمّار وحذيفة وابن مسعودٍ المنعُ من صيام آخر يومٍ من شعبان تطوُّعًا، وهذا الذي قال فيه عمّار:«من صام اليوم الذي يشكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم»

(5)

. فأمَّا صوم يوم الغيم احتياطًا على أنَّه إن كان من رمضان فهو فريضة

(6)

وإلَّا فتطوُّعٌ= فالمنقول عن الصَّحابة يقتضي جوازه، وهو الذي كان يفعله ابن عمر وعائشة. هذا مع رواية عائشة

(1)

تقدم ذكر أقوالهم جميعًا.

(2)

أي ابن عبد البر في «الاستذكار» (3/ 369).

(3)

ص، ج، ع:«صيام» .

(4)

أثر علي وعمر عند ابن أبي شيبة (9582) وفي إسناده مجالد. وأثر ابن مسعود عند ابن أبي شيبة (9583)، وأثر حذيفة (9493، 9497)، وأثر أنس (9494). وقول ابن عباس عند النسائي (2125) وأحمد (1931) والبيهقي (4/ 207). وقول أبي هريرة:«لا تواصلوا برمضان شيئًا، وافصلوا» رواه عبد الرزاق (7313).

(5)

رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (3/ 27)، ووصله أبو داود (2334) والترمذي (686) والنسائي (2188)، وصححه الترمذي وابن خزيمة (1914) وابن حبان (3585) والحاكم (1/ 423)، وقال الدارقطني (2150):«هذا إسناد حسن صحيح ورواته كلهم ثقات» .

(6)

ق، مب:«فرضه» . والمثبت من بقية النسخ.

ص: 57

أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا غُمَّ هلال شعبان عدَّ ثلاثين يومًا ثمَّ صام

(1)

. وقد رُدَّ حديثها هذا بأنَّه لو كان صحيحًا لما خالفته، وجعل صيامها علَّةً في الحديث، وليس الأمر كذلك، فإنَّها لم توجب صيامه، وإنَّما صامتْه احتياطًا، وفهمتْ من فعل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأمره أنَّ الصِّيام لا يجب حتَّى تكمل العدَّة، ولم تفهم هي ولا ابن عمر أنَّه لا يجوز.

وهذا أعدل الأقوال في المسألة، وبه تجتمع الأحاديث والآثار، ويدلُّ عليه ما رواه معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لهلال رمضان: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدِروا له ثلاثين يومًا

(2)

». ورواه ابن أبي روَّادٍ عن نافع عنه: «فإن غمَّ عليكم فأكملوا العدَّة ثلاثين» . وقال مالك وعبيد الله عن نافع عنه: «فاقدِروا له»

(3)

. فدلَّ على أنَّ ابن عمر لم يفهم من الحديث وجوب إكمال ثلاثين، بل جوازه، وأنه إذا صام يوم الثَّلاثين فقد أخذ بأحد الجائزين احتياطًا. ويدلُّ على ذلك أنَّه رضي الله عنه لو فهم من قوله صلى الله عليه وسلم:«اقدِروا له تسعًا وعشرين ثمَّ صوموا» كما يقوله الموجبون لصومه، لكان يأمر بذلك أهله وغيرهم، ولم يكن ليقتصر على صومه في خاصَّة نفسه، ولا يأمر به ولا يبيّن

(4)

أنَّ ذلك هو الواجب على النَّاس.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

«يومًا» ليست في ق، ك، مب.

(3)

رواية معمر عند عبد الرزاق (7307)، ورواية ابن أبي رواد عنده (7306)، ورواية مالك عند البخاري (1906) ومسلم (1080/ 3)، ورواية عبيد الله عند مسلم (1080/ 5).

(4)

في المطبوع: «ولبين» خلاف النسخ.

ص: 58

وكان ابن عبَّاسٍ لا يصومه، ويحتجُّ بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تصوموا حتَّى تروا الهلال، ولا تُفطِروا حتَّى تروه، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدَّة ثلاثين» . وذكر مالك في «موطَّئه»

(1)

هذا عنه بعد أن ذكر حديث ابن عمر، كأنَّه جعله مفسِّرًا لحديث ابن عمر وقوله:«فاقدروا له» .

وكان ابن عبَّاسٍ يقول: عجبتُ ممَّن يتقدَّم الشَّهر بيوم أو يومين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تقدَّموا رمضان بيومٍ ولا يومين»

(2)

. كأنَّه ينكر على ابن عمر.

وكذلك كان هذان الصَّاحبان الإمامان، أحدهما يميل إلى التَّشديد والآخر يميل إلى التَّرخيص، وذلك في غير مسألةٍ. وعبد الله بن عمر كان يأخذ من التَّشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصَّحابة، فكان يغسل داخلَ عينيه في الوضوء حتَّى عَمِي من ذلك

(3)

، وكان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماءٍ جديدٍ

(4)

، وكان يمتنع من دخول الحمَّام

(5)

، وكان إذا دخله اغتسل منه

(6)

،

(1)

برقم (783).

(2)

الوارد ليس بهذا اللفظ، وقد تقدم تخريجه في قول ابن عباس.

(3)

ذكره ابن قدامة في «المغني» (1/ 151). والثابتُ في الروايات أنَّ ابن عمر كان ينضح الماء في عينيه في غسل الجنابة، كما في «موطأ مالك» (111) و «مصنف عبد الرزاق» (990) و «مصنف ابن أبي شيبة» (1075). وزاد عبد الرزاق: قال ــ لعله نافع ــ: «ولم يكن عبد الله بن عمر ينضح في عينيه الماء إلا في غسل الجنابة، فأما الوضوء للصلاة فلا» .

(4)

رواه مالك (73).

(5)

رواه ابن أبي شيبة (1171).

(6)

رواه عبد الرزاق (1141).

ص: 59

وابن عبَّاسٍ كان يدخل الحمَّام

(1)

. وكان

(2)

يتيمَّم بضربتين، ضربةٍ للوجه وضربةٍ ليديه إلى المرفقين، ولا يقتصر على ضربةٍ واحدةٍ ولا على الكفَّين

(3)

، وكان ابن عبَّاسٍ

(4)

يخالفه ويقول: التَّيمُّم ضربةٌ

(5)

للوجه والكفَّين

(6)

. وكان ابن عمر يتوضَّأ من قُبلة امرأته ويفتي بذلك

(7)

، وكان إذا قبَّل ولده تمضمض ثمَّ صلَّى

(8)

،

وكان ابن عبَّاسٍ يقول: ما أبالي قبَّلتُها أو شَمِمْتُ ريحانًا

(9)

.

وكان يأمر مَن ذَكر أنَّ عليه صلاةً وهو في أخرى أن يُتِمَّها، ثمَّ يصلِّي الصَّلاة الَّتي ذكرها، ثمَّ يعيد الصَّلاة الَّتي كان فيها

(10)

، وروى أبو يعلى الموصلي في ذلك حديثًا مرفوعًا في «مسنده»

(11)

، والصَّواب أنَّه موقوفٌ

(1)

رواه ابن أبي شيبة (1175).

(2)

أي ابن عمر. وقد زيد «ابن عمر» في المطبوع وليس في الأصول.

(3)

رواه ابن أبي شيبة (1685).

(4)

ع: «ابن عمر» ، وهو تحريف.

(5)

«ضربة» ليست في ج، ع.

(6)

عزاه الترمذي (144) إلى ابن عباس رضي الله عنهما . وروى عبد الرزاق (825) عنه أنه قال: «التيمم للوجه والكفين» .

(7)

رواه عبد الرزاق (496، 497) وابن أبي شيبة (495).

(8)

رواه ابن أبي شيبة (505، 506، 507). وأما عند عبد الرزاق (498) ففيه ذكر المصمصة بالمهملة، قال معمر: وهي دون المضمضة ..

(9)

رواه عبد الرزاق (505، 507).

(10)

رواه مالك (467).

(11)

كما في «المطالب العالية» (445) و «إتحاف الخيرة» (1418)، ورواه الدارقطني (1560) والطبراني في «الأوسط» (5132) والبيهقي (2/ 221). وقد اختلف في رفعه ووقفه، والصواب أنه موقوف، وَهِمَ الترجماني شيخ أبي يعلى فرفعه. ينظر:«العلل» لابن أبي حاتم (2/ 172) و «العلل» للدارقطني (13/ 24) و «السنن» له أيضًا (1560) و «السنن الكبرى» للبيهقي (2/ 221).

ص: 60

على ابن عمر. قال البيهقي

(1)

: وقد روي عن ابن عمر مرفوعًا ولا يصحُّ، قال: وقد روي عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا ولا يصحُّ

(2)

.

والمقصود أنَّ عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التَّشديد والاحتياط. وقد روى معمر عن أيوب عن نافع عنه أنَّه كان إذا أدرك مع الإمام ركعةً أضاف إليها أخرى، فإذا فرغ من صلاته سجد سجدتي السَّهو، قال الزُّهريُّ: ولا أعلم أحدًا فعله غيره

(3)

.

قلت: وكأنَّ هذا السُّجود لِمَا حصل له من الجلوس عقيب الرَّكعة، وإنَّما محلُّه عقيب الشَّفع.

ويدلُّ على أنَّ الصَّحابة لم يصوموا هذا اليوم على سبيل الوجوب أنَّهم قالوا: لأن نصوم يومًا من شعبان أحبُّ إلينا من أن نفطر يومًا من رمضان، ولو كان هذا اليوم من رمضان حتمًا عندهم لقالوا: هذا يومٌ من رمضان فلا يجوز لنا فطره. والله أعلم.

(1)

«السنن الكبرى» (2/ 221).

(2)

«قال وقد

ولا يصح» ليست في ص، ع.

(3)

رواه عبد الرزاق (3397). ورواه أيضًا عبد الرزاق (3369) ــ ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (3/ 498) ــ من طريق عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر.

ص: 61

ويدلُّ على أنَّهم إنَّما صاموه استحبابًا وتحرِّيًا ما روي عنهم من فطره بيانًا للجواز، فهذا ابن عمر قد قال حنبل في «مسائله»

(1)

: حدَّثنا أحمد بن حنبلٍ، حدَّثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي قال: سمعت ابن عمر يقول: لو صمتُ السَّنة كلَّها لأفطرتُ اليوم الذي يُشَكُّ فيه

(2)

.

قال حنبل: وحدَّثنا أحمد بن حنبلٍ، ثنا عَبِيدة بن حُميدٍ قال: أخبرني عبد العزيز بن حكيم قال: سألوا ابن عمر، قالوا: نسبق قبل رمضان حتَّى لا يفوتنا منه شيءٌ؟ فقال: أفٍّ أفٍّ، صوموا مع الجماعة

(3)

.

وقد صحَّ عن عمر

(4)

أنَّه قال: «لا يتقدَّمنَّ الشَّهرَ منكم أحدٌ» . وصحَّ عنه

(5)

أنَّه قال: «صوموا لرؤية الهلال

(6)

، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فعدُّوا ثلاثين يومًا»

(7)

.

وكذلك قال عليُّ بن أبي طالبٍ: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فأكمِلوا العدَّة»

(8)

.

(1)

نقله عنه ابن الجوزي في «درء اللوم والضيم» (ص 63).

(2)

ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (9584).

(3)

رواه ابن الجوزي في «درء اللوم والضيم» (ص 64).

(4)

في المطبوع: «ابن عمر» ، خطأ.

(5)

في المطبوع: «عنه صلى الله عليه وسلم» . والمقصود هنا المأثور عن عمر رضي الله عنه.

(6)

ج، ع:«لرؤيته» .

(7)

كلاهما مخرجان في سياق واحدٍ عند عبد الرزاق (7748) والبيهقي (4/ 208).

(8)

رواه البيهقي (4/ 209). وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني متكلم فيه.

ص: 62

وقال ابن مسعودٍ: «فإن غُمَّ عليكم فعدُّوا ثلاثين»

(1)

.

فهذه الآثار إن قُدِّر أنَّها معارضةٌ لتلك الآثار الَّتي رُوِيت

(2)

عنهم في الصَّوم فهذه أولى لموافقتها النُّصوصَ المرفوعة لفظًا ومعنًى، وإن قُدِّر أنَّها لا تعارضَ بينها فهاهنا طريقان في

(3)

الجمع:

أحدهما: حملها على غير صورة الإغمام أو على الإغمام في آخر الشَّهر، كما فعله الموجبون للصيام.

والثاني: حمل آثار الصَّوم عنهم على التَّحرِّي والاحتياط استحبابًا لا وجوبًا، وهذه الآثار صريحةٌ في نفي الوجوب. وهذه الطريق أقرب إلى موافقة النُّصوص وقواعد الشَّرع، وفيها السَّلامة من التَّفريق بين يومين متساويين في الشَّكِّ، فيجعل أحدهما يوم شكٍّ، والثَّاني يوم يقينٍ، مع حصول الشَّكِّ فيه قطعًا، وتكليفِ

(4)

العبد اعتقادَ كونه من رمضان قطعًا، مع شكِّه هل هو منه أم لا؟ ولا

(5)

تكليفَ بما لا يُطاق، وتفريقَ بين متماثلينِ.

فصل

وكان من هديه أمرُ النَّاس بالصَّوم بشهادة الرَّجل الواحد المسلم، وخروجهم منه بشهادة اثنين.

(1)

رواه ابن أبي شيبة (9114).

(2)

ص: «رويتم» .

(3)

ق، مب:«بين» .

(4)

«وتكليف» عطف على «التفريق» كما يدل عليه السياق، وليس بداية جملة. وفي ص، ج، ع:«فتكليف» .

(5)

«ولا» ليست في المطبوع.

ص: 63

وكان من هديه إذا شهد الشَّاهدان برؤية الهلال بعد خروج وقت العيد أن يفطر ويأمرهم بالفطر، ويُصلِّي العيد من الغد في وقتها

(1)

.

وكان يعجِّل الفطر ويحضُّ عليه

(2)

، ويتسحَّر ويحثُّ على السُّحور

(3)

، ويؤخِّره

(4)

ويرغِّب في تأخيره

(5)

.

وكان يحضُّ على الفطر على التمر، فإن لم يجد فعلى الماء، وهذا من كمال شفقته على أمَّته ونصحهم، فإنَّ إعطاء الطَّبيعة الشَّيءَ الحلوَ مع خلوِّ المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به، ولا سيَّما القوَّة الباصرة، فإنَّها تقوى به

(6)

، وحلاوة المدينة التَّمر، ومَرباهم عليه، وهو عندهم قُوتٌ وأُدْمٌ، ورُطَبه فاكهةٌ.

وأمَّا الماء فإنَّ الكبد يحصل لها بالصَّوم نوعُ يبسٍ، فإذا رُطِّبت بالماء

(1)

رواه أحمد (18824، 23069) وأبو داود (2339) من طريق ربعي بن حراش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وصححه الدارقطني (2202).

(2)

رواه البخاري (1957) ومسلم (1098) من حديث سهل رضي الله عنه . و «يحض عليه» ليست في ق، ك.

(3)

رواه البخاري (1923) ومسلم (1095) من حديث أنس رضي الله عنه .

(4)

رواه البخاري (1921) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه .

(5)

رواه أحمد (21312، 21507) من حديث أبي ذر رضي الله عنه . وفي إسناده ابن لهيعة متكلم فيه، وسليمان بن أبي عثمان، قال فيه أبو حاتم:«مجهول» ، وقال الدارقطني:«متروك» . انظر: «سؤالات البرقاني» (194) و «الجرح والتعديل» (4/ 134) و «الإرواء» (4/ 32).

(6)

ص: «بها» .

ص: 64

كمل انتفاعها بالغذاء بعده. ولهذا كان الأولى بالظَّمآن الجائع أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليلٍ من الماء، ثمَّ يأكل بعده. هذا إلى ما

(1)

في التَّمر والماء من الخاصيَّة الَّتي لها تأثيرٌ في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطبَّاء القلوب.

فصل

وكان يفطر قبل أن يصلِّي، وكان فطره على رُطَباتٍ إن وجدها، فإن لم يجد فعلى تمراتٍ، فإن لم يجد فعلى حَسَواتٍ من ماءٍ

(2)

.

ويُذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يقول عند فطره: «اللَّهمَّ لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبَّل منَّا، إنَّك أنت السَّميع العليم»

(3)

. ولا يثبت.

وروي عنه أنَّه كان يقول: «اللَّهمَّ لك صمتُ، وعلى رزقك أفطرتُ» . ذكره أبو داود

(4)

عن معاذ بن زهرة أنَّه بلغه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك.

(1)

ق، مب:«مع ما» .

(2)

رواه أحمد (12676) وأبو داود (2356) والترمذي (696) من حديث أنس، وحسنه الترمذي والألباني في «الإرواء» (4/ 45)، وصححه الدارقطني (2278) والحاكم (1/ 432).

(3)

رواه الطبراني في «الدعاء» (918) بهذا التمام. ورواه أيضًا في «الصغير» (912) و «الأوسط» (7549) دون قوله: «فتقبل منا

». وفي إسناده إسماعيل بن عمرو البجلي متكلم فيه، وأشدُّ منه داود بن الزبرقان، قال فيه أبو زرعة ويعقوب بن شيبة:«متروك» ، فالحديث ضعيفٌ جدًّا. انظر:«الفتوحات الربانية» (4/ 341) و «الإرواء» (4/ 37) و «الإخبار بما لا يصح من أحاديث الأذكار» (ص 110).

(4)

برقم (2358)، ورواه ابن المبارك في «الزهد والرقائق» (1410) وابن أبي شيبة (9837) والبيهقي (4/ 239) من حديث معاذ بن زُهرة مرسلًا، ولا يُعرفُ معاذٌ بجرح وتعديل. والحديث ضعفه الألباني في «الإرواء» (4/ 38) وفي «ضعيف أبي داود- الأم» (2/ 264). ورواه بلفظ آخر ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (479) والبيهقي في «الدعوات الكبير» (501) من حديث معاذ بن زُهرة مرسلًا، وعلتُه ما سبق، وفيه راوٍ مبهمٌ أيضًا. انظر:«الإخبار بما لا يصح من أحاديث الأذكار» (ص 109).

ص: 65

ورُوي عنه أنَّه كان يقول إذا أفطر: «ذهبَ الظَّمأُ، وابتلَّتِ العروقُ، وثبتَ الأجر إن شاء الله» . ذكره أبو داود

(1)

من حديث الحسين بن واقدٍ، عن مروان بن سالم المقفَّع، عن ابن عمر.

ويُذكر عنه: «إنَّ للصَّائم عند فطْرِه دعوةً ما تُردُّ» . رواه ابن ماجه

(2)

.

وصحَّ عنه: «إذا أقبل اللَّيلُ من هاهنا، وأدبر النَّهار من هاهنا، فقد أفطر الصَّائم»

(3)

. وفُسِّر بأنَّه قد أفطر حكمًا وإن لم يَنْوِ، وبأنَّه قد دخل وقت فطرِه كأصبح وأمسى.

(1)

برقم (3357)، ورواه النسائي في «الكبرى» (3315) وابن السني (478) والدارقطني (2279) والطبراني (14097) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما . والحديث حسنه الدارقطني وابن حجر والألباني، وصححه الحاكم (1/ 422). انظر:«صحيح أبي داود - الأم» (7/ 124) و «الإرواء» (4/ 39) و «الفتوحات الربانية» لابن علان (4/ 339).

(2)

برقم (1753). وفي إسناده إسحاق بن عبيد الله يحتمل أن يكون ابن أبي المهاجر، أو ابن أبي مليكة، ذكرهما ابن حبان في «الثقات» ، والظاهر أنه الثاني، وبه جزم المزي والذهبي، والحديث ضعفه الألباني. انظر:«تهذيب الكمال» (2/ 456) و «تاريخ الإسلام» (4/ 306) و «الفتوحات الربانية» (4/ 342) و «الإرواء» (4/ 41).

(3)

رواه البخاري (1954) ومسلم (1100) من حديث عمر- رضي الله عنه، وقد تقدم (ص 44) بزيادة:«وغربت الشمس» قبل «فقد أفطر الصائم» .

ص: 66

ونهى الصَّائم عن الرَّفَث والصَّخَب والسِّباب وجواب السِّباب، وأمره أن يقول لمن سابَّه:«إنِّي صائمٌ»

(1)

. فقيل: يقوله بلسانه وهو أظهر، وقيل: بقلبه تذكيرًا لنفسه بالصَّوم، وقيل: يقوله في الفرض بلسانه، وفي التَّطوِّع في نفسه، لأنَّه أبعد عن الرِّياء.

فصل

وسافر في رمضان، فصام وأفطر

(2)

، وخيَّر أصحابَه بين الأمرين

(3)

.

وكان يأمرهم بالفطر إذا دَنَوا من عدوِّهم، ليتقوَّوا على لقائه

(4)

.

فلو اتَّفق مثل هذا في الحضر وكان في الفطر قوَّةٌ لهم على لقاء عدوِّهم فهل لهم الفطر؟ فيه قولان، أصحُّهما دليلًا: أنَّ لهم ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(5)

، وبه أفتى العساكرَ الإسلاميَّة لمَّا لَقُوا العدوَّ بظاهر دمشق

(6)

. ولا ريبَ أنَّ الفطر بذلك أولى من الفطر بمجرَّد السَّفر، بل إباحة الفطر للمسافر تنبيهٌ على إباحته في هذه الحال، وأنها أحقُّ بجوازه، لأنَّ القوَّة هناك تختصُّ بالمسافر، والقوَّة هنا له وللمسلمين، ولأنَّ مشقَّة الجهاد أعظم

(1)

رواه البخاري (1904) ومسلم (1151/ 163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (1947) ومسلم (1118) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (1943) ومسلم (1121) من حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه.

(4)

ع: «عليه» . وسيأتي تخريج الحديث.

(5)

ينظر: «البداية والنهاية» (18/ 27).

(6)

في وقعة شقحب سنة 702 كما في المصدر السابق (18/ 22 - 27).

ص: 67

من مشقَّة السَّفر، ولأنَّ المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد أعظم من المصلحة بفطر المسافر، ولأنَّ الله تعالى قال:{يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال: 60]. والفطر عند اللِّقاء من أعظم أسباب القوَّة، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فسَّر القوَّة بالرَّمي

(1)

، وهو لا يتمُّ ولا يحصل به مقصوده إلا بما يقوِّي ويُعِين عليه من الفطر والغذاء. ولأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للصَّحابة لمَّا دَنَوا من عدوِّهم:«إنَّكم قد دنوتم من عدوِّكم، والفطر أقوى لكم» ، وكانت رخصةً، ثمَّ نزلوا منزلًا آخر فقال:«إنَّكم مُصبِّحو عدوِّكم، والفطر أقوى لكم فأفطِروا» وكانت عزيمةً

(2)

. فعلَّل بدنوِّهم من عدوِّهم واحتياجهم إلى القوَّة الَّتي يَلقَون بها العدوَّ.

وهذا سببٌ آخر غير السَّفر، والسَّفر مستقلٌّ بنفسه، ولم يذكره في تعليله ولا أشار إليه، فالتَّعليل به اعتبارٌ لما ألغاه الشَّارع في هذا الفطر الخاصِّ، وإلغاء وصف القوَّة الَّتي يقاوم بها العدوُّ، واعتبار السَّفر المجرَّد إلغاءٌ لما اعتبره الشَّارع وعلَّل به.

وبالجملة فتنبيه الشَّارع وحكمته يقتضي أنَّ الفطر لأجل الجهاد أولى منه لمجرَّد السَّفر، فكيف وقد أشار إلى العلَّة ونبَّه عليها وصرَّح بحكمها، وعزم عليهم بأن يفطروا لأجلها. ويدلُّ عليه ما رواه عيسى بن يونس، عن شعبة، عن عمرو بن دينارٍ، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم فتح مكَّة: «إنَّه يوم قتالٍ فأفْطِروا» تابعه سعيد بن الرَّبيع، عن شعبة

(3)

. فعلَّل بالقتال ورتَّب عليه الأمر بالفطر بحرف الفاء، وكلُّ أحدٍ يفهم

(1)

رواه مسلم (1917) من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه .

(2)

رواه مسلم (1120) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .

(3)

رواه بالطريقين محمد بن المظفر البغدادي في «حديث شعبة» (177، 176)، ورواه عبد الرزاق (9688) من طريق شعبة عن عمرو بن دينارعن عبيد بن عمير مرسلًا.

ص: 68

من هذا اللَّفظ أنَّ الفطر لأجل القتال.

وأمَّا إذا تجرَّد السَّفر عن الجهاد فكان صلى الله عليه وسلم يقول في الفطر: «إنه رخصةٌ من اللَّه، فمن أخذ بها فحسنٌ، ومن أحبَّ أن يصوم فلا جُناحَ عليه»

(1)

.

فصل

وسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلِّها في غزاة بدرٍ وفي غزاة الفتح. قال عمر بن الخطَّاب: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين: يوم بدرٍ والفتح، فأفطرنا فيهما»

(2)

.

وأمَّا ما رواه الدَّارقطني وغيره

(3)

عن عائشة قالت: «خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرةٍ في رمضان

» الحديث= فغلطٌ

(4)

إمَّا عليها وهو الأظهر، أو منها وأصابها فيه

(5)

ما أصاب ابنَ عمر في قوله: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجبٍ، فقالت: «يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو

(1)

رواه مسلم (1121/ 107) من حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه.

(2)

رواه أحمد (140) والترمذي (714)، وفي إسناده ابن لهيعة متكلم فيه.

(3)

رواه الدارقطني (2293) والبيهقي (3/ 142)، واختُلِف في وصل الحديث وإرساله، ورجح الدارقطني في «السنن» الوصلَ، وفي «العلل» (3607) الإرسال، وقد تقدم الكلام عليه مفصّلًا قبل الفصل الذي فيه أن «هديه في سفره الاقتصار على الفرض» (1/ 597 وما بعدها).

(4)

كما نقل المؤلف مِرارًا عن شيخ الإسلام أنه وصف هذا الحديث بأنه كذب على عائشة رضي الله عنها. انظر ما تقدم: (1/ 588، 597).

(5)

«فيه» ليست في ك.

ص: 69

معه، وما اعتمر في رجبٍ قطُّ»

(1)

. وكذلك أيضًا عُمَرُه كلُّها في ذي القعدة، وما اعتمر في رمضان قطُّ

(2)

.

فصل

ولم يكن من هديه تقديرُ المسافة الَّتي يفطر فيها الصَّائم بحدٍّ، ولا صحَّ عنه في ذلك شيءٌ. وقد أفطر دِحية بن خليفة الكلبيُّ في سفر ثلاثة أميالٍ، فأفطرَ وقال لمن صام:«قد رَغِبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

وكان الصَّحابة حين يُنشِئون السَّفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أنَّ ذلك سنَّته وهديه صلى الله عليه وسلم، كما قال عبيد بن جَبْر

(4)

: ركبتُ مع أبي بَصْرة الغِفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينةٍ من الفُسطاط في رمضان، فلم يجاوز البيوت حتَّى دعا بالسُّفرة. قال:«اقترِبْ» . قلت: ألستَ ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: «أترغب عن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» . رواه أبو داود وأحمد

(5)

.

(1)

رواه البخاري (1775، 1776)، ومسلم (1255/ 220) من طريق مجاهد.

(2)

رواه ابن أبي شيبة (13204) وابن ماجه (2997) من حديث عائشة رضي الله عنها.، ورجاله كلهم ثقات.

(3)

رواه أبو داود (2413)، وفي إسناده منصور بن سعيد الكلبي، لم يوثقه إلا العجلي وابن حبان، ويشهد له حديث أبي بصرة وحديث أنسٍ الآتيين. انظر:«سنن أبي داود» ط. الرسالة (2413) و «مسند أحمد» ط. الرسالة (23849).

(4)

ق، ص، مب:«حنين» . ج، ع:«جبير» . والمثبت من ك، وهو الصواب.

(5)

أبو داود (2412) وأحمد (27232)، ورواه الدارمي (1754) والبيهقي (4/ 246)، والحديث صححه الألباني. انظر:«الإرواء» (4/ 63) و «صحيح أبي داود - الأم» (7/ 173).

ص: 70

ولفظ أحمد

(1)

: «ركبتُ مع أبي بصرة من الفُسطاط إلى الإسكندرية في سفينةٍ، فلمَّا دفعنا

(2)

من مرساها أمر بسُفْرته فقُرِّبت، ثمَّ دعاني إلى الغداء، وذلك في رمضان. فقلت: يا أبا بَصْرة، والله ما تغيَّبتْ عنَّا منازلُنا بعد! قال: أترغبُ عن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا. قال: فكُلْ. فلم نزَلْ مفطرين حتَّى بلغنا».

وقال محمَّد بن كعبٍ: أتيتُ أنس بن مالكٍ في رمضان وهو يريد سفرًا، وقد رُحِّلت له راحلته، ولبس ثياب السَّفر، فدعا بطعامٍ فأكل، فقلتُ له: سنَّةٌ؟ قال: سنَّةٌ، ثمَّ ركب

(3)

. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ، وقال الدَّارقطنيُّ فيه:«فأكل وقد تقاربَ غروب الشَّمس» .

وهذه الآثار صريحةٌ في أنَّ من أنشأ السَّفر في أثناء يومٍ من رمضان فله الفطر فيه.

فصل

وكان صلى الله عليه وسلم يدركُه الفجرُ وهو جنبٌ من أهله، فيغتسل بعد الفجر

(1)

برقم (27233).

(2)

في المطبوع: «دنونا» خلاف جميع النسخ و «المسند» .

(3)

رواه الترمذي (799) والدارقطني (2291) والبيهقي (4/ 247)، وحسنه الترمذي، وصححه ابن العربي في «عارضة الأحوذي» (4/ 13) والألباني في «تصحيح حديث إفطار الصائم» (ص 17).

ص: 71

ويصوم

(1)

. وكان يُقبِّل بعض أزواجه وهو صائمٌ في رمضان

(2)

. وشبَّه قُبلة الصَّائم بالمضمضة بالماء

(3)

.

وأمَّا ما رواه أبو داود

(4)

عن مِصْدَع بن يحيى عن عائشة أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُقبِّلها وهو صائمٌ، ويَمُصُّ لسانها= فهذا حديث قد اختُلِف فيه، فضعَّفتْه

(5)

طائفةٌ بمِصْدَع هذا، وهو مختلفٌ فيه، قال السعدي: زائغٌ جائرٌ عن الطَّريق. وحسَّنته طائفةٌ فقالوا: هو ثقةٌ صدوقٌ، روى له مسلم في «صحيحه»

(6)

. وفي إسناده محمد بن دينار الطاحي البصري، مختلفٌ فيه أيضًا، فقال يحيى: ضعيفٌ، وفي روايةٍ عنه: ليس به بأسٌ، وقال غيره: صدوقٌ، وقال ابن عديٍّ: قوله: «ويمصُّ لسانها» لا يقوله إلا محمَّد بن دينارٍ،

(1)

رواه البخاري (1925، 1926) ومسلم (1109/ 75، 78) من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما .

(2)

رواه البخاري (1927) ومسلم (1106/ 66) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

رواه أبو داود (2385) من حديث عمر- رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1999) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 89) وابن حبان (905) والحاكم (1/ 431) وأحمد شاكر في «تخريج المسند» (1/ 225) والألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (7/ 147).

(4)

برقم (2386)، ورواه ابن خزيمة (2003)، وفي إسناده مصدعٌ ومحمد بن دينار مختلفٌ فيهما. انظر:«نصب الراية» (4/ 253) و «كشف المناهج والتناقيح» للمناوي (2/ 172) و «ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 270).

(5)

ك، ع:«فضعفه» .

(6)

انظر هذه الأقوال في: «الكامل» لابن عدي (8/ 230) و «ميزان الاعتدال» (4/ 118) و «تهذيب التهذيب» (10/ 158).

ص: 72

وهو الذي رواه

(1)

. وفي إسناده أيضًا سعد بن أوس مختلفٌ فيه أيضًا، قال يحيى: بصريٌّ ضعيفٌ، وقال غيره: ثقةٌ، وذكره ابن حبَّان في «الثِّقات»

(2)

.

وأمَّا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه

(3)

عن ميمونة

(4)

مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سئل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ قبَّل امرأته وهما صائمان، فقال: «قد أفطرا

(5)

» = فلا يصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أبو يزيد

(6)

الضِّني

(7)

راويه عن ميمونة، وهي بنت سعد، قال الدَّارقطنيُّ: ليس بمعروف، ولا يثبت هذا. وقال البخاريُّ: هذا لا أحدِّث به، هذا حديثٌ منكرٌ، وأبو يزيد رجلٌ مجهولٌ

(8)

.

ولا يصحُّ عنه صلى الله عليه وسلم التَّفريق بين الشَّابِّ والشَّيخ، ولم يجئ من وجهٍ يثبت، وأجود ما فيه حديث أبي داود

(9)

عن نصر بن علي، عن أبي أحمد الزُّبيريِّ،

(1)

انظر: «تهذيب التهذيب» (9/ 155) و «الكامل» (6/ 198).

(2)

(6/ 377)، وانظر:«تهذيب التهذيب» (3/ 467).

(3)

أحمد (27625) وابن ماجه (1686)، ورواه إسحاق بن راهويه (2212) والدارقطني (2270) والطبراني (57). والحديث ضعفه الدارقطني والألباني في «الضعيفة» (4691)، وعلته: أبو يزيد الضني.

(4)

مب: «ميمون» .

(5)

في المطبوع: «أفطر» خلاف النسخ ومصادر التخريج.

(6)

مب: «أبو زيد» ، تحريف.

(7)

ص، ك، ج، ع:«الضبي» ، تصحيف.

(8)

انظر: «ميزان الاعتدال» (4/ 588).

(9)

برقم (2387)، ورواه البيهقي (4/ 231)، والحديث صحيح. انظر:«صحيح أبي داود - الأم» (7/ 148).

ص: 73

أخبرنا إسرائيل، [عن أبي العَنْبس]

(1)

، عن الأغرّ، عن أبي هريرة أنَّ رجلًا سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصَّائم، فرخَّص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخَّص له شيخٌ، والذي نهاه شابٌّ. وإسرائيل وإن كان البخاريُّ ومسلم قد احتجَّا به وبقيَّة الستة، فعلَّة هذا الحديث أنَّ بينه وبين الأغرِّ فيه أبا العَنْبس العَدَوي الكوفي، واسمه الحارث بن عُبيد، سكتوا عنه

(2)

.

فصل

وكان من هديه إسقاط القضاء عمَّن أكل أو شرب ناسيًا، وأنَّ الله هو الذي أطعمه وسقاه

(3)

، فليس هذا الأكل والشُّرب يضاف إليه فيفطر به، فإنه إنما يفطر بما فعله، وهذا بمنزلة أكله وشربه في نومه، إذ لا تكليفَ بفعل النَّائم ولا النَّاسي.

فصل

والَّذي صحَّ عنه [أن] يفطر الصائم به

(4)

: الأكل والشُّرب والحجامة

(5)

والقيء

(6)

، والقرآن دالٌّ على أنَّ الجماع مفطِّرٌ كالأكل والشُّرب، ولا يعرف

(1)

زيادة من مصدر التخريج، وليست في النسخ. وسيأتي ما يدل عليه.

(2)

وثقه ابن معين في «تاريخه» رواية الدارمي (ص 236)، وذكره ابن حبان أيضًا في «الثقات» (6/ 177).

(3)

رواه البخاري (1933) ومسلم (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

«به» ليست في مب.

(5)

رواه أحمد (17112) وأبو داود (2369) وابن ماجه (1681) من حديث شداد بن أوس- رضي الله عنه، والحديث صحيح. وفي الباب عن علي، وسعد، وثوبان وغيرهم من الصحابة- رضي الله عنه، وانظر:«الإرواء» (4/ 65).

(6)

رواه أحمد (10463) وأبو داود (2380) والترمذي (720) وابن ماجه (1676)، والحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (3518) والحاكم (1/ 426)، وقال الدارقطني (2273): رواته كلهم ثقات، واحتجَّ به ابن تيمية ولم يعله. انظر:«مجموع الفتاوى» (25/ 221 - 222) و «الإرواء» (4/ 51).

ص: 74

فيه خلافٌ، ولا يصحُّ عنه في الكحل شيءٌ

(1)

.

وصحَّ عنه أنَّه كان يستاك وهو صائمٌ

(2)

.

وذكر الإمام أحمد

(3)

عنه أنَّه كان يَصُبُّ الماء على رأسه وهو صائمٌ.

وكان يتمضمض ويستنشق وهو صائمٌ، ومنع الصَّائم من المبالغة في الاستنشاق

(4)

.

ولا يصحُّ عنه أنَّه احتجم وهو صائمٌ، قاله الإمام أحمد. وقد رواه البخاريُّ في «صحيحه»

(5)

. قال أحمد

(6)

: حدَّثنا يحيى بن سعيدٍ

(7)

قال: قال

(1)

سيأتي تخريجه.

(2)

رواه أحمد (15678) والترمذي (725)، وإسناده ضعيف بسبب ضعف عاصم بن عبيد الله العمري، ولكن يغني عنه حديث «لو لا أن أشق على أمتي» ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستثنِ مفطرًا دون صائم، مع البراءة الأصلية الدالة على استحباب السواك للصائم أول النهار وآخره. انظر:«صحيح ابن خزيمة» (3/ 247) و «تمام المنة» (ص 89).

(3)

رواه أحمد (16602، 23191) وأبو داود (2365) من حديث رجل من الصحابة.

(4)

رواه أحمد (16384) وأبو داود (142) والنسائي (87) وابن ماجه (407) من حديث لقيط بن صبرة. والحديث صححه الترمذي (788) وابن خزيمة (150) وابن حبان (1054) والحاكم (1/ 147).

(5)

برقم (1938، 1939).

(6)

في «مسائل الإمام أحمد» رواية أبي داود (ص 446).

(7)

بعده سقط في ع إلى «يحيى بن سعيد» الآتي بعد أسطر.

ص: 75

شعبة

(1)

: لم يسمع الحكم حديث مِقْسم في الحجامة والصِّيام، يعني حديث شعبة

(2)

، عن الحكم، عن مِقْسم، عن ابن عبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائمٌ محرمٌ.

قال مهنَّا

(3)

: وسألت أحمد عن حديث حبيب بن الشَّهيد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائمٌ محرمٌ

(4)

. فقال: ليس بصحيحٍ، قد أنكره يحيى بن سعيدٍ على الأنصاري

(5)

، إنَّما كانت أحاديث ميمون بن مهران عن ابن عبَّاسٍ نحو خمسة عشر حديثًا.

وقال الأثرم

(6)

: سمعت أبا عبد الله ذكر هذا الحديث فضعَّفه.

وقال مهنَّا

(7)

: سألت أحمد عن حديث قَبِيصة، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم صائمًا محرمًا

(8)

.

(1)

«قال شعبة» ليست في المطبوع.

(2)

في المطبوع: «سعيد» ، تحريف. والحديث أخرجه من طريقه النسائي في «الكبرى» (3214).

(3)

نقله شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (25/ 253).

(4)

أخرجه أحمد (2888) والترمذي (776) والنسائي في «الكبرى» (3231) بهذا الإسناد.

(5)

الأنصاري هو محمد بن عبد الله الراوي عن حبيب. انظر: «شرح العمدة» (3/ 349). وفي المطبوع بحذف «على» ، فأصبح صفةً ليحيى.

(6)

نقله ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (25/ 253).

(7)

كما في المصدر السابق.

(8)

أخرجه النسائي في «الكبرى» (3216) بهذا الإسناد، وقال: هذا خطأ، لا نعلم أحدًا رواه عن سفيان غير قبيصة، وقبيصة كثير الخطأ.

ص: 76

فقال: هو خطأٌ من قبل قَبِيصة، وسألت يحيى عن قبيصة بن عقبة، فقال: رجلُ صدقٍ

(1)

، والحديث الذي يحدِّث به عن سفيان عن سعيد بن جبيرٍ خطأ من قبله.

قال أحمد: هو في كتاب الأشجعي عن سعيد بن جبيرٍ مرسلًا: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرمٌ، لا يذكر فيه «صائمًا» .

قال مهنَّا

(2)

: وسألت أحمد عن حديث ابن عبَّاسٍ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائمٌ محرمٌ، فقال: ليس فيه صائمٌ، إنَّما هو محرمٌ، ذكره سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، عن طاوسٍ

(3)

، عن ابن عبَّاسٍ: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه وهو محرمٌ

(4)

.

وعبد الرزاق

(5)

، عن معمر، عن ابن خُثَيم، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ: احتجم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو محرمٌ. ورَوْح، عن زكريَّا بن إسحاق، عن

(1)

ك: «صادق» .

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (25/ 253) و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (3/ 274) و «نصب الراية» (2/ 478) و «التلخيص الحبير» (2/ 192).

(3)

وفي «التنقيح» (3/ 274) و «نصب الراية» (2/ 478) و «التلخيص الحبير» (2/ 192): «عطاء وطاوس» .

(4)

رواه أحمد (1922) من طريق سفيان به، وانظر:«صحيح البخاري» (1835). ورواه أحمد (1923) والبخاري (5695) ومسلم (1202) من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء وطاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وليس فيهما ذكر الرأس.

(5)

لم أقف عليه بهذا الطريق. وهو عند أحمد (3075) والدارمي (1860) والطبراني (12476، 12477) من طريق الثوري عن (عبد الله بن عثمان) ابن خثيم به.

ص: 77

عمرو بن دينارٍ، عن عطاء وطاوس، عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرمٌ

(1)

. وهؤلاء أصحاب ابن عبَّاسٍ لا يذكرون صائمًا.

وقال حنبل

(2)

: حدَّثنا أبو عبد الله، حدَّثنا وكيعٌ، عن ياسين الزيّات، عن رجلٍ، عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في رمضان بعد ما قال:«أفطرَ الحاجم والمحجوم» . قال أبو عبد الله: الرَّجل أُراه أبان بن أبي عيّاش

(3)

، يعني: ولا يُحتجُّ به

(4)

.

وقال الأثرم

(5)

: قلت لأبي عبد الله: روى محمد بن معاوية النيسابوري، عن أبي عوانة، عن السُّدِّيِّ، عن أنس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائمٌ. فأنكر هذا، ثمَّ قال: السُّدِّيُّ عن أنس؟ قلت: نعم، فعجِبَ من هذا.

قال أحمد: وفي قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» غير حديث ثابت.

(1)

رواه أحمد (3524)، وصححه ابن خزيمة (2657) والحاكم (1/ 453). وفيها عن طاوس فقط. ورواه أحمد (1923) والبخاري (1835، 5695) ومسلم (1202) من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء وطاوس كليهما عن ابن عباس.

(2)

في سؤالاته، انظر:«التوضيح» لابن الملقن (13/ 300).

(3)

ك، ص، ج، ع:«عثمان» ، تحريف. والمثبت من ق، مب هو الصواب. قال أحمد: كان وكيع إذا أتى على حديث أبان بن أبي عياش يقول: رجل، لا يسميه استضعافًا له. «العلل» برواية ابنه عبد الله (2/ 525).

(4)

وقال عنه أيضًا: «متروك الحديث، ترك الناس حديثه مذ دهر من الدهر» . «العلل» برواية ابنه عبد الله (1/ 412).

(5)

انظر: «التوضيح» لابن الملقن (13/ 300).

ص: 78

وقال إسحاق: قد ثبت هذا من خمسة أوجهٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

والمقصود أنَّه لم يصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه احتجم وهو صائمٌ، ولا صحَّ عنه نهيُ الصَّائم عن السِّواك أوَّلَ النَّهار ولا آخرَه

(2)

، بل قد روي عنه خلافه

(3)

. ويُذكَر عنه: «من خير خصالِ الصَّائم السِّواكُ» ، رواه ابن ماجه

(4)

من حديث مجالد، وفيه ضعفٌ.

فصل

وروي عنه أنَّه اكتحل وهو صائمٌ

(5)

، وروي عنه أنَّه خرج عليهم في

(1)

انظر: «الفروع» لابن مفلح (5/ 7).

(2)

كحديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي، فإن الصائم إذا يبست شفتاه كان له نور يوم القيامة» . رواه البزار (2137) والطبراني (3696) والدارقطني (2372) من حديث علي رضي الله عنه، والحديث ضعيف. انظر:«التنقيح» (3/ 240) و «التلخيص الحبير» (2/ 201) و «الإرواء» (1/ 106) و «الضعيفة» (401).

(3)

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشقَّ على أمتي أو على الناس لأمرتُهم بالسواك مع كل صلاة» . رواه البخاري (887) ــ واللفظ له ــ ومسلم (252).

(4)

برقم (1677) والدارقطني (2371) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

رواه ابن ماجه (1678) والطبراني في «الصغير» (401) وفي «مسند الشاميين» (1830) من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث إسناده ضعيف؛ علته سعيد بن أبي سعيد الزبيدي، فإنه متكلم فيه. انظر:«التنقيح» (3/ 249) و «التلخيص الحبير» (2/ 190) و «السلسلة الضعيفة» (6108).

ص: 79