الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إحرامه.
والصَّواب: أنَّه أحرم بالحجِّ والعمرة معًا من حين أنشأ الإحرام، ولم يحلَّ حتَّى حلَّ منهما جميعًا، وطاف لهما طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا، وساق الهدي، كما دلَّت عليه النُّصوص المستفيضة الَّتي تواترت تواترًا يعلمه أهل الحديث.
فصل
في أعذار القائلين بهذه الأقوال، وبيان منشأ الوهم والغلط
أمَّا عذر من قال: اعتمر في رجبٍ، فحديث عبد الله بن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجبٍ، متَّفقٌ عليه. وقد غلَّطته عائشة وغيرها، كما في «الصَّحيحين»
(1)
عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزُّبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالسًا إلى حجرة عائشة، وإذا ناسٌ يصلُّون في المسجد صلاة الضُّحى، قال: فسألناه عن صلاتهم. فقال: بدعةٌ. ثمَّ قال
(2)
له: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعًا إحداهنَّ في رجبٍ، فكرهنا أن نردَّ عليه. قال: وسمعنا استنانَ عائشة أم المؤمنين في الحجرة، فقال عروة: يا أمَّه، يا أمَّ المؤمنين، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: ما يقول؟ قال: يقول: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَرٍ، إحداهنَّ في رجبٍ. قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرةً قطُّ إلا وهو شاهدٌ، وما اعتمر في رجبٍ قطُّ.
(1)
البخاري (1775، 1776) ومسلم (1255). وقد تقدم.
(2)
كذا في النسخ و «الصحيحين» . وفاعل «قال» عروة كما في رواية مسلم (1255). وغيّر في المطبوع فكتب «قلنا» .
وكذلك قال أنس وابن عبَّاسٍ: إنَّ عُمَره كلَّها كانت في ذي القعدة، وهذا هو الصَّواب
(1)
.
فصل
وأمَّا من قال: اعتمر في شوَّالٍ، فعذره ما رواه مالك في «الموطَّأ»
(2)
عن هشام بن عروة عن أبيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا ثلاثًا، إحداهنَّ في شوَّالٍ واثنتين في ذي القعدة.
ولكنَّ هذا الحديث مرسلٌ، وهو غلطٌ أيضًا، إمَّا من هشام وإمَّا من عروة، أصابه فيه ما أصاب ابنَ عمر. وقد رواه أبو داود
(3)
مرفوعًا عن عائشة، وهو غلطٌ أيضًا لا يصحُّ رفعه. قال ابن عبد البرِّ
(4)
: وليس روايته مسندًا ممَّا يذكر عن مالك في صحَّة النَّقل.
قلت: ويدلُّ على بطلانه عن عائشة أنَّ عائشة وابن عبَّاسٍ وأنس بن مالكٍ قالوا: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة. وهذا هو الصَّواب، فإنَّ عمرة الحديبية والقضيَّة كانتا في ذي القعدة، وعمرة القِران إنَّما كانت في ذي القعدة، وعمرة الجِعرانة أيضًا كانت في أوَّل ذي القعدة، وإنَّما وقع
(1)
بعدها في ص فقط: «والله أعلم» .
(2)
برقم (972).
(3)
رقم (1991).
(4)
في «التمهيد» (22/ 289)، وفيه بعد ذكر رواية داود بن عبد الرحمن عن هشام مرفوعًا:«ورواه هكذا مسندًا عن هشام: يزيد بن سنان الرُّهاوي ومسلم بن خالد الزنجي، وليس هؤلاء ممن يُذكر مع مالك في صحة النقل» .
الاشتباه أنَّه خرج من مكَّة في شوَّالٍ للقاء العدوِّ، وفرغ من عدوِّه، وقسَمَ غنائمهم، ودخل مكَّة ليلًا معتمرًا من الجعرانة، وخرج منها ليلًا، فخفيتْ عمرتُه هذه على كثيرٍ من النَّاس، وكذلك قال مُحرِّش الكعبي
(1)
.
فصل
وأمَّا من ظنَّ أنَّه اعتمر من التَّنعيم بعد الحجِّ، فلا أعلم له عذرًا، فإنَّ هذا خلاف المعلوم المستفيض من حجَّته، ولم ينقله أحدٌ قطُّ، ولا قاله إمامٌ، ولعلَّ ظانَّ هذا سمع أنَّه أفرد الحجَّ، ورأى أنَّ كلَّ من أفرد الحجَّ من أهل الآفاق فلا بدَّ له أن يخرج بعده إلى التَّنعيم، نزَّل حجَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهذا عين الغلط.
فصل
وأمَّا من قال: إنَّه لم يعتمر في حجَّته أصلًا، فعذره أنَّه لمَّا سمع أنَّه أفرد الحجَّ، وعلم يقينًا أنَّه لم يعتمر بعد حجَّته= قال: إنَّه لم يعتمر في تلك الحجَّة اكتفاءً منه بالعمرة المتقدِّمة. والأحاديث المستفيضة الصَّحيحة تردُّ قوله، كما تقدَّم من أكثر من عشرين وجهًا. وقد قال:«هذه عمرةٌ استمتعنا بها»
(2)
، وقالت له حفصة: ما شأن النَّاس حلُّوا ولم تحلَّ أنت من عمرتك؟ وقال سُراقة بن مالك: تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك قال ابن عمر وعائشة وعمران بن حُصينٍ وابن عبَّاسٍ، وصرَّح أنس وابن عبَّاسٍ
(3)
وعائشة أنَّه
(1)
أخرجه أحمد (15513) والترمذي (935)، وقال: هذا حديث حسن غريب، ولا نعرف لمحرش الكعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث.
(2)
أخرجه مسلم (1241) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
«وصرح أنس وابن عباس» ساقطة من ص.
اعتمر في حجَّته وهي إحدى عُمَره الأربع.
فصل
وأمَّا من قال: إنَّه اعتمر عمرةً حلَّ منها، كما قاله القاضي أبو يعلى ومن وافقه، فعذرهم أنه صحَّ عن ابن عمر وعائشة وعمران بن حصينٍ وغيرهم أنَّه صلى الله عليه وسلم تمتَّع. وهذا يحتمل أنَّه تمتُّعٌ حلَّ منه، ويحتمل أنَّه لم يحلَّ، فلمَّا أخبر معاوية أنَّه قصَّر عن رأسه بمِشْقَصٍ على المروة، وحديثه في «الصَّحيحين»
(1)
، دلَّ على أنَّه حلَّ من إحرامه. ولا يمكن أن يكون هذا في غير حجَّة الوداع؛ لأنَّ معاوية إنَّما أسلم بعد الفتح، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يكن زمنَ الفتح محرمًا، ولا يمكن أن يكون في عمرة الجعرانة لوجهين، أحدهما: أنَّ في بعض ألفاظ «الصَّحيح»
(2)
: «وذلك في حجَّته» . الثَّاني: أنَّ في رواية النَّسائي بإسنادٍ صحيحٍ
(3)
: «وذلك في أيَّام العشر» ، وهذا إنَّما كان في حجَّته.
وحمل هؤلاء رواية من روى أنَّ المتعة كانت لهم
(4)
خاصَّةً
(5)
على أنَّ طائفةً منهم خُصُّوا بالتَّحلُّل من الإحرام مع سَوْق الهدي دون من ساق
(1)
رواه البخاري (1730) ومسلم (1246/ 210).
(2)
بل عند أبي داود (1803) والطبراني (19/ 309).
(3)
برقم (2989)، والحديث شاذ بهذه الزيادة. انظر:«فتح الباري» (3/ 715).
(4)
في المطبوع: «له» ، خطأ.
(5)
أخرجه أحمد (15853) وأبو داود (1808) والنسائي (2808) وابن ماجه (2984) من حديث الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال:«بل لنا خاصة» . وإسناده ضعيف لجهالة حال الحارث بن بلال، فقد انفرد ربيعة بن أبي عبد الرحمن في رواية هذا الحديث عنه.
الهدي
(1)
من الصَّحابة، وأنكر ذلك عليهم آخرون، منهم شيخنا أبو العباس
(2)
، وقالوا: من تأمَّل الأحاديث المستفيضة الصَّحيحة تبيَّن له أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يحلَّ لا هو ولا أحدٌ ممَّن ساق الهدي.
فصل
في أعذار الذين وهموا في صفة حجَّته
أمَّا من قال: إنَّه حجَّ حجًّا مفردًا لم يعتمر معه، فعذره ما في «الصَّحيحين»
(3)
عن عائشة أنَّها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجَّة الوداع، فمنَّا من أهلَّ بعمرةٍ، ومنَّا من أهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ، ومنَّا من أهلَّ بالحجٍّ، وأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ. قالوا: فهذا التَّقسيم والتَّنويع صريحٌ في إهلاله بالحجِّ وحده.
ولمسلم
(4)
عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالحجِّ مفردًا.
وفي «صحيح البخاريِّ»
(5)
عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لبَّى
(6)
بالحجِّ وحده.
وفي «صحيح مسلم»
(7)
عن ابن عبَّاسٍ: أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ.
(1)
«دون من ساق الهدي» ليست في ك.
(2)
في «مجموع الفتاوى» (26/ 83).
(3)
البخاري (1562) ومسلم (1211/ 118). وقد تقدم.
(4)
برقم (1211/ 114). وقد تقدم.
(5)
بل في «صحيح مسلم» (1232). وقد تقدم.
(6)
ك، ص:«أهلّ» . والمثبت من ق، مب.
(7)
رقم (1240/ 199).
وفي «سنن ابن ماجه»
(1)
عن جابر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحجَّ
(2)
.
وفي «صحيح مسلم»
(3)
عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ننوي إلا الحجَّ، لسنا نعرف العمرة.
وفي «صحيح البخاريِّ»
(4)
عن عروة بن الزُّبير قال: حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أنه أوَّل شيءٍ بدأ به حين قدم مكَّة أنَّه توضَّأ، ثمَّ طاف بالبيت [ثمَّ لم تكن عمرةٌ]
(5)
، ثمَّ حجَّ أبو بكر، فكان أوَّل شيءٍ بدأ به الطَّواف بالبيت، ثمَّ لم تكن عمرةٌ، ثمَّ عمر مثل ذلك، ثمَّ حجَّ عثمان، فرأيته أوَّل شيءٍ بدأ به الطَّواف بالبيت، ثمَّ لم تكن عمرةٌ، ثمَّ معاوية وعبد الله بن عمر. ثمَّ حججتُ مع أبي الزُّبير
(6)
بن العوَّام، فكان أوَّل شيءٍ بدأ به الطَّواف بالبيت، ثمَّ لم تكن عمرةٌ، ثمَّ رأيتُ المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم تكن عمرة، ثم آخر من رأيتُ
(7)
فعل ذلك ابن عمر، ثمَّ لم ينقضها بعمرة
(8)
، [وهذا ابن عمر عندهم، فلا يسألونه]
(9)
، ولا أحدٌ ممَّن مضى، ما كانوا
(1)
برقم (2966). وإسناده صحيح. وقد تقدم.
(2)
ك: «بالحج» .
(3)
برقم (1218/ 147).
(4)
برقم (1641، 1642).
(5)
ليست في النسخ، وهي عند البخاري.
(6)
ق، ب، مب:«ابن الزبير» ، خطأ.
(7)
«المهاجرين
…
رأيتُ» ساقطة من المطبوع، وهي مثبتة في جميع النسخ و «صحيح البخاري» .
(8)
كذا في النسخ. وفي البخاري: «عمرة» .
(9)
ليست في النسخ، وهي عند البخاري.
يبدؤون بشيءٍ حين يضعون أقدامهم أوَّلَ من الطَّواف بالبيت ثمَّ لا يحلُّون. وقد رأيت أمِّي
(1)
وخالتي حين تَقدَمانِ لا تبدآنِ بشيءٍ أوَّلَ من البيت، تطوفان به، ثمَّ لا تَحلَّانِ. وقد أخبرتني أمِّي أنَّها أقبلتْ
(2)
هي وأختها والزبير وفلانٌ وفلانٌ بعمرةٍ قط
(3)
،
فلمَّا مسحوا الرُّكن حلُّوا.
وفي «سنن أبي داود»
(4)
: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حمَّاد بن سلمة ووُهَيب بن خالدٍ، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين لهلال ذي الحجَّة، فلمَّا كان بذي الحليفة قال: «من شاء أن يُهِلَّ بحجٍّ فليفعلْ
(5)
، ومن شاء أن يهلَّ بعمرةٍ فليهلَّ
(6)
». ثمَّ انفرد حماد
(7)
في حديثه بأن قال عنه صلى الله عليه وسلم: «فإنِّي لولا أنِّي أهديتُ لأهللتُ بعمرةٍ» . وقال الآخر
(8)
: «وأمَّا أنا فأهلُّ بالحجِّ» . فصحَّ بمجموع الرِّوايتين أنَّه أهلَّ بالحجِّ مفردًا.
وأرباب هذا القول عذرهم ظاهرٌ كما ترى، ولكن ما عذرهم في حكمه وخبره الذي حكم به على نفسه، وأخبر عنها بقوله: «سُقتُ الهديَ
(1)
ك: «أبي» ، خطأ.
(2)
كذا في النسخ. وفي البخاري: «أهلَّت» .
(3)
كذا في ق، ص، ج، مب. وفي ك:«فقط» .. وليست هذه الكلمة عند البخاري.
(4)
برقم (1778). ورجاله كلهم ثقات، انظر:«صحيح أبي داود - الأم» (6/ 22).
(5)
كذا في النسخ. وعند أبي داود: «فليهل» ، فجعله في المطبوع كذلك.
(6)
بعدها عند أبي داود وعنه في المطبوع: «بعمرة» . وليست في النسخ.
(7)
كذا في النسخ. وهو وهمٌ من المؤلف، فعند أبي داود:«قال موسى في حديث وُهيب» .
(8)
عند أبي داود: «وقال في حديث حمّاد بن سلمة» .
وقَرنْتُ»
(1)
؟ وخبر من هو تحت بطن ناقته، وأقرب إليه حينئذٍ من غيره، وهو من أصدق النَّاس، يسمعه
(2)
يقول: «لبَّيك حجًّا وعمرةً»
(3)
، وخبر من هو أعلم النَّاس به عنه عليِّ بن أبي طالبٍ، حين يخبر عنه
(4)
أنَّه أهلَّ بهما جميعًا، ولبَّى بهما جميعًا
(5)
، وخبر زوجته حفصة في تقريرها له
(6)
على أنَّه معتمرٌ بعمرةٍ لم يحلَّ منها، فلم ينكر ذلك عليها، بل صدَّقها، وأجابها بأنَّه مع ذلك حاجٌّ
(7)
، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقرُّ على باطلٍ يسمعه أصلًا، بل ينكره.
وما عذره
(8)
عن خبره عن نفسه بالوحي الذي جاءه من ربِّه، يأمره فيه أن يهلَّ بحجَّةٍ في عمرةٍ؟ وما عذره عن خبر من أخبر عنه من أصحابه أنَّه قرنَ؛ لأنَّه علم أنَّه لا يحجُّ بعدها، وخبر من أخبر عنه أنَّه اعتمر مع حجَّته؟
وليس مع من قال: إنَّه أفرد الحجَّ شيءٌ من ذلك البتَّة، فلم يقل أحدٌ منهم عنه: إنِّي أفردتُ، ولا أتاني آتٍ من ربِّي يأمرني بالإفراد، ولا قال أحدٌ: ما
(1)
أخرجه أبو داود (1797) والنسائي (2725) من حديث البراء بن عازب، وإسناده صحيح.
(2)
«يسمعه» ليست في ك. وفي مب: «فسمعته» .
(3)
كذا في النسخ، وأخرجه أحمد (13349) وابن ماجه (2917) من حديث أنس بن مالك، وصححه ابن حبان (3932). ولفظهم:«لبيك بحجة وعمرة» .
(4)
«عنه» ليست في ق، مب.
(5)
«جميعا» ليست في ص، ك، ج. وقد تقدم تخريج حديث علي.
(6)
ق، ب، مب:«تقريره لها» . والمثبت من بقية النسخ.
(7)
تقدم تخريجه.
(8)
كذا بضمير المفرد في جميع النسخ. وفي المطبوع: «عذرهم» .
بال النَّاس حلُّوا، ولم تحلَّ من حجك، كما حلُّوا هم بعمرةٍ، ولا قال أحدٌ: إنه سمعه يقول: لبَّيك بعمرةٍ مفردةٍ البتَّة، ولا بحجٍّ مفردٍ، ولا قال أحدٌ: إنَّه اعتمر أربع عُمَرٍ الرَّابعة بعد حجَّته، وقد شهد عليه أربعةٌ من الصَّحابة أنَّهم
(1)
سمعوه يخبر عن نفسه بأنَّه قارنٌ، ولا سبيلَ إلى دفع ذلك إلا بأن يقال: لم يسمعوه.
ومعلومٌ قطعًا أنَّ تطرُّقَ الوهم والغلط إلى من أخبر عمَّا فهِمَه هو من فعْلِه وظنَّه كذلك أولى من تطرُّقِ التَّكذيب إلى من قال: سمعته يقول كذا وكذا وإنَّه لم يسمعه، فإنَّ هذا لا يتطرَّق إليه إلا التَّكذيب، بخلاف خبر من أخبر عمَّا ظنَّه من فعْلِه وكان واهمًا، فإنَّه لا يُنسب إلى الكذب. ولقد نزَّه الله عليًّا وأنسًا والبراء وحفصة عن أن يقولوا: سمعناه يقول كذا، ولم يسمعوه، ونزَّهه ربُّه تبارك وتعالى أن يرسل إليه: أن افعَلْ كذا وكذا، ولم يفعله، هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل، فكيف والَّذين ذكروا الإفراد عنه لم يخالفوا هؤلاء في مقصودهم ولا ناقضوهم، وإنَّما أرادوا إفرادَ الأعمال واقتصارَه على عمل المفرِد، فإنَّه ليس في عمله زيادةٌ على عمل
(2)
المفرد.
ومَن روى عنهم ما يوهم خلاف هذا فإنَّه عبَّر بحسب ما فهمه، كما سمع بكرُ بن عبد الله ابنَ عمر يقول: أفرد الحجَّ، فقال:«لبَّى بالحجِّ وحده» ، فحمله على المعنى. وقال سالمٌ ابنه عنه ونافعٌ مولاه: إنَّه تمتَّع، فبدأ فأهلَّ
(1)
ج: «أنه» .
(2)
ق: «حمل» .
بالعمرة ثمَّ أهلَّ بالحجِّ. فهذا سالمٌ يخبر بخلاف ما أخبر بكرٌ، ولا يصحُّ تأويل هذا عنه
(1)
بأنَّه أمر به، فإنَّه فسَّره بقوله:«وبدأ فأهلَّ بالعمرة ثمَّ أهلَّ بالحجِّ» .
وكذلك الذين رووا الإفراد عن عائشة هما: عروة والقاسم، وروى القِران عنها عروة ومجاهد، وأبو الأسود يروي عن عروة الإفراد، والزُّهريُّ يروي عنه القران. فإن قدَّرنا تساقُطَ الرِّوايتين سلِمتْ رواية مجاهد، وإن حُمِلتْ رواية الإفراد على أنَّه أفرد أعمال الحجِّ تصادقت الرِّوايات وصدَّق بعضها بعضًا.
ولا ريبَ أنَّ قول عائشة وابن عمر: «أفردَ الحجَّ» ، محتملٌ لثلاثة معانٍ:
أحدها: الإهلال به مفردًا.
الثَّاني: إفراد أعماله.
الثَّالث: أنَّه حجَّ حجَّةً واحدةً لم يحجَّ معها غيرها، بخلاف العمرة فإنَّها كانت أربع مرَّاتٍ.
وأمَّا قولهما: «تمتَّع بالعمرة إلى الحجِّ، وبدأ فأهلَّ بالعمرة، ثمَّ أهلَّ بالحجِّ» ، وحكيا فعله، فهذا صريحٌ لا يحتمل غير معنًى واحدٍ، فلا يجوز ردُّه بالمجمل. وليس في رواية الأسود وعَمرة عن عائشة أنَّه أهلَّ بالحجِّ ما يناقض روايةَ مجاهد وعروة عنها أنَّه قرنَ، فإنَّ القارن حاجٌّ مُهِلٌّ بالحجِّ قطعًا، وعمرته جزءٌ من حجّه، فمن أخبر عنه أنَّه مهلٌّ بالحجِّ فهو عين
(1)
«عنه» ليست في ك.
الصادق
(1)
. فإذا ضُمَّت رواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود ثمَّ ضُمَّا إلى رواية عروة= تبيَّن من مجموع الرِّوايات أنَّه كان قارنًا، وصدَّق بعضها بعضًا، حتَّى لو لم يحتمل قول عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفردًا حسْبُ
(2)
، لوجب قطعًا أن يكون سبيله سبيلَ قولِ ابن عمر:«اعتمر في رجبٍ» ، وقولِ عائشة أو عروة:«إنَّه اعتمر في شوَّالٍ» ؛ لأنَّ
(3)
تلك الأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة لا سبيلَ أصلًا إلى تكذيب رواتها، ولا تأويلِها وحملِها على غير ما دلَّت عليه، ولا سبيلَ إلى تقديم هذه الرِّواية المجملة
(4)
الَّتي قد اضطُرِب عن
(5)
رواتها واختُلِف عنهم، وعارضهم من هو أوثق منهم أو مثلُهم عليها.
وأمَّا قول جابر: «إنَّه أفرد الحجَّ» ، فالصحيح من حديثه ليس فيه شيءٌ من هذا، وإنَّما فيه إخباره عنهم أنفسهم أنَّهم لا ينوون إلا الحجَّ، فأين في هذا ما يدلُّ على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لبَّى بالحجِّ مفردًا؟
وأمَّا حديثه
(6)
الآخر الذي رواه ابن ماجه
(7)
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحجَّ، فله ثلاث طرقٍ:
(1)
كذا في جميع النسخ، وهو الصواب. وفي المطبوع:«غير صادق» ، تحريف.
(2)
«حسب» ليست في المطبوع.
(3)
كذا في النسخ، وهو الصواب. وفي المطبوع:«إلا أن» .
(4)
ك: «المحتملة» .
(5)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «اضطربت على» .
(6)
ص: «الحديث» .
(7)
برقم (1240).
أجودها: طريق الدراوردي عن جعفر بن محمَّدٍ عن أبيه، وهذا يقينًا مختصرٌ من حديثه الطَّويل في حجَّة الوداع ومرويٌّ بالمعنى، والنَّاس خالفوا الدراورديَّ في ذلك، وقالوا: أهلَّ بالحجِّ، وأهلَّ بالتَّوحيد.
والطَّريق الثَّاني: فيها مطرف بن مصعب
(1)
عن عبد العزيز بن أبي حازمٍ عن جعفر. ومطرّف هذا
(2)
قال ابن حزمٍ
(3)
: هو مجهولٌ.
قلت: ليس بمجهولٍ، ولكنَّه ابن أخت مالك، روى عنه البخاريُّ وبشر بن موسى وجماعةٌ. قال أبو حاتم: صدوقٌ مضطرب الحديث، هو أحبُّ إليَّ من إسماعيل بن أبي أويسٍ. وقال ابن عديٍّ
(4)
: يأتي بمناكير. وكأنَّ أبا محمد رأى في النُّسخة مطرِّف بن مصعب فجهَّله، وإنَّما هو مطرف أبو مصعب، وهو مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار.
وممَّن غلط في هذا أيضًا محمد بن عثمان الذهبي في كتابه «الضُّعفاء»
(5)
، فقال: مطرِّف بن مصعب المدني عن ابن أبي ذئبٍ، منكر الحديث.
قلت: والرَّاوي عن ابن أبي ذئبٍ والدراورديّ ومالكٍ هو مطرِّف أبو مصعب المدني
(6)
، وليس بمنكر الحديث، وإنَّما غرَّه قول ابن عديٍّ: «يأتي
(1)
سيأتي الكلام عليه عند المؤلف.
(2)
«هذا» من ك.
(3)
في «حجة الوداع» (ص 451).
(4)
في «الكامل» (8/ 110).
(5)
«ديوان الضعفاء والمتروكين» (2/ 364).
(6)
ك، ص، ج:«المديني» .
بمناكير»، ثمَّ ساق له منها ابن عديٍّ جملةً، لكن هي من رواية أحمد بن داود أبي صالح
(1)
عنه، كذَّبه الدَّارقطنيُّ، والبلاء فيها منه
(2)
.
والطَّريق الثَّالث
(3)
لحديث جابر: فيها محمد بن عبد الوهاب، يُنظر فيه من هو وما حاله؟ عن محمَّد بن مسلمٍ، إن كان الطَّائفيَّ فهو ثقةٌ عند ابن معينٍ، ضعيفٌ عند الإمام أحمد، وقال ابن حزمٍ
(4)
: ساقطٌ البتَّة. ولم أر هذه العبارة فيه لغيره، وقد استشهد به مسلم. قال ابن حزمٍ
(5)
: وإن كان غيره فلا أدري من هو. قلت: ليس بغيره، بل هو الطَّائفيُّ يقينًا
(6)
.
وبكلِّ حالٍ فلو صحَّ هذا عن جابر لكان حكمه حكم المرويِّ عن عائشة وابن عمر، وسائرُ الرُّواة الثِّقات إنَّما قالوا:«أهلَّ بالحجِّ» ، فلعلَّ هؤلاء حملوه على المعنى، وقالوا:«أفرد الحجَّ» . ومعلومٌ أنَّ العمرة إذا دخلت في الحجِّ فمن قال: أهلَّ بالحجِّ، لا يناقض من قال: أهلَّ بهما، بل هذا فصَّل
(7)
وذاك أجملَ. ومن قال: «أفرد الحجَّ» يحتمل ما ذكرنا من الوجوه الثَّلاثة.
(1)
في المطبوع: «بن صالح» ، خطأ. والمثبت من النسخ. وانظر «الميزان» (1/ 96).
(2)
ذكره الذهبي في «الميزان» (4/ 124، 125) على الصواب: مطرف بن عبد الله أبو مصعب المدني، وعقَّب على ابن عدي فيما ساق من مناكير بقوله:«هذه أباطيل حاشى مطرفًا من رواياتها، وإنما البلاء من أحمد بن داود، فكيف خفي هذا على ابن عدي؟ فقد كذَّبه الدارقطني» .
(3)
رواه الخطيب في «تاريخ بغداد» ت بشار (3/ 678)
(4)
في «حجة الوداع» (ص 451).
(5)
المصدر نفسه.
(6)
انظر: «تهذيب الكمال» (26/ 412).
(7)
ك، ج، ص، مب:«أفضل» ، تحريف.
ولكن هل قال أحدٌ قطُّ عنه: إنَّه سمعه يقول: لبَّيك بحجَّةٍ مفردةٍ؟ هذا ما لا سبيل إليه. حتَّى لو وُجِد ذلك لم يُقدَّم على تلك الأساطين الَّتي ذكرناها، الَّتي لا سبيل إلى دفعها البتَّة، وكان تغليط هذا أو حملُه على أوَّل الإحرام وأنَّه صار قارنًا في أثنائه متعيِّنًا، فكيف ولم يثبت ذلك. وقد قدَّمنا عن سفيان الثَّوريِّ عن جعفر بن محمَّدٍ عن أبيه عن جابر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرنَ في حجّه. رواه زكريا السَّاجيُّ، عن عبد الله بن زياد
(1)
القَطواني، عن زيد بن الحُباب، عن سفيان. ولا تناقضَ بين هذا وبين قوله: أهلَّ بالحجِّ، وأفرد الحجَّ، ولبَّى بالحجِّ، كما تقدَّم.
فصل
فحصل التَّرجيح لرواية من روى القران لوجوهٍ
(2)
عشرةٍ:
أحدها: أنَّهم أكثر كما تقدَّم.
الثَّاني: أنَّ طرق الإخبار بذلك تنوَّعت كما بيَّنَّاه.
الثَّالث: أنَّ فيهم من أخبر عن سماعِه لفظَه صريحًا، وفيهم من أخبر عن إخباره عن نفسه بأنَّه فعل ذلك، وفيهم من أخبر عن أمر ربِّه له بذلك، ولم يجئ شيءٌ من ذلك في الإفراد.
الرَّابع: تصديق روايات من روى أنَّه اعتمر أربعَ عُمَرٍ لها.
الخامس: أنَّها صريحةٌ لا تحتمل التَّأويل، بخلاف روايات الإفراد.
السَّادس: أنَّها متضمِّنةٌ زيادةً سكت عنها أهل الإفراد أو نفوها، والذَّاكر الزَّائد مقدَّمٌ على السَّاكت، والمثبت مقدَّمٌ على النَّافي.
السَّابع: أنَّ رواة الإفراد أربعةٌ: عائشة، وابن عمر، وجابر، وابن عبَّاسٍ، والأربعة رووا القران، فإن صرنا إلى تساقُطِ رواياتهم سَلِمتْ رواية من عداهم للقِران عن معارضٍ، وإن صرنا إلى التَّرجيح وجب الأخذ برواية من لم تضطرب الرِّواية عنه ولا اختلفت، كالبراء، وأنس، وعمر بن الخطَّاب، وعمران بن حُصينٍ، وحفصة، ومن معهم ممَّن تقدَّم.
الثَّامن
(1)
: أنَّه النُّسك الذي أُمِر به من ربِّه، فلم يكن لِيَعدِل عنه.
التَّاسع: أنَّه النُّسك الذي أَمر به كلَّ من ساق الهدي، فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي ثمَّ يسوق هو الهدي ويخالفه.
العاشر: أنَّه النُّسك الذي أَمر به آلَه وأهلَ بيته واختاره لهم، ولم يكن ليختار لهم إلا ما اختار
(2)
لنفسه.
وثمَّ ترجيحٌ حادي عشر، وهو قوله:«دخلت العمرة في الحجِّ إلى يوم القيامة» ، وهذا يقتضي أنَّها قد صارت جزءًا منه أو كالجزء الدَّاخل فيه، بحيث لا يُفصَل
(3)
بينها وبينه، وأنها
(4)
تكون مع الحجِّ كما يكون الدَّاخل في الشَّيء معه.
(1)
«كالبراء
…
الثامن» ساقطة من ب.
(2)
ك، ص، ج:«اختاره» .
(3)
ك: «لا يفصل عنه» .
(4)
ق، ب، مب:«وإنما» .
وترجيحٌ ثاني عشر: وهو قول عمر بن الخطَّاب للصُّبَي بن مَعبد وقد أهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ، فأنكر عليه زيد بن صُوحان أو سلمان بن ربيعة، فقال له عمر: هُدِيْتَ لسنَّة نبيِّك
(1)
. وهذا يوافق رواية عمر عنه أنَّ الوحي جاءه من الله بالإهلال بهما جميعًا، فدلَّ على أنَّ القِران سنَّته الَّتي فعلَها، وامتثلَ أمر الله له بها.
وترجيحٌ ثالث عشر: أنَّ القارن تقع أعماله عن كلٍّ من النُّسكين، فيقع إحرامه وطوافه وسعيه عنهما معًا، وذلك أكمل من وقوعِه عن أحدهما وعملِ كلِّ فعلٍ على حدةٍ.
وترجيحٌ رابع عشر: وهو أنَّ النُّسك الذي اشتمل على سَوق الهدي أفضل بلا ريبٍ من نسكٍ خلا عن الهدي. فإذا قرنَ كان
(2)
هديه عن كلِّ واحدٍ من النُّسكين، فلم يخلُ نسكٌ منهما عن هديٍ. ولهذا ــ والله أعلم ــ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ساق الهدي أن يُهِلَّ بالحجِّ والعمرة معًا، وأشار إلى ذلك في المتَّفق عليه من حديث البراء بقوله:«إنِّي سقتُ الهديَ وقَرنتُ» .
وترجيحٌ خامس عشر: وهو أنَّه قد ثبت أنَّ التَّمتُّع أفضل من الإفراد لوجوهٍ كثيرةٍ
(3)
:
(1)
رواه أبو داود (1798) والنسائي (3910) من طريق منصور عن أبي وائل، وصححه ابن حبان (3910). ورواه أحمد (169) وابن ماجه (2970) من طريق عبدة بن أبي لبابة، وصححه ابن خزيمة (3069). انظر:«صحيح أبي داود - الأم» (6/ 55).
(2)
«كان» ليست في ق، ب، مب.
(3)
«كثيرة» ليست في ك.
منها: أنَّه صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحجِّ إليه
(1)
، ومحالٌ أن ينقلهم من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه.
ومنها: أنَّه تأسَّف على كونه لم يفعله بقوله: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سقتُ الهدي ولجعلتُها متعةً» .
ومنها: أنَّه أمر به كلَّ من لم يَسُقِ الهدي.
ومنها: أنَّ الحجَّ الذي استقرَّ عليه فعله وفعل أصحابه: القرانُ لمن ساق، والتَّمتُّع لمن لم يسق.
ولوجوهٍ كثيرةٍ غير هذه، والمتمتِّع إذا ساق الهدي فهو أفضل من متمتِّعٍ اشتراه من مكَّة، بل في أحد القولين: لا هدْيَ إلا ما جمع فيه بين الحلِّ والحرم. وإذا ثبت هذا فالقارن السَّائق أفضل من متمتِّعٍ لم يسقْ ومن متمتِّعٍ ساق، لأنَّه قد ساق الهدي من حين أحرم، والمتمتِّع إنَّما يسوق الهدي من أدنى الحلِّ، فكيف يُجعل مفردٌ
(2)
لم يسق هديًا أفضلَ من متمتِّعٍ ساقه من أدنى الحلِّ؟ فكيف إذا جُعِل أفضلَ من قارنٍ ساقه
(3)
من الميقات؟ وهذا بحمد الله واضحٌ.
فصل
وأمَّا من قال: إنَّه حجَّ متمتِّعًا تمتُّعًا حلَّ فيه من إحرامه، ثمَّ أحرم يوم التَّروية بالحجِّ مع سوق الهدي= فعذره ما
(4)
تقدَّم من حديث معاوية أنَّه قصَّر عن
(1)
ك: «البتة» .
(2)
في النسخ: «مفردًا» بالنصب. والوجه الرفع.
(3)
«من أدنى الحل
…
ساقه» ساقطة من ب.
(4)
ك، ص، ج:«كما» .
رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِشْقَصٍ في العشر، وفي لفظٍ:«وذلك في حجَّته» . وهذا ممَّا أنكره النَّاس على معاوية وغلَّطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابنَ عمر في قوله: إنَّه اعتمر في رجبٍ، فإنَّ سائر الأحاديث الصَّحيحة المستفيضة من الوجوه المتعدِّدة كلَّها تدلُّ على أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يحلَّ من إحرامه إلى يوم النَّحر، وبذلك أخبر عن نفسه بقوله:«لولا أنَّ معي الهديَ لأحللتُ» ، وقوله:«إنِّي سقتُ الهديَ وقرنتُ فلا أحلُّ حتَّى أنحر» . وهذا خبرٌ عن نفسه، فلا يدخله الوهم ولا الغلط، بخلاف خبر غيره عنه، لا سيَّما خبر يخالف ما أخبر به عن نفسه، وأخبر عنه به
(1)
الجمُّ الغفير: أنَّه لم يأخذ من شعره شيئًا، لا بتقصيرٍ ولا حلقٍ، وأنَّه بقي على إحرامه حتَّى حلق يوم النَّحر. ولعلَّ معاوية قصَّر عن رأسه في عمرة الجِعرانة، فإنَّه كان حينئذٍ قد أسلم، ثمَّ نسي وظنَّ أنَّ ذلك كان في العشر، كما نسي ابن عمر أنَّ عمرته كانت في ذي القعدة، وقال: كانت في رجبٍ، وقد كان معه فيها. والوهم جائزٌ على من سوى الرَّسول، فإذا قام الدَّليل عليه صار واجبًا.
وقد قيل: إنَّ معاوية لعلَّه قصَّر عن رأسه بقيَّة شعرٍ لم يكن استوفاه الحلَّاق يوم النَّحر، فأخذه معاوية على المروة، ذكره أبو محمَّد بن حزمٍ
(2)
. وهذا أيضًا من وهمه، فإنَّ الحلَّاق لا يُبقِي غلطًا شعرًا يُقصِّر منه، ثمَّ يبقي منه بعد التَّقصير بقيَّةً، وقد قسم شعر رأسه بين الصَّحابة، فأصاب أبا طلحة أحدُ الشِّقَّين، وبقيَّة الصَّحابة اقتسموا الشِّقَّ الآخر
(3)
الشَّعرة والشَّعرتين والشَّعرات
(4)
. وأيضًا فإنَّه
(1)
ك، ص، ج:«به عنه» .
(2)
في «حجة الوداع» (ص 438).
(3)
رواه مسلم (1305/ 325) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
(4)
ك: «الثلاث» .
لم يَسْعَ بين الصَّفا والمروة إلا سعيًا واحدًا وهو سعيه الأوَّل، لم يَسْعَ عقيب طواف الإفاضة، ولا اعتمر بعد الحجِّ قطعًا، فهذا وهمٌ محضٌ.
وقيل
(1)
: هذا الإسناد إلى معاوية وقع فيه غلطٌ وخطأٌ، أخطأ فيه الحسن بن علي، فجعله عن معمر عن ابن طاوس
(2)
، وإنَّما هو عن هشام بن حُجَير عن ابن طاوس، وهشام ضعيفٌ.
قلت: والحديث الذي في البخاريِّ
(3)
عن معاوية: «قصَّرتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِشْقَصٍ» لم يزد على هذا، والَّذي عند مسلم
(4)
: «قصَّرتُ من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة بمِشْقَصٍ» . وليس في «الصَّحيحين» غير ذلك.
وأمَّا رواية من روى «في أيَّام العشر»
(5)
فليست في «الصَّحيح» ، وهي معلولةٌ أو وهمٌ من معاوية. قال قيس بن سعدٍ راويها عن عطاء عن ابن عبَّاسٍ عنه: والنَّاس ينكرون هذا على معاوية. وصدق قيس، فنحن نحلف باللَّه أنَّ هذا ما كان في العشر قطُّ.
ويشبه هذا وهمُ معاوية رضي الله عنه في الحديث الذي رواه أبو داود
(6)
عن
(1)
انظر: «حجة الوداع» (ص 438).
(2)
رواه أبو داود (1803)، والحديث صحيح دون قوله «لحجته» ، تفرد بها الحسن بن علي. وانظر:«صحيح أبي داود - الأم» (6/ 66).
(3)
برقم (1730).
(4)
برقم (1246/ 209).
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
برقم (1794)، وأحمد (16909). وإسناده ضعيف؛ وقد أعل بعلتين، الأولى: عنعنة قتادة فلم يصرح بالتحديث، والثانية: مخالفة يحيى بن أبي كثير لقتادة في إسناده، فقال يحيى: حدثني أبو شيخ الهنائي عن أخيه حمان
…
، انظر:«السلسلة الضعيفة» (4722).
قتادة
(1)
، عن أبي شيخ الهُنَائي، أنَّ معاوية قال لأصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: هل تعلمون أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا، وعن ركوب جلود النُّمور؟ قالوا
(2)
: نعم. قال: فتعلمون أنَّه نهى أن يُقرَن بين الحجِّ والعمرة؟ قالوا: أمَّا هذا
(3)
فلا. فقال: أمَا إنَّها معها، ولكنَّكم نسيتم.
ونحن نشهد بالله أنَّ هذا وهمٌ من معاوية أو كذبٌ عليه، فلم ينهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قطُّ، وأبو شيخ شيخٌ لا يحتجُّ به، فضلًا عن أن يُقدَّم على الثِّقات الحفَّاظ الأعلام، وإن روى عنه قتادة ويحيى بن أبي كثيرٍ. واسمه خَيْوان بن خالد بالخاء المعجمة، وهو مجهولٌ
(4)
.
فصل
فأمَّا من قال: حجَّ متمتِّعًا تمتُّعًا لم يحلَّ فيه لأجل سَوْق الهدي كما قاله صاحب «المغني» وطائفةٌ، فعذرهم قول عائشة وابن عمر: تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول حفصة: ما شأن النَّاس حلُّوا ولم تحلَّ من عمرتك؟ وقول سعد في المتعة: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه، وقول ابن عمر لمن سأله عن متعة
(1)
ك: «أبي قتادة» ، خطأ.
(2)
ك، ج:«قال» .
(3)
مب، ق:«هذه» .
(4)
لم يوثِّقه إلا ابن سعد (9/ 155) والعجلي (2/ 407)، وتبعهما في توثيقه الذهبي في «الكاشف» (6682) والحافظ في «التقريب» (8166). وانظر:«تهذيب التهذيب» (4/ 538).
الحجِّ: هي حلالٌ، فقال له السَّائل: إنَّ أباك قد نهى عنها، فقال: أرأيتَ إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أأمرُ أبي يُتَّبع أم أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرَّجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
قال هؤلاء: ولولا الهدي لحلَّ كما يحلُّ المتمتِّع الذي لا هديَ معه، ولهذا قال:«لولا أنَّ معي الهديَ لأحللتُ» ، فأخبر أنَّ المانع له من الحلِّ سوق الهدي، والقارن إنَّما يمنعه من الحلِّ القران لا الهدي. وأرباب هذا القول قد يسمُّون هذا المتمتِّع قارنًا، لكونه أحرم بالحجِّ قبل التَّحلُّل من العمرة، ولكنَّ القِران المعروف أن يُحرِم بهما جميعًا، أو يحرم بالعمرة ويُدخل عليها الحجَّ قبل الطَّواف.
والفرق بين القارن والمتمتِّع السَّائق من وجهين:
أحدهما: من الإحرام، فإنَّ القارن هو الذي يُحرِم بالحجِّ قبل الطَّواف إمَّا في ابتداء الإحرام أو في أثنائه.
والثَّاني: أنَّ القارن ليس عليه إلا سعيٌ واحدٌ، فإن أتى به أوَّلًا، وإلَّا سعى عقيبَ طواف الإفاضة، والمتمتِّع عليه سعيٌ ثانٍ عند الجمهور. وعن أحمد روايةٌ أخرى: أنَّه يكفيه سعيٌ واحدٌ كالقارن. والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يَسْعَ سعيًا ثانيًا عقيبَ طواف الإفاضة، فكيف يكون متمتِّعًا على هذا القول؟
فإن قيل: فعلى الرِّواية الأخرى يكون متمتِّعًا، ولا يتوجَّه الإلزام، ولها وجهٌ قويٌّ من الحديث الصَّحيح، وهو ما رواه مسلم في «صحيحه»
(2)
عن
(1)
حديث ابن عمر مخرج عند الترمذي (824)، وهو صحيح.
(2)
برقم (1215، 1279).
جابر قال: «لم يَطُفِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافًا واحدًا طوافه الأوَّل هذا» ، مع أنَّ أكثرهم كانوا متمتِّعين. وقد روى سفيان الثَّوريُّ
(1)
عن سلمة بن كُهيلٍ قال: حلف طاوسٌ: ما طاف أحدٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لحجِّه وعمرته إلا طوافًا واحدًا.
قيل: الذين نصروا
(2)
أنَّه كان متمتِّعًا تمتُّعًا خاصًّا لا يقولون بهذا القول، بل يوجبون عليه سعيينِ، والمعلوم من سنَّته صلى الله عليه وسلم أنَّه لم يسعَ إلا سعيًا واحدًا، كما ثبت في «الصَّحيح»
(3)
عن ابن عمر: أنَّه قرنَ، وقدم مكَّة، فطاف بالبيت وبالصَّفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم يحلِقْ ولا قصَّر، ولا حلَّ من شيءٍ حرم منه حتَّى كان يوم النَّحر، فنحر وحلق رأسه، ورأى أنَّه
(4)
قد قضى طواف الحجِّ والعمرة بطوافه الأوَّل، وقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومراده بطوافه الأوَّل الذي قضى به حجَّه وعمرته: الطَّواف بين الصَّفا والمروة بلا ريبٍ.
وذكر الدَّارقطنيُّ
(5)
عن عطاء ونافع، عن ابن عمر وجابر: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما طاف لحجِّه وعمرته طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا، ثمَّ قدم مكَّة، فلم يسْعَ بينهما بعد الصَّدر. فهذا يدلُّ على أحد أمرينِ ولا بدَّ: إمَّا أن يكون قارنًا،
(1)
أخرجه عبد الرزاق كما في «المحلى» (7/ 174) و «فتح الباري» (3/ 495)، وقال الحافظ: وهذا إسناد صحيح. وبنحوه أخرجه ابن أبي شيبة (14530).
(2)
في المطبوع: «نظروا» خلاف النسخ.
(3)
البخاري (1640) ومسلم (1230/ 182).
(4)
ك: «أن» .
(5)
برقم (2615) وإسناده ضعيف؛ لجهالة سليمان بن أبي داود الحراني.
وهو
(1)
الذي لا يمكن من أوجب على المتمتِّع سعيينِ أن يقول غيرَه، وإمَّا أنَّ المتمتِّع يكفيه سعيٌ واحدٌ، لكنَّ الأحاديث الَّتي تقدَّمت في بيان أنَّه كان قارنًا صريحةٌ في ذلك، فلا يُعدَل عنها.
فإن قيل: فقد روى شعبة عن حُميد بن هلالٍ عن مطرِّف عن عمران بن حُصينٍ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين. رواه الدَّارقطنيُّ
(2)
عن ابن صاعد
(3)
: ثنا محمد بن يحيى الأزدي، ثنا عبد الله بن داود، عن شعبة.
قيل: هذا خبرٌ معلولٌ، وهو غلطٌ.
قال الدَّارقطنيُّ: يقال: إنَّ محمَّد بن يحيى حدَّث بهذا من حفظه، ووهم في متنه، والصَّواب بهذا الإسناد:«أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قرنَ بين الحجِّ والعمرة» ، والله أعلم. وسيأتي إن شاء الله ما يدلُّ على أنَّ هذا الحديث غلطٌ.
وأظنُّ أنَّ الشَّيخ أبا محمد قدَّس الله روحه إنَّما ذهب إلى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متمتِّعًا، لأنَّه رأى الإمام أحمد قد نصَّ على أنَّ التَّمتُّع أفضل من القِران، ورأى أنَّ الله سبحانه لم يكن ليختار لرسوله إلا الأفضل، ورأى الأحاديث قد جاءت بأنَّه تمتَّع، ورأى أنَّها صريحةٌ في أنَّه لم يحلَّ، فأخذ من هذه المقدِّمات الأربع أنَّه تمتَّع
(4)
تمتُّعًا خاصًّا لم يحلَّ منه، ولكنَّ أحمد لم يرجِّح التَّمتُّع لكون النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حجَّ متمتِّعًا، كيف وهو القائل: لا أشكُّ أنَّ
(1)
ك، ص:«وهذا» .
(2)
برقم (2632)، والحديث لا يثبت. انظر:«تنقيح التحقيق» (3/ 522).
(3)
ك، ص:«أبي صاعد» .
(4)
«ورأى
…
تمتع» ساقطة من ك بسبب انتقال النظر.
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وإنَّما اختار التَّمتُّع لكونه آخرَ الأمرينِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمر به أصحابه أن يفسخوا حجَّهم إليه وتأسَّف على فوته.
ولكن نقل عنه المروذي
(1)
أنَّه إذا ساق الهدي فالقران أفضل. فمن أصحابه من جعل هذا روايةً ثانيةً، ومنهم من جعل المسألة روايةً واحدةً، وأنَّه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يَسُقْ فالتَّمتُّع أفضل. وهذه طريقة شيخنا
(2)
، وهي الَّتي تليق بأصول أحمد، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يتمنَّ أنَّه كان
(3)
جعلها عمرةً مع سَوقه الهديَ، بل ودَّ أنَّه كان جعلها عمرةً ولم يسق الهدي.
يبقى أن يقال: فأيُّ الأمرين أفضل: أن يسوق ويقرِن، أو يترك السَّوق ويتمتَّع كما ودَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه فعله؟
قيل: قد تعارض في هذه المسألة أمران:
أحدهما: أنَّه صلى الله عليه وسلم قرن وساق الهدي، ولم يكن الله ليختار له إلا أفضلَ الأمور
(4)
، ولا سيَّما وقد جاءه الوحي به من ربِّه تعالى، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم.
والثَّاني قوله: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سقتُ الهدي ولجعلتُها عمرةً» . فهذا يقتضي أنَّه لو كان هذا الوقت الذي تكلَّم فيه هو وقت
(1)
في المطبوع: «المروزي» ، خطأ. ورواية المروذي هذه في «التعليقة» لأبي يعلى (1/ 213).
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (26/ 79).
(3)
«كان» ليست في ك.
(4)
ك: «الأمرين» .
إحرامه لكان أحرم بعمرةٍ ولم يَسُقِ الهدي، لأنَّ الذي استدبره هو الذي فعلَه ومضى فصار خلفه، والَّذي استقبله هو الذي لم يفعله بعدُ، بل هو أمامه، فبيَّن أنَّه لو كان مستقبلًا لما استدبره ــ وهو الإحرام ــ لأحرم
(1)
بالعمرة دون هديٍ، ومعلومٌ أنَّه لا يختار أن ينتقل عن الأفضل إلى المفضول، بل إنَّما يختار الأفضل، وهذا يدلُّ على أنَّ آخر الأمرينِ منه ترجيح التَّمتُّع.
ولمن رجَّح القِران مع السَّوق أن يقول: هو صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا لأجل أنَّ الذي فعله مفضولٌ مرجوحٌ، بل لأنَّ أصحابه شقَّ عليهم أن يحلُّوا من إحرامهم مع بقائه هو محرمًا، فكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أُمِروا به مع انشراحٍ ومحبَّةٍ وقبولٍ. وقد ينتقل عن الأفضل إلى المفضول لما فيه من الموافقة وائتلاف القلوب، كما قال لعائشة:«لولا أنَّ قومكِ حديثو عهدٍ بجاهليَّةٍ لنقضتُ الكعبة وجعلتُ لها بابين»
(2)
، فهنا
(3)
ترك ما هو الأولى لأجل الموافقة والتَّأليف، فصار هذا هو الأولى في هذه الحال، فكذلك اختياره للمتعة بلا هديٍ. وفي هذا جمعٌ بين ما فعله وبين ما ودَّه وتمنَّاه، ويكون الله سبحانه قد جمع له بين الأمرين: أحدهما بفعله له، والآخر بتمنِّيه ووِداده له، فأعطاه أجر ما فعله، وأجرَ ما نواه من الموافقة وتمنَّاه. وكيف يكون نسكٌ يتخلَّله التَّحلُّل لم يَسُقْ فيه الهدي أفضلَ من نسكٍ
(4)
لم يتخلَّله تحلُّلٌ، وقد ساق فيه مائة بدنةٍ؟ وكيف يكون نسكٌ أفضلَ في حقِّه من نسكٍ
(1)
«لأحرم» ساقطة من مب، المطبوع، فأصبح الكلام بدون جواب الشرط.
(2)
رواه البخاري (1586) ومسلم (1333).
(3)
في المطبوع: «فهذا» .
(4)
«يتخلله
…
نسك» ساقطة من ص بسبب انتقال النظر.
اختاره الله له، وأتاه الوحي من ربِّه به؟
فإن قيل: والتَّمتُّع وإن تخلَّله تحلُّلٌ لكن قد تكرَّر فيه الإحرام، وإنشاؤه عبادةٌ محبوبةٌ للرَّبِّ، والقِران لا يتكرَّر فيه الإحرام.
قيل: في تعظيم شعائر الله بسوقِ الهدي والتَّقرُّبِ إليه بذلك من الفضل ما ليس في مجرَّد تكرُّر
(1)
الإحرام، ثمَّ إنَّ استدامته قائمةٌ مقام تكرُّره، وسَوق الهدي لا مقابلَ له يقوم مقامه.
فإن قيل: فأيُّما أفضل: إفرادٌ يأتي عقيبَه بالعمرة، أو تمتُّعٌ يحلُّ منه ثمَّ يحرم بالحجِّ عقيبه؟
قيل: معاذَ الله أن نظنَّ أنَّ نسكًا قطُّ أفضل من النُّسك الذي اختاره الله
(2)
لأفضل الخلق وساداتِ الأمَّة، وأن نقول في نسكٍ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من أصحابه الذين حجُّوا معه، بل ولا غيرهم من الصحابة: إنَّه أفضل ممَّا فعلوه معه بأمره، فكيف يكون حجٌّ على وجه الأرض أفضل من الحجِّ الذي حجَّه صلوات الله وسلامه عليه، أو أمر به أفضلُ الخلق واختاره لهم، وأمرهم بفسخ ما عداه من الأنساك إليه، وودَّ أنَّه كان فعله؟ فلا حجَّ قطُّ أكمل من هذا. وهذا وإن صحَّ عنه الأمر لمن ساق الهدي بالقران، ولمن لم يسق بالتَّمتُّع، ففي جواز خلافه نظرٌ. ولا يُوحِشنَّك قلَّةُ القائلين بوجوب ذلك، فإنَّ فيهم
(3)
البحرَ الذي لا يُنزَف عبد الله بن عبَّاسٍ وجماعةً من أهل الظَّاهر،
(1)
ك، ص، ج:«تكرار» . والمثبت من ق، مب.
(2)
في جميع النسخ: «رسول الله» . والسياق يقتضي ما أثبتناه، وهو كذلك في المطبوع.
(3)
ق: «فيه» . ب: «منهم» .
والسُّنَّة هي الحَكَم بين النَّاس، والله المستعان.
فصل
وأمَّا من قال: إنَّه حجَّ قارنًا قرانًا طاف له طوافين وسعى له سعيين، كما قاله كثيرٌ من فقهاء الكوفة، فعذره ما رواه الدَّارقطنيُّ
(1)
من حديث مجاهد عن ابن عمر أنَّه جمع بين حجٍّ وعمرةٍ معًا، وقال: سبيلهما واحدٌ، قال: وطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين. وقال: هكذا رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعتُ.
وعن عليٍّ أنَّه جمع بينهما، وطاف لهما طوافين، وسعى سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعتُ
(2)
.
وعن علي بن أبي طالب أيضًا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، فطاف طوافين، وسعى سعيين
(3)
.
وعن علقمة عن عبد الله
(4)
قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجَّته وعمرته طوافين، وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعودٍ
(5)
.
وعن عمران بن حُصينٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم طاف طوافين، وسعى سعيين
(6)
.
(1)
برقم (2597)، وسيأتي كلام المؤلف عليه وعلى الأحاديث الآتية.
(2)
رواه الدارقطني (2628).
(3)
رواه الدارقطني (2630).
(4)
بعدها في المطبوع: «بن مسعود» ، وليست في النسخ.
(5)
رواه الدارقطني (2631).
(6)
رواه الدارقطني (2632).
وما أحسنَ هذا العذرَ لو كانت هذه
(1)
الأحاديث صحيحةً، بل لا يصحُّ منها حرفٌ واحدٌ.
أمَّا حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عُمارة، قال الدَّارقطنيُّ
(2)
: لم يروِه عن الحكم غير الحسن بن عمارة، وهو متروك الحديث.
وأمَّا حديث علي الأوَّل، فيرويه حفص بن أبي داود. قال أحمد ومسلم: حفص متروك الحديث. وقال ابن خِراشٍ: هو كذَّابٌ يضع الحديث
(3)
. وفيه محمَّد بن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى، ضعيفٌ
(4)
.
وأمَّا حديثه الثَّاني، فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدَّثني أبي عن أبيه عن جدِّه. قال الدَّارقطنيُّ
(5)
: عيسى بن عبد الله يقال له مباركٌ، وهو متروك الحديث.
وأمَّا حديث علقمة عن عبد الله، فيرويه أبو بُردة عمرو بن يزيد عن حماد عن إبراهيم عن علقمة. قال الدَّارقطنيُّ
(6)
: وأبو بردة ضعيفٌ، ومن دونه في الإسناد ضعفاء، انتهى. وفيه عبد العزيز بن أبان، قال يحيى: هو كذَّابٌ خبيثٌ. وقال الرازي والنَّسائيُّ: متروك الحديث
(7)
.
(1)
«هذه» ليست في ك.
(2)
في «السنن» (2597).
(3)
انظر: «تهذيب الكمال» (7/ 10).
(4)
انظر: «تهذيب الكمال» (25/ 622).
(5)
في «السنن» (2630).
(6)
في «السنن» (2631).
(7)
انظر: «تهذيب الكمال» (18/ 107).
وأمَّا حديث عمران بن حُصينٍ، فهو ممَّا غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي، وحدَّث به من حفظه فوهم فيه، وقد حدَّث به على الصَّواب مرارًا، ويقال: إنَّه رجع عن ذكر الطَّواف والسَّعي
(1)
.
وقد روى الإمام أحمد والتِّرمذيُّ وابن حبَّان
(2)
في «صحيحه» من حديث الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قَرنَ بين حجَّته وعمرته أجزأه لهما طوافٌ واحدٌ» . ولفظ الترمذي: «من أحرم بالحجِّ والعمرة أجزأه طوافٌ وسعيٌ واحدٌ منهما
(3)
، حتَّى يحلَّ منهما جميعًا»
(4)
.
وفي «الصَّحيحين»
(5)
عن عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع، فأهللنا بعمرةٍ، ثمَّ قال:«من كان معه هديٌ فليهلَّ بالحجِّ والعمرة، ثمَّ لا يحلَّ حتَّى يحلَّ منهما» ، فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة، ثمَّ حلُّوا، ثمَّ طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منًى، وأمَّا الذين جمعوا بين الحجِّ والعمرة فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا.
وصحَّ
(6)
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «إنَّ طوافك بالبيت وبالصَّفا
(1)
هذا كلام الدارقطني عقب الحديث (2632).
(2)
ص: «ابن ماجه» ، خطأ.
(3)
كذا في النسخ، وفي الترمذي:«عنهما» .
(4)
رواه أحمد (5350) والترمذي (948) وابن حبان (3916). واختلف في رفعه ووقفه. انظر: «جامع الترمذي» (948) و «شرح معاني الآثار» (3910).
(5)
البخاري (1638) ومسلم (1211).
(6)
ك، ص، ج:«وفي صحيح مسلم» ، والمثبت من ق، مب. والحديث بهذا اللفظ ليس عند مسلم، بل رواه أبو داود (1897). ولفظه عند مسلم (1211/ 132):«يسعُكِ طوافكِ لحجك وعمرتك» .
والمروة يكفيك لحجَّك وعمرتك».
وروى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف طوافًا واحدًا لحجِّه وعمرته
(1)
. وعبد الملك أحد
(2)
الثِّقات المشهورين، احتجَّ به مسلم وأصحاب السُّنن. وكان يقال له: الميزان، ولم يُتكلَّم فيه بضعفٍ ولا جرحٍ، وإنَّما أُنكر عليه حديث الشُّفعة
(3)
.
وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنه عارُها
(4)
وقد روى الترمذي
(5)
عن جابر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قرنَ بين الحجِّ والعمرة، فطاف لهما طوافًا واحدًا. وهو
(6)
وإن كان فيه الحجَّاج بن أرطاة، فقد روى عنه سفيان وشعبة وابن نُميرٍ وعبد الرزاق والخلق. قال الثَّوريُّ: ما بقي أحدٌ أعرف بما يخرج من رأسه منه وعِيبَ عليه التَّدليس، وقلَّ من سَلِم منه. وقال
(1)
رواه الدارقطني (2619)، وصححه ابن عبد الهادي في «التنقيح» (3/ 520).
(2)
ص: «هذا من» .
(3)
انظر: «تهذيب الكمال» (18/ 322). وفي ص: «حديث الشفاعة» ، تحريف.
(4)
الرواية: «عنك عارها» ، تصرَّف فيها المؤلف. وفي النسخ:«ظاهرًا» بالنصب. وصدر البيت:
وعيَّرها الواشون أني أُحِبُّها
والبيت لأبي ذؤيب الهذلي في «شرح أشعار الهذليين» (1/ 70).
(5)
برقم (947)، وحسَّنه.
(6)
ق، ب، مب:«وهذا» .
أحمد: كان من الحفَّاظ. وقال ابن معينٍ: ليس بالقويِّ، وهو صدوقٌ يدلِّس. وقال أبو حاتم: إذا قال حدَّثنا فهو صالح، لا يُرتاب في صدقه وحفظه
(1)
.
وقد روى الدَّارقطنيُّ
(2)
من حديث ليث بن أبي سُليمٍ قال: حدَّثني عطاء وطاوس ومجاهد، عن جابر وعن ابن عمر وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافًا واحدًا لعمرتهم وحجِّهم. وليث بن أبي سليمٍ احتجَّ به أهل السُّنن الأربعة، واستشهد به مسلم، وقال ابن معينٍ: لا بأس به، وقال الدَّارقطنيُّ: كان صاحب سنَّةٍ، وإنَّما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاوس ومجاهد حسب، وقال عبد الوارث: كان من أوعية العلم، وقال أحمد: مضطرب الحديث، ولكن حدَّث عنه النَّاس. وضعَّفه النَّسائيُّ ويحيى في روايةٍ
(3)
. ومثل هذا حديثه حسنٌ وإن لم يبلغ رتبة الصِّحَّة.
وفي «الصَّحيحين»
(4)
عن جابر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، ثمَّ وجدها تبكي، [فقال: ما شأنُكِ؟]
(5)
، فقالت: قد حِضتُ، وقد حلَّ النَّاس ولم أحلَّ، ولم أطف بالبيت، فقال:«اغتسلي ثمَّ أهلِّي بالحج» . ففعلتْ ووقفتِ المواقف، حتَّى إذا طهرتْ طافت بالكعبة وبالصَّفا والمروة، ثمَّ قال:
(1)
انظر: تهذيب الكمال (5/ 420).
(2)
برقم (2598).
(3)
انظر: «تهذيب الكمال» (24/ 279).
(4)
رواه مسلم (1213/ 136) بهذا اللفظ. وهو عند البخاري (1651) عن جابر بسياق آخر.
(5)
ليست في الأصول، وزيدت من «صحيح مسلم» ليستقيم السياق.
«قد
(1)
حللتِ من حجِّك وعمرتك جميعًا».
وهذا يدلُّ على ثلاثة أمورٍ، أحدها: أنَّها كانت قارنةً، والثَّاني: أنَّ القارن يكفيه طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحدٌ. والثَّالث: أنَّه
(2)
لا يجب عليها قضاء تلك العمرة الَّتي حاضت فيها ثمَّ أدخلت عليها الحجَّ، وأنَّها لم ترفُضْ إحرام العمرة بحيضها، وإنَّما رفضت أعمالها والاقتصار عليها. وعائشة لم تطف أوَّلًا طوافَ قدومٍ، بل لم تطفْ إلا بعد التَّعريف، وسَعَتْ مع ذلك، فإذا كان طواف الإفاضة والسَّعي بعده يكفي القارنَ، فلَأَن
(3)
يكفيه طواف القدوم مع طواف الإفاضة وسعيٌ واحدٌ مع أحدهما بطريق الأولى، لكنَّ عائشة تعذَّر عليها الطَّواف الأوَّل، فصارت قِصَّتها حُجَّةً في أن المُراهِق الذي
(4)
يتعذّر عليه الطَّواف الأوَّل يفعل كما فعلت عائشة، يُدخل الحجَّ على العمرة، ويصير قارنًا، ويكفيه لهما طواف الإفاضة والسَّعي عقيبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة قدَّس الله روحه
(5)
: وممَّا يبيِّن أنَّه صلى الله عليه وسلم لم
(1)
«قد» ليست في ج.
(2)
ك: «أنها» .
(3)
ك: «أفلا» .
(4)
في المطبوع: «فإن المرأة التي» والأفعال والضمائر الآتية بصيغة المؤنث، والصواب ما أثبتناه من النسخ. والمراهق: الشخص الذي يجيء مكة في آخر الوقت كأن يقدم يوم التروية أو يوم عرفة، فيضيق عليه الوقت، ويخاف أن يفوته الوقوف بعرفة إن اشتغل بالطواف للدخول. وقد ورد فيه أثر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في «الموطأ» (1086). وانظر:«تهذيب اللغة» (5/ 399) و «النهاية» (2/ 284) و «تاج العروس» (رهق) و «الاستذكار» (12/ 191، 192). وبهذا يظهر أن «المرأة» وما يتبعها في المطبوع تحريف.
(5)
«مجموع الفتاوى» (26/ 75).
يطفْ طوافين ولا سعى سعيين قولُ عائشة: «وأمَّا الذين جمعوا الحجَّ والعمرة فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا» ، متَّفقٌ عليه
(1)
. وقول جابر: «لم يطف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طوافه الأوَّل» ، رواه مسلم
(2)
. وقوله لعائشة: «يُجزِئ عنكِ طوافُك بالصَّفا والمروة عن حجِّك وعمرتك» ، رواه مسلم
(3)
. وقوله لها في رواية أبي داود
(4)
: «طوافك بالبيت وبين الصَّفا والمروة يكفيك لحجِّك وعمرتك» . وقوله لها
(5)
في الحديث المتَّفق عليه
(6)
لمَّا طافت بالكعبة وبالصَّفا والمروة: «قد حللتِ من حجِّك وعمرتك جميعًا» .
قال
(7)
: والصَّحابة الذين نقلوا حجَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلُّهم نقلوا أنَّهم لمَّا طافوا بالبيت وبين الصَّفا والمروة أمرهم بالتَّحلُّل إلا من ساق الهدي، فإنَّه لا
(8)
يحلُّ إلى
(9)
يوم النَّحر، ولم ينقل أحدٌ منهم أنَّ أحدًا منهم طاف وسعى ثمَّ طاف وسعى. ومن المعلوم أنَّ مثل هذا ممَّا تتوفَّر الهِمم والدَّواعي على نقله، فلمَّا لم ينقله أحدٌ من الصَّحابة عُلِم أنَّه لم يكن.
(1)
رواه البخاري (1556) ومسلم (1211/ 111).
(2)
برقم (1215/ 140).
(3)
برقم (1211/ 133).
(4)
برقم (1897).
(5)
«في رواية أبي داود
…
لها» ساقطة من ك بسبب انتقال النظر.
(6)
رواه مسلم (1213/ 136) بهذا اللفظ من حديث جابر.
(7)
أي شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (26/ 77).
(8)
ك: «لم» .
(9)
في المطبوع ومب: «إلّا» خلاف بقية النسخ.
وعمدة من قال بالطَّوافين والسَّعيين أثرٌ يرويه الكوفيُّون عن علي، وآخر عن ابن مسعودٍ. وقد روى جعفر بن محمَّدٍ عن أبيه، عن علي: أنَّ القارن يكفيه طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحدٌ، خلاف ما رواه أهل الكوفة
(1)
، وما رواه العراقيُّون: منه ما هو منقطعٌ، ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون، ولهذا طعن علماء النَّقل في ذلك، حتَّى قال ابن حزمٍ
(2)
: كلُّ ما روي في ذلك عن الصَّحابة لا يصحُّ منه ولا كلمةٌ واحدةٌ. وقد نُقِل في ذلك عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما هو موضوعٌ بلا ريبٍ. وقد حلف طاوسٌ: ما طاف أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجَّته
(3)
وعمرته إلا طوافًا واحدًا
(4)
. وقد ثبت مثل هذا عن ابن عمر وابن عبَّاسٍ وجابر وغيرهم، وهم أعلم النَّاس بحجَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يخالفونها، بل هذه الآثار صريحةٌ في أنَّهم لم يطوفوا بالصَّفا والمروة إلا مرَّةً واحدةً.
وقد تنازع النَّاس في القارن والمتمتِّع هل عليهما سعيان أو سعيٌ واحدٌ؟ على ثلاثة أقوالٍ في مذهب أحمد وغيره:
أحدها
(5)
: ليس على واحدٍ منهما إلا سعيٌ واحدٌ، كما نصَّ عليه أحمد
(1)
ذكره ابن حزم في «المحلى» (7/ 174).
(2)
في «المحلى» (7/ 176).
(3)
ص، ج:«لحجه» .
(4)
ذكره ابن حزم في «المحلى» (7/ 174)، وصححه ابن حجر في «الفتح» (3/ 625 - 626).
(5)
«أحدها» ليست في ص.
في رواية ابنه عبد الله. قال عبد الله
(1)
: قلت لأبي: المتمتِّع كم يسعى بين الصَّفا والمروة؟ قال: إن طاف طوافين فهو أجود، وإن طاف طوافًا واحدًا فلا بأسَ. قال شيخنا: وهذا منقولٌ عن غير واحدٍ من السَّلف.
الثَّاني: أنّ المتمتِّع عليه سعيان، والقارن عليه سعيٌ واحدٌ، وهذا هو القول الثَّاني في مذهبه، وقول من يقول من أصحاب مالك والشَّافعيِّ.
والثَّالث: أنَّ على كلِّ واحدٍ منهما سعيين، كمذهب أبي حنيفة، ويُذكر قولًا في مذهب أحمد، والله أعلم.
والَّذي تقدَّم هو بَسْط قول شيخنا
(2)
وشَرْحه، وبالله التوفيق
(3)
.
فصل
وأمَّا الذين قالوا: إنَّه حجَّ حجًّا مفردًا اعتمر عقيبه من التَّنعيم، فلا نعلم لهم عذرًا
(4)
البتَّة إلا ما تقدَّم من أنَّهم سمعوا أنَّه أفرد الحجَّ، وأنَّ عادة المفرِدين أن يعتمروا من التَّنعيم، فتوهَّموا أنَّه فعل كذلك
(5)
.
فصل
وأمَّا الذين غَلِطوا في إهلاله، فمن قال: إنَّه لبَّى بالعمرة وحدها واستمرَّ
(1)
في «مسائل الإمام أحمد» (ص 201).
(2)
في «مجموع الفتاوى» (26/ 75 - 79).
(3)
ق، ب، مب:«والله أعلم» . والمثبت من ك، ص، ج.
(4)
ق: «يعلم لهم عذر» .
(5)
ص، ب:«ذلك» .
عليها، فعذره أنَّه سمع أنه صلى الله عليه وسلم تمتَّع، والمتمتِّع عنده مَن أهلَّ بعمرةٍ مفردةٍ بشروطها، وقد قالت له حفصة: ما شأن النَّاس حلُّوا ولم تحلَّ من عمرتك؟ وكلُّ هذا لا يدلُّ على أنَّه قال: لبَّيك بعمرةٍ مفردةٍ، ولم ينقل هذا أحدٌ عنه البتَّة، فهو وهمٌ محضٌ، والأحاديث الصَّحيحة المستفيضة في لفظه
(1)
في إهلاله تُبطِل هذا.
فصل
وأمَّا من قال: إنَّه لبَّى بالحجِّ وحده واستمرَّ عليه، فعذره ما ذكرنا عمَّن قال: أفرد الحجَّ ولبَّى بالحجِّ، وقد تقدَّم الكلام على ذلك وأنَّه لم ينقل أحدٌ قطُّ أنه قال: لبَّيك بحجَّةٍ مفردةٍ، وأنّ الذين نقلوا لفظه صرَّحوا بخلاف ذلك.
فصل
وأمَّا من قال: لبَّى بالحجِّ وحده، ثمَّ أدخل عليه العمرة، وظنَّ أنَّه بذلك تجتمع الأحاديث، فعذره أنَّه رأى أحاديث إفراده الحجَّ صحيحةً، فحملها على ابتداء إحرامه، ثمَّ إنَّه أتاه آتٍ من ربِّه تعالى فقال: قل: عمرةٌ في حجَّةٍ، فأدخل العمرة حينئذٍ على الحجِّ، وصار قارنًا. ولهذا قال للبراء بن عازبٍ:«إنِّي سقتُ الهدي وقرنْتُ» ، وكان مفرِدًا في ابتداء إحرامه، قارنًا في أثنائه.
وأيضًا فإنَّ أحدًا لم يقل
(2)
: إنَّه أهلَّ بالعمرة، ولا لبَّى بالعمرة، ولا أفرد العمرة، ولا قال: خرجنا لا ننوي إلا العمرة، وقالوا: أهلَّ بالحجِّ، ولبَّى
(1)
«في لفظه» ليست في ص.
(2)
ك، ص، ج:«لم ينقل» . والمثبت من ق، مب.
بالحجِّ، وأفرد الحجَّ، وخرجنا لا ننوي إلا الحجَّ، وهذا يدلُّ على أنَّ الإحرام وقع أوَّلًا بالحجِّ، ثمَّ جاءه الوحي من ربِّه بالقران، فلبَّى بهما، فسمعه أنس يلبِّي بهما وصدَق، وسمعته عائشة وابن عمر وجابر يلبِّي بالحجِّ وحده أوَّلًا وصدقوا.
قالوا: وبهذا تتَّفق الأحاديث، ويزول عنها الاضطراب.
هذا، وأرباب هذه المقالة لا يجيزون إدخال العمرة على الحجِّ، ويرونه لغوًا، ويقولون: إنَّ ذلك خاصٌّ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم دون غيره.
قالوا: وممَّا يدلُّ على ذلك أنَّ ابن عمر قال: لبَّى بالحجِّ وحده، وأنس قال: أهلَّ بهما جميعًا، وكلاهما صادقانِ، فلا يمكن أن يكون إهلاله بالقران سابقًا على إهلاله بالحجِّ وحده؛ لأنَّه إذا أحرم قارنًا لم يمكن أن يحرِم بعد ذلك بحجٍّ مفردٍ، وينقلَ الإحرام إلى الإفراد، فتعيَّن أنَّه أحرم بالحجِّ مفردًا، فسمعه ابن عمر وعائشة وجابر، فنقلوا ما سمعوه، ثمَّ أدخل عليه العمرة، فأهلَّ بهما جميعًا لمَّا جاءه الوحي من ربِّه، فسمعه أنس يُهِلُّ بهما، فنقل ما سمعه، ثمَّ أخبر عن نفسه بأنَّه قرن، وأخبر عنه من تقدَّم ذِكُره من الصَّحابة بالقران، فاتَّفقت أحاديثهم، وزال عنها الاضطراب والتَّناقض.
قالوا: ويدلُّ عليه قول عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أراد منكم أن يُهِلَّ بحجٍّ وعمرةٍ فليفعل، ومن أراد أن يهلَّ بحجٍّ فليهلَّ، ومن أراد أن يهلَّ بعمرةٍ فليهلَّ» . قالت عائشة: فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجٍّ، وأهلَّ به ناسٌ معه. فهذا يدلُّ على أنَّه كان مفردًا في ابتداء إحرامه، فعلم أنَّ قِرانه كان بعد ذلك.
ولا ريبَ
(1)
أنَّ في هذا القول من مخالفة الأحاديث المتقدِّمة ودعوى التَّخصيص للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بإحرامٍ لا يصحُّ في حقِّ الأمَّة ما يردُّه ويُبطِله. وممَّا يردُّه أنَّ أنسًا قال: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظُّهر بالبيداء، ثمَّ ركب، وصعدَ جبلَ البيداء، وأهلَّ بالحجِّ والعمرة حين صلَّى الظُّهر. وفي حديث عمر أنَّ الذي جاءه من ربِّه قال له:«صَلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةٌ في حجَّةٍ» ، وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم. فالَّذي روى عمر أنَّه أمر به وروى أنس أنَّه فعله سواءٌ، فصلَّى الظُّهر بوادي الحليفة
(2)
، ثمَّ قال: لبَّيك عمرةً وحجًّا.
واختلف النَّاس في جواز إدخال العمرة على الحجِّ على قولين، وهما روايتان عن أحمد، أشهرهما: أنه لا يصحُّ، والَّذين قالوا بالصِّحَّة ــ كأبي حنيفة وأصحابه ــ بنوه على أصولهم، وأنَّ القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين، فإذا أدخل العمرة على الحجِّ فقد التزم زيادة عملٍ على الإحرام بالحجِّ وحده. ومن قال: يكفيه طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحدٌ، قال: لم يستفد بهذا الإدخال إلا سقوطَ أحد السَّفرين، ولم يلتزم
(3)
به زيادة عملٍ بل نقصانه، فلا يجوز، وهذا مذهب الجمهور.
فصل
وأمَّا القائلون بأنه أحرم بعمرةٍ ثمَّ أدخل عليها الحجَّ، فعذرهم قول ابن عمر: تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع بالعمرة إلى الحجِّ، وأهدى، فساق
(1)
هذا تعقيب من المؤلف على القائلين المذكورين.
(2)
في المطبوع: «بذي الحليفة» .
(3)
ص، ج:«يلزم» .
معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعمرة ثمَّ أهلَّ بالحجِّ. متَّفقٌ عليه
(1)
. وهذا ظاهرٌ في أنَّه أحرم أوَّلًا بالعمرة، ثمَّ أدخل عليها الحجَّ.
ويبيِّن ذلك أيضًا أنَّ ابن عمر لمَّا حجَّ زمنَ ابن الزبير أهلَّ بعمرةٍ ثمَّ قال: أُشهِدكم أنِّي قد أوجبتُ حجًّا مع عمرتي، وأهدى هديًا اشتراه بقُدَيدٍ، ثمَّ انطلق يُهِلُّ بهما حتَّى قدم مكَّة، فطاف بالبيت وبالصَّفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر، ولم يحلق ولم يقصِّر، ولم يحلِلْ من شيءٍ حرم منه حتَّى كان يوم النَّحر، فنحر وحلق، ورأى أنَّ ذلك قد قضى طواف الحجِّ والعمرة بطوافه الأوَّل. وقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
فعند هؤلاء أنَّه كان متمتِّعًا في ابتداء إحرامه، قارنًا في أثنائه. وهؤلاء أعذَرُ من الذين قبلهم. وإدخال الحجِّ على العمرة جائزٌ بلا نزاعٍ يُعرف، وقد أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عائشة بإدخال الحجِّ على العمرة، فصارت قارنةً، ولكن سياق الأحاديث الصَّحيحة يردُّ
(3)
على أرباب هذه المقالة، فإنَّ أنسًا أخبر أنَّه حين صلَّى الظُّهر أهلَّ بهما جميعًا. وفي «الصَّحيح» عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع مُوافِينَ لهلال ذي الحجَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أراد منكم أن يهلَّ بعمرةٍ فليهلَّ، فلولا أنِّي أهديتُ لأهللتُ بعمرةٍ» ، قالت: وكان من القوم من أهلَّ بعمرةٍ، ومنهم من أهلَّ بالحجِّ، قالت: فكنتُ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
رواه البخاري (1640) ومسلم (1230/ 182). وقد تقدم.
(3)
في بعض النسخ بتأنيث الفعل.
أنا ممَّن أهلَّ بعمرةٍ. وذكرَتِ
(1)
الحديثَ. رواه مسلم
(2)
.
فهذا صريحٌ في أنَّه لم يهلَّ إذ ذاك بعمرةٍ، وإذا جمعتَ بين قول عائشة هذا وبين قولها في «الصَّحيح»:«تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع» ، وبين قولها:«وأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ» ، والكلُّ في «الصَّحيح» = علمتَ أنَّها إنَّما نفَتْ عمرةً مفردةً، وأنَّها لم تنْفِ عمرةَ قِرانٍ كانوا يسمُّونها تمتُّعًا كما تقدَّم، وأنَّ ذلك لا يناقض إهلالَه بالحجِّ، فإنَّ عمرة القران في ضِمنه وجزءٌ منه، ولا ينافي قولها: أفرد الحجَّ، فإنَّ أعمال العمرة لمَّا دخلتْ في أعمال الحجِّ وأُفرِدتْ أعماله= كان ذلك إفرادًا بالفعل، وأمَّا التَّلبية بالحجِّ مفردًا فهو إفرادٌ بالقول.
وقد قيل: إنَّ حديث ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتَّع في حجَّة الوداع بالعمرة إلى الحجِّ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعمرة، ثمَّ أهلَّ بالحجِّ= مرويٌّ بالمعنى من حديثه الآخر، وإنَّ ابن عمر هو الذي فعل ذلك عامَ حجَّ في فتنة ابن الزبير، وإنَّه بدأ فأهلَّ بالعمرة، ثمَّ قال: ما شأنُهما إلا واحدًا، أُشهِدكم أنِّي قد أوجبتُ حجًّا مع عمرتي، فأهلَّ بهما جميعًا. ثمَّ قال في آخر الحديث: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنَّما أراد اقتصاره على طوافٍ واحدٍ وسعيٍ واحدٍ، فحمل على المعنى وروى به، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ فأهلَّ بالعمرة، ثمَّ أهلَّ بالحجِّ. وإنَّما الذي فعل ذلك ابن عمر.
وهذا
(3)
ليس ببعيدٍ بل متعيَّنٌ، فإنَّ عائشة قالت عنه: «لولا أنَّ معي
(1)
ص، ج:«وذكر» .
(2)
برقم (1211/ 115).
(3)
تعقيب من المؤلف على القول السابق وتأييد له.
الهديَ لأهللتُ بعمرةٍ»، وأنس قال عنه: إنَّه حين صلَّى الظُّهر أوجبَ حجًّا وعمرةً، وعُمر أخبر عنه أنَّ الوحي جاءه من ربِّه يأمره بذلك.
فإن قيل: فما تصنعون بقول الزُّهريِّ: إنَّ عروة أخبره عن عائشة بمثل حديث سالم عن ابن عمر؟
قيل: الذي أخبرت به عائشة من ذلك هو أنَّه صلى الله عليه وسلم طاف طوافًا واحدًا عن حجِّه وعمرته، وهذا هو الموافق لرواية عروة عنها في «الصَّحيحين»:«وطاف الذين أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصَّفا والمروة، ثمَّ حلُّوا، ثمَّ طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منًى لحجِّهم. وأمَّا الذين جمعوا الحجَّ والعمرة فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا» ، فهذا مثل الذي رواه سالم عن أبيه سواءٌ. وكيف تقول عائشة:«إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ فأهلَّ بالعمرة، ثمَّ أهلَّ بالحجِّ» ، وقد قالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أنَّ معي الهديَ لأهللتُ بعمرةٍ» ، وقالت:«وأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ» ؟ فعُلِم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُهِلَّ في ابتداء إحرامه بعمرةٍ مفردةٍ، والله أعلم.
فصل
وأمَّا الذين قالوا: إنَّه أحرم إحرامًا مطلقًا، لم يعيِّن فيه نسكًا، ثمَّ عيَّنه بعد ذلك لمَّا جاءه القضاء وهو بين الصَّفا والمروة، وهو أحد أقوال الشَّافعيِّ نصَّ عليه في كتاب «اختلاف الحديث» ، قال
(1)
: وثبت أنَّه خرج ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو فيما بين الصَّفا والمروة، فأمر أصحابه أنَّ من كان منهم أهلَّ ولم يكن معه هديٌ أن يجعلها عمرةً.
(1)
«اختلاف الحديث» ضمن كتاب «الأم» (10/ 319).
ثمَّ قال
(1)
: ومَن وصفَ انتظارَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم القضاءَ، إذ لم يحجَّ من المدينة بعد نزول الفرض طلبًا للاختيار فيما وسَّع الله من الحجِّ والعمرة= يُشبِه أن يكون أحفظَ؛ لأنَّه قد أُتِي في المتلاعنين فانتظر القضاء، كذلك حُفِظ عنه في الحجِّ ينتظر القضاء.
وعذرُ أرباب هذا القول ما ثبت في «الصَّحيحين» عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر حجًّا ولا عمرةً. وفي لفظٍ
(2)
: نلبِّي لا نذكر حجًّا ولا عمرةً
(3)
. وفي روايةٍ عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحجَّ، حتَّى إذا دنونا من مكَّة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هديٌ
(4)
إذا طاف بالبيت وبين الصَّفا والمروة أن يَحلَّ
(5)
.
وقال طاوسٌ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمِّي حجًّا ولا عمرةً، ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو بين الصَّفا والمروة، فأمر أصحابه من كان منهم أهلَّ بالحجِّ ولم يكن معه هديٌ أن يجعلها عمرةً
…
الحديث
(6)
.
وقال جابر في حديثه الطَّويل
(7)
في سياق حجَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: فصلَّى
(1)
المصدر السابق (10/ 323).
(2)
ك، ص، ج:«رواية» .
(3)
رواه مسلم (1211/ 129).
(4)
ص، ج:«من كان معه هدي» ، خطأ.
(5)
رواه البخاري (1720) ومسلم (1211/ 125).
(6)
رواه الشافعي في «الأم» (10/ 318، 319) ومن طريقه البيهقي (5/ 6).
(7)
رواه مسلم (1218/ 147).
رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثمَّ ركبَ القَصْواء، حتَّى إذا استوت به ناقتُه على البيداء نظرتُ إلى مَدِّ بصري بين يديه
(1)
من راكبٍ وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهُرِنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعلم تأويله، فما عَمِلَ به من شيءٍ عمِلنا به. فأهلَّ بالتَّوحيد «لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريكَ لك» . وأهلَّ النَّاس بهذا الذي يُهِلُّون به، ولزِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيتَه.
فأخبر جابر أنَّه لم يزد على هذه التَّلبية، ولم يذكر أنَّه أضاف إليها حجًّا ولا عمرةً ولا قِرانًا، وليس في شيءٍ من هذه الأعذار ما يناقض أحاديث تعيينه النُّسكَ الذي
(2)
أحرم به في الابتداء، وأنَّه القران.
فأمَّا حديث طاوسٍ، فهو مرسلٌ لا يُعارَض به الأساطينُ المسنَداتُ، ولا يُعرف اتِّصاله بوجهٍ صحيحٍ ولا حسنٍ. ولو صحَّ فانتظاره للقضاء كان فيما بينه وبين الميقات، فجاءه القضاء وهو بذلك الوادي، أتاه آتٍ من ربِّه فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةٌ في حجَّةٍ. فهذا القضاء الذي انتظره جاءه قبل الإحرام، فعيَّن له القِران. وقول طاوسٍ:«نزل عليه القضاء وهو بين الصَّفا والمروة» هو قضاءٌ آخر غير القضاء الذي نزل عليه بإحرامه، فإنَّ ذلك كان بوادي العقيق، وإنما القضاء الذي نزل عليه بين الصَّفا والمروة قضاء الفسخ الذي أمر به أصحابه إلى العمرة، فحينئذٍ أمر كلَّ من لم يكن معه
(3)
(1)
ك، ص، ج:«من بين يديه» . والمثبت من ق، مب موافق لما عند مسلم.
(2)
«الذي» ليست في ص.
(3)
ص، ج:«معه منهم» .
هديٌ أن يفسخ إلى عمرةٍ، وقال:«لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سقتُ الهدي، ولجعلتُها عمرةً» ، وكان هذا أمرَ حَتْمٍ بالوحي، فإنَّهم لمَّا توقَّفوا فيه قال: «انظروا
(1)
الذي أمرتُكم به فافعلوه».
وأما قول عائشة: «خرجنا لا نذكر حجًّا ولا عمرةً» ، فهذا إن كان محفوظًا عنها وجب حملُه على ما قبل الإحرام، وإلَّا ناقضَ سائرَ الرِّوايات الصَّحيحة عنها: أنَّ منهم من أهلَّ عند الميقات بحجٍّ، ومنهم من أهلَّ بعمرةٍ، وأنَّها ممَّن أهلَّ بعمرةٍ.
وأمَّا قولها: «نلبِّي لا نذكر حجًّا ولا عمرةً» ، فهذا في ابتداء الإحرام، ولم تقلْ: إنَّهم استمرُّوا على ذلك إلى مكَّة. هذا باطلٌ قطعًا، فإنَّ الذين سمعوا إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أَهلَّ به شهدوا على ذلك، وأخبروا به، ولا سبيلَ إلى ردِّ رواياتهم. ولو صحَّ عن عائشة ذلك لكان غايته أنَّها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات، أو نفتْه وحفظه غيرها من الصَّحابة وأثبته، والرِّجال أعلم بذلك من النِّساء.
وأمَّا قول جابر: «أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتَّوحيد» ، فليس فيه إلا إخباره عن صفة تلبيته، وليس فيه نفيٌ لتعيينه النُّسكَ الذي أحرم به بوجهٍ من الوجوه. وبكلِّ حالٍ، فلو كانت هذه الأحاديث صريحةً في نفي التَّعيين لكانت أحاديث أهل الإثبات أولى بالأخذ منها؛ لكثرتها وصحَّتها واتِّصالها، وأنَّها مُثبِتةٌ مبيِّنةٌ متضمِّنةٌ لزيادةٍ خفيتْ على من نفى، وهذا بحمد الله واضحٌ؛ وباللَّه التَّوفيق.
(1)
«انظروا» ليست في ك.
فصل
فلنرجع إلى سياق حجَّته صلى الله عليه وسلم: ولبَّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه بالغِسْل
(1)
. وهو بالغين المعجمة على وزن كِفْلٍ، وهو ما يُغسل به الرَّأس من خِطْميِّ أو نحوه يُلبَّد
(2)
به الشَّعر حتَّى لا ينتشر.
وأهلَّ في مصلَّاه، ثمَّ ركب على ناقته فأهلَّ أيضًا، ثمَّ أهلَّ لمَّا استقلَّت به على البيداء. قال ابن عبَّاسٍ: وَايْمُ اللهِ لقد أوجب في مصلَّاه، وأهلَّ حين استقلَّت به ناقته، وأهلَّ حين علا على شرف البيداء
(3)
. وكان يهلُّ بالحجِّ والعمرة تارةً
(4)
، وبالحجِّ تارةً؛ لأنَّ العمرة جزءٌ منه، فمن ثمَّ قيل: قرن، وقيل: تمتَّع، وقيل: أفرد.
قال ابن حزمٍ
(5)
: وكان ذلك قبل الظُّهر بيسيرٍ. وهذا وهمٌ منه، والمحفوظ أنَّه إنَّما أهلَّ بعد صلاة الظُّهر، ولم يقل أحدٌ قطُّ: إنَّ إحرامه كان قبل الظُّهر، ولا أدري من أين له هذا. وقد قال ابن عمر: ما أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه أبو داود (1748)، وروايته:«العَسَل» بفتح المهملتين. قال الحافظ في «الفتح» (3/ 504): ضبطناه في روايتنا في «سنن أبي داود» بالمهملتين. انتهى. وإسناده ضعيف؛ لعنعنة ابن إسحاق، فلم يصرح بالتحديث. انظر:«ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 145).
(2)
ق، ب، مب:«يلبس» .
(3)
رواه أحمد (2358) وأبو داود (1770) والحاكم (1/ 451). وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الجزري، فيه لين. انظر:«ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 150).
(4)
«تارة» ليست في ك.
(5)
في «حجة الوداع» (ص 115).
إلا من عند الشَّجرة حينَ قام به بعيره، وقد قال أنس: إنَّه صلَّى الظُّهر ثمَّ ركب. والحديثان في «الصَّحيح»
(1)
، فإذا جمعتَ أحدهما إلى الآخر تبيَّن أنَّه إنَّما أهلَّ بعد صلاة الظُّهر.
ثمَّ لبَّى فقال: «لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريكَ لك»
(2)
، ورفع صوته بهذه التَّلبية حتَّى سمعها أصحابه
(3)
، وأمرهم بأمر الله له
(4)
أن يرفعوا أصواتهم بالتَّلبية
(5)
.
وكان حجُّه على رَحْلٍ، لا في مَحْمِلٍ ولا هَودجٍ ولا عمَّاريَّةٍ
(6)
، وزامِلتُه تحته. وقد اختُلِف في جواز ركوب المحرم في
(7)
المحمل والهودج
(1)
حديث ابن عمر رواه مسلم (1186/ 24). وحديث أنس عند أحمد (13153) وأبي داود (1774) والنسائي (2662)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (4/ 379).
تنبيه: لم أجد حديث أنس رضي الله عنه باللفظ الذي ذكره المصنف إلا في السفر عند البخاري (1111) ومسلم (704/ 46).
(2)
رواه البخاري (5915) ومسلم (1184/ 21) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
ك: «الناس» .
(4)
«له» ليست في ق.
(5)
رواه أحمد (16567) وأبو داود (1814) والترمذي (829) والنسائي (2753) وابن ماجه (2922) من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه. وصححه الترمذي وابن خزيمة (2625) وابن حبان (3802) والحاكم (1/ 450) والألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 79).
(6)
هي الكَجَاوة بالفارسية بمعنى الهودج والمحمل، وقد سبق (ص 129).
(7)
«المحرم في» ليست في ك.
والعمَّاريَّة ونحوها على قولين، هما روايتان عن أحمد، أحدهما: الجواز، وهو مذهب الشَّافعيِّ وأبي حنيفة. والثَّاني: المنع، وهو مذهب مالك.
فصل
ثمَّ إنَّه صلى الله عليه وسلم خيَّرهم عند الإحرام بين الأنساك الثَّلاثة، ثمَّ ندبَهم عند دنوِّهم من مكَّة إلى فسخ الحجِّ والقران إلى العمرة لمن لم يكن معه هديٌ، ثمَّ حتَّم ذلك عليهم عند المروة.
وولدتْ أسماء بنت عُمَيس زوجةُ أبي بكر الصديق بذي الحليفة محمدَ بن أبي بكر، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل، وتستثفر بثوبٍ وتُحرِم وتُهلَّ
(1)
. وكان في قصَّتها ثلاث سننٍ، إحداها: غُسل المحرم، والثَّانية: أنَّ الحائض تغتسل لإحرامها، والثَّالثة: أنَّ الإحرام يصحُّ من الحائض.
ثمَّ سار
(2)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبِّي بتلبيته المذكورة، والنَّاس معه يزيدون فيها وينقصون، وهو يُقِرُّهم ولا ينكر عليهم
(3)
، ولزم تلبيته.
فلمَّا كانوا بالرَّوحاء رأى حمار وحشٍ عَقِيرًا، فقال:«دعُوه فإنَّه يوشك أن يأتي صاحبه» ، فجاء صاحبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، شأنَكم بهذا الحمار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسَّمه بين الرِّفاق
(4)
.
(1)
رواه مسلم (1218/ 147) و (1210/ 110) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
ك: «ساق» ، تحريف.
(3)
رواه مسلم (1218/ 147).
(4)
رواه مالك (1008) والنسائي (2818)، وصححه ابن خزيمة كما في «الفتح» (4/ 44) وابن حبان (5111). والحديث صحيح، ولكن اختلف هل الحديث من مسند البهزي رضي الله عنه أو من مسند عمير بن سلمة رضي الله عنه؟ والصواب رواية من جعله من مسند عمير بن سلمة رضي الله عنه. انظر:«مسند الموطأ» للجوهري (ص 605) و «علل الدارقطني» (13/ 287 - 303) و «التمهيد» لابن عبد البر (23/ 341 - 343).
وفي هذا دليلٌ على جواز أكل المحرم من صيد الحلال إذا لم يَصِدْه لأجله
(1)
. وأمَّا كونُ صاحبه لم يُحرِم، فلعلَّه لم يمرَّ بذي الحليفة، فهو كأبي قتادة في قصَّته. وتدلُّ هذه القصَّة على أنَّ الهبة لا تفتقر إلى لفظ «وهبتُ» ، بل تصحُّ بكل لفظٍ
(2)
يدلُّ عليها. وتدلُّ على قسمة اللَّحم مع عظامه بالتَّحرِّي
(3)
، وتدلُّ على أنَّ الصَّيد يُملَك بالإثبات وإزالة امتناعه، وأنَّه لمن أثبته لا لمن أخذه، وعلى حِلِّ أكل الحمار الوحشيِّ، وعلى التَّوكيل في القسمة، وعلى كون القاسم واحدًا.
فصل
ثمَّ مضى حتَّى إذا كان بالأُثاية بين الرُّوَيثة والعَرْج إذا ظبيٌ حاقفٌ في ظلٍّ فيه سهمٌ، فأمر رجلًا أن يقف عنده، لا يَرِيبه أحدٌ من النَّاس حتَّى يُجاوِز
(4)
.
والفرق بين قصَّة الظَّبي وقصَّة الحمار: أنَّ الذي صاد الحمار كان حلالًا، فلم يمنع من أكله، وهذا لم يعلم أنَّه حلالٌ وهم محرمون، فلم يأذن
(1)
ك، ج:«من أجله» .
(2)
ق، ص، ب، مب:«بلفظ» .
(3)
ج: «بالتجزي» .
(4)
في المطبوع: «يجاوزوا» . والحديث قطعة من الحديث السابق.
لهم في أكله، ووكَّل من يقف عنده لئلَّا يأخذه أحدٌ حتَّى يجاوز. وفيه دليلٌ على أنَّ قتل المحرم للصَّيد يجعله بمنزلة الميتة في عدم الحلِّ، إذ لو كان حلالًا لم يضيّع ماليَّته.
فصل
ثمَّ سار حتَّى إذا نزل بالعَرْج، وكانت زَمالته وزَمالة
(1)
أبي بكر واحدةً، وكانت مع غلامٍ لأبي بكر، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى جانبه، وعائشة إلى جانبه الآخر، وأسماء زوجته إلى جانبه، وأبو بكر ينتظر الغلام والزاملة
(2)
، إذ طلع الغلام وليس معه البعير، فقال: أين بعيرك؟ فقال: أضللتُه البارحةَ، فقال أبو بكر: بعيرٌ واحدٌ تُضِلُّه! قال: فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسَّم، ويقول:«انظروا إلى هذا المحرِم ما يصنع» ، وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول ذلك ويتبسَّم
(3)
.
ومن تراجم أبي داود على هذه القصَّة: باب المحرِم يؤدِّب.
فصل
ثمَّ مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى إذا كان بالأبواء أهدى له الصَّعب بن جَثَّامة عجُزَ حمارِ وَحْشٍ
(4)
، فردَّه عليه وقال: «إنَّا لم نردَّه عليك إلا أنَّا
(1)
ك: «زاملته وزاملة» . وقد وردت الرواية باللفظين كما ذكر ابن خزيمة (2679).
(2)
كذا في النسخ، وفي المطبوع:«والزمالة» .
(3)
رواه أحمد (26916) أبو داود (1818) وابن ماجه (2933) وابن خزيمة (2679) والحاكم (1/ 453). فيه عنعنة محمد بن إسحاق.
(4)
عند مسلم (1194/ 54) في رواية شعبة عن الحكم.
حُرُمٌ»
(1)
. وفي «الصَّحيحين»
(2)
أنَّه أهدى له حمارًا وحشيًّا، وفي لفظٍ لمسلم
(3)
: لحم حمار.
قال الحميدي: كان سفيان يقول في الحديث: «أهديتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحمَ حمارِ وحشٍ» ، وربَّما قال سفيان:«يقطُر دمًا» ، وربَّما لم يقل ذلك، وكان فيما خلا ربَّما قال:«حمار وحشٍ» ، ثمَّ صار إلى «لحمٍ» حتَّى مات
(4)
.
وفي روايةٍ
(5)
: «شقّ حمار وحشٍ» ، وفي روايةٍ
(6)
وروى يحيى بن سعيدٍ عن جعفر بن عمرو
(7)
بن أميَّة الضَّمريِّ عن أبيه: أنّ الصَّعْب
(8)
أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عجزَ حمارٍ وهو بالجُحْفة، فأكل منه وأكل القوم
(9)
. قال البيهقي: وهذا إسنادٌ صحيحٌ. فإن كان محفوظًا فكأنَّه ردَّ الحيَّ وقبِلَ اللَّحم.
وقال الشَّافعيُّ
(10)
: فإن كان الصَّعْب بن جثَّامة أهدى للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الحمار
(1)
رواه البخاري (1825) ومسلم (1193/ 50) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(2)
قطعة من الحديث السابق.
(3)
برقم (1193/ 52).
(4)
انظر: «مسند الحميدي» (801) و «المعرفة والتاريخ» (2/ 727) و «السنن الكبرى» للبيهقي (5/ 192).
(5)
عند مسلم (1194/ 54) في رواية شعبة عن حبيب.
(6)
عند مسلم (1194/ 54) في رواية منصور عن الحكم.
(7)
في ب، مب، المطبوع:«جعفر عن عمرو» ، خطأ.
(8)
في ك بعدها: «بن جثامة» . وكذا عند البيهقي.
(9)
رواه البيهقي (5/ 193).
(10)
انظر: «السنن الكبرى» للبيهقي (5/ 193) و «معرفة السنن والآثار» (7/ 430).
حيًّا، فليس للمحرم ذبحُ حمارٍ وحشي، وإن كان أهدى له لحمًا
(1)
فقد يحتمل أن يكون علم أنَّه صِيْد له، فردَّه عليه، وإيضاحه في حديث جابر. قال: وحديث مالك أنَّه أهدى له حمارًا أثبتُ من حديث مَن حدَّث أنه أهدى
(2)
له من لحم حمارٍ.
قلت: أمَّا حديث يحيى بن سعيدٍ عن جعفر، فغلطٌ بلا شكٍّ، فإنَّ الواقعة واحدةٌ، وقد اتَّفق الرُّواة أنَّه لم يأكل منه، إلا هذه الرِّواية الشَّاذَّة المنكرة.
وأمَّا الاختلاف في كون الذي أهداه حيًّا أو لحمًا، فرواية من روى لحمًا أولى لثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّ راويها قد حفظها، وضبطَ الواقعة حتَّى ضبطَ أنها تقطُر دمًا، وهذا يدلُّ على حفظه للقصَّة حتَّى لهذا الأمر الذي لا يُؤبَه له.
الثَّاني: أنَّ هذا صريحٌ في كونه بعض الحمار، وأنَّه لحمٌ منه، فلا يناقض قوله:«أهدى له حمارًا» ، بل يمكن حمله على رواية من روى «لحمًا» تسميةً للحمه باسم الحيوان، وهذا ممَّا لا تأباه اللُّغة.
الثَّالث: أنَّ سائر الرِّوايات متَّفقةٌ على أنَّه بعضٌ من أبعاضه، وإنَّما اختُلِف في ذلك البعض: هل هو عَجُزه، أو شِقُّه، أو رِجله، أو لحمٌ منه؟ ولا تناقضَ بين هذه الرِّوايات، إذ يمكن أن يكون الشِّقُّ الذي فيه العَجُز، وفيه الرِّجل، فصحَّ التَّعبير عنه بهذا وهذا. وقد رجع ابن عيينة عن قوله:«حمارًا» ، وثبت على قوله:«لحم حمارٍ» حتَّى مات. وهذا يدلُّ على أنَّه تبيَّن له أنَّه إنَّما
(1)
ق، ب، مب:«الحمار» .
(2)
«أنه أهدى» ليست في المطبوع.
أهدى له لحمًا لا حيوانًا.
ولا تعارضَ بين هذا وبين أكله ممّا
(1)
صاده أبو قتادة، فإنَّ قصَّة أبي قتادة كانت عامَ الحديبية سنة ستٍّ، وقصَّة الصَّعْب قد ذكر غير واحدٍ أنَّها كانت في حجَّة الوداع، منهم: المحبُّ الطبري في كتاب «حجَّة الوداع»
(2)
له وغيرُه
(3)
، وهذا ممَّا يُنظر فيه. وفي قصَّة الظَّبي وحمار البَهْزي
(4)
: هل كانت في حجَّة الوداع أو في بعض عُمَره؟ فالله أعلم.
وإن حُمِل حديث أبي قتادة على أنَّه لم يَصِدْه لأجله، وحديث الصَّعْب على أنَّه صِيد لأجله، زال الإشكال. ويشهد
(5)
لذلك حديث جابر المرفوع: «صيدُ البرِّ لكم حلالٌ ما لم تَصيدوه أو يُصاد لكم»
(6)
. وإن كان الحديث قد أُعِلَّ بأنَّ المطَّلب بن حَنْطبٍ راويه عن جابر لا يُعرف له سماعٌ منه. قاله النَّسائيُّ
(7)
.
(1)
ق، ب:«ما» .
(2)
«صفوة القرى في صفة حجة المصطفى» (ص 21) ط. رضوان محمد رضوان.
(3)
في المطبوع: «أو في بعض عمره» خلاف النسخ.
(4)
كذا في ك، ص، ج. وفي ق، ب:«البَرّي» مضبوطًا. مب: «البر» . وفي المطبوع: «حمار يزيد بن كعب السلمي البهزي» . وفي «التمهيد» (23/ 343) أن البهزي اسمه زيد بن كعب.
(5)
ق، ب، مب:«وشهد» .
(6)
رواه أبو داود (1851) والترمذي (846) والنسائي (2827)، وأعلّ الحديث بالمطلب بن حنطب لكونه لم يُعرف له سماع وأنه كثير التدليس، وأعلّ أيضًا بغيرها من العلل. انظر:«ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 160).
(7)
لم أجد من عزاه إلى النسائي، والمعروف أنه من كلام الترمذي، انظر:«سنن الترمذي» (846).
قال الطَّبريُّ في «حجَّة الوداع»
(1)
له: فلمَّا كان في بعض الطَّريق اصطاد أبو قتادة حمارًا وحشيًّا، ولم يكن محرمًا، فأحلَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد أن سألهم: هل أمره أحدٌ منكم بشيءٍ أو أشار إليه؟ وهذا وهمٌ منه رحمه الله، فإنَّ قصَّة أبي قتادة إنَّما كانت عام الحديبية، هكذا في «الصَّحيحين»
(2)
من حديث عبد الله ابنه عنه قال: انطلقنا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبية، فأحرم أصحابه ولم أُحرِم. فذكر قصَّة الحمار الوحشيِّ.
فصل
فلمَّا مرَّ بوادي عُسْفان، قال:«يا أبا بكر، أيُّ وادٍ هذا؟» ، قال: وادي عُسفان. قال: «لقد مرَّ به هودٌ وصالحٌ على بَكْرينِ أحمرين خُطُمُهما اللِّيفُ، وأُزُرُهم العَباء، وأَرديتهم النِّمار، يلبُّون يحجُّون البيت العتيق» . ذكره الإمام أحمد في «المسند»
(3)
.
فلمَّا كان بسَرِف حاضت عائشة، وقد كانت أهلَّت بعمرةٍ، فدخل عليها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال:«ما يُبكِيك لعلَّكِ نُفِسْتِ؟» ، قالت: نعم، قال: «هذا شيءٌ كتبه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاجُّ، غيرَ أن لا
(1)
«صفوة القِرى» لمحب الدين الطبري (ص 23) والنص كذلك في «القِرى» له (ص 218).
(2)
رواه البخاري (1822) ومسلم (1196/ 59).
(3)
برقم (2067) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما . وفي إسناده زمعة بن صالح متكلم فيه، وسلمة بن وهرام مختلف فيه. انظر:«مسند أحمد» ط الرسالة (2067).
تطوفي بالبيت»
(1)
.
وقد تنازع العلماء في قصَّة عائشة: هل كانت متمتِّعةً أو مفردةً؟ وإذا كانت متمتِّعةً فهل رفضتْ عمرتها وانتقلتْ إلى الإفراد، أو أدخلتْ عليها الحجَّ وصارت قارنةً؟ وهل العمرة الَّتي أتت بها من التَّنعيم كانت واجبةً أم لا؟ وإذا لم تكن واجبةً فهل هي مجزئةٌ عن عمرة الإسلام أم لا؟ واختلفوا أيضًا في موضع حيضها، وموضع طهرها، ونحن نذكر البيان الشَّافي في ذلك بحول الله وتوفيقه.
واختلف الفقهاء في مسألةٍ مبنيَّةٍ على قصَّة عائشة، وهي أنَّ المرأة إذا أحرمت بالعمرة، فحاضت ولم يمكنها الطَّواف قبل التَّعريف، فهل ترفض الإحرام بالعمرة وتُهلُّ بالحجِّ مفردًا، أو تُدخِل الحجَّ على العمرة وتصير قارنةً؟ فقال بالقول الأوَّل فقهاء الكوفة، منهم أبو حنيفة وأصحابه، وبالثَّاني: فقهاء الحجاز، منهم: الشَّافعيُّ ومالك، وهو مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه.
قال الكوفيُّون: ثبت في «الصَّحيحين»
(2)
عن عروة عن عائشة أنَّها قالت: أهللنا بعمرةٍ، فقدمتُ مكَّة وأنا حائضٌ، لم أطف بالبيت ولا بين الصَّفا والمروة، فشكوتُ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«انقُضي رأسك وامتشطي، وأهلِّي بالحجِّ، ودَعي العمرة» . قالت: ففعلتُ. فلمَّا قضينا الحجَّ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرَّحمن بن أبي بكرٍ إلى التَّنعيم، فاعتمرت
(1)
رواه البخاري (305) ومسلم (1211/ 120).
(2)
رواه البخاري (1556) ومسلم (1211/ 111).
معه. فقال: «هذه مكان عمرتك» .
قالوا: فهذا يدلُّ على أنَّها كانت متمتِّعةً، وعلى أنَّها رفضت عمرتها وأحرمت بالحجِّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«دَعِي عمرتك» ، ولقوله:«انقُضي رأسَك وامتشطي» . ولو كانت باقيةً على إحرامها لما جاز لها أن تمتشط، ولأنَّه قال للعمرة الَّتي أتت بها من التَّنعيم:«هذه مكان عمرتك» . ولو كانت عمرتها الأولى باقيةً لم تكن هذه مكانها، بل كانت عمرةً مستقلَّةً.
قال الجمهور: لو تأمَّلتم قصَّة عائشة حقَّ التَّأمُّل، وجمعتم بين طرقها وأطرافها، لتبيَّن لكم أنَّها قرنَتْ ولم ترفض العمرة، ففي «صحيح مسلم»
(1)
عن جابر قال: أقبلتْ عائشة بعمرةٍ، حتَّى إذا كانت بسَرِف عَرَكتْ
(2)
، ثمَّ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي، فقال:«ما شأنُكِ؟» ، قالت: شأني أنِّي قد حضتُ، وقد حلَّ النَّاس ولم أحلَّ، ولم أطفُ بالبيت، والنَّاس يذهبون إلى الحجِّ الآن، فقال:«إنَّ هذا أمرٌ كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي، ثمَّ أهلِّي بالحجِّ» . ففعلتْ ووقفتِ المواقفَ، حتَّى إذا طهرتْ طافت بالكعبة وبالصَّفا والمروة، ثمَّ قال:«قد حللت من حجِّك وعمرتك» ، قالت: يا رسول الله، إنِّي أجدُ في نفسي أنِّي لم أطفْ بالبيت حتَّى حججتُ. قال:«فاذهبْ بها يا عبد الرحمن، فأَعمِرْها من التَّنعيم» .
وفي «صحيح مسلم»
(3)
من حديث طاوسٍ عنها: أهللتُ بعمرةٍ، فقدِمتُ
(1)
برقم (1213/ 136).
(2)
أي حاضت.
(3)
برقم (1211/ 132).
ولم أطف حتَّى حضتُ، فنسكت المناسك كلَّها، فقال لها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم النَّفر:«يسعُكِ طوافُك لحجِّكِ وعمرتكِ» .
فهذه نصوصٌ صريحةٌ أنَّها كانت في حجٍّ وعمرةٍ لا في حجٍّ مفردٍ، وصريحةٌ في أنَّ
(1)
القارن يكفيه طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحدٌ، وصريحةٌ في أنَّها لم ترفض إحرام العمرة، بل بقيت في إحرامها كما هي لم تحلَّ منه. وفي بعض ألفاظ الحديث
(2)
: «كوني في عمرتك، فعسى الله أن يرزقكها» . ولا يناقض هذا قولَه: «دعي عمرتك» ، فلو كان المراد به رفْضها وتركها لما قال لها:«يسعُكِ طوافك لحجِّك وعمرتك» ، فعُلم أنَّ المراد: دَعِي أعمالها، ليس المراد رفْض إحرامها.
وأمَّا قوله: «انقُضي رأسك وامتشطي» ، فهذا ممَّا أعضلَ على النَّاس، ولهم فيه أربع
(3)
مسالك:
أحدها: أنَّه دليلٌ على رفض العمرة، كما قالت الحنفيَّة.
المسلك الثَّاني: أنَّه دليلٌ على أنَّه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه، ولا دليلَ من كتابٍ ولا سنَّةٍ ولا إجماعٍ على منعه من ذلك ولا تحريمه، وهذا قول ابن حزمٍ وغيره.
المسلك الثَّالث: تعليل هذه اللَّفظة، وردُّها بأنَّ عروة انفرد بها،
(1)
«أن» ليست في ك. «في» ليست في ب، مب.
(2)
رواه البخاري (1560) ومسلم (1211/ 123) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
ك، ج:«ثلاث» .
وخالف
(1)
بها سائر الرُّواة، وقد روى حديثها طاوسٌ والقاسم والأسود وعمرة
(2)
، فلم يذكر أحدٌ منهم هذه اللَّفظة. قالوا: وقد روى حمَّاد بن زيدٍ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة حديثَ حيضها في الحجِّ، فقال فيه: حدَّثني غير واحدٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «دعي عمرتك، وانقُضي رأسك وامتشطي» ، وذكر تمام الحديث. قالوا: فهذا يدلُّ على أنَّ عروة لم يسمع هذه الزِّيادة من عائشة
(3)
.
المسلك الرَّابع
(4)
: أنَّ قوله «دعي العمرة» أي دعيها بحالها، لا تخرجي منها، وليس المراد تركها
(5)
. قالوا: ويدلُّ عليه وجهان:
أحدهما: قوله: «يسعُكِ طوافك لحجِّك وعمرتك» .
الثَّاني: قوله: «كوني في عمرتك» . قالوا: وهذا أولى من حمله على رفضها، لسلامته من التَّناقض.
قالوا: وأمَّا قوله: «هذه مكان عمرتك» فعائشة أحبَّت أن تأتي بعمرةٍ مفردةٍ، فأخبرها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ طوافها وقع عن حجّها وعمرتها، وأنَّ عمرتها قد دخلت في حجِّها، فصارت قارنةً، فأبتْ إلا عمرةً مفردةً كما قصدتْ أوَّلًا، فلمَّا حصل لها ذلك قال:«هذه مكان عمرتك» .
(1)
ك: «وخالفه» .
(2)
في المطبوع: «وغيرهم» خلاف النسخ. وروايات هؤلاء عند مسلم (2/ 873 - 879)، وسيأتي ذكرها.
(3)
انظر: «المغني» لابن قدامة (5/ 369 - 370).
(4)
ك، ج:«وقد قيل» بدل «المسلك الرابع» .
(5)
ج: «اتركيها» .
وفي «سنن الأثرم»
(1)
عن الأسود قال: قلت لعائشة: اعتمرتِ بعد الحجِّ؟ قالت: والله ما كانت عمرةً، ما كانت إلا زيارةً زرتُ البيت.
قال الإمام أحمد
(2)
: إنَّما
(3)
أعمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عائشةَ حين ألحَّت عليه، فقالت: يرجع النَّاس بنسكينِ وأرجع بنسكٍ؟ فقال: «يا عبد الرحمن، أَعمِرْها» ، فنظر إلى أدنى الحلِّ، فأعمَرَها منه.
فصل
واختلف النَّاس فيما أحرمت به عائشة أوَّلًا على قولين:
أحدهما: أنَّه عمرةٌ مفردةٌ، وهذا هو الصَّواب لما ذكرنا من الأحاديث. وفي «الصَّحيح» عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع مُوافين لهلال ذي الحجَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أراد منكم أن يُهلَّ بعمرةٍ، فليهلَّ، فلولا أنِّي أهديتُ لأهللتُ بعمرةٍ» . قالت: فكان من القوم مَن أهلَّ بعمرةٍ، ومنهم من أهلَّ بالحجِّ، قالت: فكنتُ أنا ممَّن أهلَّ بعمرةٍ. وذكرت الحديث
(4)
. وقوله في الحديث: «دعي العمرة وأهلِّي بالحجِّ» ، قاله لها بسَرِف قريبًا من مكَّة، وهو صريحٌ في أنَّ إحرامها كان بعمرةٍ.
القول الثَّاني: أنَّها أحرمت أوَّلًا بالحجِّ وكانت مفردةً، قال ابن
(1)
انظر: «المغني» لابن قدامة (5/ 370)، ولم أقف عليه.
(2)
انظر المرجع السابق.
(3)
«إنما» ليست في ك.
(4)
تقدم تخريجه قريبًا.
عبد البرِّ
(1)
: روى القاسم بن محمَّدٍ والأسود بن يزيد وعَمْرة كلُّهم عن عائشة ما يدلُّ على أنَّها كانت محرمةً بحجٍّ لا بعمرةٍ، منها: حديث عمرة عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنَّه الحجُّ، وحديث الأسود بن يزيد مثله، وحديث القاسم: لبَّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ
(2)
. قال: وغلَّطوا عروة في قوله عنها: كنتُ فيمن أهلَّ بعمرةٍ. قال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمع هؤلاء ــ يعني الأسود والقاسم وعمرة ــ على الرِّوايات الَّتي ذكرنا، فعلمنا بذلك أنَّ الرِّوايات الَّتي رُوِيت عن عروة غلطٌ. قال: ويُشبه أن يكون الغلط إنَّما وقع فيه أن يكون لم يُمكِنْها الطَّوافُ بالبيت وأن تحلَّ بعمرةٍ، كما فعلَ من لم يسق الهدي، فأمرها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تترك الطَّواف وتمضي على الحجِّ، فتوهَّموا بهذا المعنى أنَّها كانت معتمرةً، وأنَّها تركت عمرتها وابتدأت الحجِّ.
قال أبو عمر
(3)
: وقد روى جابر بن عبد اللَّه أنَّها كانت مهلَّةً بعمرةٍ، كما روى عنها عروة
(4)
. قالوا: والغلط الذي دخل على عروة إنَّما كان في قوله: «انقُضي رأسك وامتشطي، ودعي العمرة وأهلِّي بالحجِّ» . وروى حمَّاد بن زيدٍ عن هشام بن عروة عن أبيه حدَّثني غير واحدٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «دعي عمرتك، وانقضي رأسك وامتشطي، وافعلي ما يفعل الحاجُّ» . فبيَّن حماد أنَّ عروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة.
(1)
في «التمهيد» (8/ 217 - 220).
(2)
حديث عمرة عند البخاري (1709) ومسلم (1211/ 125)، وحديث الأسود عند البخاري (1561) ومسلم (1211/ 128)، وحديث القاسم عند مسلم (1211/ 121).
(3)
أي ابن عبد البر في «التمهيد» (8/ 224 - 226).
(4)
تقدم تخريجها.
قلت: من العجب ردُّ هذه النُّصوص الصَّحيحة الصَّريحة الَّتي لا مدفعَ لها، ولا مطعنَ فيها، ولا تحتمل تأويلًا البتَّة بلفظٍ مجملٍ ليس ظاهرًا في أنَّها كانت مفرِدةً، فإنَّ غاية ما احتجَّ به من زعم أنَّها كانت مفردةً قولُها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنَّه الحجُّ. فيا لله العجب! أيُظَنُّ بالمتمتِّع أنَّه خرج لغير الحجِّ؟ بل خرج للحجِّ متمتِّعًا، كما أنَّ المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضَّأ لا يمتنع أن يقول: خرجتُ لغسل الجنابة. وصدَقتْ أمُّ المؤمنين إذ
(1)
كانت لا ترى إلا أنَّه الحجُّ، حتَّى أحرمتْ بعمرةٍ بأمره صلى الله عليه وسلم، وكلامها يصدِّق بعضُه بعضًا.
وأمَّا قولها: لبَّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ، فقد قال جابر عنها في «الصَّحيحين»
(2)
: إنَّها أهلَّت بعمرةٍ، وكذلك قال طاوسٌ عنها في «صحيح مسلم»
(3)
، وكذلك قال مجاهد عنها
(4)
، فلو تعارضت الروايتان
(5)
عنها فرواية الصَّحابة عنها أولى أن يؤخذ بها من رواية التَّابعين، كيف ولا تعارضَ في ذلك البتَّة، فإنَّ القائل «فعلنا كذا» يصدُق ذلك منه بفعله وبفعل أصحابه. ومن العجب أنَّهم يقولون في قول ابن عمر:«تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحجِّ» ، معناه: تمتَّع أصحابه، فأضاف الفعل إليه لأمره به، فهلَّا قلتم في قول عائشة:«لبَّينا بالحجِّ» : إنَّ المراد به جنس الصَّحابة الذين لبَّوا بالحجِّ؟
(1)
ك: «إذا» .
(2)
تقدم تخريجه، الحديث في مسلم (1213/ 136).
(3)
برقم (1211/ 132)، وتقدم تخريجه أيضًا.
(4)
رواه مسلم (1211/ 133).
(5)
في المطبوع: «الروايات» .
وقولها: «فعلنا» كما قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسافرنا معه ونحوه. ويتعيَّن قطعًا ــ إن لم تكن هذه الرِّواية غلطًا ــ أن تُحمل على ذلك للأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة أنَّها كانت قد
(1)
أحرمت بعمرةٍ، وكيف يُنسَب عروة في ذلك إلى الغلط، وهو أعلم النَّاس بحديثها، وكان يسمع منها مشافهةً بلا واسطةٍ.
وأمَّا قوله في رواية حماد: حدَّثني غير واحدٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «دَعِي عمرتك» ، فهذا إنَّما يحتاج إلى تعليله وردِّه إذا خالف الرِّوايات الثَّابتة عنها، فأمَّا إذا وافقها وصدَّقها وشهد أنها أحرمت بعمرةٍ، فهذا يدلُّ على أنَّه محفوظٌ، وأنَّ الذي حدَّثه ضبطَه وحفظه. هذا مع أنَّ حمَّاد بن زيدٍ انفرد بهذه الرِّواية المعلَّلة، وهي قوله:«فحدَّثني غير واحدٍ» ، وخالفه جماعةٌ فرووه متَّصلًا عن عروة عن عائشة، فلو قُدِّر التَّعارض فالأكثرون أولى بالصَّواب.
ويا للعجب! كيف يكون تغليط أعلم النَّاس بحديثها ــ وهو عروة ــ في قوله عنها: «وكنت فيمن أهلَّ بعمرةٍ» سائغًا بلفظٍ مجملٍ محتملٍ، ويُقضى به على النَّصِّ الصَّحيح الصَّريح الذي شهد له سياق القصَّة من وجوهٍ متعدِّدةٍ قد تقدَّم ذكر بعضها؟ فهؤلاء أربعةٌ رَوَوا عنها أنَّها أهلَّت بعمرةٍ: جابر، وعروة، وطاوس، ومجاهد، فلو كانت رواية القاسم وعمرة والأسود معارضةً لرواية هؤلاء لكانت روايتهم أولى بالتَّقديم لكثرتهم، ولأنَّ فيهم جابرًا، ولفضل عروة وعلمه بحديث خالته.
(1)
«قد» ليست في ق، ب، مب.
ومن العجب قوله: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا أمرها أن تترك الطَّواف، وتمضي على الحجِّ، توهَّموا بهذا أنَّها كانت معتمرةً، فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّما أمرها أن تدعَ العمرة وتُنشئ إهلالًا بالحجِّ، فقال لها:«وأهلِّي بالحجِّ» ، ولم يقل: استمرِّي عليه، ولا امْضِي فيه، وكيف يغلط راوي الأمر بالامتشاط لمجرَّد مخالفته لمذهب الرَّادِّ؟ فأين
(1)
في كتاب الله وسنَّة رسوله وإجماع الأمَّة ما يحرِّم على المحرم تسريحَ شعره، ولا يسوِّغ تغليطَ الثِّقات لنصرة الآراء والتَّقليد؟ والمحرم إذا أمنَ مِن تقطيع الشَّعر لم يُمنَع من تسريح رأسه، وإن لم يأمن من سقوط شيءٍ من الشَّعر بالتَّسريح، فهذا المنع منه محلُّ نزاعٍ واجتهادٍ، والدَّليل يَفصِل بين المتنازعين، فإن لم يدلَّ كتابٌ ولا سنَّةٌ ولا إجماعٌ على منعه فهو جائزٌ.
فصل
وللنَّاس في هذه العمرة الَّتي أتت بها عائشة من التَّنعيم أربعة مسالك:
أحدها: أنَّها كانت زيادةً تطييبًا لقلبها وجَبْرًا لها، وإلَّا فطوافها وسعيها وقع عن حجِّها وعمرتها، وكانت متمتِّعةً ثمَّ أدخلت الحجَّ على العمرة، فصارت قارنةً. وهذا أصحُّ الأقوال، والأحاديث لا تدلُّ على غيره، وهذا مسلك الشَّافعيِّ وأحمد وغيرهما.
المسلك الثَّاني: أنَّها لمَّا حاضت أمرها أن ترفض عمرتها، وتنتقل عنها إلى حجٍّ مفردٍ، فلمَّا حلَّت من الحجِّ أمرها أن تعتمر؛ قضاءً لعمرتها الَّتي
(1)
بعدها في ك زيادة: «هذا» .
أحرمتْ بها أوَّلًا. وهذا مسلك أبي حنيفة ومن تبعه
(1)
. وعلى هذا القول فهذه العمرة كانت في حقِّها واجبةً لا بدَّ منها، وعلى القول الأوَّل
(2)
كانت جائزةً، وكلُّ متمتِّعةٍ حاضت ولم يمكنها الطَّوافُ قبل التَّعريف فهي على هذين القولين: إمَّا أن تُدخِل الحجَّ على العمرة وتصير قارنةً، وإمَّا أن تنتقل عن العمرة إلى الحجِّ وتصير مفردةً، وتقضي العمرة.
المسلك الثَّالث: أنَّها لمَّا قرنتْ لم يكن بدٌّ من أن تأتي بعمرةٍ مفردةٍ، لأنَّ عمرة القارن لا تجزئ عن عمرة الإسلام، وهذا إحدى الرِّوايتين عن أحمد.
المسلك الرَّابع: أنَّها كانت مفرِدةً، وإنَّما امتنعت من طواف القدوم لأجل الحيض، واستمرَّت على الإفراد حتَّى طهرتْ وقضت الحجَّ، وهذه العمرة هي عمرة الإسلام. وهذا مسلك القاضي إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكيَّة. ولا يخفى ما في هذا المسلك من الضَّعف، بل هو أضعف المسالك في الحديث.
وحديث عائشة هذا يؤخذ منه أصولٌ عظيمةٌ من
(3)
أصول المناسك:
أحدها: اكتفاء القارن بطوافٍ واحدٍ وسعيٍ واحدٍ.
الثَّاني: سقوط طواف القدوم عن الحائض، كما أنَّ حديث صفيةَ أصلٌ في سقوط طواف الوداع عنها.
الثَّالث: أنَّ إدخال الحجِّ على العمرة للحائض جائزٌ، كما يجوز للطَّاهر،
وأولى؛ لأنَّها معذورةٌ محتاجةٌ إلى ذلك.
الرَّابع: أنَّ الحائض تفعل أفعال الحجِّ كلَّها.
الخامس
(1)
: أنَّها لا تطوف بالبيت.
السادس: أنَّ التَّنعيم من الحلِّ.
السابع: جواز عمرتين في سنةٍ واحدةٍ، بل في شهرٍ واحدٍ.
الثامن: أنَّ المشروع في حقِّ المتمتِّع إذا لم يأمن الفواتَ أن يُدخِل الحجَّ على العمرة، وحديث عائشة أصلٌ فيه.
التاسع: أنَّه أصلٌ في العمرة المكِّيَّة، وليس مع
(2)
من استحبَّها غيره، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يعتمر هو ولا أحدٌ ممَّن حجَّ معه من مكَّة خارجًا منها إلا عائشة وحدها، فجعل أصحاب العمرة المكِّيَّة قصَّة عائشة أصلًا لقولهم. ولا دلالةَ لهم فيها، فإنَّ عمرتها إمَّا أن تكون قضاءً للعمرة المرفوضة عند من يقول: إنَّها رفضتْها، فهي واجبةٌ قضاءً لها، أو تكون زيارةً
(3)
محضةً، وتطييبًا لقلبها عند من يقول: إنَّها كانت قارنةً، وإنَّ طوافها وسعيها أجزأها عن حجِّها وعمرتها. والله أعلم.
فصل
وأمَّا كون عمرتها تلك مجزئةً عن عمرة الإسلام، ففيه قولان للفقهاء
(1)
في المطبوع: «إلا» مكان «الخامس» متصلة بما قبلها، والأرقام التي بعدها بنقص واحد.
(2)
«مع» ساقطة من ق.
(3)
في المطبوع: «زيادة» . والصواب: «زيارة» كما في النسخ ورواية «سنن الأثرم» التي سبقت قريبًا.
وهما روايتان عن أحمد، والَّذين قالوا: لا تجزئ، قالوا: العمرة المشروعة الَّتي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلَها نوعان لا ثالثَ لهما: عمرة التَّمتُّع، وهي الَّتي أذِنَ فيها عند الميقات، وندَبَ إليها في أثناء الطَّريق، وأوجبها على من لم يسُقِ الهدي عند الصَّفا والمروة. الثَّانية: العمرة المفردة بسفرٍ يُنشأ لها
(1)
، كعُمَره المتقدِّمة، ولم يشرع عمرة مفردة غير هاتين، وفي كلتيهما المعتمرُ داخلٌ إلى مكَّة. وأمَّا عمرة الخارج إلى أدنى الحلِّ فلم تُشرع.
وأمَّا عمرة عائشة فكانت زيارةً محضةً، وإلَّا فعمرةُ قرانها قد أجزأتْ عنها بنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا دليلٌ على أنَّ عمرة القارن تُجزئ عن عمرة الإسلام، وهذا هو الصَّواب المقطوع به، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة:«يسعُكِ طوافك لحجِّك وعمرتك» ، وفي لفظٍ:«يجزئك»
(2)
، وفي لفظٍ:«يكفيك» . وقال: «دخلتِ العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة»
(3)
، وأمر كلَّ من ساق الهدي أن يقرِنَ بين الحجِّ والعمرة، ولم يأمر أحدًا ممَّن قرن معه وساق الهدي بعمرةٍ أخرى غير عمرة القران، فصحَّ إجزاء عمرة القارن عن عمرة الإسلام قطعًا، وباللَّه التَّوفيق.
فصل
وأمَّا موضع حيضها فهو بسَرِف بلا ريبٍ، وموضع طهرها قد اختُلف
(1)
ق: «ينشاها» .
(2)
من رواية مجاهد عند مسلم أيضًا (1211/ 133)، ولفظ «يكفيك» من رواية عطاء عند أبي داود (1897) وهي صحيحة.
(3)
رواه مسلم (1241) من حديث ابن عباس رضي الله عنه .
فيه، فقيل: بعرفة، هكذا روى مجاهد عنها
(1)
، وروى عروة عنها أنَّها أظلَّها يوم عرفة وهي حائضٌ
(2)
. ولا تَنافيَ بينهما، والحديثان صحيحان، وقد حملهما ابن حزمٍ على معنيين، فطُهْر عرفة هو الاغتسال للوقوف عنده، قال
(3)
: لأنَّها قالت: «تطهَّرت بعرفة» ، والتَّطهُّر
(4)
غير الطُّهر. قال: وقد ذكر القاسم يوم طهرها وأنَّه يوم النَّحر، وحديثه في «صحيح مسلم»
(5)
. قال: وقد اتَّفق القاسم وعروة على أنَّها كانت يوم عرفة حائضًا، وهما أقربُ النَّاس منها.
وقد روى أبو داود
(6)
: ثنا محمَّد بن إسماعيل
(7)
، ثنا حمَّاد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوافينَ هلالَ ذي الحجَّة
…
فذكرت الحديث، وفيه: فلمَّا كانت ليلة البطحاء طهُرتْ عائشة. وهذا إسنادٌ صحيحٌ، لكن قال ابن حزمٍ
(8)
: إنَّه حديثٌ منكرٌ، مخالفٌ لما روى هؤلاء كلُّهم عنها، وهو قوله:«إنَّها طهرتْ ليلة البطحاء» ، وليلة البطحاء كانت بعد يوم النَّحر بأربع ليالٍ، وهذا محالٌ، إلا أنَّنا لمَّا تدبَّرنا وجدنا هذه اللَّفظة ليست من كلام عائشة، فسقطَ التَّعلُّق بها، لأنَّها إنما هي
(1)
عند مسلم أيضًا (1211/ 133).
(2)
رواه البخاري (1783) ومسلم (1211/ 115) من رواية عروة عنها.
(3)
في «حجة الوداع» (ص 322).
(4)
ص، ج:«والتطهير» .
(5)
برقم (1211/ 120).
(6)
برقم (1778). وانظر: «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (3/ 464).
(7)
كذا في النسخ، وفي «سنن أبي داود» (1778):«موسى بن إسماعيل» ، وهو الصواب.
(8)
في «حجة الوداع» (ص 322).
ممَّن دون عائشة، وهي أعلمُ بنفسها. قال: وقد روى حديثَ حمَّاد بن سلمة هذا وُهَيبُ بن خالدٍ وحمَّاد بن زيدٍ، فلم يذكرا هذه اللَّفظة.
قلت: يتعيَّن تقديم حديث حمَّاد بن زيدٍ ومن معه على حديث حمَّاد بن سلمة لوجوهٍ:
أحدها: أنَّه أحفظُ وأثبتُ من حمَّاد بن سلمة.
الثَّاني: أنَّ حديثهم فيه إخبارها عن نفسها، وحديثه فيه الإخبار عنها.
الثَّالث: أنَّ الزُّهريَّ روى عن عروة عنها الحديث، وفيه:«فلم أزلْ حائضًا حتَّى كان يوم عرفة» ، وهذه الغاية هي الَّتي بيَّنها مجاهد والقاسم عنها، لكن مجاهد قال عنها
(1)
: «فتطهَّرت بعرفة» ، والقاسم قال:«يوم النَّحر» .
فصل
عُدنا إلى سياق حجَّته: فلمَّا كان بسَرِف قال لأصحابه: «من لم يكن معه هديٌ فأحبَّ أن يجعلها عمرةً فليفعل، ومن كان معه هديٌ فلا»
(2)
. وهذه رتبةٌ أخرى فوق رتبة التَّخيير عند الميقات، فلمَّا كان بمكَّة أمر أمرًا حتمًا من لا هديَ معه أن يجعلها عمرةً ويحلَّ من إحرامه، ومن معه هديٌ أن يقيم على إحرامه، ولم ينسخ
(3)
ذلك شيءٌ البتَّة، بل سأله سُراقة بن مالك عن هذه العمرة الَّتي أمرهم بالفسخ إليها، هل هي لعامهم ذلك أم للأبد؟ فقال: «بل
(1)
ق، ب، مب:«عنه» .
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
ص، ج:«يفسخ» .
للأبد، وإنَّ العمرة قد دخلتْ في الحجِّ إلى يوم القيامة»
(1)
.
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم الأمرَ بفسخ الحجِّ إلى العمرة أربعةَ عشر من الصحابة رضي الله عنهم، وأحاديثهم كلُّها صحاحٌ، وهم: عائشة وحفصة أُمَّا المؤمنين، وعليُّ بن أبي طالبٍ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، والبراء بن عازبٍ، وعبد الله بن عمر
(2)
، وأنس بن مالكٍ، وأبو موسى الأشعريُّ، وعبد الله بن عبَّاسٍ، وسَبْرة بن مَعبد الجُهني، وسُراقة بن مالك المُدْلِجي، ونحن نشير إلى هذه الأحاديث.
ففي «الصَّحيحين»
(3)
: عن ابن عبَّاسٍ: قدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحةَ
(4)
رابعةٍ مهلِّين بالحجِّ، فأمرهم أن يجعلوها عمرةً، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول اللَّه! أيُّ الحلِّ؟ قال: «حلٌّ كلُّه» .
وفي لفظٍ لمسلم
(5)
: «قدم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربعٍ خلونَ من العشر، وهم يلبُّون بالحجِّ، فأمرهم أن يجعلوها عمرةً» . وفي لفظٍ
(6)
: «وأمر أصحابه
(1)
رواه مسلم (1216/ 141) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
بعده في ص، ج، ك ترتيب الأسماء كما يلي:«وسبرة بن معبد الجهني، وسراقة بن مالك المدلجي، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس» . والمثبت من ق.
(3)
رواه البخاري (1564) ومسلم (1240/ 198).
(4)
ص، ج:«صبحة» .
(5)
برقم (1240/ 201).
(6)
عند مسلم أيضًا (1240/ 202).
أن يُحلّوا إحرامهم بعمرةٍ إلا من كان معه الهدي».
وفي «الصَّحيحين» عن جابر بن عبد اللَّه: أهلَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحجِّ، وليس مع أحدٍ منهم هديٌ غير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وطلحة، وقدم علي من اليمن ومعه هديٌ، فقال: أهللتُ بما أهلَّ به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرةً، ويطوفوا، ويقصِّروا، ويحلُّوا إلا من كان معه الهدي، قالوا: ننطلق إلى منًى وذَكَرُ أحدنا يقطُر. فبلغ ذلك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:«لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما أهديتُ، ولولا أنَّ معي الهديَ لأحللتُ»
(1)
.
وفي لفظٍ
(2)
: فقام فينا فقال: «قد علمتم أنِّي أتقاكم لله وأصدقُكم وأبرُّكم، ولولا هَدْيي لحللتُ كما تحلُّون، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لم أسُقِ الهدي، فحِلُّوا» فحللنا، وسمعنا وأطعنا.
وفي لفظٍ
(3)
: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا أحللنا أن نُحرِم إذا توجَّهنا إلى منًى. قال: فأهللنا من الأبطح. فقال سُراقة بن مالك بن جُعْشُم: يا رسول اللَّه! لعامنا هذا أم لأبدٍ؟ قال: «لأبدٍ» .
وهذه الألفاظ كلُّها في الصَّحيح، وهذا اللَّفظ الأخير صريحٌ في إبطال قول من قال: إنَّ ذلك كان خاصًّا بهم، فإنَّه حينئذٍ يكون لعامهم ذلك وحده لا للأبد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّه للأبد.
(1)
رواه البخاري (1651).
(2)
رواه البخاري (7367) ومسلم (1216/ 141).
(3)
رواه مسلم (1214/ 139).
وفي «المسند»
(1)
عن ابن عمر: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة وأصحابه مهلِّين بالحجِّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من شاء أن يجعلها عمرةً إلا من كان معه الهدي» . قالوا: يا رسول اللَّه! أيروحُ أحدنا إلى منًى وذَكَرُه يقطر منيًّا؟ قال: «نعم»
(2)
. وسَطَعت المجامِرُ.
وفي «السُّنن»
(3)
عن الربيع بن سَبْرة عن أبيه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى إذا كانَ
(4)
بعُسْفان قال له سُراقة بن مالك المُدْلِجي: يا رسول اللَّه، اقضِ لنا قضاءَ قومٍ كأنَّما وُلِدوا اليوم، فقال:«إنَّ الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجَّةٍ عمرةً، فإذا قدِمتم، فمن تطوَّف بالبيت وسعى بين الصَّفا والمروة فقد حلَّ إلا من كان معه هديٌ» .
وفي «الصَّحيحين» عن عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحجَّ
…
فذكرتِ الحديث، وفيه: فلمَّا قدِمتُ مكَّة قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اجعلوها عمرةً» ، فأحلَّ النَّاس إلا من كان معه الهدي
…
، وذكرت باقي الحديث
(5)
.
(1)
برقم (4822)، وصححه المصنف وأحمد شاكر في «تخريج المسند» (4/ 413) ومحققو المسند، وأعلَّ الألباني لفظة:«من شاء أن يجعلها عمرة» ؛ لتفرد حماد بن سلمة بها. انظر: «مسند أحمد» ط الرسالة (4822) و «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 26 - 31).
(2)
«قال نعم» ساقطة من ك.
(3)
لأبي داود برقم (1801)، والبيهقي (7/ 203)، وصححه الألباني وقال: صحيح على شرط مسلم. انظر: «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 59).
(4)
ق، ب، مب:«كنا» . والمثبت من بقية النسخ، وهو موافق لما في «السنن» .
(5)
هذا لفظ مسلم (1211/ 120).
وفي لفظٍ للبخاريِّ
(1)
: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا الحجَّ، فلمَّا قدِمنا تطوَّفنا بالبيت، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحلَّ، فحلَّ من لم يكن ساق الهديَ، ونساؤه لم يَسُقْن فأحللن.
وفي لفظٍ لمسلم
(2)
: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبانُ، فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النَّار. قال: «أوما شعرتِ أنِّي أمرتُ النَّاس بأمرٍ فإذا هم يتردَّدون، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما سقتُ الهدي معي حتَّى أشتريه، ثمَّ أَحِلَّ كما حلُّوا» .
وقال مالك
(3)
: عن يحيى بن سعيدٍ، عن عمرة، قالت: سمعتُ عائشة تقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليالٍ بقين لذي القعدة، ولا نرى إلا أنَّه الحجُّ، فلمَّا دنونا من مكَّة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هديٌ إذا طاف بالبيت وسعى بين الصَّفا والمروة أن يحلَّ. قال يحيى: فذكرتُ هذا الحديث للقاسم بن محمَّدٍ، فقال: أتتْك والله بالحديث على وجهه.
وفي «صحيح مسلم»
(4)
عن ابن عمر قال: حدَّثتني حفصة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللْن عامَ حجَّة الوداع، فقلت: ما منعك أن تحلَّ؟ قال: «إنِّي لبَّدتُ رأسي، وقلَّدتُ بَدَنَتي، فلا أحلُّ حتَّى أنحر الهدي» .
(1)
برقم (1561)، وهو أيضًا عند مسلم (1211/ 128).
(2)
برقم (1211/ 130).
(3)
في «الموطأ» (1167)، ورواه من طريقه البخاري (2952)، ورواه مسلم من طريق سليمان بن بلال (1211/ 125).
(4)
برقم (1229/ 179).
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن أسماء بنت أبي بكر: خرجنا محرِمين فقال رسول الله: «من كان معه هديٌ فليقُمْ على إحرامه، ومن لم يكن معه هديٌ فليحللْ» ، فحللتُ. وذكر
(2)
الحديث.
وفي «صحيح مسلم»
(3)
أيضًا عن أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرُخُ بالحجِّ صُراخًا، فلمَّا قدِمنا مكَّة أمرنا أن نجعلها عمرةً إلا من ساق الهدي. فلمَّا كان يوم التَّروية ورُحنا إلى منًى أهللنا بالحجِّ.
وفي «صحيح البخاريِّ»
(4)
عن ابن عبَّاسٍ قال: أهلَّ المهاجرون والأنصار وأزواجُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع وأهللنا، فلمَّا قدِمنا مكَّة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا إهلالكم بالحجِّ عمرةً إلا من قلَّد الهدي
…
»، وذكر الحديث.
وفي «السُّنن»
(5)
عن البراء بن عازبٍ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأحرمنا
(6)
بالحجِّ، فلمَّا قدِمنا مكَّة قال:«اجعلوا حجَّكم عمرةً» . فقال النَّاس: يا رسول اللَّه، قد أحرمنا بالحجِّ، فكيف نجعلها عمرةً؟ قال: «انظروا
(1)
برقم (1236/ 191).
(2)
كذا في النسخ بتذكير الفعل. والمرجع أحد الرواة وفي المطبوع: «وذكرت» .
(3)
برقم (1247).
(4)
برقم (1572).
(5)
ابن ماجه (2982)، ورواه أيضًا أحمد (18523)، وإسناده ضعيف لأجل عنعنة أبي إسحاق السبيعي واختلاطه، وبهذا أعله الألباني في «السلسلة الضعيفة» (4753).
(6)
«فأحرمنا» ليست في ك.
ما آمرُكم به فافعلوه»، فردُّوا
(1)
عليه القول، فغضب ثمَّ انطلق حتَّى دخل على عائشة غضبانَ، فرأتِ الغضبَ في وجهه، فقالت: من أغضبكَ أغضبه اللَّه، قال:«وما لي لا أغضبُ وأنا آمرُ أمرًا فلا أُتَّبَع» .
ونحن نُشهِد الله علينا أنَّا لو أحرمنا بحجٍّ لرأينا فرضًا علينا فسخَه إلى عمرةٍ، تفاديًا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتِّباعًا لأمره. فواللَّه ما نُسِخ هذا في حياته ولا بعده، ولا صحَّ حرفٌ واحدٌ يعارضه، ولا خصَّ به أصحابه دون من بعدهم، بل أجرى الله سبحانه على لسان سُراقة أن سأله: هل ذلك مختصٌّ بهم؟ فأجابه بأنَّ ذلك كائنٌ لأبد الأبد، فما ندري ما نقدِّم على هذه الأحاديث، وهذا الأمر المؤكَّد الذي قد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه.
وللَّه درُّ
(2)
الإمام أحمد إذ يقول لسلمة بن شَبِيْب، وقد قال له
(3)
: يا أبا عبد الله، كلُّ أمرك عندي حسنٌ إلا خلَّةً واحدةً، قال: وما هي؟ قال: تقول بفسخ الحجِّ إلى العمرة، فقال: يا سلمة! كنتُ أرى لك عقلًا، عندي في ذلك أحد عشر حديثًا صِحاحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتركُها لقولك؟!
(4)
وفي «السُّنن»
(5)
عن البراء بن عازبٍ: أنَّ عليًّا لمَّا قدِم على رسول الله
(1)
ق، ب، مب:«فرددوا» ، والمثبت من بقية النسخ موافق لما في المصادر.
(2)
«در» ليست في ج.
(3)
«وقد قال له» ليست في ص، ج.
(4)
رواه ابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» (1/ 168 - 169)
(5)
رواه أبو داود (1797)، في إسناده عنعنة أبي إسحاق السبيعي، ولكن للحديث شواهد تقويه منها حديث جابر رضي الله عنه، انظر:«صحيح أبي داود - الأم» (6/ 51).
- صلى الله عليه وسلم من اليمن، أدرك فاطمة وقد لبستْ ثيابًا صَبِيغًا، ونضحَتِ البيت بنَضُوحٍ
(1)
، فقال: ما لك؟ قالت: فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه فحَلُّوا.
وقال ابن أبي شيبة
(2)
: ثنا ابن فُضيلٍ، عن يزيد، عن مجاهد قال: قال عبد الله بن الزبير: أفرِدوا الحجَّ ودَعُوا قولَ أعماكم هذا. فقال عبد الله بن عبَّاسٍ: إنَّ الذي أعمى الله قلبه لأنت، ألا تسأل أمَّك عن هذا؟ فأرسلَ إليها، فقالت: صدق ابن عبَّاسٍ، جئنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجَّاجًا، فجعلناها عمرةً، فحللنا الإحلالَ كلَّه، حتَّى سَطعت المجامرُ بين الرِّجال والنِّساء.
وفي «صحيح البخاريِّ»
(3)
عن أبي شهابٍ
(4)
، قال: دخلتُ على عطاء أستفتيه، فقال: حدَّثني جابر بن عبد اللَّه أنَّه حجَّ مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ ساق البُدْنَ معه، وقد أهلُّوا بالحجِّ مفردًا، فقال لهم:«أحِلُّوا من إحرامكم بطوافٍ بالبيت وبين الصَّفا والمروة، وقَصِّروا، ثمَّ أقيموا حلالًا، حتَّى إذا كان يوم التَّروية فأهِلُّوا بالحجِّ، واجعلوا الَّتي قدِمتم بها متعةً» . فقالوا: كيف نجعلها متعةً وقد سمَّينا الحجَّ؟ فقال: «افعلوا ما أمرتُكم، فلولا أنِّي سقتُ الهدي لفعلتُ مثلَ الذي أمرتُكم، ولكن لا يحلُّ منِّي حرامٌ حتَّى يبلغ الهديُ محِلَّه» ، ففعلوا.
(1)
النضوح: نوع من الطيب تفوح رائحته.
(2)
رواه ابن حزم في «حجة الوداع» (ص 334) من طريقه بهذا التمام. وهو في «المصنف» (16034) و «المطالب العالية» (1184) دون جملة «ألا تسأل أمك عن هذا
…
» إلخ، ورواه أحمد (26917) بنحوه، وفي الإسناد يزيد بن أبي زياد متكلم فيه.
(3)
برقم (1568).
(4)
في النسخ: «ابن شهاب» ، والتصويب من «صحيح البخاري» ، واسمه موسى بن نافع الأسدي. انظر:«تهذيب الكمال» (29/ 158).
وفي «صحيحه»
(1)
أيضًا عنه: أهلَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحجِّ
…
وذكر الحديث وفيه: فأمر النَّبيُ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرةً، ويطوفوا ثمَّ يقصِّروا إلا من ساق الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منًى وذَكَرُ أحدِنا يقطُر؟ فبلغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:«لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما أهديتُ، ولولا أنَّ معي الهديَ لأحللتُ» .
وفي «صحيح مسلم»
(2)
عنه في حجَّة الوداع: حتَّى إذا قدِمنا مكَّة طُفنا بالكعبة وبالصَّفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلَّ منَّا من لم يكن معه هديٌ، قال: فقلنا: حلُّ ماذا؟ قال: الحلُّ كلُّه، فواقعنا النِّساء، وتطيَّبنا بالطِّيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربعُ ليالٍ، ثمَّ أهللنا يوم التَّروية.
وفي لفظٍ آخر لمسلم
(3)
: «فمن كان منكم ليس معه هديٌ فليحِلَّ، وليجعلْها عمرةً» ، فحلَّ النَّاس كلُّهم وقصَّروا، إلا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هديٌ، فلمَّا كان يوم التَّروية توجَّهوا إلى منًى، فأهلُّوا بالحجِّ.
وفي «مسند البزار»
(4)
بإسنادٍ صحيحٍ عن أنس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أهلَّ هو وأصحابه بالحجِّ والعمرة، فلمَّا قدِموا مكَّة طافوا بالبيت والصَّفا والمروة، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلُّوا، فهابوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أحِلُّوا، فلولا أنَّ معي الهدي لأحللتُ» ، فأحَلُّوا حتَّى حلُّوا إلى النِّساء.
(1)
برقم (1651) من حديث جابر رضي الله عنه .
(2)
برقم (1213/ 136).
(3)
برقم (1218/ 147) من حديث جابر رضي الله عنه .
(4)
برقم (6658)، وصححه المصنف.
وفي «صحيح البخاريِّ»
(1)
عن أنس قال: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظُّهر أربعًا، والعصرَ بذي الحُليفة ركعتين، ثمَّ بات بها حتَّى أصبح، ثمَّ ركب حتَّى استوت به راحلته على البيداء، حَمِد اللَّه وسبَّح ثمَّ أهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ، وأهلَّ النَّاس بهما، فلمَّا قدِمنا أمر النَّاس فحلُّوا، حتَّى إذا كان يوم التَّروية أهلُّوا بالحجِّ
…
وذكر باقي الحديث.
وفي «صحيحه»
(2)
عن أبي موسى قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي باليمن، فجئتُ وهو بالبطحاء، فقال:«بم أهللتَ؟» ، قلتُ: كإهلال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:«هل معك من هديٍ؟» قلت: لا، فأمرني فطفتُ بالبيت وبالصَّفا والمروة، ثمَّ أمرني فأحللتُ.
وفي «صحيح مسلم»
(3)
: أنَّ رجلًا قال لابن عبَّاسٍ: ما هذه الفتيا الَّتي قد تَشغَّبتْ بالنَّاس، أنَّ من طاف بالبيت فقد حلَّ؟ فقال: سنَّة نبيِّكم صلى الله عليه وسلم وإن رَغِمْتم.
وصدق ابن عبَّاسٍ، كلُّ من طاف بالبيت ممَّن لا هديَ معه من مفرِدٍ أو قارنٍ أو متمتِّعٍ، فقد حلَّ إمَّا وجوبًا، وإمَّا حكمًا. هذه هي السُّنَّة الَّتي لا رادَّ لها ولا مدفعَ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا أدبر النَّهارُ من هاهنا، وأقبل اللَّيلُ من هاهنا، فقد أفطر الصَّائم»
(4)
، إمَّا أن يكون المعنى: أفطر حكمًا، أو دخل وقت
(1)
برقم (1551).
(2)
برقم (1559).
(3)
برقم (1244/ 206).
(4)
تقدم تخريجه.
فطرِه، وصار الوقت في حقِّه وقت إفطارٍ. فهكذا هذا الذي قد
(1)
طاف بالبيت، إمَّا أن يكون قد حلَّ حكمًا، وإمَّا أن يكون ذلك الوقت في حقِّه ليس وقتَ إحرامٍ، بل هو وقت حلٍّ ليس إلَّا، ما لم يكن معه هديٌ. وهذا صريح السُّنَّة.
وفي «صحيح مسلم»
(2)
أيضًا عن عطاء قال: كان ابن عبَّاسٍ يقول: لا يطوف بالبيت حاجٌّ ولا غير حاجٍّ إلا حلَّ. وكان يقول بعد المعرَّف وقبله، وكان يأخذ ذلك من أمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حين أمرهم أن يحلُّوا في حجَّة الوداع.
وفي «صحيح مسلم»
(3)
عن ابن عبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «هذه عمرةٌ استمتعنا بها، فمن لم يكن معه هديٌ فليحلَّ الحلَّ كلَّه، فقد دخلت العمرة في الحجِّ إلى يوم القيامة» .
وقال عبد الرزاق
(4)
: ثنا معمر، عن قتادة، عن أبي الشعثاء، عن ابن عبَّاسٍ قال: من جاء مُهِلًّا بالحجِّ فإنَّ الطَّواف بالبيت يصيِّره إلى عمرةٍ، شاء أو أبى. قلت: إنَّ النَّاس ينكرون ذلك عليك، قال: هي سنَّة نبيِّهم
(5)
وإن رَغِموا.
وقد روى هذا عن النِّبيِّ صلى الله عليه وسلم من سمَّينا وغيرهم؛ وروى ذلك عنهم طوائفُ من كبار التَّابعين، حتَّى صار منقولًا نقلًا يرفع الشَّكَّ ويوجب اليقينَ،
(1)
«قد» ليست في ك.
(2)
برقم (1245).
(3)
برقم (1241).
(4)
رواه ابن حزم في «حجة الوداع» (ص 343) من طريقه.
(5)
ك: «نبيكم» .
ولا يمكن أحدًا أن ينكره أو يقول: لم يقع، وهو مذهب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومذهب حَبْر الأمَّة وبحرها ابن عبَّاسٍ وأصحابه، ومذهب أبي موسى الأشعريِّ، ومذهب إمام أهل السُّنَّة والحديث وأتباعه أحمد بن حنبلٍ، وأهل الحديث معه، ومذهب عبيد الله
(1)
بن الحسن العنبري قاضي البصرة، ومذهب أهل الظَّاهر
(2)
.
والَّذين خالفوا هذه الأحاديث لهم أعذارٌ:
العذر الأوَّل: أنَّها منسوخةٌ.
العذر الثَّاني: أنَّها مخصوصةٌ بالصَّحابة، لا يجوز لغيرهم مشاركتهم في حكمها.
العذر الثَّالث: معارضتها بما يدلُّ على خلاف حكمها.
هذا مجموع ما اعتذروا به عنها. ونحن نذكر هذه الأعذار عذرًا عذرًا، ونبيِّن ما فيها بمعونة الله وتوفيقه.
فأما العذر الأوَّل ــ وهو النَّسخ ــ فيحتاج إلى أربعة أمورٍ لم يأتوا منها بشيءٍ: إلى نصوصٍ أُخَر، ثم تكون تلك النُّصوص معارضةً لهذه، ثمَّ تكون مع المعارضة مقاومةً لها، ثمَّ يثبت تأخُّرها عنها.
قال المدَّعون للنَّسخ: قال عمر بن الخطاب السجستاني
(3)
: ثنا الفاريابي، ثنا أبان بن أبي حازم، قال: حدَّثني أبو بكر بن حفص، عن ابن
(1)
في المطبوع: «عبد الله» ، خطأ. انظر:«تهذيب التهذيب» (7/ 7).
(2)
انظر: «حجة الوداع» لابن حزم (ص 344).
(3)
ج، ص، ب، مب:«السختياني» . والمثبت من ق موافق لما في «حجة الوداع» (ص 359).
عمر، عن عمر بن الخطَّاب أنَّه قال لمَّا ولي: يا أيُّها النَّاس، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلَّ لنا المتعة ثمَّ حرَّمها علينا. رواه البزار في «مسنده»
(1)
عنه.
قال المستحبون للفسخ: عجبًا لكم في مقاومة الجبال الرَّواسي الَّتي لا تُزعزِعها الرِّياح بكثيبٍ مَهِيلٍ تَسْفِيه
(2)
الرِّياح يمينًا وشمالًا! فهذا الحديث لا سندَ ولا متنَ، أمَّا سنده فإنَّه لا تقوم به حجَّةٌ عند أهل الحديث، وأمَّا متنه فإنَّ المراد بالمتعة فيه متعة النِّساء الَّتي أحلَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ حرَّمها، لا يجوز فيه غير ذلك البتَّة لوجوهٍ:
أحدها: إجماع الأمَّة على أنَّ متعة الحجِّ غير محرَّمةٍ، بل إمَّا واجبةٌ، أو أفضلُ الأنساك على الإطلاق، أو مستحبَّةٌ، أو جائزةٌ، ولا نعلم للأمَّة قولًا خامسًا فيها بالتَّحريم.
الثَّاني: أنَّ عمر بن الخطَّاب صحَّ عنه من غير وجهٍ أنَّه قال: لو حججتُ لتمتَّعتُ، ثمَّ لو حججتُ لتمتَّعتُ. ذكره الأثرم في «سننه» وغيره.
وذكر عبد الرزاق في «مصنَّفه»
(3)
عن سالم بن عبد اللَّه أنَّه سُئل: أنهى عمر عن متعة الحجِّ؟ قال: لا، أبعدَ كتاب الله تعالى؟
وذكر
(4)
عن نافع أنَّ رجلًا قال له: أنهى عمر عن متعة الحجِّ؟ قال: لا.
(1)
برقم (183)، ورواه ابن ماجه (1963) من طريق محمد بن خلف العسقلاني عن الفريابي بنحوه، وصححه ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/ 154).
(2)
ص، ج، ك:«تنسفه» . والمثبت من ق، مب.
(3)
ليس في مطبوعته، ورواه ابن حزم في «حجة الوداع» من طريقه (ص 357).
(4)
المصدر نفسه.
وذكر أيضًا
(1)
عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: هذا الذي يزعمون أنَّه نهى عن المتعة
(2)
، يعني عمر، سمعته يقول: لو اعتمرتُ ثمَّ حججتُ لتمتَّعت.
قال ابن حزمٍ
(3)
: صحَّ عن عمر الرُّجوع إلى القول بالتَّمتُّع بعد النَّهي عنه، ومحالٌ أن يرجع إلى القول بما صحَّ عنده
(4)
أنَّه منسوخٌ.
الثَّالث: أنَّه من المحال أن ينهى عنها وقد قال لمن سأله: هل هي لعامهم ذلك أو للأبد؟ فقال: بل للأبد، وهذا قطعٌ لتوهُّمِ ورود النَّسخ عليها.
وهذا أحد الأحكام الَّتي يستحيل ورود النَّسخ عليها، وهو الحكم الذي أخبر الصَّادق المصدوق باستمراره ودوامه، فإنَّه لا خُلْفَ لخبره.
فصل
العذر الثَّاني: دعوى اختصاص ذلك بالصَّحابة، واحتجُّوا بوجوهٍ:
أحدها: ما رواه عبد الله بن الزُّبير الحميديُّ
(5)
، ثنا سفيان عن يحيى بن سعيدٍ، عن المرقّع، عن أبي ذر أنَّه قال: كان فسخُ الحجِّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا خاصَّةً.
وقال وكيعٌ
(6)
: ثنا موسى بن عُبيدة، ثنا يعقوب بن زيد، عن أبي ذر قال:
(1)
المصدر نفسه.
(2)
ك، ج:«متعة الحج» .
(3)
في «حجة الوداع» (ص 363).
(4)
ك: «عنه» .
(5)
في «مسنده» (132).
(6)
رواه من طريقه ابن حزم في «حجة الوداع» (410). وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي متكلم فيه.
لم يكن لأحدٍ بعدنا أن يجعل حجَّته في عمرة، إنَّها كانت رخصةً لنا أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقال البزار
(1)
: ثنا يوسف بن موسى، ثنا سلمة بن الفضل، ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن الأسدي، عن يزيد بن شريك، قلنا لأبي ذر: كيف تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم معه؟ قال: وما أنتم وذاك، إنَّما ذاك شيءٌ رُخِّص لنا فيه، يعني المتعة.
وقال البزار
(2)
: ثنا يوسف بن موسى، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن أبي بكر التيمي
(3)
، عن أبيه والحارث بن سُويدٍ قالا: قال أبو ذر في الحجِّ والمتعة: رخصةٌ أعطاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود
(4)
: ثنا هنَّاد بن السَّريِّ، عن ابن أبي زائدة، أبنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرَّحمن بن الأسود، عن سليمان
(5)
أو سُلَيم بن الأسود أنَّ أبا ذر كان يقول فيمن
(6)
حجَّ ثمَّ فسخها عمرةً: لم يكن ذلك إلا للرَّكْب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
في «مسنده» (4001). كذا في النسخ: «الأسدي» والصواب: «بن الأسود» .
(2)
برقم (4002)، وفي إسناده إبراهيم بن مهاجر البجلي متكلم فيه.
(3)
في «مسند البزار» : «إبراهيم التيمي» .
(4)
برقم (1807). وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد عنعن.
(5)
ك، ص، ج:«سلمان» . والمثبت من ق، مب. ولا يوجد ذكره عند أبي داود. وليس في رجال الستة من اسمه: سلمان أو سليمان بن الأسود.
(6)
في جميع النسخ: «من» . والمثبت من «السنن» .
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن أبي ذر قال: كانت المتعة في الحجِّ لأصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خاصَّةً. وفي لفظٍ
(2)
: كانت لنا رخصةً، يعني المتعة في الحجِّ. وفي لفظٍ آخر
(3)
: لا تصلحُ المتعتان إلا لنا خاصَّةً، يعني متعة النِّساء ومتعة الحجِّ. وفي لفظٍ آخر
(4)
: إنَّما كانت لنا خاصَّةً دونكم، يعني متعة الحجِّ.
وفي «سنن النَّسائيِّ»
(5)
بإسنادٍ صحيحٍ عن إبراهيم التَّيميِّ، عن أبيه، عن أبي ذر في متعة الحجِّ: ليست لكم، ولستم منها في شيءٍ، إنَّما كانت رخصةً لنا أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي «سنن أبي داود والنَّسائيِّ»
(6)
من حديث بلال بن الحارث قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ فسخَ الحجِّ في العمرة لنا خاصَّةً أم للنَّاس عامَّةً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بل لنا خاصَّةً» . ورواه الإمام أحمد.
وفي «سنن أبي داود»
(7)
بإسنادٍ صحيحٍ عن إبراهيم التَّيميِّ، عن أبيه قال:
(1)
برقم (1224/ 160).
(2)
برقم (1224/ 161).
(3)
برقم (1224/ 162).
(4)
برقم (1224/ 163).
(5)
برقم (2810).
(6)
أبو داود (1808) والنسائي (2808)، ورواه ابن ماجه (2984)، وضعَّفه الإمام أحمد ببلال بن الحارث. انظر:«مسائل أحمد رواية أبي داود» ص 408) و «مسائل أحمد رواية ابنه صالح» (3/ 114) و «السلسلة الضعيفة» (1003).
(7)
كذا في النسخ، وصوّبه في المطبوع بـ «مسند أبي عوانة» ، ولا يوجد الأثر فيهما. ورواه ابن حزم في «حجة الوداع» (ص 363) من طريق أبي عوانة عن معاوية بن إسحاق عن إبراهيم التيمي به. وأبو عوانة هذا ليس صاحب المسند أو المستخرج، بل هو الوضاح بن عبد الله اليشكري، فأخطأ من توهم أنه في «مسند أبي عوانة» . والأثر عزاه شيخ الإسلام في «شرح العمدة» (4/ 328) إلى سعيد بن منصور. وانظر التعليق عليه.
سئل عثمان عن متعة الحجِّ، فقال: كانت لنا، ليست لكم.
هذا مجموع ما استدلُّوا به على التَّخصيص بالصَّحابة.
قال المجوِّزون للفسخ والموجبون له: لا حجَّةَ لكم في شيءٍ من ذلك، فإنَّ هذه الآثار بين باطلٍ لا يصحُّ عمَّن نُسِب إليه البتَّة، وبين صحيحٍ عن قائلٍ غير معصومٍ لا تُعارَضُ به نصوصُ المعصوم.
أمَّا الأوَّل: فإنَّ المرقّع ليس ممَّن تقوم بروايته حجَّةٌ، فضلًا عن أن يُقدَّم على النُّصوص الصَّحيحة غير المرقَّعة
(1)
. قال أحمد بن حنبلٍ ــ وقد عورض بحديثه ــ: ومن المرقَّع الأسدي؟ وقد روى أبو ذر
(2)
عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخ الحجِّ إلى العمرة. وغاية ما نُقل عنه ــ إن صحَّ ــ أنَّ
(3)
ذلك مختصٌّ بالصَّحابة فهو رأيه. وقد قال ابن عبَّاسٍ وأبو موسى الأشعريُّ: إنَّ ذلك عامٌّ للأمَّة. فرأيُ أبي ذر معارضٌ برأيهما، وسَلِمت النُّصوص الصَّحيحة الصَّريحة.
(1)
كذا في النسخ، ولا غبار عليه، وغيَّره في المطبوع بـ «المدفوعة» .
(2)
ق، ص:«أبو داود» . والمثبت من ك، ج.
(3)
«أن» ليست في ك.
ثمَّ من المعلوم أنَّ دعوى الاختصاص باطلةٌ بنصِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ تلك العمرة الَّتي وقع السُّؤال عنها وكانت عمرةَ فسخٍ لأبدِ الأبد، لا تختصُّ بقرنٍ دون قرنٍ، وهذا أصحُّ سندًا من المرويِّ عن أبي ذر، وأولى أن يؤخذ به منه لو صحَّ عنه.
وأيضًا، فإذا رأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمرٍ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه فعله أو أمر به، فقال بعضهم: هو منسوخٌ أو خاصٌّ، وقال بعضهم: هو باقٍ إلى الأبد، فقول من ادَّعى نسخَه أو اختصاصه مخالفٌ للأصل، فلا يُقبل إلا ببرهانٍ، وأقلُّ ما في الباب معارضتُه بقول من ادَّعى بقاءه وعمومه، والحجَّة تَفصِل بين المتنازعين، والواجب الردُّ عند التَّنازع إلى الله ورسوله. فإذا قال أبو ذر وعثمان: إنَّ الفسخ منسوخٌ أو خاصٌّ، وقال أبو موسى وعبد الله بن عبَّاسٍ: إنَّه باقٍ وحكمه عامٌّ، فعلى من ادَّعى النَّسخ والاختصاصَ الدَّليلُ.
وأمَّا حديثه المرفوع ــ حديث بلال بن الحارث ــ فحديثٌ لا يثبت
(1)
، ولا يُعارَض بمثله
(2)
تلك الأساطين الثَّابتة.
قال عبد الله بن أحمد
(3)
: كان أبي يرى للمهلِّ بالحجِّ أن يفسخ حجَّه إذا طاف بالبيت وبين الصَّفا والمروة. وقال في المتعة: هو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا حجَّكم عمرةً» . قال عبد الله: فقلت لأبي:
(1)
في المطبوع: «لا يكتب» خلاف النسخ.
(2)
ك: «به» .
(3)
رواه من طريقه ابن حزم في «حجة الوداع» (ص 371)، ولم أجد في «مسائله» (ص 204) إلا فقرة منه، وانظر:«شرح العمدة» (4/ 349).
فحديث بلال بن الحارث في فسخ الحجِّ، يعني قوله لنا خاصَّةً؟ قال: لا أقول به، لا يُعرَف هذا الرَّجل، هذا حديثٌ ليس إسناده بالمعروف، ليس حديث بلال بن الحارث عندي يثبت. هذا لفظه.
قلت: وممَّا يدلُّ على صحَّة قول الإمام أحمد وأنَّ هذا الحديث لا يصحُّ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر عن تلك المتعة الَّتي أمرهم أن يفسخوا حجَّهم إليها أنَّها لأبدِ الأبد، فكيف يثبت عنه بعد هذا أنَّها لهم خاصَّةً؟ هذا من أمحل
(1)
المحال. وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول: «دخلت العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة» ، ثمَّ يثبت عنه أنَّ ذلك مختصٌّ بالصَّحابة دون من بعدهم؟ فنحن نشهد بالله أنَّ حديث بلال بن الحارث هذا لا يصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غلطٌ عليه. وكيف تُقدَّم رواية بلال بن الحارث على روايات الثِّقات الأثبات حملةِ العلم الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافَ روايته؟
ثمَّ كيف يكون هذا ثابتًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عبَّاسٍ يفتي بخلافه، ويناظر عليه طولَ عمره بمشهدٍ من الخاصِّ والعامِّ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، ولا يقول له رجلٌ واحدٌ منهم: هذا كان مختصًّا بنا ليس لغيرنا، حتَّى يظهر بعد موت الصَّحابة أنَّ أبا ذر كان يرى ويروي
(2)
اختصاصَ ذلك بهم؟
وأمَّا قول عثمان رضي الله عنه في متعة الحجِّ: إنَّها كانت لهم ليست لغيرهم، فحكمه حكم قول أبي ذر سواءٌ على أنَّ المرويَّ عن أبي ذر وعثمان يحتمل ثلاثة أمورٍ:
(1)
«أمحل» ليست في ق، ك، ب، مب.
(2)
«ويروي» ليست في المطبوع.
أحدها: اختصاص جواز ذلك بالصَّحابة، وهو الذي فهمه من حرَّم الفسخ.
الثَّاني: اختصاص وجوبه بالصَّحابة، وهو الذي كان يراه شيخنا قدَّس الله روحه، يقول
(1)
: إنَّهم كانوا فرضًا
(2)
عليهم الفسخُ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم به، وحَتْمه عليهم، وغضبه عندما توقَّفوا في المبادرة إلى امتثاله، وأمَّا الجواز والاستحباب فللأمَّة إلى يوم القيامة. لكن أبى ذلك البحر ابن عبَّاسٍ، وجعل الوجوب للأمَّة إلى يوم القيامة، وأنَّ فرضًا على كلِّ مفردٍ وقارنٍ لم يسُقِ الهدي أن يحلَّ ولا بدَّ، بل قد حلَّ وإن لم يشأ. وأنا إلى قوله أميلُ منِّي إلى قول شيخنا.
الاحتمال الثَّالث: أنَّه ليس لأحدٍ بعد الصَّحابة أن يبتدئ حجًّا مفردًا أو قارنًا بلا هديٍ، يحتاج معه إلى الفسخ، لكنْ فرضٌ عليه أن يفعل ما أمر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في آخر الأمر من التَّمتُّع لمن لم يسق الهدي، والقران لمن ساق، كما صحَّ عنه ذلك. وأمَّا أن يُحرِم بحجٍّ مفردٍ، ثمَّ يفسخه عند الطَّواف إلى عمرةٍ مفردةٍ، ويجعله متعةً= فليس له ذلك، بل هذا إنَّما كان للصَّحابة، فإنَّهم ابتدؤوا الإحرام بالحجِّ المفرد قبل أمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالتَّمتُّع والفسخ إليه، فلمَّا استقرَّ أمره بالتَّمتُّع والفسخ إليه لم يكن لأحدٍ أن يخالفه ويفرِد ثمَّ يفسخه.
وإذا تأمَّلتَ هذين الاحتمالين الأخيرين رأيتهما إمَّا راجحين على
الاحتمال الأوَّل، أو مساويينِ له، فسقط معارضة الأحاديث الثَّابتة الصَّريحة به جملةً، وباللَّه التَّوفيق.
وأمَّا ما رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي ذر: أنَّ المتعة في الحجِّ كانت لهم خاصَّةً، فهذا إن أريد به أصل المتعة فهذا لا يقول به أحدٌ من المسلمين، بل المسلمون متَّفقون على جوازها إلى يوم القيامة. وإن أريد متعة الفسخ احتمل الوجوه الثَّلاثة المتقدِّمة.
قال الأثرم في «سننه»
(1)
: ذكر لنا أحمد بن حنبلٍ أنَّ عبد الرحمن بن مهديٍّ حدَّثه عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التَّيميِّ، عن أبيه
(2)
، عن أبي ذر في متعة الحجِّ: كانت لنا خاصَّةً. فقال أحمد بن حنبلٍ: رحم الله أبا ذر، هي في كتاب الله عز وجل:{أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى} [البقرة: 196].
قال المانعون من الفسخ: قول أبي ذر وعثمان: إنَّ ذلك منسوخٌ أو خاصٌّ بالصَّحابة، لا يقال مثله بالرَّأي، فمع قائله زيادةُ علمٍ خفيتْ على من ادَّعى بقاءه وعمومه، فإنَّه مستصحبٌ لحال النَّصِّ بقاءً وعمومًا، فهو بمنزلة صاحب اليد في العين المدَّعاة، ومدِّعي نسخه أو اختصاصه بمنزلة صاحب البيِّنة الذي يُقدَّم على صاحب اليد.
قال المجوِّزون للفسخ: هذا قولٌ فاسدٌ لا شكَّ فيه، بل هذا رأيٌ لا شكَّ فيه، وقد صرَّح بأنَّه رأيُ مَن هو أعظم من عثمان وأبي ذر: عمرانُ بن
(1)
رواه ابن حزم من طريقه في «حجة الوداع» (ص 371).
(2)
«عن أبيه» ساقطة من المطبوع.
حُصينٍ، ففي «الصَّحيحين»
(1)
ــ واللَّفظ للبخاريِّ ــ: تمتَّعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال رجلٌ برأيه ما شاء.
ولفظ مسلم
(2)
: نزلت آية المتعة في كتاب الله عز وجل، يعني متعة الحجِّ، وأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ لم تنزل آيةٌ تنسخ متعة الحجِّ، ولم ينهَ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى مات. قال رجلٌ برأيه ما شاء. وفي لفظٍ
(3)
: يريد عمر.
وقال عبد الله بن عمر لمن سأله عنها وقال له إنَّ أباك نهى عنها: أفرسولُ
(4)
الله صلى الله عليه وسلم أحقُّ أن يُتَّبع أو أبي؟
(5)
.
وقال ابن عبَّاسٍ لمن كان يعارضه فيها بأبي بكر وعمر: يُوشِك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السَّماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون
(6)
: قال أبو بكر وعمر!
(7)
.
(1)
رواه البخاري (1571) ومسلم (1226/ 170) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما .
(2)
برقم (1226/ 172).
(3)
برقم (1226/ 166).
(4)
في المطبوع: «أأمر رسول» . والمثبت من النسخ كما في «مسند أحمد» (5700) والبيهقي (5/ 21).
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
ك، ج:«وتقولوا» .
(7)
لم أجده بهذا اللفظ، وقد ذكره شيخ الإسلام في «الفتاوى» (20/ 215، 26/ 50، 281) والمؤلف في «الصواعق المرسلة» (3/ 1063). وسيأتي بلفظ آخر يخرج هناك.
فهذا جواب العلماء، لا جواب من يقول عثمان وأبو ذر أعلمُ برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فهلَّا قال ابن عبَّاسٍ وعبد الله بن عمر: أبو بكر وعمر أعلمُ برسول الله صلى الله عليه وسلم منَّا، ولم يكن أحدٌ من الصَّحابة ولا من التَّابعين يرضى بهذا الجواب في دفع نصٍّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا أعلمَ بالله ورسوله وأتقى له من أن يقدِّموا على قول المعصوم رأيَ غير المعصوم. ثمَّ قد ثبت النَّصُّ عن المعصوم بأنَّها باقيةٌ إلى يوم القيامة، وقد قال ببقائها: عليُّ بن أبي طالبٍ، وسعد بن أبي وقَّاصٍ، وابن عمر، وابن عبَّاسٍ، وأبو موسى، وسعيد بن المسيَّب، وجمهور التَّابعين
(1)
.
ويدلُّ على أنَّ ذلك رأيٌ محضٌ لا يُنسَب إلى أنَّه مرفوعٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لمَّا نهى عنها قال له أبو موسى الأشعريُّ: يا أمير المؤمنين! ما أحدثتَ في شأن النُّسك؟ فقال: إن نأخذ بكتاب ربِّنا فإنَّ الله يقول: {(195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وإن نأخذ بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحلَّ حتَّى نحر. فهذا اتِّفاقٌ من أبي موسى وعمر على
(2)
أنَّ منع الفسخ إلى المتعة أو الإحرام بها ابتداءً إنَّما هو رأيٌ منه أحدثَه في النُّسك، ليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن استدلَّ له بما استدلَّ. وأبو موسى كان يفتي النَّاس بالفسخ في خلافة أبي بكر كلِّها، وصدرًا من خلافة عمر، حتَّى فاوض عمر في نهيه عن ذلك، واتَّفقا على أنَّه رأيٌ أحدثه عمر في النُّسك، ثمَّ صحَّ عنه الرُّجوعُ عنه.
(1)
انظر: «حجة الوداع» لابن حزم عند حديث (425).
(2)
ص: «وعلي» ، خطأ.
فصل
وأمَّا العذر الثَّالث، وهو معارضة أحاديث الفسخ بما يدلُّ على خلافها، فذكروا منها ما رواه مسلم في «صحيحه»
(1)
من حديث الزُّهريِّ عن عروة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع، فمنَّا من أهلَّ بعمرةٍ، ومنَّا من أهلَّ بحجٍّ، حتَّى قدِمنا مكَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أحرم بعمرةٍ ولم يُهْدِ فليحللْ، ومن أحرم بعمرةٍ وأهدى فلا يحلَّ حتَّى ينحر هديه، ومن أهلَّ بحجٍّ فليتمَّ حجَّه» ، وذكر باقي الحديث.
ومنها: ما رواه في «صحيحه»
(2)
أيضًا من حديث مالك عن أبي الأسود، عن عروة عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ حجَّة الوداع، فمنَّا من أهلَّ بعمرةٍ، ومنَّا من أهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ
(3)
، ومنَّا من أهلَّ بالحجِّ، وأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ، فأمَّا من أهلَّ بعمرةٍ فحلَّ، وأمَّا من أهلَّ بحجٍّ أو جمع الحجَّ والعمرة فلم يحلُّوا حتَّى كان يوم النَّحر.
ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة
(4)
، قال: ثنا محمَّد بن بِشرٍ العبديُّ، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة، قال: حدَّثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للحجِّ على ثلاثة أنواعٍ: فمنَّا من أهلَّ بعمرةٍ وحجَّةٍ، ومنَّا من أهلَّ بحجٍّ مفردٍ، ومنَّا من أهلَّ بعمرةٍ مفردةٍ، فمن كان أهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ معًا لم يحلِلْ من شيءٍ ممَّا حَرُم منه حتَّى يقضي
(1)
برقم (1211/ 112).
(2)
برقم (1211/ 118).
(3)
«ومنا من أهل بحج وعمرة» ساقطة من ك.
(4)
رواه من طريقه ابن ماجه (3075) وابن حزم في «حجة الوداع» (386).
مناسك الحجِّ، ومن أهلَّ بحجٍّ مفردٍ لم يحلِلْ من شيءٍ ممَّا حرم منه حتَّى يقضي مناسك الحجِّ، ومن أهلَّ بعمرةٍ مفردةٍ فطاف بالبيت وبالصَّفا والمروة حلَّ ممَّا حرم منه حتَّى يستقبل حجًّا.
ومنها: ما رواه مسلم في «صحيحه»
(1)
من حديث ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن محمد بن نوفل: أنَّ رجلًا من أهل العراق قال له: سَلْ لي عروة بن الزُّبير عن رجلٍ أهلَّ بالحجِّ، فإذا طاف بالبيت أيحلُّ أم لا؟ فإن قال لك: لا يحل،
…
فذكر الحديث. وفيه: قد حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرتني عائشة أنه أوَّل شيءٍ بدأ به حين قدم مكَّة أنَّه توضَّأ فطاف بالبيت. ثمَّ حجَّ أبو بكر، فكان أوَّل شيءٍ بدأ به الطَّواف بالبيت، ثمَّ لم تكن عمرةٌ. ثمَّ عمر مثل ذلك، ثمَّ حجَّ عثمان، فرأيته أوَّل شيءٍ بدأ به الطَّواف بالبيت، ثمَّ لم تكن عمرةٌ. ثمَّ معاوية وعبد الله بن عمر. ثمَّ حججتُ مع أبي الزُّبير بن العوَّام، فكان أوَّل شيءٍ بدأ به الطَّواف بالبيت، ثمَّ لم تكن عمرةٌ. ثمَّ رأيتُ المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثمَّ لم تكن عمرةٌ. ثمَّ آخر من رأيتُ فعلَ ذلك ابن عمر، ثمَّ لم ينقُضْها بعمرةٍ، فهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه؟ ولا أحدٌ ممَّن مضى ما كانوا يبدؤون بشيءٍ حين يضعون أقدامَهم أوَّلَ من الطَّواف بالبيت، ثمَّ لا يحلُّون. وقد رأيتُ أمِّي وخالتي حين تَقدَمانِ لا تبدآنِ بشيءٍ أوَّلَ من البيت، تطوفان به ثمَّ لا تحلَّان.
فهذا مجموع ما عارضوا به أحاديث الفسخ، ولا معارضةَ فيها بحمد الله ومنِّه.
(1)
برقم (1235).
أمَّا الحديث الأوَّل ــ وهو حديث الزُّهريِّ عن عروة عن عائشة ــ فغلِطَ فيه عبد الملك بن شعيب، أو أبوه شعيب، أو جدُّه الليث، أو شيخه عُقَيل، فإنَّ الحديث قد رواه مالك ومعمر والنَّاس عن الزُّهريِّ عن عروة عنها، وبيَّنوا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هديٌ إذا طاف وسعى أن يحلَّ:
فقال مالك عن يحيى بن سعيدٍ عن عَمرة عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليالٍ بقين لذي القعدة، ولا نرى إلا الحجَّ، فلمَّا دنونا من مكَّة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن لم يكن معه هديٌ إذا طاف بالبيت وسعى بين الصَّفا والمروة أن يحلَّ، وذكر الحديث. قال يحيى: فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمَّدٍ، فقال: أتتْك والله بالحديث على وجهه
(1)
.
وقال منصور عن إبراهيم عن الأسود عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا الحجَّ، فلمَّا قدِمنا تطوَّفنا بالبيت، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَن لم يكن ساق الهدي أن يحلَّ، فحلَّ من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يَسُقْن فأحللن
(2)
.
وقال مالك ومعمر كلاهما عن ابن شهابٍ عن عروة عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ حجَّة الوداع فأهللنا بعمرةٍ، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من كان معه هديٌ فليهللْ بالحجِّ مع العمرة، ولا يحلَّ حتَّى يحلَّ منهما جميعًا»
(3)
.
وقال ابن شهابٍ عن عروة عنها، بمثل الذي أخبره سالم عن أبيه عن
(1)
رواه البخاري (1709) من طريق مالك.
(2)
رواه البخاري (1561) ومسلم (1211/ 128).
(3)
رواه مسلم (1211/ 111، 113) من طريقهما.
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. ولفظه: تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع بالعمرة إلى الحجِّ وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحُليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعمرة ثمَّ أهلَّ بالحجِّ، فتمتَّع النَّاس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحجِّ، وكان من النَّاس من أهدى فساق معه الهدي، ومنهم من لم يُهدِ. فلمَّا قدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم[مكَّة]
(1)
قال للنَّاس: «من كان منكم أهدى فإنَّه لا يحلُّ من شيءٍ حَرُمَ منه حتَّى يقضي حجَّه، ومن لم يكن أهدى فليطُفْ بالبيت وبالصَّفا والمروة، وليقصِّر وليحلِلْ، ثمَّ ليهلَّ بالحجِّ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيَّامٍ في الحجِّ وسبعةٍ إذا رجع إلى أهله» ، وذكر باقي الحديث
(2)
.
وقال عبد العزيز الماجشون عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحجَّ
…
فذكر الحديث. وفيه: قالت: فلمَّا قدمتُ مكَّة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اجعلوها عمرةً» ، فأحلَّ النَّاس إلا من كان معه الهدي
(3)
.
وقال الأعمش عن إبراهيم عن عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحجَّ، فلمَّا قدِمنا أمرنا أن نحلَّ،
…
وذكر الحديث
(4)
.
وقال عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نذكر إلا الحجَّ، فلمَّا جئنا سَرِفَ طمِثْتُ. قالت: فدخل عليَّ
(1)
الزيادة من مصادر التخريج، وليست في النسخ.
(2)
رواه البخاري (1691) ومسلم (1227/ 174).
(3)
رواه مسلم (1211/ 120).
(4)
رواه البخاري (1772).
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قال:«ما يبكيك؟» ، قالت: فقلت: والله لوددتُ أن لا أحجَّ العامَ
…
، فذكر الحديث. وفيه: فلمَّا قدِمنا مكَّة قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها عمرةً» ، قالت: فحلَّ النَّاس إلا من كان معه الهدي
(1)
.
وكلُّ هذه الألفاظ في «الصَّحيح» ، وهذا موافقٌ لما رواه جابر، وابن عمر، وأنس، وأبو موسى، وابن عبَّاسٍ، وأبو سعيد، وأسماء، والبراء، وحفصة، وغيرهم من أَمْره صلى الله عليه وسلم أصحابه كلَّهم بالإحلال إلا من ساق الهدي، وأن يجعلوا حجَّهم عمرةً. وفي اتِّفاق هؤلاء كلِّهم على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه كلَّهم أن يحلُّوا، وأن يجعلوا الذي قدِموا به متعةً إلا من ساق الهدي= دليلٌ على غلطِ هذه الرِّواية ووهمٍ وقع فيها، يبيِّن ذلك أنَّها من رواية الليث عن عُقيل عن الزُّهريِّ عن عروة، والليث نفسه هو الذي روى
(2)
عن عُقيل عن الزُّهريِّ عن عروة عنها مثل ما رواه عن الزُّهريِّ عن سالم عن أبيه في تمتُّع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأمرِه مَن لم يكن أهدى أن يحلَّ.
ثمَّ تأمَّلنا، فإذا أحاديث عائشة يصدِّق بعضها بعضًا، وإنَّما بعض الرُّواة زاد على بعضٍ، وبعضهم اختصر الحديث، وبعضهم اقتصر على بعضه، وبعضهم رواه بالمعنى. والحديث المذكور ليس فيه منعُ من أهلَّ بالحجِّ من الإحلال، وإنَّما فيه أمره أن يتمَّ الحجَّ. فإن كان هذا محفوظًا والمراد به بقاؤه على إحرامه، فيتعيَّن أن يكون هذا قبل الأمر بالإحلال وجَعْلِه عمرةً، ويكون هذا أمرًا زائدًا قد طرأ على الأمر بالإتمام، كما طرأ على التَّخيير بين الإفراد والتَّمتُّع والقران، ويتعيَّن هذا ولا بدَّ، وإلَّا كان هذا ناسخًا للأمر بالفسخ،
(1)
رواه مسلم (1211/ 120).
(2)
ص: «يروي» .
والأمر بالفسخ ناسخًا للإذن في الإفراد
(1)
، وهذا محالٌ قطعًا، فإنَّه بعد أن أمرهم بالحلِّ لم يأمرهم بنقضه والبقاءِ على الإحرام الأوَّل، هذا باطلٌ قطعًا، فتعيَّن إن كان محفوظًا أن يكون قبل الأمر لهم بالفسخ، لا يجوز غير هذا البتَّة، والله أعلم.
فصل
وأمَّا حديث أبي الأسود عن عروة عنها، وفيه:«وأمَّا من أهلَّ بحجٍّ أو جمعَ الحجَّ والعمرة، فلم يحلُّوا حتَّى كان يوم النَّحر» . وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها: «فمن كان أهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ معًا، لم يحلِلْ من شيءٍ ممَّا حرم منه حتَّى يقضي مناسك الحجِّ، ومن أهلَّ بحجٍّ مفردٍ كذلك» = فحديثان قد أنكرهما الحفَّاظ، وهما أهلٌ أن يُنكَرا.
قال الأثرم
(2)
: حدَّثنا أحمد بن حنبلٍ، قال: حدَّثنا عبد الرَّحمن بن مهديٍّ، عن مالك بن أنسٍ، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنَّا من أهلَّ بالحجِّ، ومنَّا من أهلَّ بالعمرة، ومنَّا من أهلَّ بالحجِّ والعمرة، وأهلَّ بالحجِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمَّا من أهلَّ بالعمرة فأحَلُّوا حين طافوا بالبيت وبالصَّفا والمروة، وأمَّا من أهلَّ بالحجِّ والعمرة، فلم يحلُّوا إلى يوم النَّحر. فقال أحمد بن حنبلٍ: أيش في هذا الحديث من العجب! هذا خطأٌ. قال الأثرم: فقلت له: الزُّهريُّ عن عروة عن عائشة بخلافه؟ فقال: نعم، وهشام بن عروة.
(1)
في المطبوع: «بالإفراد» . والمثبت كما في النسخ.
(2)
رواه ابن حزم من طريقه في «حجة الوداع» (ص 348).
وقال الحافظ أبو محمَّد بن حزمٍ
(1)
: هذان حديثان منكرانِ جدًّا. قال: ولأبي الأسود في هذا النَّحو حديثٌ لا خفاءَ بنَكَرته ووَهَنِه وبطلانه، والعجب كيف جاز على من رواه؟ ثمَّ ساق من طريق البخاريِّ
(2)
عنه أنَّ عبد الله مولى أسماء حدَّثه أنَّه كان يسمع أسماء بنت أبي بكر الصديق تقول كلَّما مرَّت بالحَجُون: صلَّى الله على رسوله، لقد نزلنا معه هاهنا ونحن يومئذٍ خِفافٌ، قليلٌ ظهرُنا، قليلةٌ أزوادنا، فاعتمرتُ أنا وأختي عائشة والزبير وفلانٌ وفلانٌ، فلمَّا مسحنا البيتَ أحللنا، ثمَّ أهللنا من العشيِّ بالحجِّ.
قال
(3)
: وهذه وَهْلةٌ لا خفاءَ بها على أحدٍ ممَّن له أقلُّ علمٍ بالحديث، لوجهين باطلين منه
(4)
بلا شكٍّ:
أحدهما: قوله: «فاعتمرتُ أنا وأختي عائشة» ، ولا خلافَ بين أحدٍ من أهل النَّقل في أنَّ عائشة لم تعتمر أوَّلَ دخولها مكَّة، ولذلك
(5)
أعمرَها من التَّنعيم بعد تمام الحجِّ ليلةَ الحصبة، هكذا رواه جابر بن عبد اللَّه، ورواه عن عائشة الأثباتُ: كأبي الأسود
(6)
، وابن أبي مُليكة، والقاسم بن محمَّدٍ،
(1)
في «حجة الوداع» (ص 348).
(2)
برقم (1796).
(3)
أي ابن حزم في المصدر السابق (ص 349).
(4)
كذا في النسخ. وفي المصدر السابق: «فيه» .
(5)
ك: «وكذلك» .
(6)
كذا في جميع النسخ، وهو خطأ، والصواب:«الأسود بن يزيد» كما في «حجة الوداع» (ص 349). وروايته عن عائشة عند البخاري (1561، 1762) ومسلم (1211/ 128).
وعروة، وطاوس، ومجاهد.
الموضع الثَّاني: قوله فيه: «فلمَّا مَسَحْنا البيتَ أحللنا، ثمَّ أهللنا من العشيِّ بالحجِّ» ، وهذا باطلٌ لا شكَّ فيه؛ لأنَّ جابرًا وأنس بن مالكٍ وابن عبَّاس وعائشة، كلَّهم رووا أنَّ الإحلال كان يومَ دخولهم مكَّة، وأنَّ إهلالهم
(1)
بالحجِّ كان يوم التَّروية، وبين اليومين المذكورين ثلاثة أيَّامٍ بلا شكٍّ.
قلت: الحديث ليس بمنكرٍ ولا باطلٍ، وهو صحيحٌ، وإنَّما أُتي أبو محمد رحمه الله فيه من فهمه، فإنَّ أسماء أخبرتْ أنَّها اعتمرت هي وعائشة، وهكذا وقع بلا شكٍّ. وأمَّا قولها:«فلمَّا مسحنا البيتَ أحللنا» ، إخبارٌ
(2)
عنها نفسها، وعمَّن لم يُصِبه عذر الحيض الذي أصاب عائشة، وهي لم تصرِّح بأنَّ عائشة مسحت البيت يوم دخولهم مكَّة، وأنَّها حلَّت ذلك اليوم. ولا ريبَ أنَّ عائشة قدِمتْ بعمرةٍ، ولم تزلْ عليها حتَّى حاضت بسَرِف، فأدخلت عليها الحجَّ، وصارت قارنةً. فإذا
(3)
قيل: اعتمرت عائشة مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو قدِمَتْ بعمرةٍ، لم يكن هذا كذبًا.
وأمَّا قولها: «ثمَّ أهللنا من العشيِّ بالحجِّ» ، فهي لم تقل: إنَّهم أهلُّوا من عشيِّ يومِ القدوم، ليلزمَ ما قال أبو محمد، وإنَّما أرادت عشيَّ يوم التَّروية. ومثل هذا لا يحتاج في ظهوره وبيانه إلى أن يصرَّح فيه بعشيِّ ذلك اليوم بعينه؛ لعلم الخاصِّ والعامِّ به، وأنَّه ممَّا لا تذهب الأوهام إلى غيره، فردُّ
(1)
في المطبوع: «إحلالهم» ، تحريف.
(2)
كذا في النسخ بدون الفاء.
(3)
ك: «فإن» .
أحاديث الثِّقات بمثل هذا الوهم ممَّا لا سبيلَ إليه.
قال أبو محمد
(1)
: وأسلمُ الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة ــ يعني اللَّذين
(2)
أنكرهما ــ أن تُخرَّج روايتهما على أنَّ المراد بقولها: إنَّ الذين أهلُّوا بحجٍّ أو بحجٍّ وعمرةٍ، لم يحلُّوا حتَّى كان يوم النَّحر حين قَضَوا مناسك الحجِّ، إنَّما عَنَتْ بذلك من كان معه الهدي، وبهذا تنتفي النُّكرة عن هذين الحديثين، وبهذا تتآلف
(3)
الأحاديث كلُّها؛ لأنَّ الزُّهريَّ عن عروة يذكر خلاف ما ذكر أبو الأسود عن عروة، والزُّهريُّ بلا شكٍّ أحفظُ من أبي الأسود
(4)
، وقد خالف يحيى بن عبد الرَّحمن عن عائشة في هذا الباب من لا يُقرَن
(5)
يحيى بن عبد الرحمن إليه، لا في حفظٍ، ولا في ثقةٍ، ولا في جلالةٍ، ولا في بطانةٍ
(6)
بعائشة: كالأسود بن يزيد، والقاسم بن محمَّد بن أبي بكرٍ، وأبي عمرو
(7)
ذكوان مولى عائشة، وعَمْرة بنت عبد الرحمن، وكانت في حِجْر عائشة، وهؤلاء هم أهل الخصوصيَّة والبطانة بها، فكيف ولو لم يكونوا كذلك، لكانت روايتهم أو رواية واحدٍ منهم لو انفرد هي الواجب أن يُؤخذ بها؛ لأنَّ فيها زيادةً على رواية أبي الأسود ويحيى، وليس مَن جهِلَ أو غَفَل
(1)
«حجة الوداع» (ص 350).
(2)
ص، ج:«الذي» .
(3)
ق، ب، مب:«تأتلف» . والمثبت من بقية النسخ موافق لما في «حجة الوداع» .
(4)
«عن عروة
…
أبي الأسود» ساقطة من ص.
(5)
ك: «لا يقرب» .
(6)
ك، ص، ج:«فطانة» ، تحريف. والمثبت من ق، مب. وسيأتي. وهو الموافق لما في «حجة الوداع» .
(7)
ك، ص، ج:«وابن عمرو» ، خطأ.
حجَّةً على من عَلِم وذكَر وأخبر، فكيف وقد وافق هؤلاء الجِلَّة عن عائشة؟ فسقطَ التَّعلُّق بحديث أبي الأسود ويحيى اللَّذين
(1)
ذكرنا.
قال
(2)
: وأيضًا، فإنَّ حديثَي أبي الأسود ويحيى موقوفان غيرُ مسندين؛ لأنَّهما إنَّما ذكرا عنها فِعْلَ من فَعل ما ذكرَتْ، دون أن يذكرا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرهم أن لا يحلُّوا، ولا حجَّةَ في أحدٍ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو صحَّ ما ذكراه، وقد صحَّ أمر النِّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَن لا هديَ معه بالفسخ، فتمادى المأمورون بذلك ولم يحلُّوا، لكانوا عصاةً لله، وقد أعاذهم الله من ذلك وبرَّأهم منه، فثبت يقينًا أنَّ حديث أبي الأسود ويحيى إنَّما عُنِي فيه من كان معه هديٌ. وهكذا جاءت الأحاديث الصِّحاح الَّتي أوردناها
(3)
بأنَّه صلى الله عليه وسلم أمر من معه الهدي بأن يجمع حجًّا مع العمرة، ثمَّ لا يحلَّ حتَّى يحلَّ منهما جميعًا.
ثمَّ ساق
(4)
من طريق مالك عن ابن شهابٍ عن عروة عنها ترفعه: «من كان معه هديٌ فليُهلِل بالحجِّ والعمرة، ثمَّ لا يحلَّ حتَّى يحلَّ منهما جميعًا» . قال: فهذا الحديث كما ترى من طريق عروة عن عائشة يبيِّن ما ذكرنا أنَّه المراد بلا شكٍّ في حديث أبي الأسود عن عروة، وحديثِ يحيى عن عائشة، وارتفع الآن الإشكالُ جملةً، والحمد لله ربِّ العالمين.
قال
(5)
: وممَّا يبيِّن أنَّ في حديث أبي الأسود حذفًا قولُه فيه: «عن عروة
(1)
ك، ص، ج، ب:«الذين» .
(2)
أي ابن حزم في المصدر السابق (ص 350، 351).
(3)
ك، ص، ج:«أوردنا» . مب: «أوردها» .
(4)
«حجة الوداع» (ص 351). والحديث رواه البخاري (1638).
(5)
المصدر نفسه (ص 352).
أنَّ أمَّه وخالته والزبير أقبلوا بعمرةٍ فقط، فلمَّا مسحوا الرُّكن حلُّوا». ولا خلافَ بين أحدٍ أنَّ من أقبل بعمرةٍ لا يحلُّ بمسح الرُّكن، حتَّى يسعى بين الصَّفا والمروة بعد مسح الرُّكن، فصحَّ أنَّ في الحديث حذفًا يُبيِّنه سائر الأحاديث الصِّحاح الَّتي ذكرنا، وبطل الشَّغب به جملةً، وباللَّه التَّوفيق.
فصل
وأمَّا ما في حديث أبي الأسود عن عروة مِن فِعل أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار وابنِ عمر، فقد أجابه ابن عبَّاسٍ فأحسن جوابَه، فنكتفي
(1)
بجوابه.
فروى الأعمش عن فُضَيل بن عمرو عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ: تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عبَّاسٍ: أراهم سيهلِكون
(2)
، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول
(3)
: قال أبو بكر وعمر
(4)
.
وقال عبد الرازق
(5)
: ثنا معمر، عن أيوب قال: قال عروة لابن عبَّاسٍ: ألا تتَّقي الله تُرخِّص في المتعة؟ فقال ابن عبَّاسٍ: سَلْ أمَّك يا عُريَّة! فقال عروة: أمَّا أبو بكر وعمر فلم يفعلا، فقال ابن عبَّاسٍ: والله ما أراكم منتهين
(1)
ق: «فيكفي» .
(2)
في المطبوع: «أراكم ستهلكون» . والمثبت من النسخ.
(3)
ك: «يقولون» .
(4)
رواه أحمد (3121) وابن حزم في «حجة الوداع» (391). وفي إسناده شريك بن عبد الله النخعي، لكنه توبع بعبد الرزاق وسليمان بن حرب كما سيأتي.
(5)
رواه ابن حزم من طريقه في «حجة الوداع» (392).
حتَّى يعذِّبكم الله، أحدِّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتُحدِّثونا عن أبي بكر وعمر؟ فقال عروة: لهما أعلمُ بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعُ لها منك.
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن ابن أبي مُليكة: أنّ عروة بن الزُّبير قال لرجلٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: تأمر النَّاس بالعمرة في هؤلاء
(2)
العشر وليس فيها عمرةٌ؟! قال: أوَلا تسأل أمَّك عن ذلك؟ قال عروة: فإنَّ أبا بكر وعمر لم يفعلا ذلك، قال الرَّجل: من هاهنا هلكتم، ما أرى الله عز وجل إلا سيعذِّبكم، إنِّي أحدِّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُخبروني بأبي بكر وعمر! قال عروة: إنَّهما والله كانا أعلمَ بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فسكتَ الرَّجل.
ثمَّ أجاب أبو محمَّدٍ بن حزمٍ عروةَ عن قوله هذا بجوابٍ نذكره، ونذكر جوابًا أحسنَ منه لشيخنا.
قال أبو محمد
(3)
: ونحن نقول لعروة: ابنُ عبَّاسٍ أعلمُ بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي بكر وعمر منك، وخيرٌ منك وأولى بهم ثلاثتِهم منك، لا يشكُّ في ذلك مسلم. وعائشة أم المؤمنين أعلمُ وأصدقُ منك. ثمَّ ساق من طريق الثّوريِّ عن أبي إسحاق السَّبيعي عن عبد الله قال: قالت عائشة: من استُعمِل على الموسم؟ قالوا: ابن عبَّاسٍ، قالت: هو أعلمُ النَّاس بالحجِّ.
(1)
كذا في جميع النسخ، وهو خطأ فالأثر لا يوجد فيه. وصححه في المطبوع بقوله:«وأخرج أبو مسلمٍ الكجِّيُّ عن سليمان بن حربٍ عن حمَّاد بن زيدٍ عن أيُّوب السَّختيانيِّ عن ابن أبي مليكة» نقلًا عن «حجة الوداع» ، فقد رواه من طريقه برقم (393).
(2)
ص: «هذا» .
(3)
«حجة الوداع» (ص 354).
قال أبو محمد
(1)
: مع أنَّه قد رَوى عنهما
(2)
خلافَ ما قال عروة مَن هو خيرٌ من عروة وأفضلُ وأعلمُ وأصدقُ وأوثقُ. ثمَّ ساق من طريق البزّار
(3)
عن الأشجّ، عن عبد الله بن إدريس الأَوديِّ، عن ليث، عن عطاء وطاوس، عن ابن عبَّاسٍ: تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وأوَّل من نهى عنه معاوية.
ومن طريق عبد الرزاق
(4)
عن الثَّوريِّ، عن ليث، عن طاوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ: تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتَّى مات، وعمر وعثمان كذلك، وأوَّل من نهى عنها معاوية.
قلت: حديث ابن عبَّاسٍ هذا رواه الإمام أحمد في «المسند» والتّرمذيُّ
(5)
، وقال: حديثٌ حسنٌ.
وذكر عبد الرزاق
(6)
: ثنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قال أبيُّ بن كعبٍ وأبو موسى لعمر بن الخطَّاب: ألا تقومُ فتبيِّن للنَّاس أمرَ هذه المتعة؟ فقال عمر: وهل بقي أحدٌ إلا قد عَلِمَها! أمَّا أنا فأفعلُها.
(1)
المصدر نفسه. والكلام متصل بما قبله.
(2)
كذا في النسخ، وهو الصواب، والضمير لأبي بكر وعمر. وفي المطبوع و «حجة الوداع»:«عنها» . وهو خلاف ما يقتضيه السياق والأثر الآتي.
(3)
وهو في «مسنده» (4874).
(4)
رواه ابن حزم من طريقه في «حجة الوداع» (396).
(5)
أحمد (2863) والترمذي (822)، وفي إسناده ليث بن أبي سليم متكلم فيه.
(6)
رواه ابن حزم من طريقه في «حجة الوداع» (398).
وذكر عليُّ بن عبد العزيز البغويُّ
(1)
: ثنا حجَّاج بن المِنهال، قال: ثنا حمَّاد بن سلمة، عن حمَّاد بن أبي سليمان أو حميد، عن الحسن أنَّ عمر أراد أن يأخذ مال الكعبة، وقال: الكعبة غنيَّةٌ عن ذا المال، وأراد أن ينهى أهل اليمن أن يصبغوا بالبول، وأراد أن ينهى عن متعة الحجِّ، فقال أبيُّ بن كعبٍ: قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المال، وبه وبأصحابه إليه الحاجة
(2)
، فلم يأخذه، وأنت فلا تأخذْه. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
(3)
يلبسون الثِّياب اليمانيَّة، فلم ينهَ عنها، وقد عَلِم أنَّها تُصبغ بالبول. وقد تمتَّعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهَ عنها، ولم يُنزِل الله تعالى فيها نهيًا.
وقد تقدَّم قول عمر: لو اعتمرتُ في وسط السَّنة ثمَّ حججتُ لتمتَّعتُ، ولو حججتُ خمسين حجَّةً لتمتَّعتُ. رواه حمَّاد بن سلمة، عن قيس، عن طاوسٍ، عنه
(4)
. وشعبة، عن سلمة بن كُهيل، عن طاوس، عن ابن عبَّاسٍ، عنه: لو اعتمرتُ في سنةٍ مرَّتين ثمَّ حججتُ، لجعلتُ مع حجَّتي عمرةً
(5)
. والثَّوريُّ، عن سلمة بن كُهيلٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ، عنه: لو اعتمرتُ ثمَّ اعتمرتُ ثمَّ حججتُ لتمتَّعتُ
(6)
. وابنُ عيينة، عن هشام بن حُجَير وليث، عن طاوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ قال: هذا الذي يزعمون أنَّه نهى عن المتعة ــ يعني
(1)
رواه ابن حزم من طريقه في «حجة الوداع» (397)، وفي إسناده انقطاع، الحسن لم يدرك عمر رضي الله عنه .
(2)
ق: «الحاجة إليه» .
(3)
«وأصحابه» ليست في ك.
(4)
رواه ابن حزم في «حجة الوداع» (399) بهذا الطريق.
(5)
رواه ابن حزم في «حجة الوداع» (401) بهذا الطريق.
(6)
رواه ابن حزم في «حجة الوداع» (403) بهذا الطريق.
عمر ــ سمعتُه يقول: لو اعتمرتُ ثمَّ حججتُ لتمتَّعتُ. قال ابن عبَّاسٍ: كذا وكذا مرَّةً، ما تمَّتْ حجَّة رجلٍ قطُّ إلا بمتعةٍ
(1)
.
وأمَّا الجواب الذي ذكره شيخنا
(2)
، فهو أنَّ عمر رضي الله عنه لم ينهَ عن المتعة البتَّة، وإنَّما قال: إنَّ أتمَّ لحجِّكم وعمرتِكم أن تَفصِلوا بينهما، فاختار عمر لهم أفضل الأمور، وهو إفراد كلِّ واحدٍ
(3)
منهما بسفرٍ يُنشِئه له من بلده، وهذا أفضل من القران والتّمتِّع الخاصِّ بدون سفرةٍ أخرى، وقد نصَّ على ذلك أحمد وأبو حنيفة ومالك والشَّافعيُّ وغيرهم. وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكرٍ وعمر، وكان عمر يختاره للنَّاس، وكذلك علي.
وقال عمر وعلي في قوله تعالى: {(195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قالا: إتمامهما أن تُحرِم بهما من دُوَيرة أهلك
(4)
، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في عمرتها:«أجرُكِ على قدر نَصَبِك»
(5)
، فإذا رجع الحاجُّ إلى دُوَيرة أهله، فأنشأ منها العمرة، واعتمر قبل أشهُرِ الحجِّ وأقام حتَّى يحجَّ، أو اعتمر في أشهُرِه ورجعَ إلى أهله ثمَّ حجَّ، فهنا قد أتى بكلِّ واحدٍ من النُّسكين من دُوَيرة أهله، وهذا إتيانٌ بهما على الكمال، فهو أفضل من غيره.
(1)
رواه ابن حزم في «حجة الوداع» (404) بهذا الطريق.
(2)
لم أجد كلامه بالنصّ، وقد تكلم عليه بنحوه في «شرح العمدة» (4/ 232) و «مجموع الفتاوى» (26/ 46).
(3)
«واحد» ليست في ك.
(4)
رواه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (351) وابن أبي شيبة (13100، 13101) عنهما.
(5)
رواه البخاري (1787) ومسلم (1211/ 126) من حديث عائشة رضي الله عنها.
قلت: فهذا الذي اختاره عمر للنَّاس، فظنَّ من غلِطَ منهم أنَّه نهى عن المتعة، ثمَّ منهم من حمل نهيه على متعة الفسخ، ومنهم من حمله على ترك الأَولى ترجيحًا للإفراد عليه، ومنهم من عارض روايات النَّهي عنه بروايات الاستحباب وقد ذكرناها، ومنهم من جعل في ذلك روايتين عن عمر، كما عنه روايتان في غيرها من المسائل، ومنهم من جعل النَّهي قولًا قديمًا رجع عنه أخيرًا
(1)
، كما سلك أبو محمَّدٍ بن حزمٍ. ومنهم من يَعُدُّ النَّهي رأيًا رآه من عنده لكراهته أن يظلَّ الحاجُّ مُعرِسين بنسائهم في ظلِّ الأَراك، كما قال أبو حنيفة عن حماد، عن إبراهيم النَّخعيِّ، عن الأسود بن يزيد قال: بينا أنا واقفٌ مع
(2)
عمر بن الخطَّاب بعرفة عشيَّةَ عرفةَ، فإذا هو برجلٍ مُرجَّلٍ شَعرُه يفوح منه ريح الطِّيب، فقال له عمر: أمحرِمٌ أنت؟ قال نعم، قال عمر: ما هيئتُك بهيئة محرمٍ، إنَّما المحرم الأشعثُ الأغبر الأذفر، قال: إنِّي قدمت متمتِّعًا، وكان معي أهلي، وإنَّما أحرمتُ اليومَ. فقال عمر عند ذلك: لا تتمتَّعوا في هذه الأيَّام، فإنِّي لو رخَّصتُ في المتعة لهم لعرَّسوا بهنَّ في الأَراك، ثمَّ راحوا
(3)
بهنَّ حُجَّاجًا
(4)
. وهذا يبيِّن أنَّ هذا من عمر رأيٌ
(5)
رآه.
قال ابن حزمٍ
(6)
: وكان ماذا؟ وحبَّذا ذاك! قد طاف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على نسائه،
(1)
ك: «آخرا» .
(2)
ج: «معي» .
(3)
ك: «رجعوا» .
(4)
رواه ابن حزم في «حجة الوداع» (406) من طريقه.
(5)
ج، ك:«رأي له» .
(6)
في «حجة الوداع» عقب الأثر.
ثمَّ أصبح محرمًا، ولا خلاف أنَّ الوطء مباحٌ قبل الإحرام بطَرْفةِ عينٍ.
فصل
وقد سلك المانعون من الفسخ طريقتين أُخريين، نذكرهما ونبيِّن فسادهما:
الطَّريقة الأولى: قالوا: إذا اختلف الصَّحابة ومن بعدهم في جواز الفسخ، فالاحتياط يقتضي المنعَ منه، صيانةً للعبادة عمَّا لا يجوز فيها عند كثيرٍ من أهل العلم بل أكثرهم.
والطَّريقة الثَّانية: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفسخ ليبيِّن لهم جواز العمرة في أشهر الحجِّ؛ لأنَّ الجاهليَّة
(1)
كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحجِّ، ويقولون:«إذا بَرأ الدَّبَر، وعفا الأَثر، وانسلخ صَفَر، فقد حلَّت العمرة لمن اعتمر» ، فأمرهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالفسخ
(2)
؛ ليبيِّن لهم جواز العمرة في أشهر الحجِّ.
وهاتان الطَّريقتان باطلتان:
أمَّا الأولى فإن الاحتياط إنَّما يُشرع إذا لم تتبيِّن السُّنَّة، فإذا تبيَّنتْ فالاحتياط هو اتِّباعها وتركُ ما خالفها; فإن كان تركها لأجل الاختلاف احتياطًا، فتركُ ما خالفها واتِّباعها أحوطُ وأحوط، فالاحتياط نوعان: احتياطٌ للخروج من خلاف
(3)
العلماء، واحتياطٌ للخروج من خلاف السُّنَّة، ولا يخفى رجحان أحدهما على الآخر.
(1)
كذا في جميع النسخ، وهو صواب. وفي المطبوع:«أهل الجاهلية» .
(2)
رواه البخاري (1564) ومسلم (1240/ 198) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(3)
ك: «اختلاف» .
وأيضًا فإنَّ الاحتياط ممتنعٌ هنا، فإنَّ للنَّاس في الفسخ ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أنَّه محرَّم.
الثَّاني: أنَّه واجب، وهو قول جماعةٍ من السَّلف والخلف.
الثَّالث: أنَّه مستحب.
فليس الاحتياط بالخروج من خلافِ مَن حرَّمه أولى بالاحتياط من الخروج من خلافِ مَن أوجبه، وإذا تعذَّر الاحتياط بالخروج من الخلاف تعيَّن الاحتياط بالخروج من خلاف السنَّة.
فصل
وأمَّا الطَّريقة الثَّانية فأظهرُ بطلانًا من وجوهٍ عديدةٍ
(1)
.
أحدها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل ذلك عُمَرَه الثَّلاث في أشهر الحجِّ في ذي القعدة، كما تقدَّم ذلك، وهو أوسط أشهر الحجِّ. فكيف يُظنُّ أنَّ الصَّحابة لم يعلموا جواز الاعتمار في أشهر الحجِّ إلا بعد أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة، وقد تقدَّم فعلُه لذلك ثلاث مرَّاتٍ؟
الثَّاني: أنَّه قد ثبت في «الصَّحيحين»
(2)
أنَّه قال لهم عند الميقات: «من شاء أن يُهلَّ بعمرةٍ فليفعلْ، ومن شاء أن يُهلَّ بحجَّةٍ فليفعلْ، ومن شاء أن يُهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ فليفعلْ» ، فبيَّن لهم جواز الاعتمار في أشهر الحجِّ عند الميقات، وعامَّة المسلمين معه، فكيف لم يعلموا جوازها
(3)
إلا بالفسخ؟
(1)
«عديدة» ليست في ص. وانظر كلام شيخ الإسلام وبيانه لبعض هذه الوجوه في «مجموع الفتاوى» (26/ 55 وما بعدها).
(2)
البخاري (1786) ومسلم (1211/ 114).
(3)
ك: «جواز هذا» .
ولعَمْرُ الله إن لم يكونوا يعلمون جوازها بذلك فهم أجدرُ أن لا يعلموا جوازها بالفسخ.
الثَّالث: أنَّه أمرَ من لم يَسُقِ الهدي أن يتحلَّل، وأمر من ساق الهدي أن يتمّ
(1)
على إحرامه حتَّى يبلغ الهدي محلَّه، ففرَّق بين مُحرمٍ ومُحرمٍ، وهذا يدلُّ على أنَّ سَوق الهدي هو المانع من التَّحلُّل، لا مجرَّد الإحرام الأوَّل، والعلَّة الَّتي ذكروها لا تختصُّ بمحرمٍ دون محرمٍ، فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جعل التَّأثير في الحلِّ وعدمه للهدي وجودًا وعدمًا، لا
(2)
لغيره.
الرَّابع: أن يقال: إذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قصدَ مخالفة المشركين، كان هذا دليلًا على أنَّ الفسخ أفضل لهذه العلَّة؛ فإنه إذا كان إنَّما أمرهم بذلك لمخالفة المشركين، كان هذا يقتضي أن يكون الفسخ مشروعًا
(3)
إلى يوم القيامة، إمَّا وجوبًا وإمَّا استحبابًا، فإنَّ ما فعله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرعه لأمَّته في المناسك مخالفةً لهدي المشركين هو مشروعٌ إلى يوم القيامة، إمَّا وجوبًا أو استحبابًا، فإنَّ المشركين كانوا يُفِيضون من عرفة قبل غروب الشَّمس، وكانوا لا يُفيضون من مزدلفة حتَّى تطلع الشَّمس، وكانوا يقولون:«أَشرِقْ ثَبِيرُ كيما نُغِير» فخالفهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم
(4)
، وقال:«خالفَ هَدْيُنا هديَ المشركين»
(5)
، فلم
(1)
كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: «يبقى» .
(2)
«لا» ساقطة من ك.
(3)
في المطبوع: «كان يكون دليلًا على أن الفسخ يبقى مشروعًا» .
(4)
رواه البخاري (1684) دون قوله «كيما نغير» من حديث عمر- رضي الله عنه، ورواه أحمد (295، 358، 385) وابن ماجه (3022) بهذه الزيادة.
(5)
رواه ابن أبي شيبة (15416) وأبو داود في «المراسيل» (151) والبيهقي في «المعرفة» (7/ 301) من حديث محمد بن قيس بن مخرمة مرسلًا.
يُفِضْ
(1)
من عرفة حتَّى غَرَبتِ الشَّمس.
وهذه المخالفة إمَّا ركنٌ كقول مالك، وإمَّا واجبٌ يَجبُره دمٌ، كقول أحمد وأبي حنيفة والشَّافعيِّ في أحد القولين، وإمَّا سنَّةٌ كالقول الآخر له. والإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشَّمس سنَّةٌ باتِّفاق المسلمين.
وكذلك قريشٌ كانت لا تقف بعرفة، بل تُفِيض من جَمْعٍ، فخالفهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ووقف بعرفاتٍ، وأفاض منها، وفي ذلك نزل قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وهذه المخالفة من أركان الحجِّ باتِّفاق المسلمين.
فالأمور الَّتي خالفَ
(2)
فيها المشركين هي الواجب أو المستحبُّ، ليس فيها مكروهٌ، فكيف يكون فيها محرَّمٌ؟ فكيف يقال: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بنسكٍ يخالف نُسكَ المشركين، مع كون الذي نهاهم عنه أفضل من الذي
(3)
أمرهم به؟ أو يقال: من حجَّ كما حجَّ المشركون فلم يتمتَّع، فحجُّه أفضلُ من حجِّ السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؟
الخامس: أنَّه قد ثبت في «الصَّحيح»
(4)
عنه أنَّه قال: «دخلتِ العمرةُ في
(1)
في المطبوع: «فلم نُفِض» ، وجعله متصلًا بما قبله ضمن الحديث المرفوع. وليس كذلك.
(2)
في المطبوع: «نخالف» .
(3)
«الذي» ليست في ص.
(4)
في المطبوع: «الصحيحين» ، خطأ. فالحديث لم يروِه البخاري.
الحجِّ إلى يوم القيامة». وقيل له: عمرتُنا هذه لعامِنا هذا أم للأبد؟ فقال: «لا
(1)
، بل لأبد الأبد، دخلت العمرة في الحجِّ إلى يوم القيامة»
(2)
.
وكان سؤالهم عن عمرة الفسخ كما جاء صريحًا في حديث جابر في حديثه الطَّويل
(3)
، قال: حتَّى إذا كان آخر طوافٍ
(4)
على المروة، قال:«لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لم أسُقِ الهدي، ولجعلتُها عمرةً، فمن كان منكم ليس معه هديٌ فليحلَّ وليجعلْها عمرةً» . فقام سُراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، ألعامِنا هذا أم للأبد؟ فشبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعَه واحدةً في الأخرى، وقال:«دخلتِ العمرةُ في الحجِّ» مرَّتين، «لا، بل لأبدِ الأبد
(5)
».
وفي لفظٍ
(6)
: «قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم صُبْحَ رابعةٍ مضتْ من ذي الحجَّة، فأمرنا أن نحلَّ، قال: فقلنا
(7)
: لمَّا لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمسٌ، أمرَنا أن نُفضي إلى نسائنا، فنأتي عرفةَ تَقطُر مذاكيرنا المنيَّ»
…
فذكر الحديث، وفيه: فقال سُراقة بن مالك: لعامنا هذا أم للأبد؟ قال: «للأبد» .
(1)
«لا» ليست في ك، ب، مب.
(2)
رواه مسلم (1218/ 147) من حديث جابر رضي الله عنه.
(3)
هو الحديث السابق.
(4)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «طوافه» ، وكذا الرواية.
(5)
ص: «لأبد أبد» .
(6)
رواه مسلم (1216/ 141) من حديث جابر رضي الله عنه .
(7)
كذا في النسخ، وليس في المطبوع «قال». وفي الرواية: «قال عطاء: قال: حِلُّوا وأصيبوا النساء
…
، فقلنا».
وفي «صحيح البخاريِّ»
(1)
عنه: أنَّ سُراقة قال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ألكم هذه خاصَّةً يا رسول اللَّه؟ قال: «بل للأبد» .
فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ تلك العمرة الَّتي فسخَ من فسخَ منهم حجَّه
(2)
إليها للأبد، وأنَّ العمرة دخلت في الحجِّ إلى يوم القيامة. وهذا يبيِّن أنَّ عمرة التمتع بعض الحجِّ.
وقد اعترض بعض
(3)
النَّاس على الاستدلال بقوله: «بل لأبد الأبد» باعتراضين:
أحدهما: أنَّ المراد أنَّ سقوط الفرض بها لا يختصُّ بذلك العام، بل يسقطه إلى الأبد. وهذا الاعتراض باطلٌ، فإنَّه لو أراد ذلك لم يقل:«للأبد» ، فإنَّ الأبد لا يكون في حقِّ طائفةٍ معيَّنةٍ، بل إنَّما يكون لجميع المسلمين. ولأنَّه قال:«دخلت العمرة في الحجِّ إلى يوم القيامة» . ولأنَّهم لو أرادوا بذلك السُّؤال عن تكرر الوجوب لما اقتصروا على العمرة، بل كان السُّؤال عن الحجِّ. ولأنَّهم قالوا له:«عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟» ولو أرادوا تكرُّر وجوبها كلَّ عامٍ لقالوا له كما قالوا في الحجِّ: أكلَّ عامٍ يا رسول اللَّه؟ ولأجابهم بما أجابهم به في الحجِّ بقوله: «ذَرُوني ما تركتُكم، لو قلتُ: نعم، لوجبتْ»
(4)
. ولأنَّهم قالوا له: هذه لكم خاصَّةً؟ فقال: «بل لأبد الأبد» ، فهذا السُّؤال والجواب صريحان في عدم الاختصاص.
(1)
برقم (1785).
(2)
في المطبوع: «حجة» .
(3)
«بعض» ليست في ص.
(4)
رواه مسلم (1337/ 412) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الثَّاني: أن قوله: «إنَّ ذلك لأبد الأبد» إنَّما يريد به جواز الاعتمار في أشهر الحجِّ. وهذا الاعتراض أبطلُ من الذي قبله، فإنَّ السائل إنَّما سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيه عن المتعة الَّتي هي فسخ الحجِّ، لا عن جواز العمرة في أشهر الحجِّ؛ لأنَّه إنَّما سأله بعقبِ
(1)
أمره مَن لا هديَ معه بفسخ الحجِّ، فقال له
(2)
حينئذٍ: هذا لعامنا
(3)
أم للأبد؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم عن نفس ما سأله عنه، لا عمَّا لم يسأله عنه. وفي قوله:«دخلتِ العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة» عقيبَ أمره مَن لا هديَ معه بالإحلال بيانٌ جليٌّ
(4)
أنَّ ذلك مستمرٌّ إلى يوم القيامة، فبطل دعوى الخصوص، وباللَّه التَّوفيق.
السَّادس: أنَّ هذه العلَّة
(5)
الَّتي ذكرتموها ليست في الحديث، ولا فيه إشارةٌ إليها، فإن كانت باطلةً بطل اعتراضكم بها، وإن كانت صحيحةً فإنَّها لا تستلزم
(6)
الاختصاص بالصَّحابة بوجهٍ من الوجوه، بل إن صحَّت اقتضتْ دوامَ معلولها واستمرارَه، كما أنَّ الرَّمل شُرع ليُرِي المشركين قوَّته وقوَّة أصحابه، واستمرَّت مشروعيته إلى يوم القيامة، فبطل الاحتجاج بتلك العلَّة على الاختصاص بهم على كلِّ تقديرٍ.
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «عقب» .
(2)
بعدها في المطبوع: «سراقة» ، وليست في النسخ.
(3)
ك: «ألعامنا» .
(4)
ج، ص:«بيانًا جليًّا» .
(5)
«العلة» ليست في ك.
(6)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «لا تلزم» .
السَّابع أنَّ الصَّحابة رضوان الله عليهم إذا لم يكتفوا في العلم
(1)
بجواز العمرة في أشهر الحجِّ على فعلهم لها معه ثلاثةَ أعوامٍ، ولا بإذنه لهم فيها عند الميقات حتَّى يأمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة، فمَنْ بعدَهم أحرى أن لا يكتفي بذلك حتَّى يفسخ الحجَّ إلى العمرة، اتِّباعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتداءً بأصحابه
(2)
، إلا أن يقول قائلٌ: إننا نحن نكتفي من ذلك بدون ما اكتفى به الصَّحابة، ولا نحتاج في الجواز إلى ما احتاجوا هم إليه. وهذا جهلٌ نعوذ بالله منه.
الثَّامن: أنَّه لا يُظَنُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه بالفسخ الذي هو حرامٌ، ليعلِّمهم بذلك مباحًا يمكن تعليمُه بغير ارتكاب هذا المحظور، وبأسهلَ منه بيانًا، وأوضحَ دلالةً، وأقلَّ كُلفةً.
فإن قيل: لم يكن الفسخ حين أمرهم به حرامًا.
قيل: فهو إذًا إمَّا واجبٌ أو
(3)
مستحبٌّ. وقد قال بكلِّ واحدٍ منهما طائفةٌ، فمَن الذي حرَّمه بعد إيجابه أو استحبابه؟ وأيُّ نصٍّ أو إجماعٍ رفعَ هذا الوجوب أو الاستحباب؟ وهذه مطالبةٌ لا محيصَ عنها.
التَّاسع: أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سقتُ الهدي، ولجعلتُها عمرةً» ، أفترى تجدَّد له صلى الله عليه وسلم عند ذلك العلمُ بجواز العمرة في أشهر الحجِّ، حتَّى تأسَّف على فَوتها؟ هذا من أعظم المحال.
(1)
في المطبوع: «بالعلم» .
(2)
مب، ك:«بالصحابة» .
(3)
ج: «وإما» .
العاشر: أنَّه أمر بالفسخ إلى المتعة
(1)
من كان أفردَ ومن قرنَ ولم يَسُقِ الهدي. ومعلومٌ أنَّ القارن قد اعتمر في أشهر الحجِّ مع حجَّته، فكيف يأمره بفسخ قِرانه إلى عمرةٍ ليبيِّن له جواز العمرة في أشهر الحجِّ، وقد أتى بها وضَمَّ إليها الحجَّ؟
الحادي عشر: أنَّ فسخ الحجِّ إلى العمرة موافقٌ لقياس الأصول، لا مخالفٌ لها
(2)
. فلو لم يَرِد به النَّصُّ لكان القياس يقتضي جوازه، فمجيئُ
(3)
النَّصِّ به على وفق القياس، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
، وقرَّره بأنَّ المحرم إذا التزم أكثر ممَّا كان لزمه جاز باتِّفاق الأئمَّة، فلو أحرم بالعمرة ثمَّ أدخل عليها الحجَّ جاز بلا نزاعٍ، وإذا أحرم بالحجِّ ثمَّ أدخل عليه العمرة لم يجز عند الجمهور، وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في ظاهر مذهبه، وأبو حنيفة يجوِّز ذلك بناءً على أصله في أنَّ القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين.
قال
(5)
: وهذا قياس الرواية المحكيَّة عن أحمد في القارن: أنَّه يطوف طوافين ويسعى سعيين. وإذا كان كذلك فالمحرم بالحجِّ لم يلتزم إلا الحجَّ
(6)
. فإذا صار متمتِّعًا صار ملتزمًا لعمرةٍ وحجٍّ، فكان ما التزمه بالفسخ
(1)
كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: «العمرة» .
(2)
في المطبوع: «له» خلاف النسخ.
(3)
مب: «فيجيئ» . وفي المطبوع: «فجاء» .
(4)
«ابن تيمية» ليس في ق، ب، مب والمطبوع. وكلامه في «مجموع الفتاوى» (26/ 57).
(5)
أي شيخ الإسلام في المصدر السابق.
(6)
ص: «بالحج» .
أكثر ممَّا كان عليه فجاز ذلك. ولمَّا كان أفضل كان مستحبًّا. وإنَّما أشكل هذا على من ظنَّ أنَّه فسخ حجًّا إلى عمرةٍ، وليس كذلك، فإنَّه لو أراد أن يفسخ الحجَّ إلى عمرةٍ مفردةٍ لم يجزْ بلا نزاعٍ، وإنَّما الفسخ جائزٌ لمن كان من نيَّته أن يحجَّ بعد العمرة، والمتمتِّع من حين يُحرِم بالعمرة فهو داخلٌ في الحجِّ، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«دخلتِ العمرةُ في الحجِّ» . ولهذا يجوز له أن يصوم الأيَّام الثَّلاثة من حين يحرم بالعمرة، فدلَّ على أنَّه في تلك الحال في الحجِّ. وأمَّا إحرامه بالحجِّ بعد ذلك، فكما يبدأ الجنب بالوضوء ثمَّ يغتسل بعده. وكذلك كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعل إذا اغتسل للجنابة
(1)
، وقال للنِّسوة في غَسْل ابنته:«ابدأنَ بميامنِها ومواضعِ الوضوء منها»
(2)
. فغَسْل مواضع الوضوء بعض
(3)
الغُسل.
فإن قيل: هذا باطلٌ لثلاثة أوجهٍ.
أحدها: أنَّه إذا فسخ استفاد بالفسخ حِلًّا
(4)
كان ممنوعًا منه بإحرامه الأوَّل، فهو دون ما التزمه.
الثَّاني: أنَّ النُّسك الذي كان قد التزمه أوَّلًا أكملُ من النُّسك الذي فسخ إليه، ولهذا لا يحتاج الأوَّل إلى جُبرانٍ، والَّذي يفسخ إليه يحتاج إلى هديٍ
(1)
ص، ج:«لجنابته» . المطبوع: «من الجنابة» . والمثبت من ق، مب موافق لما في «مجموع الفتاوى» .
(2)
رواه البخاري (167) ومسلم (939/ 43) من حديث أم عطية رضي الله عنه .
(3)
ك، ب، مب:«بعد» ، وفي هامشها:«لعله قبل» . وكلاهما تحريف.
(4)
«حلا» ليست في ك.
جُبرانًا له، ونسكٌ لا جُبرانَ
(1)
فيه أفضلُ من نسكٍ مجبورٍ.
الثَّالث: أنَّه إذا لم يجز إدخال العمرة على الحجِّ، فلأن لا يجوز إبدالها به وفسخه إليها بطريق الأولى والأحرى.
فالجواب عن هذه الوجوه من طريقين، مجملٍ ومفصَّلٍ.
أمَّا المجمل: فهو أنَّ هذه الوجوه اعتراضاتٌ على مجرَّد السنَّة، فالجواب عنها بالتزام تقديم الوحي على الآراء، وأنَّ كلَّ رأيٍ يخالف السنَّة فهو باطلٌ قطعًا، وبيان بطلانه بمخالفة السُّنَّة الصَّحيحة الصَّريحة له
(2)
، والآراء تبعٌ للسنَّة، وليست السنَّة تبعًا للآراء
(3)
.
وأمَّا المفصَّل: وهو الذي نحن بصدده، فإنَّما التزمنا أنَّ الفسخ على وفق القياس، فلا بدَّ من الوفاء بهذا الالتزام، وعلى هذا فالوجه الأوَّل جوابه: بأنَّ التَّمتُّع وإن تخلَّله الإحلالُ
(4)
فهو أفضلُ من الإفراد الذي لا حِلَّ فيه، لأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم من لا هديَ معه بالإحرام به
(5)
، ولأمرِه أصحابَه بفسخ الحجِّ إليه، ولتمنِّيه أنَّه كان أحرم به، ولأنَّه النُّسك المنصوص عليه في كتاب اللَّه، ولأنَّ الأمَّة أجمعت على جوازه بل على استحبابه، واختلفوا في غيره على قولين، ولأن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم غضب حيث أمرهم بالفسخ إليه بعد الإحرام بالحجِّ
(6)
(1)
ك: «لا يحتاج إلى جبران» .
(2)
«له» ليست في ج.
(3)
ص، ج:«للرأي» .
(4)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «التحلل» .
(5)
«به» ليست في ك.
(6)
«بالحج» ليست في ك.
فتوقَّفوا، ولأنَّه من المحال قطعًا أن يكون حجٌّ
(1)
قطُّ أفضل من حجِّ
(2)
خير القرون وأفضلِ العالمين مع نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، وقد أمرهم كلَّهم بأن يجعلوها متعةً إلا من ساق الهدي، فمن المحال أن يكون غير هذا الحجِّ أفضلَ منه، إلا حجَّ من قرنَ وساق الهدي، كما اختاره الله لنبيِّه، فهذا هو الذي اختاره الله لنبيِّه، واختار لأصحابه التَّمتُّع، فأيُّ حجٍّ أفضل من هذين؟ ولأنَّه من المحال أن ينقلهم من النُّسك الفاضل إلى المفضول المرجوح، ولوجوهٍ أُخر كثيرةٍ ليس هذا موضعها، فرجحانُ هذا النُّسك أفضلُ من البقاء على الإحرام الذي يفوته
(3)
بالفسخ. وقد تبيَّن بهذا بطلان الوجه الثَّاني.
وأمَّا قولكم: إنَّه نُسكٌ مجبورٌ بالهدي، فكلامٌ باطلٌ من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ الهدي في التمتُّع عبادةٌ مقصودةٌ هو من تمام النُّسك، وهو دم شُكرانٍ لا دم جُبرانٍ، وهو بمنزلة الأضحية للمقيم هي
(4)
من تمام عبادة هذا اليوم، فالنُّسك المشتمل على هذا الدَّم بمنزلة العيد المشتمل
(5)
على الأضحية، فإنَّه ما تُقرِّب إلى الله في ذلك اليوم بمثل إراقة دمٍ سائلٍ.
وقد روى الترمذي وغيره
(6)
من حديث أبي بكرٍ الصِّدِّيق أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم
(1)
في المطبوع: «تكون حجة» .
(2)
ق، ب، مب:«حجة» . والمثبت من ك، ص، ج.
(3)
ص: «يقرنه» ، تحريف.
(4)
في المطبوع: «وهو» .
(5)
ص، ج:«المشتملة» .
(6)
رواه الترمذي (827) وابن ماجه (2924) واللفظ له، وفي إسناده انقطاع؛ فإن محمد بن المنكدر لم يسمع من عبد الرحمن بن يربوع، لكن له شاهد يقويه. والحديث صححه ابن خزيمة (2631) والحاكم (1/ 450). وانظر:«السلسلة الصحيحة» (1500).
سئل: أيُّ الأعمال
(1)
أفضل؟ فقال: «العَجُّ والثَّجُّ» . والعجُّ: رفع الصَّوت بالتَّلبية، والثَّجُّ: إراقة دماء الهدي.
فإن قيل: يُمكن المفرِدَ أن يحصِّل هذه الفضيلة.
قيل: مشروعيتها إنَّما جاءت في حقِّ القارن والمتمتِّع، وعلى تقدير استحبابها في حقِّه فأين ثوابها من ثواب هدي المتمتِّع والقارن؟
الوجه الثَّاني: أنَّه لو كان دم جبرانٍ لما جاز الأكل منه، وقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه أكل من هَدْيه، فإنَّه أمر من كلِّ بدنةٍ ببَضْعةٍ فجُعِلت في قِدرٍ، فأكل من لحمها، وشرب من مَرَقها
(2)
. وإن كان الواجب عليه سُبْعَ بدنةٍ، فإنَّه أكل من كلِّ بدنةٍ من المائة، والواجب فيها مُشاعٌ لم يتعيَّن بقسمةٍ.
وأيضًا، فإنَّه قد ثبت في «الصَّحيح»
(3)
أنَّه أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحه عنهنَّ وكنَّ متمتِّعاتٍ، احتجَّ به الإمام أحمد، فثبت في «الصَّحيحين»
(4)
عن عائشة أنَّه أهدى عن نسائه، ثمَّ أرسل إليهنَّ من الهدي الذي ذبحه عنهنَّ.
وأيضًا، فإنَّ الله سبحانه قال فيما يُذبَح بمنًى من الهدايا
(5)
: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، وهذا يتناول هديَ التمتُّع
(1)
في المطبوع: «الحج» . والمثبت من النسخ، والرواية بالوجهين.
(2)
رواه مسلم (1218/ 147) من حديث جابر رضي الله عنه .
(3)
في المطبوع: «الصحيحين» .
(4)
البخاري (1720) ومسلم (1211/ 125).
(5)
في المطبوع: «الهدي» .
والقِران قطعًا إن لم يختصَّ به، فإنَّ المشروع هناك ذبح هدي المتعة والقران. ومن هاهنا ــ والله أعلم ــ أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من كلِّ بدنةٍ ببَضْعةٍ، فجُعِلت في قِدرٍ امتثالًا لأمر ربِّه تعالى بالأكل، ليعُمَّ به جميعَ هديه.
الوجه الثَّالث: أنَّ سبب الجبران محظورٌ في الأصل، فلا يجوز الإقدام عليه إلا لعذرٍ، فإنَّه إمَّا تركُ واجبٍ أو فعلُ محظورٍ، والتَّمتُّع مأمورٌ به: إمَّا أمر إيجابٍ عند طائفةٍ كابن عبَّاسٍ وغيره، أو أمر استحبابٍ عند الأكثرين، فلو كان دمه دمَ جُبرانٍ لم يجز الإقدام على سببه بغير عذرٍ، فبطل قولهم إنَّه دم جبرانٍ، وعُلِم أنَّه دم نسكٍ وهدي
(1)
وسَّع الله به على عباده، وأباح لهم بسببه التَّحلُّل في أثناء الإحرام، لما في استمرار الإحرام عليهم من المشقَّة، فهو بمنزلة القصر والفطر في السَّفر، وبمنزلة المسح على الخفَّين، وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديُ أصحابه فِعْل هذا وهذا
(2)
، واللَّه تعالى يحبُّ أن يؤخذ برُخَصِه، كما يكره أن تُؤتى معصيتُه
(3)
، فمحبَّته لأخذ العبد بما يسَّره عليه وسهَّله له، مثلُ
(4)
كراهيته منه لارتكابه ما حرَّمه عليه ومنعَه منه.
والهدي وإن كان بدلًا عن ترفُّهه بسقوط أحد السَّفرين، فهو أفضل لمن قدِم في أشهر الحجِّ من أن يأتي بحجٍّ مفردٍ ويعتمر عقيبَه
(5)
، والبدل قد يكون
(1)
في المطبوع: «وهذا» خلاف النسخ.
(2)
في ص: «هذا» ثلاث مرات.
(3)
كما في حديث ابن عمر الذي رواه أحمد (5866) والبزار (5998)، وصححه ابن خزيمة (2027) وابن حبان (2742) والألباني في «إرواء الغليل» (3/ 9).
(4)
ك: «بمثل» .
(5)
ب: «بنفسه» ، تحريف.
واجبًا كالجمعة عند من جعلها بدلًا، وكالتيمُّم للعاجز عن استعمال الماء فإنَّه واجبٌ عليه وهو بدلٌ، فإذا كان البدل قد يكون واجبًا، فكونه مستحبًّا أولى بالجواز، وتخلُّلُ الإحلال لا يمنع أن يكون الجميع عبادةً واحدةً كطواف الإفاضة، فإنَّه ركنٌ بالاتِّفاق، ولا يُفعَل إلا بعد التَّحلُّل الأوَّل، وكذلك رمي الجمار أيَّامَ منًى، وهو يُفعل بعد الحلِّ التَّامِّ، وصوم رمضان يتخلُّله الفطر في لياليه، ولا يَمنع ذلك أن يكون عبادةً واحدةً. ولهذا قال مالك وغيره: إنَّه يجزئ بنيَّةٍ واحدةٍ للشَّهر
(1)
، لأنَّه عبادةٌ واحدة. والله أعلم.
فصل
وأمَّا قولكم: إذا لم يَجُزْ إدخال العمرة على الحجِّ، فلَأن لا يجوز فسخُه إليها أولى وأحرى= فنسمع جَعْجعةً ولا نرى طِحْنًا. وما وجه التَّلازم بين الأمرين؟ وما الدَّليل على هذه الدَّعوى الَّتي ليس بأيديكم برهانٌ عليها؟
ثمَّ القائل لهذا إن كان من أصحاب أبي حنيفة فهو معترفٌ
(2)
بفساد
(3)
هذا القياس. وإن كان من غيرهم طُولِب بصحَّة قياسه، فلا يجد إليه سبيلًا.
ثمَّ يقال: مُدخِل العمرة قد نقصَ بما
(4)
كان التزمه، فإنَّه كان يطوف طوافًا للحجِّ، ثمَّ طوافًا آخر للعمرة، فإذا قرنَ كفاه طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحدٌ بالسُّنَّة الصَّحيحة، وهو قول الجمهور، فقد نقص ممَّا كان يلتزمه
(5)
. وأمَّا
(1)
بعدها في المطبوع: «كله» . وليست في النسخ.
(2)
في المطبوع: «غير معترف» خلاف النسخ، وقد قلب المعنى.
(3)
ك: «بإفساد» .
(4)
كذا في عامة النسخ. وفي مب والمطبوع: «مما» .
(5)
ص، ج، ك:«يلزمه» .
الفاسخ فإنَّه لم ينقُص ممَّا التزمه، بل نقل نُسكَه إلى ما هو أكمل منه وأفضلُ وأكثرُ واجباتٍ، فبطل القياس على كلِّ تقديرٍ، وللَّه الحمد.
فصل
عُدنا إلى سياق حجَّته صلى الله عليه وسلم. ثمَّ نهضَ صلى الله عليه وسلم إلى أن نزل بذي طوًى، وهي المعروفة اليومَ
(1)
بآبار الزَّاهر، فبات بها ليلةَ الأحد لأربعٍ
(2)
خلون من ذي الحجَّة، وصلَّى بها الصُّبح، ثمَّ اغتسل من يومه، ونهضَ إلى مكَّة، فدخلها نهارًا من أعلاها من الثنيَّة العليا الَّتي تُشرِف على الحجون، وكان في العمرة يدخل من أسفلها، وفي الحجَّ دخل من أعلاها وخرج من أسفلها
(3)
، ثمَّ سار حتَّى دخل المسجد وذلك ضحًى.
وذكر الطبرانيُّ
(4)
أنَّه دخله من باب بني عبد منافٍ، الذي يسمِّيه النَّاس اليوم باب بني شَيبة.
وذكر الإمام أحمد
(5)
أنَّه كان إذا دخل مكانًا من دار يعلى استقبلَ البيتَ فدعا.
(1)
في المطبوع: «الآن» .
(2)
ك: «لأربعة» .
(3)
رواه البخاري (1574، 1575) ومسلم (1257/ 223) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
في «الأوسط» (491) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفي إسناده عبد الله بن نافع ومروان بن أبي مروان تكلم فيهما، وانظر:«البدر المنير» (6/ 178) و «التلخيص الحبير» (2/ 243) و «مجمع الزوائد» (3/ 238).
(5)
برقم (16587)، وفي إسناده عبد الرحمن بن طارق بن علقمة، وقد انفرد بالرواية عنه عبيد الله بن أبي يزيد المكي، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان. انظر تعليق المحققين على «المسند» .
وذكر الطبرانيُّ
(1)
أنَّه كان إذا نظر إلى البيت قال: «اللَّهمَّ زِدْ بيتك هذا تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومَهابةً» . ورُوِي عنه أنَّه كان عند رؤيته يرفع يديه ويكبِّر، ويقول: «اللَّهمَّ أنت السَّلام، ومنك السَّلام، فحيِّنا
(2)
ربَّنا بالسَّلام»
(3)
(4)
، وهو مرسلٌ، ولكن سمع هذا سعيد بن المسيِّب من عمر بن الخطَّاب يقوله.
فلمَّا دخل المسجد عَمَدَ إلى البيت، ولم يركع تحيَّة المسجد، فإنَّ تحيَّة المسجد الحرام الطَّواف، فلمَّا حاذى الحجر الأسود استلمه، ولم يزاحِمْ عليه، ولم يتقدَّم عنه إلى جهة الرُّكن اليمانيِّ، ولم يرفع يديه، ولم يقل: نويتُ بطوافي هذا الأسبوع كذا وكذا، ولا افتتحه بالتَّكبير كما يكبّر للصلاة
(5)
، كما
(1)
في «الكبير» (3/ 181)، و «الأوسط» (6132) من حديث حذيفة بن أسيد- رضي الله عنه، وفي الإسناد عاصم بن سليمان الكوزي، قال عمرو الفلاس وابن عدي والساجي فيه:«كان يضع الحديث» . انظر: «السلسلة الضعيفة» (4215) و «دفاع عن الحديث النبوي» كلاهما للألباني (ص 37).
(2)
ق، ب، مب:«حيّنا» .
(3)
رواه أحمد في «العلل» (197) والبخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 294) والبيهقي (5/ 73) من قول عمر- رضي الله عنه، والأثر حسنه الألباني في «مناسك الحج والعمرة» (ص 20)، وقال: «ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هنا دعاء خاص، فيدعو بما تيسر له، وإن دعا بدعاء عمر
…
فحسن لثبوته عنه رضي الله عنه».
(4)
روى هذا الدعاء البيهقي (5/ 118) عن ابن جريج مرسلًا، والحديث لا يثبت. انظر:«التلخيص الحبير» (2/ 242).
(5)
«كما يكبر للصلاة» ليست في المطبوع.
يفعله من لا علمَ عنده، بل هو من البدع المنكرات، ولا حاذى الحجر الأسود بجميع بدنه ثمَّ انفتلَ عنه وجعله على شِقِّه، بل استقبله واستلمه، ثمَّ أخذ على يمينه وجعل البيت عن يساره، ولم يدعُ عند الباب بدعاءٍ، ولا تحتَ الميزاب، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها، ولا وقَّت للطَّواف ذكرًا معيَّنًا، لا بفعله ولا بتعليمه، بل حُفِظ عنه بين الرُّكنين:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]
(1)
.
ورملَ في طوافه هذا الثَّلاثةَ الأشواط الأول، وكان يُسرِع مَشيَه، ويقارب بين خُطاه، واضطبع بردائه، فجعله على إحدى كتفيه
(2)
، وأبدى كتفَه الأخرى ومنكبه، وكلَّما حاذى الحجر الأسود أشار إليه، واستلمه بمِحْجَنه، وقبَّل المِحْجَن. والمِحْجَن: عصا مَحنيَّة الرَّأس. وثبت عنه أنَّه استلم الرُّكن اليمانيَّ، ولم يثبت عنه أنَّه قبَّله، ولا قبَّل يده عند استلامه. وقد روى الدارقطنيُّ
(3)
عن ابن عباسٍ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّل الرُّكن اليمانيَّ، ويضعُ خدَّه عليه. وفيه عبد الله بن مسلم بن هرمز، قال الإمام أحمد: صالح الحديث
(4)
، وضعَّفه غيره.
ولكنَّ المراد بالرُّكن اليمانيِّ هاهنا الحجر الأسود، فإنَّه يسمَّى اليمانيَّ،
(1)
رواه أحمد (15399) وأبو داود (1892) من حديث عبد الله بن السائب، وصححه ابن خزيمة (2721) وابن حبان (3826) والحاكم (1/ 455). وانظر:«صحيح أبي داود - الأم» (6/ 141).
(2)
في المطبوع: «فجعل طرفيه على أحد كتفيه» .
(3)
برقم (2743)، ورواه عبد بن حميد (638) وأبو يعلى (2605)، وفي إسناده عبد الله بن مسلم متكلم فيه. والحديث ضعفه البيهقي (5/ 76) لأجل عبد الله هذا. وانظر ترجمته في «تهذيب الكمال» (16/ 130).
(4)
انظر: «الكامل» لابن عدي (5/ 260).
مع الرُّكن الآخر يقال لهما: اليمانيين
(1)
، ويقال له مع الرُّكن الذي يلي الحجر من ناحية الباب: العراقيين؛ ويقال للرُّكنين اللَّذين يليان الحجر: الشاميين. ويقال للرُّكن اليمانيِّ والَّذي يلي الحجر من ظهر الكعبة: الغربيين. ولكن ثبت عنه أنَّه قبَّل الحجر الأسود، وثبت عنه أنَّه استلمه بيده فوضع يده عليه ثمَّ قبَّلها، وثبت عنه أنَّه استلمه
(2)
بمِحْجنٍ. فهذه ثلاث صفاتٍ، وروي عنه أنَّه وضعَ شفتيه عليه طويلًا يبكي
(3)
.
وذكر الطَّبرانيُّ
(4)
عنه بإسنادٍ جيِّدٍ: أنَّه كان إذا استلم الرُّكن قال: بسم الله والله أكبر.
وكان كلَّما أتى على الحجر الأسود قال: الله أكبر
(5)
.
وذكر أبو داود الطيالسيُّ
(6)
وأبو عاصمٍ النَّبيل عن جعفر بن عبد الله بن
(1)
في المطبوع: «اليمانيان
…
العراقيان
…
الشاميان
…
الغربيان» والمثبت من النسخ.
(2)
ك، ج:«استلم» .
(3)
رواه ابن ماجه (2945) والبزار (12/ 221) وابن خزيمة (2712) والحاكم (1/ 454) والبيهقي في «شعب الإيمان» (3765) من حديث ابن عمر. وفيه محمد بن عون متروك. انظر: «الكامل» لابن عدي (7/ 485 - 486) و «تهذيب التهذيب» (9/ 385) و «السلسلة الضعيفة» (1022).
(4)
في «الدعاء» (863) من طريق عبد الرزاق (8894) عن ابن عمر موقوفًا، ولفظه: أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا استلم الركن قال: «بسم الله والله أكبر» ، رجاله ثقات وإسناده صحيح.
(5)
رواه البخاري (1613) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(6)
برقم (28)، ورواه ابن خزيمة (2714) والبيهقي (5/ 74)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة والحاكم (1/ 455) والألباني في «الإرواء» (4/ 310).
عثمان قال: رأيت محمَّد بن عبَّاد بن جعفرٍ قبَّل الحجر وسجد عليه، ثمَّ قال: رأيت ابن عبَّاسٍ يقبِّله ويسجد عليه، وقال ابن عبَّاسٍ: رأيت عمر بن الخطَّاب قبَّله وسجد عليه، ثمَّ قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلتُ.
وروى البيهقي
(1)
عن ابن عبَّاسٍ: أنَّه قبَّل الرُّكن ثمَّ سجد عليه، ثمَّ قبَّله ثمَّ سجد عليه، ثلاث مرَّاتٍ.
وذكر
(2)
أيضًا عنه قال: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر.
ولم يستلم صلى الله عليه وسلم ولم يمسَّ من الأركان إلا اليمانيَّين فقط، قال الشافعيُّ
(3)
: ولم يَدَعْ أحدٌ استلامَهما هجرةً لبيت اللَّه، ولكن استلم ما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمسك عمَّا أمسك عنه.
فصل
فلمَّا فرغ من طوافه جاء إلى خلف المقام، فقرأ:{وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، فصلَّى ركعتين والمقامُ بينه وبين البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص، وقراءتُه الآيةَ المذكورة بيانٌ منه لتفسير القرآن ومرادِ الله منه بفعله صلى الله عليه وسلم. فلمَّا فرغ من صلاته أقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثمَّ خرج إلى الصَّفا من الباب الذي يقابله، فلمَّا دنا
(4)
منه قرأ:
(1)
في «السنن الكبرى» (5/ 75)، ورواه عبد الرزاق (8912)، والأثر صحيح. انظر:«الإرواء» (4/ 311).
(2)
(5/ 75)، وفي إسناده يحيى بن يمان متكلم فيه. وانظر:«الإرواء» (4/ 312).
(3)
في كتاب «الأم» (3/ 435).
(4)
في المطبوع: «قرب» خلاف النسخ.
«{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، أَبدأُ بما بدأ الله به»
(1)
. وفي رواية للنسائيِّ
(2)
: «ابدَؤوا» على الأمر. ثمَّ رَقِيَ عليه حتَّى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك
(3)
وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ. لا إله إلا الله وحده، أنجزَ وعدَه، ونصر عبدَه، وهزم الأحزاب وحدَه». ثمَّ دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرَّاتٍ.
وقام
(4)
ابن مسعودٍ على الصَّدع، وهو الشَّقُّ الذي في الصَّفا، فقيل له: هاهنا يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هذا والَّذي لا إله غيره مقامُ الذي أُنزِلت عليه سورة البقرة. ذكره البيهقي
(5)
.
ثمَّ نزل إلى المروة يمشي، فلمَّا انصبَّتْ قدماه في بطن الوادي سعى، حتَّى إذا جاوز الواديَ وأصعدَ مشى، هذا الذي صحَّ عنه، وذلك اليومَ قبل الميلين الأخضرين في أوَّل المسعى وآخره
(6)
. والظَّاهر أنَّ الوادي لم يتغيَّر
(1)
رواه مسلم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه .
(2)
برقم (2962)، وهذه الرواية شاذة. انظر:«التلخيص الحبير» (2/ 250) و «الإرواء» (4/ 317).
(3)
إلى هنا انتهى الخرم الكبير في نسخة م، الذي بدأ (ص 56).
(4)
ك: «وقال» ، خطأ.
(5)
في «السنن الكبرى» (5/ 95). وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي متكلم فيه. انظر: «تهذيب الكمال» (3/ 198).
(6)
«وآخره» ليست في ق، ك، م، ب، مب.
عن وضعه، هكذا قال جابر عنه في «صحيح مسلم»
(1)
. وظاهر هذا: أنَّه كان ماشيًا، وقد روى مسلم في «صحيحه»
(2)
عن أبي الزبير أنَّه سمع جابر بن عبد الله يقول: طاف النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصَّفا والمروة؛ ليراه النَّاس، وليُشْرِف
(3)
. ولم يطفْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافًا واحدًا.
قال ابن حزمٍ
(4)
: لا تعارُضَ بينهما ; لأنَّ الرَّاكب إذا انصبَّتْ
(5)
به بعيرُه فقد انصبَّ كلُّه، وانصبَّت قدماه أيضًا مع سائر جسده.
وعندي في الجمع بينهما وجهٌ أحسنُ من هذا، وهو أنَّه سعى ماشيًا أوَّلًا، ثمَّ أتمَّ سعيه راكبًا، وقد جاء ذلك مصرَّحًا به، ففي «صحيح مسلم»
(6)
عن أبي الطُّفيل قال: قلت لابن عبَّاسٍ: أخبِرْني عن الطَّواف بين الصَّفا والمروة راكبًا، أسنَّةٌ هو؟ فإنَّ قومك يزعمون أنَّه سنَّةٌ، قال: صدقوا وكذبوا، قال: قلت: ما قولك: صدقوا وكذبوا؟ قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كثُر عليه النَّاس، يقولون هذا محمَّدٌ، حتى خرج العواتقُ من البيوت، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُضْرَب النَّاسُ بين يديه. قال: فلمَّا كثُر عليه ركب، والمشيُ
(7)
أفضل.
(1)
برقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه .
(2)
برقم (1273/ 255).
(3)
بعدها في المطبوع زيادة: «وليسألوه، فإن الناس قد غَشُوه. وروى مسلم عن أبي الزبير عن جابر» ، وليست في جميع النسخ.
(4)
في «حجة الوداع» (ص 157).
(5)
كذا في عامة النسخ. وفي مب والمطبوع: «انصب» .
(6)
برقم (1264/ 237).
(7)
بعدها في المطبوع: «والسعي» . وليست في النسخ، ولكنها في الرواية.
فصل
وأمَّا طوافه بالبيت عند قدومه، فاختُلِف فيه: هل كان على قدمَيه أو كان راكبًا؟
ففي «صحيح مسلم»
(1)
عن عائشة قالت: طاف النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الرُّكن، كراهيةَ أن يُضْرَب عنه النَّاس.
وفي «سنن أبي داود»
(2)
عن ابن عبَّاسٍ قال: قدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكَّة وهو يشتكي، فطاف على راحلته، كلَّما أتى الرُّكنَ استلم الركنَ
(3)
بمِحْجَنٍ، فلمَّا فرغ من طوافه أناخ فصلَّى ركعتين.
وقال أبو الطفيل: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يطوف حول البيت على بعيرٍ يستلم الحجرَ بمِحْجنه
(4)
ثمَّ يقبِّله. رواه مسلم
(5)
دون ذكر البعير، وهو عند البيهقي
(6)
بإسناد مسلم بذكر البعير، وهذا ــ والله أعلم ــ في طواف الإفاضة لا في طواف القدوم، فإنَّ جابرًا حكى عنه الرَّمل في الثَّلاثة الأول وذلك لا يكون إلا مع المشي.
(1)
برقم (1274).
(2)
برقم (1881)، ورواه أحمد (2772)، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد متكلم فيه، والحديث يصح بدون قوله «وهو يشتكي» ، فقد تفرد بها يزيد. انظر:«السنن الكبرى» (5/ 99) و «ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 168).
(3)
كذا في النسخ و «السنن» ، وفي المطبوع:«استلمه» .
(4)
ك: «بمحجن» .
(5)
برقم (1275).
(6)
(5/ 100).
قال الشَّافعيُّ
(1)
رحمه الله: أمَّا سَبْعُه
(2)
الذي طافه لمقدَمِه فعلى قدميه؛ لأنَّ جابرًا المحكيّ
(3)
عنه فيه
(4)
: أنَّه رملَ ثلاثة أشواطٍ ومشى أربعةً، فلا يجوز أن يكون جابر يحكي عنه الطَّواف ماشيًا وراكبًا في سَبْعٍ
(5)
واحدٍ، وقد حُفِظ أنَّ سبعه
(6)
الذي ركب فيه
(7)
في طوافه يوم النَّحر.
ثمَّ ذكر الشَّافعيُّ
(8)
عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه: أنَّ
(9)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يُهَجِّروا بالإفاضة، وأفاض في نسائه ليلًا على راحلته يستلم الرُّكن بمِحْجَنه، أحسبه قال: ويُقبِّل طرفَ المِحْجن.
قلت: هذا مع أنَّه مرسلٌ، فهو خلاف ما رواه جابر في «الصَّحيح»
(10)
عنه أنَّه طاف طواف الإفاضة يوم النَّحر نهارًا، وكذلك روت عائشة وابن عمر، كما سيأتي.
وقول ابن عبَّاسٍ: «إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قدِمَ مكَّة وهو يشتكي، فطاف على
(1)
في «الأم» (2/ 442).
(2)
ك، ج، ب:«سعيه» ، تحريف.
(3)
في المطبوع: «حكى» . والمثبت من النسخ موافق لما في «الأم» .
(4)
«فيه» ليست في ك.
(5)
كذا في النسخ، وفي ج بقلم آخر:«سعي» ، وكذلك في «الأم» .
(6)
كذا في النسخ، وفي ج بقلم آخر:«سعيه» ، وكذا في «الأم» . والأولى بالسياق «سبع» و «سبعه» ، كما يدل عليه الحديث الآتي.
(7)
«فيه» ليست في ص.
(8)
في «الأم» (2/ 442 - 443).
(9)
ك: «عن» .
(10)
مب، ق:«الصحيحين» .
راحلته، كلَّما أتى الرُّكَن استلمه»، هذا إن كان محفوظًا فهو في إحدى عُمَره، وإلَّا فقد صحَّ عنه الرَّمل في الثَّلاثة الأول من طواف القدوم، إلا أن نقول
(1)
كما قال ابن حزمٍ في السَّعي
(2)
: إنَّه رملَ على بعيره، فإنَّ من رملَ به
(3)
بعيرُه فقد رمل، لكن ليس في شيءٍ من الأحاديث أنَّه كان راكبًا في طواف القدوم. والله أعلم.
فصل
قال ابن حزمٍ
(4)
: فطاف بين الصَّفا والمروة أيضًا سبعًا راكبًا على بعيره، يَخُبُّ ثلاثًا ويمشي أربعًا.
وهذا من أوهامه وغلطه رحمه الله، فإنَّ أحدًا لم يقل هذا قطُّ غيره، ولا رواه أحدٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم البتَّة. وهذا إنَّما هو في الطَّواف بالبيت، فغلِطَ أبو محمد ونقله إلى الطَّواف بين الصَّفا والمروة.
وأعجب من ذلك استدلاله عليه بما رواه من طريق البخاريِّ
(5)
عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف حين قدم مكَّة، واستلم الرُّكن أوَّلَ شيءٍ، ثمَّ خبَّ ثلاثة أطوافٍ، ومشى أربعًا، فركع حين قضى طوافه بالبيت
(6)
عند المقام ركعتين، ثمَّ سلَّم وانصرف، فأتى الصَّفا، فطاف بالصَّفا والمروة سبعة
(1)
في م، مب، المطبوع:«يقول» .
(2)
«حجة الوداع» (ص 157)، قال:«ذِكر الرمل يعني رملَ الدابة براكبها» .
(3)
في ب، مب، المطبوع:«على» خلاف بقية النسخ.
(4)
في «حجة الوداع» (ص 117، 157).
(5)
برقم (1691).
(6)
في المطبوع بعدها: «وصلى» . وليست في النسخ والبخاري. والفعل «فركع» يغني عنها.
أشواطٍ
…
وذكر باقي الحديث. قال
(1)
: ولم نجد عدد الرَّمل بين الصَّفا والمروة منصوصًا، ولكنَّه متَّفقٌ عليه. هذا لفظه.
قلت: المتَّفق عليه السَّعي في بطن الوادي في الأشواط كلِّها، وأمَّا الرَّمل في الثَّلاثة الأول خاصَّةً، فلم يقلْه ولا نقلَه فيما نعلم غيرُه. وسألت شيخنا عنه، فقال: هذا من أغلاطه، وهو لم يحجَّ رحمه الله.
ويُشبِه هذا الغلطَ غلطُ من قال
(2)
إنَّه سعى أربع عشرة مرَّةً، فكان يحتسب
(3)
بذهابه ورجوعه مرَّةً واحدةً. وهذا غلطٌ عليه صلى الله عليه وسلم، لم ينقله عنه
(4)
أحد، ولا قاله أحدٌ من الأئمَّة الذين اشتهرت
(5)
أقوالهم، وإن ذهب إليه بعض المتأخِّرين من المنتسبين إلى الأئمَّة
(6)
.
وممَّا يبيِّن بطلان هذا القول أنَّه صلى الله عليه وسلم لا خلافَ عنه أنَّه ختمَ سعيه بالمروة، ولو كان الذَّهاب والرُّجوع مرَّةً واحدةً لكان ختمه إنَّما يقع على الصَّفا.
(1)
أي ابن حزم في المصدر السابق (ص 158).
(2)
ص، ج:«قاله» .
(3)
ص، ج:«يحسب» .
(4)
ق، مب:«لم يقله عنه» . والمثبت من بقية النسخ.
(5)
ك: «استمرت» ، تحريف.
(6)
منهم أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي، وأبو علي بن خيران، وأبو سعيد الإصطخري، وأبو حفص بن الوكيل، وأبو بكر الصيرفي من الشافعية، وابن جرير الطبري، ونسب إلى الطحاوي كما في «المناسك» للكرماني (1/ 465) و «البحر العميق» لابن الضياء المكي (3/ 1284) إلا أن كلامه في «المختصر» أنها سبعة أشواط. وينظر:«المجموع» للنووي (8/ 96).
وكان صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى المروة رَقِيَ عليها، واستقبل البيت، وكبَّر اللَّه ووحَّده، وفعل كما فعل على الصَّفا، فلمَّا أكمل سعيه عند المروة أمر كلَّ من لا هديَ معه أن يحلَّ حتمًا ولا بدَّ، قارنًا كان أو مفردًا، وأمرهم أن يحلُّوا الحلَّ كلَّه: من وطء النِّساء، والطِّيب، والمَخِيط
(1)
، وأن يبقَوا كذلك إلى يوم التَّروية، ولم يحلَّ هو من أجل هديه، وهناك قال:«لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سقتُ الهدي، ولجعلتُها عمرةً» .
وقد روي أنَّه أحلَّ هو أيضًا، وهو غلطٌ قطعًا، قد بيَّنَّاه فيما تقدَّم.
وهناك دعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثًا، وللمقصِّرين مرَّةً
(2)
، وهناك سأله سُراقة بن مالك بن جُعْشُم عقيبَ أمره لهم بالفسخ والإحلال: هل ذلك لعامهم خاصَّةً أم للأبد؟ فقال: «بل للأبد» . ولم يحلَّ أبو بكر ولا عمر ولا علي ولا طلحة ولا الزبير من أجل الهدي. وأمَّا نساؤه صلى الله عليه وسلم فأحللن، وكنَّ قارناتٍ، إلا عائشة فإنَّها لم تحلَّ من أجل تعذُّر الحلِّ عليها
(3)
بحيضها
(4)
. وفاطمة حلَّت؛ لأنَّها لم يكن معها هديٌ، وعلي لم يحلَّ من أجل هديه. وأمرَ مَن أهلَّ بإهلالٍ كإهلاله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على إحرامه إن كان معه هديٌ، وأن يحلَّ إن لم يكن معه هديٌ.
وكان يصلِّي مدَّةَ مُقامِه
(5)
إلى يوم التَّروية بمنزلهِ الذي هو نازلٌ فيه
(1)
في المطبوع: «ولبس المخيط» . والمثبت من النسخ.
(2)
رواه البخاري (1728) ومسلم (1303) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(3)
«عليها» ليست في ك.
(4)
في المطبوع: «لحيضها» .
(5)
بعدها في المطبوع: «بمكة» . وليست في النسخ.
بالمسلمين بظاهر مكَّة، فأقام
(1)
أربعة أيَّامٍ يقصُر الصَّلاة يوم الأحد والاثنين والثُّلاثاء والأربعاء، فلمَّا كان يوم الخميس ضحًى توجَّه بمن معه من المسلمين إلى منًى، فأحرم بالحجِّ من كان أحلَّ منهم من رحالهم ولم يدخلوا إلى المسجد، فأحرموا منه، بل أحرموا ومكَّة خلفَ ظهورهم، فلمَّا وصل إلى منًى فنزلَ
(2)
بها، وصلَّى بها الظُّهر والعصر، وبات بها، وكان ليلة الجمعة، فلمَّا طلعت الشَّمس سار منها إلى عرفة، وأخذ على طريق ضَبٍّ على يمين طريقِ النَّاس اليوم، وكان من الصحابة الملبِّي، ومنهم المكبِّر، وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء
(3)
. فوجد القبَّة قد ضُرِبت له بنَمِرةَ بأمره
(4)
، وهي قريةٌ شرقيَّ عرفاتٍ
(5)
، وهي خرابٌ اليومَ، فنزل فيها، حتَّى إذا زالت الشَّمس أمر بناقته القصواء فرُحِلتْ، ثمَّ سار
(6)
حتَّى أتى بطنَ الوادي من أرض عُرَنَة، فخطب النَّاسَ وهو على راحلته خطبةً عظيمةً، قرَّر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشِّرك والجاهليَّة، وقرَّر فيها تحريم المحرَّمات الَّتي اتِّفقت الملل على تحريمها، وهي الدِّماء والأموال والأعراض، ووضع فيها أمور الجاهليَّة تحت قدميه
(7)
،
ووضع فيها ربا الجاهليَّة كلَّه وأبطله، وأوصاهم
(1)
بعدها في ب، مب، المطبوع:«بظاهر مكة» . وليست في بقية النسخ، وهو تكرار لما سبق.
(2)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «نزل» .
(3)
رواه البخاري (970) ومسلم (1285/ 274) من حديث أنس رضي الله عنه .
(4)
«بأمره» ليست في ص.
(5)
كذا في النسخ، والصواب:«غربيّ عرفات» ، كما صوَّبه الشيخ ابن باز، انظر:«التعليقات البازية» (ص 254).
(6)
«ثم سار» ليست في ك.
(7)
ك: «قدمه» ..
بالنِّساء خيرًا، وذكر الحقَّ الذي لهنَّ وعليهنَّ، وأنَّ الواجب لهنَّ الرِّزق والكسوة بالمعروف، ولم يقدِّر ذلك بتقديرٍ
(1)
، وأباح للأزواج ضَرْبهنَّ إذا أدخلن إلى بيوتهنَّ من يكرهه أزواجهنَّ، وأوصى الأمَّة فيها بالاعتصام بكتاب اللَّه، وأخبر أنَّهم لن يضلُّوا ما داموا معتصمين به
(2)
، ثمَّ أخبرهم أنَّهم مسؤولون عنه، واستنطقهم: ماذا يقولون، وبماذا يشهدون؟ فقالوا: نشهد أنَّك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فرفع إصبعه إلى السَّماء، واستشهد الله عليهم ثلاث مرَّاتٍ، وأمرهم
(3)
أن يبلِّغ شاهدُهم غائبَهم
(4)
.
قال ابن حزمٍ
(5)
: فأرسلت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية ــ وهي أمُّ عبد الله بن عبَّاسٍ ــ بقَدَح لبنٍ، فشربه أمام النَّاس وهو على بعيره، فلمَّا أتمَّ الخطبة أمر بلالًا فأقام الصَّلاة.
وهذا من وهمه رحمه الله، فإنَّ قصَّة شُربه
(6)
إنَّما كانت بعد هذا، حين سار إلى عرفة ووقفَ بها، هكذا جاء في «الصَّحيحين»
(7)
مصرَّحًا به عن ميمونة: أنَّ النَّاس شكُّوا في صيام النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ عرفة، فأرسلتْ إليه بحِلابٍ وهو واقفٌ في الموقف، فشرِب منه والنَّاس ينظرون. وفي لفظٍ: وهو واقفٌ بعرفة.
(1)
ص، ج:«بقدر» . والمثبت من بقية النسخ.
(2)
«به» ليست في ك.
(3)
«هم» ليست في ص.
(4)
كما في حديث جابر الطويل عند مسلم (1218).
(5)
في «حجة الوداع» (ص 120).
(6)
بعدها في المطبوع: «اللبن» . وليست في النسخ.
(7)
رواه البخاري (1989) ومسلم (1123،1124) من حديث ميمونة رضي الله عنه .
وموضع خطبته لم يكن من الموقف، فإنَّه خطب بعُرَنَة
(1)
، وليست من الموقف، وهو صلى الله عليه وسلم نزل بنَمِرَة، وخطب بعُرَنَة، ووقف بعرفة، وخطب خطبةً واحدةً، لم تكن خطبتين جلس بينهما، فلمَّا أتمَّها أمر بلالًا فأذَّن، ثمَّ أقام
(2)
، فصلَّى الظُّهر ركعتين أسرَّ فيهما بالقراءة، وكان يوم الجمعة. فدلَّ على أنَّ المسافر لا يصلِّي جمعةً، ثمَّ أقام فصلَّى العصر ركعتين أيضًا، ومعه أهل مكَّة، وصلَّوا بصلاته قصرًا وجمعًا بلا ريبٍ، ولم يأمرهم بالإتمام ولا بترك الجمع. ومن قال: إنَّه قال لهم: «أتِمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سَفْرٌ» فقد غلِطَ عليه
(3)
غلطًا بيِّنًا، ووهم وهمًا قبيحًا، وإنَّما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكَّة، حيث كانوا في ديارهم مقيمين
(4)
.
ولهذا كان أصحُّ أقوال العلماء: إنَّ أهل مكَّة يقصُرون ويجمعون بعرفة، كما فعلوا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أوضحُ دليلٍ على أنَّ سفر القصر لا يتحدَّد بمسافةٍ معلومةٍ، ولا بأيَّامٍ
(5)
، ولا تأثيرَ للنُّسك في قصر الصَّلاة البتَّةَ، وإنَّما التَّأثير لما جعله الله سببًا وهو السَّفر. هذا مقتضى السُّنَّة، ولا وجهَ لما ذهب إليه المحدِّدون.
فلمَّا فرغ من صلاته ركب حتَّى أتى الموقف، فوقف في ذيل الجبل عند
(1)
مب، ص:«بعرفة» ، تصحيف.
(2)
بعدها في المطبوع: «الصلاة» . وليست في النسخ.
(3)
في المطبوع: «فيه» . والمثبت من النسخ.
(4)
رواه أبوداود (1229) من حديث عمران بن حصين، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان متكلم فيه. وانظر:«ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 34).
(5)
بعدها في المطبوع: «معلومة» ، وليست في النسخ.
الصَّخَرات، واستقبل القبلة، وجعل حَبْلَ المشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذ في الدُّعاء والتَّضرُّع والابتهال إلى غروب الشَّمس، وأمر النَّاس أن يرفعوا عن بطن عُرَنَة
(1)
، وأخبر أنَّ عرفة لا تختصُّ بموقفه ذلك، بل قال:«وقفتُ هاهنا، وعرفة كلُّها موقفٌ»
(2)
.
وأرسل إلى النَّاس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنَّها من إرث أبيهم
(3)
إبراهيم
(4)
. وهنالك أقبل ناسٌ من أهل نجدٍ، فسألوه عن الحجِّ، فقال: «الحجُّ يوم عرفة
(5)
، من أدرك قبل صلاة الصُّبح فقد أدرك الحج
(6)
، أيَّامُ منًى ثلاثة أيام التشريق
(7)
، فمن تعجَّل في يومين فلا إثمَ عليه، ومن تأخَّر فلا إثمَ عليه»
(8)
.
(1)
رواه ابن حبان (3854) والبيهقي (9/ 296) من حديث جبير بن مطعم، وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي حسين لم يوثقه غير ابن حبان، وللحديث طرق وشواهد يتقوى بها. انظر:«السلسلة الصحيحة» (2464).
(2)
رواه مسلم (1218/ 149) من حديث جابر رضي الله عنه .
(3)
«أبيهم» ليست في ك.
(4)
رواه أحمد (17233) وأبو داود (1919) والترمذي (883) والنسائي (3014) وابن ماجه (3011) من حديث ابن مربع- رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة (2819) والحاكم (1/ 462) والألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 167).
(5)
«يوم» ليست في المطبوع، وهي ثابتة في رواية أحمد وأبي داود.
(6)
كذا في النسخ، وغيّر في المطبوع فأثبت:«من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع تم حجه» .
(7)
«أيام التشريق» ليست في المطبوع. وهي ثابتة في جميع النسخ.
(8)
رواه أبو داود (1949) والترمذي (889) والنسائي (3044) وابن ماجه (3015) كلهم من طريق الثوري عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر، ورواه أحمد (18773) من طريق شعبة عن بكير. والحديث صححه الترمذي وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/ 463). وانظر:«الإرواء» (4/ 256).
وكان في دعائه رافعًا يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خير الدُّعاء دعاء يوم عرفة
(1)
.
وذُكر من دعائه صلى الله عليه وسلم في الموقف: «اللهمَّ لك الحمد كالَّذي نقول
(2)
، وخيرًا ممَّا نقول، اللهمَّ لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك ربِّ
(3)
تُراثي، اللّهمَّ إنِّي أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصَّدر، وشَتاتِ الأمر، اللّهمَّ إنِّي أعوذ بك من شرِّ ما تجيء به الرِّيح». ذكره الترمذي
(4)
.
وممَّا ذُكر من دعائه هناك: «اللَّهمَّ إنك
(5)
تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سرِّي وعلانيتي، لا يخفى عليك شيءٌ من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجِلُ المشفق، المقرُّ المعترف بذنوبه
(6)
، أسألك
(1)
رواه أحمد (6961) والترمذي (3579) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي إسناده محمد بن أبي حميد متكلم فيه وللحديث شواهد تقويه. انظر:«السلسلة الصحيحة» (1503).
(2)
كذا في رواية الترمذي. وعند ابن خزيمة: «تقول» .
(3)
في المطبوع: «ربي» خلاف الأصول والترمذي.
(4)
برقم (3520) وابن خزيمة (2841) من حديث علي- رضي الله عنه، وفيه قيس بن الربيع تكلم فيه، قال الترمذي:«هذا حديث غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي» . وانظر: «السلسلة الضعيفة» (2918).
(5)
«إنك» ليست في المطبوع.
(6)
كذا في جميع النسخ، والرواية:«بذنبه» ، وفي المطبوع:«بذنوبي» خلاف الاثنين.
مسألةَ المسكين، وأبتهلُ إليك ابتهالَ المذنب الذَّليل، وأدعوك دعاء الخائف الضَّرير، مَن خَضَعتْ لك رقبته، وفاضتْ لك عيناه، وذلَّ جسده، ورغِمَ أنفُه لك، اللّهمَّ لا تجعلْني بدعائك
(1)
شقيًّا، وكُنْ بي رؤوفًا رحيمًا، يا خيرَ المسؤولين، ويا خيرَ المُعطِين». ذكره الطَّبرانيُّ
(2)
.
وذكر الإمام أحمد
(3)
من حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه: كان أكثر دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ عرفة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ» .
وذكر البيهقي
(4)
من حديث علي عنه أنَّه
(5)
صلى الله عليه وسلم قال: «أكثرُ دعائي ودعاءِ الأنبياء قبلي
(6)
بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ. اللهمَّ اجعلْ في قلبي نورًا
(7)
، وفي سَمْعي
(1)
بعدها في المطبوع زيادة: «ربِّ» . وليست في النسخ والطبراني.
(2)
في «المعجم الكبير» برقم (11/ 174) وفي «المعجم الصغير» (696) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي إسناده يحيى بن صالح الأيلي، قال العقيلي في «الضعفاء» (4/ 409): يحيى بن صالح الأيلي عن إسماعيل بن أمية عن عطاء أحاديثه مناكير، أخشى أن تكون منقلبة. وقال ابن عدي عن أحاديث يحيى في «الكامل» (9/ 109 - 110): وكلها غير محفوظة.
(3)
برقم (6961)، وتقدم قريبًا.
(4)
(5/ 117)، وقال:«تفرد به موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، ولم يدرك أخوه عليًّا رضي الله عنه» .
(5)
«أنه» ليست في ك.
(6)
كذا في أكثر النسخ والبيهقي. وفي ب، مب، المطبوع:«من قبلي» .
(7)
بعدها في المطبوع: «وفي صدري نورًا» . وليست في النسخ والبيهقي.
نورًا، وفي بصري نورًا. اللهمَّ اشرحْ لي صدري، ويَسِّرْ لي أمري، وأعوذ بك من وسواس الصَّدر، وشَتاتِ الأمر، وفتنة القبر. اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من شرِّ ما يَلِجُ في اللَّيل، وشرِّ ما يَلِجُ في النَّهار، وشرِّ ما تَهُبُّ به الرِّياح، ومن
(1)
شرِّ بَوائقِ الدَّهر».
وأسانيد هذه الأدعية فيها لينٌ.
وهناك أنزلت عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
(2)
.
وهناك سقط رجلٌ من المسلمين عن راحلته وهو مُحرِمٌ، فمات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُكفَّن في ثوبيه، ولا يُمَسَّ بطيبٍ، وأن يُغْسَل بماءٍ وسدرٍ، ولا يغطَّى رأسه ولا وجهه، وأخبر أنَّ الله يبعثه يوم القيامة يلبِّي
(3)
.
وفي هذه القصَّة اثنا عشر حكمًا
(4)
:
الحكم الأوَّل: وجوب غَسْل الميِّت، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
الحكم الثَّاني: أنَّه لا يَنجُس بالموت؛ لأنَّه لو نجس
(5)
لم يزِدْه غسلُه إلا نجاسةً؛ لأنَّ نجاسة الموت للحيوان عينيَّةٌ، فإن ساعد المنجِّسون على أنَّه
(1)
«من» ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة في النسخ ومصدر التخريج.
(2)
رواه البخاري (4606) ومسلم (3017/ 3) من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (1851) ومسلم (1206/ 98،99) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
ك، ج، ص:«عشرة أحكام» . والمثبت من ق، مب، وهو الموافق لما سيذكره المؤلف.
(5)
بعدها في مب والمطبوع: «بالموت» . وليست في بقية النسخ، وهو معلوم من السياق.
يطهر بالغسل بطلَ أن يكون نجسًا بالموت، وإن قالوا: لا يطهر، لم يَزِدِ الغسلُ أكفانَه وثيابه وغاسلَه إلا نجاسةً.
الحكم الثَّالث: أنَّ المشروع في حقِّ الميِّت أن يُغْسَل بماءٍ وسدرٍ، لا يُقتَصر به على الماء وحده، وقد أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالسِّدر في ثلاث
(1)
مواضع هذا أحدها، والثَّاني: في غَسْل ابنته بالماء والسِّدر
(2)
، والثَّالث: في
(3)
غسل الحائض
(4)
. وفي وجوب السِّدر في حقِّ الحائض قولان في مذهب أحمد.
الحكم الرَّابع: أنَّ تغيُّر الماء بالطَّاهرات لا يسلبه طهوريَّتَه، كما هو مذهب الجمهور، وهو أنصُّ الرِّوايتين عن أحمد، وإن كان المتأخِّرون من أصحابه على خلافها. ولم يأمر بغَسْله بعد ذلك بماءٍ قَراحٍ، بل أمر في غَسْل ابنته أن تجعل
(5)
في الغَسْلة الأخيرة شيئًا من الكافور، ولو سلبه الطَّهوريَّة لنهى عنه. وليس القصد مجرَّد اكتساب الماء من رائحته حتَّى يكون تغيُّر مجاورةٍ، بل تطييب البدن وتصليبه وتقويته، وهذا إنَّما
(6)
يحصل بكافورٍ مخالطٍ لا مجاورٍ.
الحكم الخامس: إباحة الغسل للمحرِم، وقد تناظر في هذا عبد الله بن
(1)
كذا في النسخ بتذكير العدد.
(2)
رواه البخاري (1253) ومسلم (939/ 38) من حديث أم عطية رضي الله عنه .
(3)
«في» ليست في ك، ص، ج.
(4)
رواه مسلم (332/ 61) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5)
كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: «يجعلن» .
(6)
«إنما» ليست في ك.
عبَّاسٍ والمِسْور بن مَخْرمة، ففَصَلَ بينهما أبو أيُّوب الأنصاريُّ بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل وهو محرِمٌ
(1)
. واتَّفقوا على أنَّه يغتسل من الجنابة، ولكن كره مالك أن يغيِّب رأسه في الماء؛ لأنَّه نوع سَتْرٍ له، والصَّحيح أنَّه لا بأس به، فقد فعله عمر بن الخطَّاب وابن عبَّاسٍ
(2)
.
الحكم السَّادس: أنَّ المحرم غير ممنوعٍ من الماء والسِّدر. وقد اختُلِف في ذلك، فأباحه الشَّافعيُّ وأحمد في أظهر الرِّوايتين عنه، ومنع منه مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية ابنه صالح عنه. قال: فإن فعل افتدى
(3)
. وقال صاحبا أبي حنيفة: إن فعلَ فعليه صدقةٌ.
وللمانعين ثلاث عللٍ:
إحداها: أنَّه يقتل الهوامَّ من رأسه، وهو ممنوعٌ من التَّفلِّي.
الثَّانية: أنَّه ترفُّهٌ وإزالةُ شَعَثٍ، فَنَافَى
(4)
الإحرام.
الثَّالثة: أنَّه يستلذُّ
(5)
رائحته، أشبهَ
(6)
الطِّيب، ولا سيَّما الخطميُّ.
والعلل الثَّلاث واهيةٌ جدًّا، والصَّواب جوازه للنصِّ، ولم يحرِّم الله ورسوله
(7)
على المحرم إزالةَ الشَّعَث بالاغتسال، ولا قتلَ القَمْل، وليس
(1)
رواه البخاري (1840) ومسلم (1205/ 91).
(2)
رواه ابن أبي شيبة (13003).
(3)
كذا في أكثر النسخ، وهو الصواب. وفي مب والمطبوع:«أهدى» ، خطأ.
(4)
ق، ص:«فينافي» .
(5)
ص، ج، م:«تستلذ» .
(6)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «فأشبه» .
(7)
ك: «ولا رسوله» .
السِّدر من الطِّيب في شيءٍ.
الحكم السَّابع: أنَّ الكفن مقدَّمٌ على الميراث وعلى الدَّين؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكفَّن في ثوبيه، ولم يسأل عن وارثه ولا عن دَينٍ عليه، ولو اختلف الحال لسأل. وكما أنَّ كسوته في الحياة مقدَّمةٌ على قضاء دينه، فكذلك بعد الممات، هذا قول الجمهور، وفيه خلافٌ شاذٌّ لا يُعوَّل عليه.
الحكم الثَّامن: جواز الاقتصار في الكفن على ثوبين، هما إزارٌ ورداءٌ، هذا قول الجمهور. وقال القاضي أبو يعلى
(1)
: لا يُجزئ
(2)
أقلُّ من ثلاثة أثوابٍ عند القدرة؛ لأنَّه لو جاز الاقتصار على ثوبين لم يجز التَّكفين بالثَّلاثة لمن له أيتامٌ. والصَّحيح خلافُ قوله، وما ذكره ينتقض
(3)
بالخشن مع الرَّفيع.
الحكم التَّاسع: أنَّ المحرم ممنوعٌ من الطِّيب؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرب
(4)
طيبًا، مع شهادته له بأنه يُبعَثُ ملبِّيًا، وهذا هو الأصل في منع المحرم من الطِّيب.
وفي «الصَّحيحين»
(5)
من حديث ابن عمر: «لا تلبسوا من الثِّياب شيئًا مسَّه وَرْسٌ أو زعفرانٌ» .
(1)
كما في «المغني» (3/ 387).
(2)
كذا في النسخ و «المغني» . وفي المطبوع: «لا يجوز» .
(3)
في المطبوع: «ينقض» .
(4)
كذا في جميع النسخ، ولا غبار عليه. وغيَّره في المطبوع:«يمس» .
(5)
رواه البخاري (1543) ومسلم (1177).
وأمرَ الذي أحرم في جُبَّةٍ بعد ما تَضَمَّخ بالخَلُوق أن يَنزِع
(1)
عنه الجبَّة، ويَغسِل عنه أثرَ الخَلُوق
(2)
.
فعلى هذه الأحاديث الثَّلاثة مدارُ منع المحرم من الطِّيب. وأصرحُها هذه القصَّة، فإنَّ النَّهي في الحديثين الأخيرين
(3)
إنَّما هو عن نوعٍ خاصٍّ من الطِّيب لا سيَّما الخَلُوق، فإنَّ النَّهي عنه عامٌّ في الإحرام وغيره.
وإذا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يقرب طيبًا أو يمسَّ به، تناولَ ذلك الرَّأسَ والبدن والثِّياب. وأمَّا شمُّه من غير مسٍّ فإنَّما حرَّمه من حرَّمه بالقياس، وإلَّا فلفظ النَّهي لا يتناوله بصريحه، ولا إجماعٌ معلوم فيه يجب المصير إليه، ولكن تحريمه من باب تحريم الوسائل، فإنَّ شمَّه يدعو إلى ملابسته
(4)
في البدن والثِّياب، كما حُرِّم النَّظر إلى الأجنبيَّة؛ لأنَّه وسيلةٌ إلى غيره، وما حُرِّم تحريمَ الوسائل فإنَّه يُباح
(5)
للحاجة والمصلحة الرَّاجحة، كما يباح النَّظر إلى الأمة المستامة
(6)
، والمخطوبة، ومن يشهد عليها، ويُعاملها، ويَطُبُّها
(7)
.
وعلى هذا، فإنَّما يُمنع المحرِم من قصْد شمِّ الطِّيب للتَّرفُّه واللذَّة. فأمَّا
(1)
في المطبوع: «تُنزع
…
ويُغسَل» بصيغة المبني للمجهول. وفي سياق الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به ذلك الشخص الذي أحرم في جبة وتضمَّخ بالخلوق، لا غيره.
(2)
رواه البخاري (1789) ومسلم (1180/ 6) من حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه .
(3)
ك، ص، ب، مب:«الآخرين» .
(4)
ق، م، ب، مب:«ملامسته» . والمثبت من ك، ص، ج.
(5)
ص، ج:«مباح» .
(6)
أي التي يُطلب شراؤها.
(7)
أي يداويها.
إذا وصلت الرَّائحة إلى أنفه من غير قصدٍ منه، أو شمَّه قصدًا لاستعلامه
(1)
عند شرائه، لم يُمنَع منه، ولم يجب عليه سَدُّ أنفه. فالأوَّل بمنزلة نظر الفجأة، والثَّاني بمنزلة نظر المستام والخاطب.
وممَّا يوضِّح هذا: أنَّ الذين أباحوا للمحرِم استدامةَ الطِّيب قبل الإحرام، منهم من صرَّح بإباحة تعمُّد شمِّه بعد الإحرام، صرَّح بذلك أصحاب أبي حنيفة، فقالوا في «جوامع الفقه»
(2)
لأبي يوسف: لا بأسَ بأن يشمَّ طيبًا تطيَّب به قبل إحرامه. قال صاحب «المفيد»
(3)
: إنَّ
(4)
الطِّيب يتَّصل به فيصير تبعًا له؛ ليدفع به أذى التَّفَث
(5)
بعد إحرامه، فيصير كالسَّحور في حقِّ الصَّائم، يدفع به أذى الجوع والعطش في الصَّوم، بخلاف الثَّوب فإنَّه مباينٌ عنه.
وقد اختلف الفقهاء: هل هو ممنوعٌ من استدامته كما هو ممنوعٌ من ابتدائه، أو يجوز له استدامته؟ على قولين. فمذهب الجمهور جواز
(1)
ك: «لاستعماله» .
(2)
«جوامع الفقه» لأبي نصر أحمد بن محمد العتّابي الحنفي المتوفى سنة 586، وهو كبير في أربع مجلدات. انظر:«كشف الظنون» (1/ 611، 567) و «الجواهر المضية» (1/ 299).
(3)
هو «المفيد والمزيد في شرح التجريد» لتاج الدين عبد الغفار بن لقمان الكردري الحنفي المتوفى سنة 562. انظر: «كشف الظنون» (1/ 345، 346) و «الجواهر المضية» (2/ 444).
(4)
ص، ج:«لأن» .
(5)
في المطبوع وق، م، ب، مب:«التعب» ، تصحيف. والمثبت من بقية النسخ.
استدامته، اتِّباعًا لما ثبت بالسُّنَّة الصَّحيحة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يتطيَّب قبل إحرامه، ثمَّ يُرَى وَبِيصُ الطِّيب في مَفارقِه بعد الإحرام
(1)
. وفي لفظٍ: «وهو يُلبِّي»
(2)
. وفي لفظٍ: «بعد ثلاثٍ»
(3)
. وكلُّ هذا يدفع التَّأويل الباطل الذي تأوَّله من قال: إنَّ ذلك كان قبل الإحرام، فلمَّا اغتسل ذهب أثره. وفي لفظٍ: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرِم تطيَّب بأطيبِ ما يجد، ثمَّ أرى
(4)
وَبِيصَ الطِّيب في رأسه ولحيته بعد ذلك»
(5)
. وللَّه ما يصنع التَّقليد ونصرةُ الآراء بأصحابه!
وقال آخرون منهم: إنَّ ذلك كان
(6)
مختصًّا به. ويردُّ هذا أمران:
أحدهما: أنَّ دعوى الاختصاص لا تُسمع إلا بدليلٍ.
الثَّاني: ما رواه أبو داود
(7)
عن عائشة: كنَّا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكَّة، فنُضمِّد جِباهَنا بالسُّكِّ
(8)
المطيَّب عند الإحرام، فإذا عرِقَتْ إحدانا سالَ على
(1)
ص، ج:«إحرامه» . والحديث رواه البخاري (271) ومسلم (1190/ 42) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
عند مسلم (1190/ 41).
(3)
عند النسائي (2703)، وصححه ابن حبان (3768).
(4)
ب، مب:«رأى» . وفي المطبوع: «يرى» خلاف بقية النسخ ومصدر التخريج.
(5)
عند مسلم (1190/ 44).
(6)
«كان» ساقطة من ك.
(7)
برقم (1830)، ورواه البيهقي (5/ 48)، وحسنه النووي في «المجموع» (7/ 219)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 92).
(8)
ص: «المسك» . والمثبت من بقية النسخ موافق لما في مصادر التخريج. والسُّك: ضرب من الطيب يركَّب من مسك ورامك.
وجهها، فيراه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا.
الحكم العاشر: أنَّ المحرِم ممنوعٌ من تغطية رأسه، والمراتب فيه ثلاثة
(1)
: ممنوعٌ منه بالاتِّفاق، وجائزٌ بالاتِّفاق، ومختلفٌ فيه:
فالأوَّل كلُّ متَّصلٍ مُلابسٍ
(2)
يُراد لستر الرَّأس: كالعِمامة، والقُبع
(3)
، والطَّاقيَّة
(4)
، والخُوذَة
(5)
وغيرها.
والثَّاني كالخيمة، والبيت، والشَّجرة، ونحوها. وقد صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه ضُرِبت له قبَّةٌ بنَمِرَةَ وهو محرمٌ، إلا أنَّ مالكًا منع المحرم أن يضع ثوبه على شجرةٍ يستظلُّ
(6)
به، وخالفه الأكثرون، ومنع أصحابه المحرمَ أن يمشي في ظلِّ المَحْمِل.
والثَّالث كالمَحْمِل، والمَحَارة
(7)
، والهَوْدج. فيه ثلاثة أقوالٍ: الجواز، وهو قول الشَّافعيِّ وأبي حنيفة. والثَّاني: المنع. فإن فعل افتدى، وهو مذهب مالك. والثَّالث: المنع، فإن فعل فلا فديةَ عليه. والثَّلاثة رواياتٌ عن أحمد.
(1)
كذا في جميع النسخ بتأنيث العدد.
(2)
في مب، المطبوع:«ملامس» . والمثبت من بقية النسخ.
(3)
كذا في جميع النسخ، وهو بمعنى القلنسوة والطاقية. انظر:«تكملة المعاجم العربية» (8/ 172). وغيَّرها في المطبوع إلى: «القُبَّعة» . ولا داعي للتغيير.
(4)
غطاء للرأس من الصوف أو القطن ونحوهما.
(5)
المغفر يجعل على الرأس.
(6)
في المطبوع: «ليستظل» خلاف النسخ.
(7)
ضرب من محامل النساء. انظر: «تكملة المعاجم العربية» (5/ 204).
الحكم الحادي عشر: منع المحرم من تغطية وجهه. وقد اختُلِف في هذه المسألة: فمذهب الشَّافعيِّ وأحمد في روايةٍ إباحتُه، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في روايةٍ المنعُ منه. وبإباحته قال ستَّةٌ من الصَّحابة: عثمان، وعبد الرَّحمن بن عوفٍ، وزيد بن ثابتٍ، وابن الزبير
(1)
، وسعد بن أبي وقَّاصٍ، وجابر
(2)
. وفيه قولٌ ثالثٌ شاذٌّ: إن كان حيًّا فله تغطية وجهه، وإن كان ميِّتًا لم يجز أن يُغطَّى وجهه. قاله ابن حزمٍ
(3)
، وهو اللَّائق بظاهريَّته.
واحتجَّ المبيحون بأقوال هؤلاء الصَّحابة، وبأصل الإباحة، وبمفهوم قوله:«ولا تُخمِّروا رأسه» . وأجابوا عن قوله: «ولا تُخمِّروا وجهه» بأنَّ هذه اللَّفظة غير محفوظةٍ فيه. قال شعبة
(4)
: حدَّثنيه أبو بشر، ثمَّ سألته عنه بعد عشر سنين، فجاء بالحديث كما كان، إلا أنَّه قال:«لا تُخمِّروا رأسَه ولا وجهَه» . قالوا: وهذا يدلُّ على ضعفها
(5)
. قالوا: وقد روي في هذا الحديث
(6)
: «خَمِّروا وجهه، ولا تُخمِّروا رأسه»
(7)
.
(1)
في المطبوع: «الزبير» ، وهو خطأ.
(2)
انظر أقوال هؤلاء الصحابة في «المحلى» لابن حزم (7/ 91 - 92).
(3)
في «المحلى» (5/ 150).
(4)
رواه النسائي في «المجتبى» (2854) و «الكبرى» (3823)، وانظر:«الجوهر النقي» (5/ 54).
(5)
انظر: «المغني» (5/ 153) و «نصب الراية» (3/ 28) و «الإرواء» (4/ 197 - 200).
(6)
«لا تخمروا
…
هذا الحديث» ساقطة من ك.
(7)
رواه الشافعي في «الأم» (2/ 605) ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 54) و «المعرفة» (5/ 226).
الحكم الثَّاني عشر: بقاء الإحرام بعد الموت، وأنَّه لا ينقطع به
(1)
. وهذا مذهب عثمان وعلي وابن عبَّاسٍ وغيرهم، وبه قال أحمد والشَّافعيُّ وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعيُّ: ينقطع
(2)
بالموت، ويُصنَع به كما يُصنَع بالحلال، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا ماتَ أحدكم انقطعَ عملُه إلا من ثلاثٍ»
(3)
.
قالوا: ولا حجةَ
(4)
في حديث الذي وقَصَتْه راحلته؛ لأنَّه خاصٌّ به، كما قالوا في صلاته على النجاشيِّ: إنِّها مختصَّةٌ به.
قال الجمهور: دعوى التَّخصيص على خلاف الأصل، فلا تُقبَل. وقوله في الحديث: «فإنَّه يُبعَث
(5)
ملبِّيًا» إشارةٌ إلى العلَّة، ولو كان مختصًّا به لم يشر إلى العلَّة، ولا سيَّما إن قيل: لا يصحُّ التَّعليل بالعلَّة القاصرة. وقد قال نظيرَ هذا في شهداء أحدٍ، فقال: «زَمِّلوهم في ثيابهم بكُلُومهم
(6)
، فإنَّهم يُبعَثون يومَ القيامة اللَّونُ لونُ الدَّم
(7)
، والرِّيح ريح المِسْك
(8)
»
(9)
. وهذا
(1)
«به» ليست في ك.
(2)
بعدها في المطبوع زيادة: «الإحرام» . وليست في النسخ. وهي مفهومة من السياق.
(3)
رواه مسلم (2682) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(4)
في المطبوع: «ولا دليل» .
(5)
في المطبوع بعدها زيادة: «يوم القيامة» . ولا توجد في النسخ.
(6)
ك: «وكلومهم» .
(7)
ك، ج، ص:«دم» . والمثبت من ق، م، مب.
(8)
ك، ج، ص، م:«مسك» . والمثبت من ق، مب.
(9)
رواه أحمد (23657، 23658) والنسائي (2002) من حديث عبد الله بن ثعلبة رضي الله عنه . وإسناده صحيح.
غير مختصٍّ بهم، وهو نظير قوله:«كفِّنوه في ثوبيه، فإنَّه يُبعَث يوم القيامة ملبِّيًا» ، ولم تقولوا: إنَّ هذا خاصٌّ بشهداء أحدٍ
(1)
، بل عَدَّيتم الحكمَ إلى سائر الشُّهداء مع إمكان ما ذكرتم من التَّخصيص فيه. وما الفرق وشهادة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الموضعين واحدةٌ؟
وأيضًا فإنَّ هذا الحديث موافقٌ لأصول الشَّرع والحكمة الَّتي رُتِّب عليها المعاد، فإنَّ العبد يُبعَث على ما مات عليه، ومن مات على حالةٍ بُعِثَ عليها، فلو لم يَرِدْ هذا الحديث لكانت أصول الشَّرع شاهدةً به. والله أعلم.
فصل
عُدنا إلى سياق حجَّته صلى الله عليه وسلم. فلمَّا غَرَبت الشَّمس، واستحكم غروبها، بحيث ذهبت الصُّفرة، أفاض من عرفة، وأردفَ أسامةَ بن زيدٍ خلفه، وأفاض بالسَّكينة، وضمَّ إليه زِمامَ ناقته، حتَّى إنَّ رأسها ليصيب طرفَ رحله
(2)
، وهو يقول: «أيُّها النَّاس عليكم بالسَّكينة
(3)
، فإنَّ البرَّ ليس بالإيضاع»
(4)
، أي: ليس بالإسراع.
وأفاض من طريق المَأْزِمَين، ودخل عرفة من طريق ضَبٍّ، وهكذا كانت عادته صلى الله عليه وسلم في الأعياد أن يخالف الطَّريق، وقد تقدَّم حكمة ذلك عند الكلام على هديه في العيد
(5)
.
(1)
بعدها في المطبوع زيادة: «فقط» . وليست في الأصول.
(2)
ك: «راحلته» . مب: «رجله» .
(3)
في م، ب، مب والمطبوع:«السكينة» خلاف بقية النسخ والبخاري.
(4)
رواه البخاري (1671) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
(1/ 564).
ثمَّ جعل يسير العَنَقَ، وهو ضربٌ من السَّير ليس بالسَّريع ولا البطيء. فإذا وجد فَجْوةً ــ وهو المتَّسَع ــ نصَّ سَيْرَه
(1)
، أي: رفعه فوق ذلك، كلَّما أتى رَبْوةً من تلك الرُّبى أرخى للنَّاقة زِمامَها قليلًا حتَّى تصعد.
وكان يلبِّي في مسيره ذلك، لا يقطع التَّلبية. فلمَّا كان في أثناء الطَّريق نزل ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ فبال، وتوضَّأ وضوءًا خفيفًا، فقال له أسامة: الصَّلاة يا رسول اللَّه، فقال:«المصلَّى أمامَك»
(2)
.
ثمَّ سار حتَّى أتى المزدلفة، فتوضَّأ وضوء الصَّلاة، ثمَّ أمر بالأذان، فأذَّن المؤذِّن ثمَّ أقام، فصلَّى المغرب قبل حطِّ الرِّحال وتبريكِ الجمال، فلمَّا حطُّوا رحالهم أمر فأقيمت الصَّلاة، ثمَّ صلَّى عشاء الآخرة بإقامةٍ بلا أذانٍ، ولم يصلِّ بينهما شيئًا
(3)
، وقد رُوي أنَّه صلَّاهما
(4)
بأذانين وإقامتين، وروي بإقامتين بلا أذانٍ، والصَّحيح: أنَّه صلَّاهما بأذانٍ وإقامتين، كما فعل
(5)
بعرفة
(6)
.
ثمَّ نام حتَّى أصبح، ولم يُحْيِ تلك اللَّيلة، ولا صحَّ عنه في إحياء ليلتي العيدين شيءٌ
(7)
.
(1)
«سيره» ليست في ص.
(2)
رواه البخاري (139، 181) ومسلم (1280/ 276، 277) بهذا اللفظ، وكذا في جميع النسخ. وفي المطبوع:«الصلاة أو المصلى أمامك» .
(3)
كما يدل عليه حديث جابر عند مسلم (1218/ 147).
(4)
في أكثر النسخ: «صلاها» . والمثبت من مب.
(5)
ص: «فعله» .
(6)
انظر: «نصب الراية» (3/ 68 - 70) و «حجة النبي صلى الله عليه وسلم» للألباني (ص 75).
(7)
انظر: «السلسلة الضعيفة» (521، 5163).
وأذِن في تلك اللَّيلة لضعفة أهله أن يتقدَّموا إلى منًى قبل طلوع الفجر، وكان ذلك عند غيبوبة القمر، وأمرهم أن لا يرموا الجمرةَ حتَّى تطلع الشَّمس. حديثٌ صحيحٌ، صحَّحه الترمذي
(1)
وغيره.
وأمَّا حديث عائشة: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلةَ النَّحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثمَّ مضت فأفاضتْ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني عندها. رواه أبو داود
(2)
فحديثٌ منكرٌ، أنكره الإمام أحمد وغيره. وممَّا يدلُّ على إنكاره: أنَّ فيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي صلاة الصُّبح يوم النَّحر بمكَّة، وفي روايةٍ: توافيه وكان يومها، فأحبَّ أن توافيه
(3)
، وهذا من المحال قطعًا.
قال الأثرم
(4)
: قال لي
(5)
أبو عبد الله: ثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة
(6)
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه
(1)
رواه برقم (893) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه هو والألباني في «الإرواء» (4/ 272).
(2)
برقم (1942)، والحديث ضعيف لاضطرابه إسنادًا ومتنًا. انظر:«علل الدارقطني» (15/ 50) و «الإرواء» (4/ 277).
(3)
ك، ص، ج:«توافقه» .
(4)
رواه الطحاوي من طريقه في «شرح مشكل الآثار» (9/ 139 - 140) و «معاني الآثار» (2/ 221).
(5)
«لي» ليست في ص.
(6)
«عن أم سلمة» ليست في ق، م، ب والمطبوع. والمثبت من بقية النسخ موافق لما عند الطحاوي.
يوم النَّحر بمكَّة
(1)
. لم يسنده غيره، وهو خطأٌ. وقال وكيعٌ: عن أبيه مرسلٌ
(2)
: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاةَ الصُّبح يوم النَّحر
(3)
بمكَّة
(4)
، أو نحو هذا. وهذا عجبٌ
(5)
أيضًا، النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ النَّحر وقتَ الصُّبح ما يصنع بمكَّة؟! ينكر ذلك. قال: فجئتُ إلى يحيى بن سعيدٍ، فسألته، فقال: عن هشام عن أبيه: أمرها أن تُوافي، ليس «تُوافيه». قال: وبينَ ذينِ فرقٌ. قال: وقال لي يحيى: سَلْ عبد الرحمن عنه، فسألته، فقال هكذا: عن هشام عن أبيه: توافي
(6)
.
قال الخلال: سها الأثرم في حكايته عن وكيعٍ: تُوافيه، وإنَّما قال وكيعٌ: تُوافي منًى. وأصاب في قوله: توافي، كما قال أصحابه، وأخطأ في قوله: منًى
(7)
.
قال الخلال: أخبرنا عليُّ بن حربٍ، ثنا هارون بن عمران، عن
(1)
رواه أحمد في «المسند» (26492) بهذا الإسناد. وانظر: «علل الدارقطني» (15/ 245).
(2)
كذا في ك، ص، ج ومشكل الآثار. وفي ق، م، ب، مب:«مرسله» . وفي المطبوع: «مرسلًا» .
(3)
«يوم النحر» ليست في ك.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (13939) من طريق وكيع.
(5)
ق والمطبوع: «أعجب» . والمثبت من بقية النسخ موافق لما عند الطحاوي.
(6)
«توافي» ليست في ق، م، ب، مب والمطبوع. والمثبت من بقية النسخ موافق لما عند الطحاوي.
(7)
«وأصاب
…
قوله منى» ساقطة من ك بسبب انتقال النظر.
سليمان بن أبي داود، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أخبرتني أم سلمة، قالت: قدَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدَّم من أهله ليلةَ المزدلفة. قالت: فرميتُ بليلٍ، ومضيتُ إلى مكَّة، فصلَّيتُ بها الصُّبح، ثمَّ رجعتُ إلى منًى.
قلت: سليمان بن أبي داود هذا هو الدمشقي الخولاني
(1)
، ويقال: ابن داود. قال أبو زرعة عن أحمد: رجلٌ من أهل الجزيرة ليس بشيءٍ. وقال عثمان بن سعيدٍ: ضعيفٌ
(2)
.
قلت: ويدلُّ على بطلانه ما ثبت في «الصَّحيحين»
(3)
عن القاسم، عن عائشة، قالت
(4)
: استأذنتْ سودةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ المزدلفة أن تَدفع قبله وقبلَ حَطْمة النَّاس، وكانت امرأةً ثَبِطةً
(5)
، قالت فأذِنَ لها، فخرجتْ قبل دفعه
(6)
، وحَبَسَنا حتَّى أصبحنا، فدَفَعْنا بدفعه، ولأن أكونَ استأذنتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنتْه سودة أحبُّ إليَّ من مَفروحٍ به. فهذا الحديث الصَّحيح يبيِّن أنَّ نساءه غير سودة إنَّما دفعنَ معه.
فإن قيل: فما تصنعون بحديث عائشة الذي رواه الدَّارقطنيُّ
(7)
وغيره
(1)
ص: «خولاني» . ج: «الجولاني» .
(2)
ووثقه آخرون. انظر: «تهذيب الكمال» (11/ 416).
(3)
البخاري (1680) ومسلم (1290).
(4)
ك، ص، ج:«قال» .
(5)
قال القاسم كما في رواية مسلم: الثبطة الثقيلة.
(6)
ك: «دفعة الناس» خلاف بقية النسخ والرواية.
(7)
برقم (2676)، وفي إسناده محمد بن حميد متكلم فيه.
عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر نساءه أن يخرجن من جَمْعٍ ليلةَ جَمْعٍ، ويرمين الجمرة، ثمَّ تُصبح في منزلها
(1)
، فكانت تصنع ذلك حتَّى ماتت.
قيل: يردُّه محمد بن حُميدٍ
(2)
أحد رواته، كذَّبه غير واحدٍ. ونردُّه بحديثها الذي في «الصَّحيحين»
(3)
، وقولها: وَدِدتُ أنِّي كنتُ استأذنتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، كما استأذنتْه سودة.
فإن قيل: فهبْ أنَّكم يُمكِنكم ردُّ هذا الحديث، فما تصنعون بالحديث الذي رواه مسلم في «صحيحه»
(4)
عن أم حبيبة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها من جَمْعٍ بليلٍ؟
قيل: قد ثبت في «الصَّحيحين»
(5)
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قدَّم تلك اللَّيلة ضَعفةَ أهله، وكان ابن عبَّاسٍ فيمن قدَّم. وثبت أنَّه
(6)
قدَّم سودة، وثبت أنَّه حبسَ نساءه عنده حتَّى دَفعنَ بدفعه. وحديث أم حبيبة انفرد به مسلم، فإن كان محفوظًا فهي إذًا من الضَّعفة الَّتي قدَّمها.
فإن قيل: فما تصنعون بما
(7)
رواه الإمام أحمد
(8)
عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ
(1)
في النسخ: «منزلنا» . والمثبت من المطبوع يوافق رواية الدارقطني.
(2)
انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» (25/ 97).
(3)
رواه البخاري (1681) ومسلم (1290/ 295).
(4)
برقم (1292/ 298).
(5)
رواه البخاري (1678) ومسلم (1293/ 301) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(6)
ك: «عنه أنه» .
(7)
ص: «فيما» .
(8)
برقم (2936). وإسناده ضعيف لضعف شعبة مولى ابن عباس.
النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثَ به مع أهله إلى منًى يومَ النَّحر، فرمَوا الجمرةَ مع الفجر؟
قيل: يُقدَّم عليه حديثُه الآخر الذي رواه الإمام أحمد والتِّرمذيُّ وصحَّحه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قدَّم ضَعفَة أهله، وقال:«لا تَرمُوا الجمرةَ حتى تطلع الشَّمس» . ولفظ أحمد
(1)
فيه: قدَّمَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ أُغَيلِمةَ بني عبد المطَّلب ــ على حُمُراتٍ
(2)
لنا من جَمْعٍ، فجعل يَلْطَحُ
(3)
أفخاذنا ويقول: «أُبَيْنِيَّ
(4)
لا تَرْمُوا الجمرةَ حتَّى تطلع الشَّمس». لأنَّه أصحُّ منه، وفيه نهيُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن رمي الجمرة قبل طلوع الشَّمس، وهو محفوظٌ بذكر القصَّة
(1)
برقم (2082)، ورواه أيضًا أبو داود (1940) وابن ماجه (3025)، من طريق الحسن العرني عن ابن عباس، والحسن العرني لم يسمع من ابن عباس، وتوبع برواية الحكم عن مقسم عند الترمذي (893). والحديث صحيح. وانظر:«الإرواء» (4/ 272 - 277).
(2)
جمع حُمُر، وحُمُر جمع حمار.
(3)
ق، ب، ص:«يلطخ» ، تصحيف. واللطح: الضرب بالكف وليس بالشديد. والأُغيلمة: تصغير الغِلمة، كما قالوا: أُصيبية في تصغير الصبية.
(4)
في المطبوع: «أي بُني» خلاف النسخ والرواية. والمثبت هو الصواب. قال سيبويه في «الكتاب» (3/ 486): ومما يُحقَّر (أي يصغّر) على غير بناء مكبَّره المستعمل في الكلام: إنسان تقول أُنيسِيان، وفي بنون: أُبَينُون، كأنهم حقَّروا إنسيان وأفعل نحو أعمى، وفعلوا هذا بهذه الأشياء لكثرة استعمالهم إياها في كلامهم. وقال أبو عبيد في «غريب الحديث» (1/ 129): هو تصغير «بَنِيّ» ، يريد: يا بَنيّ. قال الشاعر:
إن يك لا ساءَ فقد ساءَني
…
تركُ أُبَيْنِيْك إلى غير راعْ
وقال الزمخشري في «الفائق» (3/ 74): الأُبينَى بوزن الأُعيمَى، تصغير الأبْنَى بوزن الأعمى، وهو اسم جمع للابن. وانظر:«المجموع المغيث» (1/ 20 - 22) و «شرح الرضي على الكافية» (3/ 379).
فيه. والحديث الآخر إنَّما فيه: أنَّهم رَمَوها مع الفجر.
ثمَّ تأمَّلنا، فإذا أنَّه لا تعارضَ بين هذه الأحاديث، فإنَّه أمر الصِّبيان أن لا يرموا الجمرةَ حتَّى تطلع الشَّمس، فإنَّه لا عذْرَ لهم في تقديم الرَّمي. أمَّا مَن قدَّمه من النِّساء فرمَينَ
(1)
قبلَ طلوع الشَّمس للعذر، والخوفِ عليهنَّ من مزاحمة النَّاس وحَطْمتِهم. وهذا الذي دلَّت عليه السُّنَّة، جواز الرَّمي قبل طلوع الشَّمس للمعذور
(2)
بمرضٍ أو كبرٍ يشقُّ عليه مزاحمةُ النَّاس لأجله، وأمَّا القادر الصَّحيح فلا يجوز له ذلك.
وفي المسألة ثلاثة مذاهب:
أحدها: الجواز بعد نصف اللَّيل مطلقًا للقادر والعاجز، كقول الشافعيِّ وأحمد.
والثَّاني: لا يجوز إلا بعد طلوع الفجر، كقول أبي حنيفة.
والثَّالث: لا يجوز لأهل القدرة إلا بعد طلوع الشَّمس، كقول جماعةٍ من أهل العلم.
والَّذي دلَّت عليه السُّنَّة إنَّما هو التَّعجيل بعد غيبوبة القمر، لا نصف اللَّيل، وليس مع من حدَّه بالنِّصف دليلٌ، والله أعلم.
فصل
فلمَّا طلع الفجر صلَّاها في أوَّل الوقت ــ لا قبلَه قطعًا ــ بأذانٍ وإقامةٍ يوم النَّحر، وهو يوم العيد، وهو يوم الحجِّ الأكبر، وهو يوم الأذان ببراءة الله
(1)
ص: «فيرمين» .
(2)
ق، م، ب، مب والمطبوع:«للعذر» . والمثبت من بقية النسخ.
ورسوله من كلِّ مشركٍ.
ثمَّ ركب حتَّى أتى موقفَه عند المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، وأخذ في الدُّعاء والتَّضرُّع والتَّكبير والتَّهليل والذِّكر حتَّى أسفرَ جدًّا، وذلك قبل طلوع الشَّمس.
وهنالك سأله عروة بن مُضرِّس الطائي فقال: يا رسول الله، إنِّي
(1)
جئتُ من جبلَيْ طيِّئٍ، أَكللتُ راحلتي، وأتعبتُ نفسي، والله ما تركتُ من حَبْلٍ
(2)
إلا وقفتُ عليه
(3)
، فهل لي من حجٍّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهدَ صلاتَنا هذه فوقفَ معنا حتَّى نَدفعَ، وقد وقفَ بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تمَّ
(4)
حجُّه، وقضى تَفَثَه». قال الترمذي
(5)
: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وبهذا احتجَّ من ذهب إلى أنَّ الوقوف بمزدلفة والمبيت بها ركنٌ كعرفة، وهو مذهب اثنين من الصَّحابة: ابن عبَّاسٍ وابن الزبير، وإليه ذهب إبراهيم
(1)
«إني» ليست في ص.
(2)
كذا في النسخ والرواية بالحاء، ونبّه عليه الترمذي. والحبل: ما اجتمع وارتفع من الرمل. وفي المطبوع: «جبل» .
(3)
«عليه» ليست في ك.
(4)
في المطبوع: «أتم» كما في رواية الترمذي. والمثبت من النسخ موافق لما في المصادر الأخرى.
(5)
ورواه برقم (891)، ورواه أيضًا أحمد (16208) وأبو داود (1950) والنسائي (3039) وابن ماجه (3016). وصححه الترمذي وابن خزيمة (2820) وابن حبان (3851) والحاكم (1/ 463)، وقال:«هذا حديث صحيح على شرط كافة أئمة الحديث، وهي قاعدة من قواعد الإسلام» .
النَّخعيُّ والشَّعبيُّ وعلقمة والحسن البصريُّ، وهو مذهب الأوزاعيِّ وحمَّاد بن أبي سليمان وداود الظَّاهريِّ وأبي عبيد القاسم بن سلَّامٍ، واختاره المحمَّدان: ابن جريرٍ وابن خزيمة، وهو أحد الوجوه للشَّافعيَّة
(1)
، ولهم ثلاث حججٍ، هذه إحداها، والثَّانية: قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]. والثَّالثة: فِعْل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرج مخرجَ البيان لهذا الذِّكر المأمور به.
واحتجَّ من لم يره ركنًا بأمرين:
أحدهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مدَّ وقتَ الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر، وهذا يقتضي أنَّ من وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسرِ زمانٍ صحَّ حجُّه، ولو كان الوقوف بمزدلفة ركنًا لم يصحَّ حجُّه.
الثَّاني: أنَّه لو كان ركنًا لاشترك فيه الرِّجال والنِّساء، فلمَّا قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم النِّساء باللَّيل عُلِم أنَّه ليس بركنٍ.
وفي الدَّليلين نظرٌ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما قدَّمهنَّ بعد المبيتِ بمزدلفة، وذِكْرِ الله تعالى بها كصلاة
(2)
عشاء الآخرة، والواجب هو ذلك. وأمَّا توقيت الوقوف بعرفة إلى الفجر فلا ينافي أن يكون المبيت بمزدلفة ركنًا، وتكون تلك اللَّيلة وقتًا لهما كوقت المجموعتين من الصَّلوات. وتضييق
(3)
الوقت لإحداهما لا يُخرِجه عن أن يكون وقتًا لهما حالَ القدرة.
(1)
انظر: «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 297).
(2)
ق، ص، م، مب:«لصلاة» . والمثبت من ك، ج.
(3)
ص، ج:«ومضيق» .
فصل
ووقف صلى الله عليه وسلم في موقفه، وأَعلمَ النَّاسَ أنَّ مزدلفة كلَّها موقفٌ، ثمَّ سار من مزدلفة مُردِفًا للفضل بن عبَّاسٍ وهو يلبِّي في مَسيره، وانطلق أسامة بن زيدٍ على رجليه في سُبَّاقِ قريشٍ.
وفي طريقه ذلك أمر ابن عبَّاسٍ أن يَلْقُط له
(1)
حصى الجِمار سبعَ حصياتٍ، ولم يكسرها من الجبل تلك اللَّيلة كما يفعل من لا علم عنده، ولا التقطها باللَّيل، فالتقط له سبع حَصَياتٍ من حصى الخَذْف، فجعل يَنفُضهنَّ في كفِّه ويقول: «أمثالَ
(2)
هؤلاء فارمُوا، وإيَّاكم والغلوَّ في الدِّين، فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدِّين»
(3)
.
وفي طريقه تلك عَرضَتْ له امرأةٌ من خَثْعم جميلةٌ، فسألتْه عن الحجِّ عن أبيها، وكان شيخًا كبيرًا لا يَستمسك على الرَّاحلة، فأمرها أن تحجَّ عنه، وجعل الفضل ينظر إليها
(4)
، فوضع يده على وجهه وصَرَفَه إلى الشِّقِّ الآخر
(5)
. وكان الفضلُ وَسيمًا، فقيل: صرفَ وجهه عن نظرها إليه، وقيل: صرفَه عن نظره إليها.
(1)
ك، ص، ج:«لهم» . والمثبت من ق، مب، م.
(2)
في المطبوع: «بأمثال» خلاف النسخ. والرواية بالوجهين.
(3)
رواه أحمد (1851) والنسائي (3057) وابن ماجه (3029) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما . والحديث صححه ابن خزيمة (2867) وابن حبان (3871) والحاكم (1/ 466) وابن تيمية في «الاقتضاء» (1/ 327) والألباني في «السلسلة الصحيحة» (1283).
(4)
بعدها في المطبوع: «وتنظر إليه» . وليست في جميع النسخ، وإن كانت في الرواية كما سيأتي.
(5)
رواه البخاري (1513) ومسلم (1334) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
والصَّواب: أنَّه فعله للأمرين، فإنَّ في القصَّة أنه جعل ينظر إليها وتنظر إليه.
وسأله آخر هنالك عن أمِّه، وقال إنِّها عجوزٌ كبيرةٌ، وإن حَملتُها لم تستمسك، وإن رَبطتُها خشيتُ أن أقتلها، فقال:«أرأيتَ لو كان على أمِّك دَينٌ أكنتَ قاضِيَه؟» ، قال: نعم، قال:«فحُجَّ عن أمِّك»
(1)
.
فلما أتى بطنَ مُحَسِّرٍ حرَّك ناقته وأسرعَ السَّير، وهذه كانت عادته في المواضع الَّتي نزل فيها بأسُ الله بأعدائه، فإنَّ هنالك أصاب أصحابَ الفيل ما قصَّ الله علينا، ولذلك سُمِّي الوادي وادي مُحَسِّرٍ؛ لأنَّ الفيل حَسُرَ فيه
(2)
، أي أَعيى وانقطع عن الذَّهاب
(3)
، وكذلك فعلَ في سلوكه الحِجْرَ وديارَ
(4)
ثمود، فإنَّه تقنَّع بثوبه وأسرعَ السَّير
(5)
.
ومُحسِّرٌ: برزخٌ بين منًى وبين
(6)
مزدلفة، لا من هذه ولا من هذه.
وعُرَنَة: برزخٌ بين عرفة والمشعر الحرام، فبين كلِّ مشعرين برزخٌ ليس منهما
(7)
.
(1)
رواه النسائي (2643، 5394) من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما، وفيه اضطرابٌ سندًا ومتنًا، ومخالفة لروايات الحفاظ الأثبات. انظر:«شرح العمدة» (4/ 83، 84).
(2)
المعروف أن الفيل حسر في المغمّس، كما في «معجم ما استعجم» (4/ 1248).
(3)
بعدها في المطبوع: «إلى مكة» . وليست في النسخ.
(4)
كذا في النسخ بإثبات الواو، وفي المطبوع بحذفها. والحجر هي ديار ثمود.
(5)
رواه البخاري (4419) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
(6)
«بين» ليست في م، ب، مب.
(7)
«ليس منهما» ساقطة من ك.
فمنًى: من الحرم وهي مَشعرٌ، ومحسِّرٌ: من الحرم وليس بمشعرٍ، ومزدلفة: حرمٌ ومشعرٌ، وعُرَنة ليست مشعرًا، وهي من الحلِّ. وعرفة: حلٌّ ومشعرٌ
(1)
.
وسلك الطَّريقَ الوسطى بين الطَّريقين
(2)
، وهي الَّتي تخرج على الجمرة الكبرى، حتَّى
(3)
أتى منًى، فأتى جمرة العقبة، فوقف في أسفل الوادي، وجعل البيت عن يساره، ومنًى عن يمينه، واستقبل الجمرة وهو على راحلته، فرماها راكبًا بعد طلوع الشَّمس، واحدةً بعد واحدةٍ، يكبِّر مع كلِّ حصاةٍ، وحينئذٍ قطع التَّلبية.
وكان في مسيره ذلك يلبِّي حتَّى شرعَ في الرَّمي، ورمى وبلالٌ وأسامة معه، أحدهما آخذٌ بخطام ناقته، والآخر يُظِلُّه بثوبٍ من الحرِّ
(4)
. وفي هذا دليلٌ على جواز استظلال المحرم بالمَحْمِل ونحوه، إن كانت قصَّة هذا الإظلال يوم النَّحر
(5)
، وإن كانت بعده في أيَّام منًى فلا حجَّة فيها، وليس في الحديث بيانٌ في أيِّ زمنٍ كانت
(6)
. فالله أعلم
(7)
.
(1)
«ومشعر» ليست في ص.
(2)
«وهي من الحل
…
الطريقين» ساقطة من ق بسبب انتقال النظر.
(3)
ص، ج:«حين» .
(4)
رواه مسلم (1298/ 312) من حديث أم الحصين رضي الله عنه .
(5)
بعدها في المطبوع: «ثابتة» . وليست في النسخ.
(6)
ج: «كان» .
(7)
ج: «المستعان» .
فصل
ثمَّ رجع إلى منًى، فخطب النَّاس خطبةً بليغةً، أعلمَهم فيها بحرمة يوم النَّحر، وتحريمه، وفضله عند اللَّه، وحرمة مكَّة على جميع البلاد، وأمر بالسَّمع والطَّاعة لمن قادهم بكتاب اللَّه، وأمر النَّاس بأخذ مناسكهم عنه، وقال:«لعلِّي لا أحجُّ بعد عامي هذا»
(1)
.
وعلَّمهم مناسكَهم، وأنزل المهاجرين والأنصار منازلَهم، وأمر النَّاس أن لا يرجعوا بعده كفَّارًا يضرب بعضهم رقابَ بعضٍ، وأمر بالتَّبليغ عنه. وأخبر أنَّه ربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامعٍ
(2)
.
وقال في خطبته: «لا يجني جانٍ إلا على نفسه»
(3)
.
وأنزل المهاجرين عن يمين القبلة، والأنصارَ عن يسارها، والنَّاسُ حولهم، وفتح الله له أسماعَ النَّاس حتَّى سمعها أهل منًى في منازلهم.
وقال في خطبته تلك: «اعبدوا ربَّكم، وصَلُّوا خمْسَكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنَّة ربِّكم»
(4)
.
(1)
رواه مسلم (1297) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (1741) ومسلم (1679/ 31) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد (16064) والترمذي (2159) وابن ماجه (2669) من حديث عمرو بن الأحوص- رضي الله عنه، والحديث صحيح بشواهده، وقد صححه الترمذي. وانظر:«السلسلة الصحيحة» (1974).
(4)
رواه أحمد (22161) والترمذي (616) من حديث أبي أمامة- رضي الله عنه، وصححه الترمذي وابن حبان (4563) والحاكم (1/ 9)، وحسنه البغوي في «شرح السنة» (1/ 24). وانظر:«السلسلة الصحيحة» (867)
وودَّع حينئذٍ النَّاس، فقالوا: حجَّة الوداع.
فصل
(1)
وهناك سئل عمَّن حَلَق قبل أن يرمي وعمَّن ذبح قبل أن يرمي، فقال:«لا حرج» . قال عبد الله بن عمرٍو: فما رأيتُه سئل يومئذٍ
(2)
عن شيءٍ إلا قال: «افعلُوا ولا حرجَ»
(3)
.
وقال ابن عبَّاسٍ: إنَّه قيل له صلى الله عليه وسلم في الذَّبح والحلق والرَّمي والتَّقديم والتَّأخير، فقال:«لا حرجَ»
(4)
.
وقال أسامة بن شريك: خرجتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم حاجًّا، فكان النَّاس يأتونه، فمن قائلٍ: يا رسول الله، سعيتُ قبل أن أطوف، أو أخَّرتُ شيئًا أو قدَّمتُ، فكان يقول لهم:«لا حرجَ لا حرجَ، إلا على رجلٍ اقترضَ عرض رجلٍ مسلمٍ وهو ظالمٌ، فذلك الذي حرِجَ وهلك»
(5)
.
(1)
«فصل» ليست في ق، م، ص. ومن هنا إلى «والحلق بعضها على بعض» سقط كبير في ق، م، ب، مب.
(2)
«يومئذ» ليست في ك.
(3)
رواه البخاري (1736) من طريق مالك (1266)، ورواه مسلم (1306/ 333) واللفظ له من طريق محمد بن أبي حفصة.
(4)
رواه البخاري (1734) ومسلم (1307).
(5)
رواه أبو داود (2015)، والحديث صحيح دون قوله:«سعيت قبل أن أطوف» كما يشير إليه المؤلف، تفرد به جرير بن عبد الحميد، خالف الثقات فيه. انظر:«صحيح أبي داود - الأم» (6/ 256).
وقوله: «سعيتُ قبل أن أطوف» في هذا الحديث ليس بمحفوظٍ. والمحفوظ في
(1)
تقديم الرَّمي والنَّحر والحلق بعضها على بعضٍ.
ثمَّ انصرف إلى المنحر بمنًى، فنحر ثلاثًا وستِّين بَدَنةً بيده
(2)
، وكان ينحرها قائمةً معقولةً يدُها اليسرى
(3)
. وكان عدد هذا الذي نحره عدد سِنِي عمرِه صلى الله عليه وسلم، ثمَّ أمسك وأمر عليًّا أن ينحر ما بقي من المائة، ثمَّ أمر عليًّا أن يتصدَّق بجِلَالها وجلودها ولحومها في المساكين، وأمره أن لا يعطي الجزَّار في جزارتها شيئًا منها
(4)
، وقال:«نحن نعطيه من عندنا» ، وقال:«من شاء اقتطع»
(5)
.
فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديث الذي في «الصَّحيحين»
(6)
عن أنس قال: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظُّهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحُليفة ركعتين، وباتَ بها، فلمَّا أصبح ركبَ راحلته، فجعل يهلِّل ويسبِّح، فلمَّا علا على البيداء، لبَّى
(7)
بهما جميعًا، فلمَّا دخل مكَّة أمرهم أن يحلُّوا، ونحر
(1)
«في» ليست في المطبوع.
(2)
رواه مسلم (1218/ 147) من حديث جابر رضي الله عنه.
(3)
روى البخاري (1713) ومسلم (1320) أن ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة، فقال:«ابعثها قيامًا مقيدة، سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم» . وفي الباب عن جابر وعبد الرحمن بن سابط. انظر: «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 15).
(4)
«منها» ليست في ك.
(5)
سيأتي تخريجه.
(6)
رواه البخاري (1714) بهذا السياق. وقد تقدم.
(7)
ك: «أهلَّ» .
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده سبعَ بُدنٍ قيامًا، وضحَّى بالمدينة كبشين أملحين.
فالجواب: أنَّه لا تعارض بين الحديثين. قال أبو محمد بن حزم
(1)
: يُخرج حديث أنس على أحد وجوهٍ ثلاثةٍ.
أحدها: أنَّه صلى الله عليه وسلم لم ينحر بيده أكثر من سَبْع بُدنٍ، كما قال أنس، وأنَّه أمر مَن نحر ما بعد ذلك إلى تمام ثلاثٍ وستِّين، ثمَّ زال عن ذلك المكان، وأمر عليًّا فنحرَ
(2)
ما بقي.
الثَّاني: أن يكون أنس لم يشاهد
(3)
إلا نحره صلى الله عليه وسلم سبعًا فقط بيده، وشاهدَ جابر تمامَ نحرِه صلى الله عليه وسلم للباقي، فأخبر كلٌّ منهما بما رأى وشهد
(4)
.
الثَّالث: أنَّه صلى الله عليه وسلم نحر بيده مفردًا سبعَ بُدنٍ كما قال أنس، ثمَّ أخذ هو وعليٌّ الحَربةَ معًا، فنحرَا كذلك تمامَ ثلاثٍ وستِّين، كما قال غَرَفَة
(5)
بن الحارث الكندي: إنَّه شاهدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يومئذٍ قد أخذ بأعلى الحَرْبة، وأمر عليًّا يأخذ بأسفلها، ونحرَا بها البُدْن ثمَّ انفرد علي بنحر الباقي من المائة، كما قال جابر. والله أعلم.
فإن قيل: فكيف تصنعون بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو
(1)
في «حجة الوداع» (ص 300).
(2)
ك: «أن ينحر» .
(3)
ك: «لم يشهد» .
(4)
كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: «وشاهد» .
(5)
ق، م، ب، مب:«عروة» ، تحريف، انظر:«الإصابة» (8/ 473). وحديثه عند أبي داود (1766).
داود
(1)
عن علي قال: لمَّا نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدْنَه فنحرَ ثلاثين بيده، وأمرني فنحرتُ سائرها.
قلنا: هذا غلطٌ انقلب على الرَّاوي، فإنَّ الذي نحر ثلاثين هو علي، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نحر سبعًا بيده، لم يشاهده علي ولا جابر، ثمَّ نحر ثلاثًا وستِّين أخرى، فبقي من المائة ثلاثين
(2)
، فنحرها علي، فانقلب على الرَّاوي عددُ ما نحره عليٌّ بما نحره النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: فما تصنعون بحديث عبد الله بن قُرط
(3)
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أعظم الأيَّام عند الله يوم النَّحر، ثمَّ يوم القَرِّ
(4)
». وهو اليوم الثَّاني. قال: وقُرِّب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بَدَناتٌ خمسٌ، فطَفِقْن
(5)
يَزدلِفْن إليه بأيَّتهنَّ يبدأ؟ فلمَّا وجبَتْ جنوبها قال، فتكلَّم بكلمةٍ خفيَّةٍ لم أفهمها، فقلت ما قال؟ قال:«من شاء اقْتطعَ»
(6)
.
(1)
أحمد (1374) وأبو داود (1764)، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد عنعنه ولم يصرح بالتحديث، ومتنه منكر لمخالفته حديث جابر عند مسلم (1218). انظر:«ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 147).
(2)
كذا في جميع النسخ منصوبًا.
(3)
ك: «قيراط» ، تحريف.
(4)
ك: «النفر» خلاف بقية النسخ ومصادر التخريج.
(5)
ص: «فطفق» .
(6)
رواه أحمد (19075) وأبو داود (1765) والنسائي في «الكبرى» (4098) من حديث عبد الله بن قرط- رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (2917) وابن حبان (2811) والحاكم (4/ 221) والألباني في «الإرواء» (7/ 19)، وقال البيهقي (7/ 288): إسناده حسن.
قيل: نقبله ونصدِّقه، فإنَّ المائة لم تُقرَّب إليه جملةً، وإنَّما كانت تُقرَّب إليه أَرسالًا، فقرِّب إليه منها خمسُ بَدَناتٍ رَسَلًا، وكان ذلك الرَّسَلُ يبادرن ويتقرَّبن إليه ليبدأ بكلِّ واحدةٍ منهنَّ.
فإن قيل: فما تصنعون بالحديث الذي في «الصَّحيحين»
(1)
من حديث أبي بَكْرة في خطبة النبيِّ صلى الله عليه وسلم يوم النَّحر بمنًى، وقال في آخره: ثمَّ انكَفَأ إلى كَبْشين أملحين فذبحهما، وإلى جُزَيعةٍ
(2)
من الغنم فقَسَمَها بيننا. لفظ مسلمٍ
(3)
. ففي هذا أنَّ ذبح الكبشين كان بمكَّة، وفي حديث أنس أنَّه كان بالمدينة.
قيل: في هذا طريقان للنَّاس:
إحداهما: أنَّ القول قول أنس، وأنَّه ضحَّى بالمدينة بكبشين أملحين أقرنين، وأنَّه صلَّى العيد ثمَّ انكفأ إلى الكبشين، ففصَّل أنس وميَّز بين نحره بمكَّة للبُدْن وبين نحرِه بالمدينة للكبشين، وبيَّن أنَّهما قصَّتان. ويدلُّ على هذا أنَّ جميع من ذكر نحر النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمنًى إنَّما ذكروا أنَّه نحر الإبل، وهو الهدي الذي ساقه، وهو أفضل من نحر الغنم هناك بلا سَوْقٍ. وجابر قد قال في صفة حجَّة الوداع: إنَّه رجع من الرَّمي فنحر البدن، وإنَّما اشتبه على بعض الرُّواة
(1)
البخاري (67) ومسلم (1679/ 30).
(2)
في جمع النسخ: «جذيعة» بالذال. والتصويب من «صحيح مسلم» . والجُزَيْعَة: القطعة من الغنم، تصغير جزعة، وهو القليل من الشيء. وضبطه ابن فارس في «مجمل اللغة» (جزع) بفتح الجيم وكسر الزاي كأنها فعيلة بمعنى مفعولة. وانظر:«النهاية» (1/ 269) و «شرح صحيح مسلم» للنووي (11/ 171).
(3)
برقم (1679/ 30).
أنَّ قصَّة الكبشين كانت يوم العيدٍ، فظنَّ أنَّه كان بمنًى، فوهم.
الطَّريقة الثَّانية: طريقة ابن حزمٍ
(1)
ومن سلك مسلكه، أنَّهما عملان متغايران، وحديثان صحيحان، فذكر أبو بكرة تضحيته بمكَّة، وأنس تضحيته بالمدينة. قال: وذبح يوم النَّحر الغنم، ونحر البقر والإبل، كما قالت عائشة: ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ عن أزواجه بالبقر. وهو في «الصَّحيحين»
(2)
.
وفي «صحيح مسلم»
(3)
: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرةً يوم النَّحر.
وفي «السُّنن»
(4)
: أنَّه نحر عن آل محمَّدٍ في حجَّة الوداع بقرةً واحدةً.
ومذهبه: أنَّ الحاجَّ يُشرَع له التَّضحية مع الهدي.
والصَّحيح إن شاء اللَّه: الطَّريقة الأولى، وهدي الحاجِّ له بمنزلة الأضحية للمقيم، ولم يَنقل أحدٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية، بل كان هديهم هو أضاحيهم، فهو هديٌ بمنًى وأضحيةٌ بغيرها.
وأمَّا قول عائشة: «ضحَّى عن نسائه بالبقر»
(5)
، فهو هديٌ أُطلِق عليه اسم الأضحية، فإنَّهنَّ كنَّ متمتِّعاتٍ وعليهنَّ الهدي، فالبقر الذي نحره عنهنَّ
(1)
في «حجة الوداع» (ص 301).
(2)
البخاري (5548) ومسلم (1211/ 119).
(3)
برقم (1319/ 356).
(4)
رواه أحمد (26109) وأبو داود (1750) والنسائي في «الكبرى» (4113) وابن ماجه (3135)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (5/ 429).
(5)
ص، ج:«بالبقرة» . والمثبت من بقية النسخ.
هو الهدي
(1)
الذي يلزمهنَّ.
لكن في قصَّة نحر البقرة عنهنَّ ــ وهنَّ تِسعٌ ــ إشكالٌ، وهو إجزاء البقرة عن أكثر من سبعةٍ.
وقد أجاب أبو محمد ابن حزم
(2)
عنه بجوابٍ على أصله، وهو أنَّ عائشة لم تكن معهنَّ في ذلك، فإنَّها كانت قارنةً وهنَّ متمتِّعاتٌ، وعنده لا هديَ على القارن. وأيَّد قوله بالحديث الذي رواه مسلم
(3)
من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوافينَ لهلال ذي الحجَّة، فكنتُ فيمن أهلَّ بعمرةٍ، فخرجنا حتَّى قدمنا مكَّة، فأدركني يومُ عرفة وأنا حائضٌ لم أحلَّ من عمرتي، فشكوتُ ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:«دَعِي عمرتك، وانقُضِي رأسك وامتشطي، وأهلِّي بالحجِّ» . قالت: ففعلتُ. فلمَّا كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجَّنا، أرسل معي عبد الرَّحمن بن أبي بكرٍ، فأردفني وخرج إلى التَّنعيم، فأهللتُ بعمرةٍ، فقضى الله حجَّنا وعمرتنا، ولم يكن في ذلك هديٌ ولا صدقةٌ ولا صومٌ.
وهذا مسلكٌ فاسدٌ انفرد به
(4)
عن النَّاس. والَّذي عليه الصَّحابة والتَّابعون ومَن بعدهم: أنَّ القارن يلزمه الهدي كما يلزم المتمتِّع، بل هو متمتِّعٌ حقيقةً في لسان الصَّحابة، كما تقدَّم. وأمَّا هذا الحديث فالصَّحيح أنَّ
(1)
«الهدي» ليست في ك.
(2)
في «حجة الوداع» (ص 309، 310).
(3)
برقم (1211/ 115).
(4)
بعدها في المطبوع زيادة: «ابن حزم» ، وليست في النسخ، وهو مفهوم من السياق.
هذا الكلام الأخير من قول هشام بن عروة، جاء ذلك في «صحيح مسلم»
(1)
مصرَّحًا به، فقال: حدَّثنا أبو كُريب، ثنا وكيعٌ، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة
…
فذكرت الحديث. وفي آخره
(2)
في ذلك: «إنَّه قضى الله حجَّها وعمرتها. قال هشام: ولم يكن في ذلك هديٌ ولا صيامٌ ولا صدقةٌ» .
قال أبو محمد
(3)
: إن كان وكيعٌ جعل هذا الكلام لهشام، فابن نُمير وعَبدة أدخلاه في كلام عائشة، وكلٌّ منهما ثقةٌ، فوكيعٌ نسبه إلى هشام لأنَّه سمع هشاما يقوله، وليس قول هشام إيَّاه بدافعٍ أن تكون عائشة قالته، فقد يروي المرء حديثًا يسنده، ثمَّ يفتي به دون أن يسنده، فليس شيءٌ من هذا بمتدافعٍ. وإنَّما يتعلَّل بمثل هذا مَن لا يُنصِف ومن اتَّبع هواه، والصَّحيح من ذلك أنَّ كلَّ ثقةٍ فمصدَّقٌ فيما نقل. فإذا أضاف عَبدة وابن نُميرٍ القولَ إلى عائشة صُدِّقا لعدالتهما، وإذا أضافه وكيعٌ إلى هشام صُدِّق أيضًا لعدالته، وكلُّ ذلك صحيحٌ، وتكون عائشة قالته وهشام قاله.
قلت: هذه الطَّريقة هي اللَّائقة بظاهريَّته وظاهريَّةِ أمثاله، ممَّن لا فقهَ له في علل الأحاديث كفقه الأئمَّة النُّقَّاد أطبَّاءِ علله وأهلِ العناية بها، وهؤلاء لا يلتفتون إلى قول من خالفهم ممَّن ليس له ذوقهم ومعرفتهم، بل يقطعون بخطائه
(4)
، بمنزلة الصَّيارف النُّقَّاد الذين يميِّزون بين الجيِّد والرَّديء، ولا يلتفتون إلى خطإ من لم يعرف ذلك.
(1)
برقم (1211/ 117).
(2)
بعدها في المطبوع زيادة: «قال عروة» . وليست في النسخ.
(3)
في «حجة الوداع» (ص 310، 311).
(4)
كذا في جميع النسخ ممدودًا، وهو صواب. وفي المطبوع:«بخطئه» .
ومن المعلوم أنَّ عبدة وابن نميرٍ لم يقولا في هذا الكلام: «قالت عائشة» ، وإنَّما أدرجاه في الحديث إدراجًا، يحتمل أن يكون من كلامها
(1)
ومن كلام عروة ومن كلام هشام، فجاء وكيعٌ ففصَّل وميَّز، ومن فصَّل وميَّز
(2)
فقد حفظ وأتقن ما أطلقه غيره. نعم، لو قال ابن نميرٍ وعَبدة:«قالت عائشة» ، وقال وكيعٌ:«قال هشام» ، لساغ ما قاله أبو محمد، وكان موضع نظرٍ وترجيحٍ.
وأمَّا كونهنَّ تسعًا وهي بقرةٌ واحدةٌ، فهذا قد جاء بثلاثة ألفاظٍ، أحدها: أنَّها بقرةٌ واحدةٌ بينهنَّ، والثَّاني: أنَّه ضحَّى عنهنَّ يومئذٍ بالبقر، والثَّالث: دخل علينا يوم النَّحر بلحم بقرٍ، فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه.
وقد اختلف النَّاس في عدد من تُجزئ عنهم البدنة والبقرة، فقيل: سبعةٌ، وهو قول الشَّافعيِّ وأحمد في المشهور عنه، وقيل: عشرةٌ، وهو قول إسحاق.
وقد ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَسَم بينهم المغانمَ، فعدَلَ الجَزورَ بعشرِ شِياهٍ
(3)
.
وثبت هذا الحديث أنَّه ضحَّى عن نسائه وهنَّ تسعٌ ببقرةٍ
(4)
.
وقد روى سفيان عن أبي الزبير عن جابر: أنَّهم نحروا البدنةَ في حجِّهم
(5)
(1)
في المطبوع: «كلامهما» خلاف جميع النسخ.
(2)
«وميز» ليست في ص.
(3)
رواه البخاري (2507) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه .
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
«في حجهم» ليست في ك، ج.
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشرةٍ
(1)
. وهو على شرط مسلم ولم يخرجه، وإنَّما خرَّج
(2)
وفي «المسند»
(3)
من حديث ابن عبَّاسٍ: كنَّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعةً، وفي الجَزور عشرةً. ورواه النَّسائيُّ والتِّرمذيُّ، وقال: حسنٌ غريبٌ.
وفي «الصَّحيحين»
(4)
عنه: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبية، البدنةَ عن سبعةٍ والبقرةَ عن سبعةٍ.
وقال حذيفة: شرَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّته بين المسلمين في البقرة عن سبعةٍ. ذكره الإمام أحمد
(5)
.
وهذه الأحاديث تُخرَّج على أحد وجوهٍ ثلاثةٍ:
(1)
رواه الحاكم (4/ 230)، وحكم البيهقي على هذه الرواية بالوهم، ورجح أحاديث السبعة. انظر:«السنن الكبرى» (5/ 235).
(2)
يعني مسلمًا برقم (1318/ 351).
(3)
رواه أحمد (2484) والترمذي (905) والنسائي (4392) وابن ماجه (3131) من حديث ابن عباس، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (4007).
(4)
رواه مسلم (1318/ 350) بهذا السياق من حديث جابر رضي الله عنه . ولم أجده من حديث ابن عباس في «الصحيحين» .
(5)
برقم (23453). وصححه محققو «المسند» (23446، 23453).
إمَّا أن يقال: أحاديث السَّبعة أكثر وأصحُّ.
وإمَّا أن يقال: عَدْلُ البعيرِ بعشرةٍ من الغنم تقويمٌ في الغنائم، لأجل تعديل القسمة. وأمَّا كونه عن سبعةٍ في الهدايا فهو تقديرٌ شرعيٌّ.
وإمَّا أن يقال: إنَّ ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والإبل، ففي بعضها كان البعير يَعدِلُ عشرَ شِياهٍ، فجعله عن عشرةٍ، وفي بعضها يَعدِلُ سبعًا، فجعله عن سبعةٍ، والله أعلم.
وقد قال أبو محمد
(1)
: إنَّه ذبح عن نسائه بقرةً للهدي، وضحَّى عنهنَّ ببقرةٍ، وضحَّى
(2)
عن نفسه بكبشين، ونحر
(3)
ثلاثًا وستِّين هديًا. وقد عرفتَ ما في ذلك من الوهم، ولم تكن بقرة الضَّحيَّة غير بقرة الهدي، بل هي هي، وهدي الحاجِّ بمنزلة ضحيَّة الآفاقيِّ.
فصل
ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنحره بمنًى، وأعلمهم أنَّ منًى كلَّها منحرٌ، وأنَّ فِجاجَ مكَّة طريقٌ ومنحرٌ. وفي هذا دليلٌ على أنَّ النَّحر لا يختصُّ بمنًى، بل حيث نحر من فِجاج مكَّة أجزأه، كما أنَّه لمَّا
(4)
وقف بعرفة قال: «وقفتُ هاهنا وعرفة كلُّها موقفٌ» ، ووقف بمزدلفة وقال: «وقفتُ هاهنا، ومزدلفة
(1)
في «حجة الوداع» (ص 194).
(2)
«وضحى» ليست في ق.
(3)
بعدها في المطبوع زيادة: «عن نفسه» ، وليست في النسخ.
(4)
ك: «لو» ، خطأ.
كلُّها موقفٌ». وسئل صلى الله عليه وسلم أن يُبنى له بمنًى مِظلَّة
(1)
من الحرِّ، فقال: «لا، منًى مُناخُ مَن سَبق
(2)
»
(3)
. وفي هذا دليلٌ على اشتراك المسلمين فيها، وأنَّ من سبق إلى مكانٍ منها فهو أحقُّ به حتَّى يرتحل عنه، ولا يملكه بذلك.
فصل
فلمَّا أكمل رسول الله
(4)
صلى الله عليه وسلم نحْرَه استدعى بالحلَّاق، فحلق رأسه، فقال للحلَّاق ــ وهو مَعْمر بن عبد الله ــ وهو قائمٌ على رأسه بالموسى، ونظر في وجهه وقال:«يا معمرُ، أَمكنَك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شَحْمة أذنه وفي يدك الموسى» ، فقال معمر: أما والله يا رسول الله، إنَّ ذلك لمن نعمةِ الله عليَّ ومَنِّه. قال: قال: «أجَلْ فَرَ
(5)
ذلك». ذكر ذلك الإمام أحمد
(6)
.
(1)
في المطبوع: «بناء يظله» .
(2)
في المطبوع: «مناخ لمن سبق إليه» .
(3)
رواه أحمد (25541، 25718) وأبو داود (2019) والترمذي (881) وابن ماجه (3006، 3007) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم (1/ 466). وفي إسناده إبراهيم بن مهاجر وهو ضعيف.
(4)
«رسول الله» ليست في ك، ص، ج.
(5)
كذا في جميع النسخ، وفي ق، م كتبت «صح» تحت الكلمة وهو صواب، فـ (رَ) فعل أمر من رأى يرى. وفي المطبوع:«أجل إذًا أقَرُّ لك» . وفي «المسند» : «أَقِرُّ لك» ، ونحوه في «مجمع الزوائد» (3/ 261). وفي «المعجم الكبير» للطبراني (20/ 448):«فزد ذلك» . ولم يذكر هذا اللفظ ضمن الحديث في «الآحاد والمثاني» (671) و «معجم الصحابة» للبغوي (5/ 161) و «معجم الصحابة» لابن قانع (1683). وأثبتُّ ما في جميع الأصول.
(6)
رواه أحمد (27249)، وفي إسناده عبد الرحمن بن عقبة، قال الحسيني في «الإكمال» (ص 266):«مجهول» .
وقال البخاريُّ في «صحيحه»
(1)
: وزعموا أنَّ الذي حلق النبيَّ صلى الله عليه وسلم معمر بن عبد الله بن نَضْلة بن عوف. انتهى.
فقال للحلَّاق: «خُذْ»
(2)
، وأشار إلى جانبه الأيمن، فلمَّا فرغ منه قسَمَ شعره بين من يليه، ثمَّ أشار إلى الحلَّاق فحلق جانبه الأيسر، ثمَّ قال:«هاهنا أبو طلحة؟» ، فدفعه إليه. هكذا وقع في «صحيح مسلم»
(3)
.
وفي «صحيح البخاريّ»
(4)
: عن ابن سيرين عن أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا حلق رأسه كان أبو طلحة أوَّلَ من أخذ من شعره.
وهذا لا يناقض روايةَ مسلم، لجواز أن يصيب أبا طلحة من الشِّقِّ الأيمن مثلُ ما أصاب غيرَه، ويختصَّ بالشِّقِّ الأيسر. لكن قد روى مسلم في «صحيحه»
(5)
أيضًا من حديث أنس، قال: لمَّا رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرةَ ونحرَ نُسكَه وحلق، ناولَ الحلَّاقَ شقَّه الأيمنَ فحلقه، ثمَّ دعا أبا طلحة الأنصاريَّ فأعطاه إيَّاه، ثمَّ ناوله الشِّقَّ الأيسر فقال:«احلِقْ» ، فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال:«اقسِمْه بين النَّاس» . ففي هذه الرِّواية كما ترى أنَّ نصيب أبي طلحة كان الشِّقَّ الأيمن، وفي الأولى: أنَّه كان الأيسر.
(1)
لم أجده في «صحيح البخاري» ، وهو عند ابن خزيمة (2930)، وانظر تعليق ابن حجر في «الفتح» (3/ 562).
(2)
ص: «خذه» .
(3)
برقم (1305/ 324).
(4)
برقم (171).
(5)
برقم (1305/ 326).
قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي
(1)
: رواه مسلم من رواية حفص بن غياثٍ وعبد الأعلى بن عبد الأعلى
(2)
، عن هشام بن حسَّان، عن محمد بن سيرين، عن أنس: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دفع إلى أبي طلحة شعرَ شقِّه الأيسر. ورواه من رواية سفيان بن عيينة، عن هشام بن حسَّانٍ: أنَّه دفع إلى أبي طلحة شَعر شِقِّه الأيمن
(3)
. قال
(4)
: ورواية ابن عَون عن ابن سيرين أراها تقوِّي رواية سفيان، والله أعلم.
قلت: يريد برواية ابن عون ما ذكرناه عن ابن سيرين من طريق البخاريِّ
(5)
، وجعل الذي سبق إليه أبو طلحة هو الشِّقَّ الذي اختصَّ به. فالله أعلم.
والَّذي يَقوى أنَّ نصيب أبي طلحة الذي اختصَّ به كان الشِّقَّ الأيسر، وأنَّه صلى الله عليه وسلم عمَّ ثمَّ خصَّ، وهذه كانت سنَّته في عطائه، وعلى هذا أكثر الرِّوايات، فإنَّ في بعضها
(6)
أنَّه قال للحلَّاق: «خُذْ» ، وأشار إلى جانبه الأيمن، فقسَمَ شعره بين من يليه، ثمَّ أشار إلى
(7)
الحلَّاق إلى الجانب الأيسر فحلقه،
(1)
الضياء المقدسي، في «السنن والأحكام» (4/ 230).
(2)
«بن عبد الأعلى» ليست في ك.
(3)
رواية حفص بن غياث عند مسلم (1305/ 324)، ورواية عبد الأعلى عند مسلم (1305/ 325)، ورواية ابن عيينة عند مسلم (1305/ 326).
(4)
يعني الضياء المقدسي.
(5)
برقم (171).
(6)
عند مسلم (1305/ 324).
(7)
«إلى» ساقطة من ك.
فأعطاه أم سُليم. ولا يعارض هذا دفْعُه إلى أبي طلحة، فإنَّها امرأته.
وفي لفظٍ آخر
(1)
: فبدأ بالشِّقِّ الأيمن، فوزَّعه الشَّعرة والشَّعرتين بين النَّاس، ثمَّ قال بالأيسر، فصنع به مثل ذلك، ثمَّ قال:«هاهنا أبو طلحة؟» ، فدفعه إليه.
وفي لفظٍ ثالثٍ
(2)
: «دفع إلى أبي طلحة شعر شقِّ رأسه الأيسر، ثمَّ قلَّم أظفاره وقسَمَها بين النَّاس» .
وذكر
(3)
الإمام أحمد
(4)
من حديث محمد [بن عبد الله]
(5)
بن زيد أنَّ أباه حدَّثه: أنَّه شهد النبيَّ صلى الله عليه وسلم عند المنحر، ورجلٌ من قريشٍ، وهو يَقْسِم أضاحيَ، فلم يُصِبْه شيءٌ ولا صاحبَه، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه، فأعطاه فقسَمَ منه على رجالٍ، وقلَّم أظفاره فأعطاه صاحبه. قال: فإنَّه عندنا مخضوبٌ بالحنَّاء والكَتَم، يعني شَعره.
ودعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثًا وللمقصِّرين مرَّةً
(6)
، وحلق كثيرٌ من الصَّحابة بل أكثرهم، وقصَّر بعضهم، وهذا مع قوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ومع قول
(1)
عند مسلم عقب الرواية السابقة.
(2)
لم أجد هذا اللفظ، ولكن ما سبق يدل على معناه.
(3)
ق، ب، ك، ج، م، مب:«ذكره» .
(4)
برقم (16474)، وصححه ابن خزيمة (2931) والحاكم (1/ 475)، وصححه محققو «المسند» .
(5)
ليس في النسخ، وزيد من «المسند» .
(6)
تقدم تخريجه.
عائشة رضي الله عنها: طيَّبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولإحلاله قبل أن يحلَّ
(1)
= دليلٌ على أنَّ الحلق نسكٌ، وليس بإطلاقٍ من محظورٍ.
فصل
ثمَّ أفاض صلى الله عليه وسلم إلى مكَّة قبل الظُّهر راكبًا، فطاف طواف الإفاضة، وهو طواف الزِّيارة، وهو طواف الصَّدَر، ولم يطف غيره، ولم يسْعَ معه. هذا هو الصَّواب، وقد خالف في ذلك ثلاث طوائف: طائفةٌ زعمت أنَّه طاف طوافين، طوافًا للقدوم سوى طواف الإفاضة، ثمَّ طاف للإفاضة. وطائفةٌ زعمت أنَّه سعى مع هذا الطَّواف لكونه قارنًا. وطائفةٌ زعمت أنَّه لم يطف ذلك اليوم، وإنَّما أخَّر طواف الزِّيارة إلى اللَّيل، فنذكر الصَّواب في ذلك، ونبيِّن منشأ الغلط، وباللَّه التَّوفيق.
قال الأثرم
(2)
: قلت لأبي عبد الله: فإذا رجع ــ أعني المتمتِّع ــ كم يطوف ويسعى؟ قال: يطوف ويسعى لحجِّه، ويطوف طوافًا آخر للزِّيارة. عاودناه في هذا
(3)
غيرَ مرَّةٍ، فثبت عليه.
قال الشَّيخ
(4)
في «المغني»
(5)
: وكذلك الحكم في القارن والمفرِد إذا لم يكونا أتيا مكَّة قبلَ يوم النَّحر، ولا طافا للقدوم، فإنَّهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزِّيارة. نصَّ عليه أحمد، واحتجَّ بما روت عائشة، قالت: «فطاف
(1)
رواه البخاري (1539) ومسلم (1189/ 33).
(2)
كما في «المغني» (5/ 315).
(3)
«هذا» ليست في ك.
(4)
بعده في المطبوع: «أبو محمد المقدسي» ، وليس في جميع النسخ.
(5)
(5/ 315) تعقيبًا على قول الأثرم.
الذين أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصَّفا والمروة، ثمَّ حلُّوا، ثمَّ طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منًى لحجِّهم، وأمَّا الذين جمعوا الحجَّ والعمرة، فإنَّما
(1)
طافوا طوافًا واحدًا». فحمل أحمد قول عائشة على أنَّ طوافهم لحجِّهم هو طواف القدوم. قال
(2)
: ولأنَّه قد ثبت أنَّ طواف القدوم مشروعٌ، فلم يكن طواف الزِّيارة مُسقِطًا له، كتحيَّة المسجد عند دخوله قبل التَّلبُّس بصلاة الفرض.
وقال الخرقي في «مختصره»
(3)
: وإن كان متمتِّعًا فيطوف بالبيت سبعًا، وبالصَّفا والمروة سبعًا، كما فعل للعمرة، ثمَّ يعود فيطوف بالبيت طوافًا ينوي به الزِّيارة، وهو قوله عز وجل:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
فمن قال: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان متمتِّعًا ــ كالقاضي وأصحابه ــ عندهم هكذا
(4)
فعل، والشَّيخ أبو محمد عنده أنَّه كان متمتِّعًا التَّمتُّع الخاصَّ، ولكن لم يفعل هذا، قال
(5)
: ولا أعلم أحدًا وافق أبا عبد الله على هذا الطَّواف الذي ذكره الخرقي، بل المشروع طوافٌ واحدٌ للزِّيارة، كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصَّلاة، فإنَّه
(6)
يكتفي بها من تحيَّة المسجد. ولأنَّه لم يُنقل عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين تمتَّعوا معه في حجَّة الوداع، ولا أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم به أحدًا.
(1)
ك: «فانهم» .
(2)
أي صاحب «المغني» ، والكلام متصل بما قبله.
(3)
مع شرحه «المغني» (5/ 314).
(4)
ك: «هذا» .
(5)
في «المغني» (5/ 315).
(6)
م: «فإنها» .
قال
(1)
: وحديث عائشة دليلٌ على هذا، فإنَّها قالت: طافوا طوافًا واحدًا بعد أن رجعوا من منًى لحجِّهم، وهذا هو طواف الزِّيارة، ولم تذكر طوافًا آخر. ولو كان هذا الذي ذكرتْه طواف القدوم لكانت قد أخلَّت بذكر طواف الزِّيارة، الذي هو ركن الحجِّ لا يتمُّ إلا به، وذكرتْ ما يُستغنى عنه. وعلى كلِّ حالٍ فما ذكرتْ إلا طوافًا واحدًا، فمن أين يُستدلُّ به على طوافين؟
وأيضًا، فإنَّها لمَّا حاضت فقرنت الحجَّ إلى العمرة بأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولم تكن طافت للقدوم= لم تطف للقدوم، ولا أمرها به النبيُّ صلى الله عليه وسلم. ولأنَّ طواف القدوم لو لم يسقط بالطَّواف الواجب لشُرِع
(2)
في حقِّ المعتمر طواف القدوم مع طواف العمرة؛ لأنَّه أوَّل قدومه إلى البيت، فهو به أولى من المتمتِّع الذي يعود إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به. انتهى كلامه.
قلت: لم يرفع كلام أبي محمد
(3)
الإشكالَ، وإن كان الذي أنكره هو الحقُّ، كما أنكره، والصَّواب في إنكاره، فإنَّ أحدًا لم يقل: إنَّ الصَّحابة لمَّا رجعوا من عرفة طافوا للقدوم وسَعَوا، ثمَّ طافوا للإفاضة بعده، ولا النبيُّ صلى الله عليه وسلم. هذا لم يقع قطعًا، ولكن منشأ الإشكال أنَّ أمَّ المؤمنين فرَّقت بين المتمتِّع والقارن، فأخبرت أنَّ القارنين طافوا بعد أن رجعوا من منًى طوافًا واحدًا، وأنَّ الذين أهلُّوا بالعمرة طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منًى لحجِّهم، وهذا غير
(4)
طواف الزِّيارة قطعًا، فإنَّه يشترك فيه القارن والمتمتِّع،
(1)
في «المغني» (5/ 315). والكلام متصل.
(2)
ب، ص، ج، ك، م، مب:«شرع» . والمثبت من ق.
(3)
ج: «أبي عبد الله» ، خطأ.
(4)
ك، ص، ج:«عن» ، خطأ.
فلا يُفرَّق بينهما فيه. ولكنِ الشَّيخ أبو محمد لمَّا رأى قولها في المتمتِّعين: «إنَّهم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منًى» ، قال: ليس في هذا ما يدلُّ على أنَّهم طافوا طوافين. والَّذي قاله حقٌّ، ولكنه لم يرفع الإشكال، فقالت طائفةٌ: هذه الزِّيادة من كلام عروة أو ابنه هشام أُدرِجتْ في الحديث. وهذا لا يتبيَّن، ولو كان فغايته أنَّه مرسلٌ، ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال.
فالصَّواب: أنَّ الطَّواف الذي أخبرت به عائشة، وفرَّقتْ به بين المتمتِّع والقارن، هو الطَّواف بين الصَّفا والمروة لا الطَّواف بالبيت، وزال الإشكال جملةً، فأخبرتْ عن القارنين أنَّهم اكتفَوا بطوافٍ واحدٍ بينهما، لم يضيفوا إليه طوافًا آخر يوم النَّحر، وهذا هو الحقُّ، وأخبرتْ عن المتمتِّعين أنَّهم طافوا بينهما طوافًا آخر بعد الرُّجوع من منًى للحجِّ، وذلك الأوَّل كان للعمرة. وهذا قول الجمهور، وتنزيلُ الحديث على هذا موافقٌ لحديثها الآخر، وهو قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«يَسعُكِ طوافك بالبيت وبين الصَّفا والمروة لحجِّك وعمرتك» ، وكانت قارنةً، ويوافق قول الجمهور.
لكن يُشكِل عليه حديث جابر الذي رواه مسلم في «صحيحه»
(1)
: «لم يطف النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، طوافه الأوَّل» . وهذا يوافق قول من يقول: يكفي المتمتِّعَ سعيٌ واحدٌ، كما هو إحدى الرِّوايتين عن أحمد، نصَّ عليها في رواية
(2)
ابنه عبد الله
(3)
وغيره
(4)
.
(1)
برقم (1215) ، وقد تقدم.
(2)
ك، ج:«مناسك» .
(3)
انظر: «مسائله» (ص 201).
(4)
«وغيره» ليست في ك، ج. وانظر رواية المروذي عن أحمد في «التعليقة» (2/ 64).
وعلى هذا فيقال: عائشة أثبتت وجابر نفى، والمثبِت مقدَّمٌ على النَّافي. أو يقال: مراد جابر مَن قَرنَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وساق الهدي، كأبي بكر وعمر وطلحة وعلي وذوي اليسار، فإنَّهم إنَّما سعوا سعيًا واحدًا، وليس المراد به عموم الصَّحابة. أو يُعلَّل حديث عائشة بأنَّ تلك الزِّيادة فيه مدرجةٌ من قول هشام. وهذه ثلاث طرقٍ للنَّاس في حديثها، والله أعلم.
وأمَّا من قال: المتمتِّع يطوف ويسعى للقدوم بعد إحرامه بالحجِّ قبل خروجه إلى منًى، وهو قول أصحاب الشَّافعيِّ، ولا أدري أمنصوصٌ عنه أم لا؟ قال أبو محمد
(1)
: فهذا لم يفعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من الصَّحابة البتَّة، ولا أمرهم به ولا نقله أحدٌ. قال ابن عبَّاسٍ
(2)
: لا أرى لأهل مكَّة أن يطوفوا ولا أن يسْعَوا بين الصَّفا والمروة بعد إحرامهم بالحجِّ حتَّى يرجعوا من منًى. وعلى
(3)
قول ابن عبَّاسٍ قولُ
(4)
الجمهور مالك وأحمد وأبي حنيفة
(5)
وإسحاق وغيرهم.
والَّذين استحبُّوه قالوا: لمَّا أحرم بالحجِّ صار كالقادم، فيطوف ويسعى للقدوم. قالوا: ولأنَّ
(6)
الطَّواف الأوَّل وقع عن العمرة، فبقي طواف القدوم لم يأتِ به، فاستحبَّ له فعله عقيبَ الإحرام بالحجِّ.
(1)
ص، ج:«قول محمد» . والمثبت من بقية النسخ. وانظر: «المغني» (5/ 315).
(2)
كما في «المغني» (5/ 261).
(3)
ك، ص، ج:«وتمثل» .
(4)
ك، ص، ج:«قال» .
(5)
ك، ص، ج:«وأبو حنيفة» .
(6)
ك، ص، ج:«وان» .
وهاتان الحجَّتان واهيتان، فإنَّه إنَّما كان قارنًا
(1)
لمَّا طاف للعمرة، فكان طوافه للعمرة مغنيًا عن طواف القدوم، كمن دخل المسجد فرأى الصَّلاة قائمةً، فدخل فيها، قامت مقامَ تحيَّة المسجد وأغنَتْه عنها.
وأيضًا فإنَّ الصَّحابة لمَّا أحرموا بالحج مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا عقيبَه، وكان أكثرهم متمتِّعًا. وروى الحسن
(2)
عن أبي حنيفة أنَّه إن
(3)
أحرم يوم التَّروية قبل الزَّوال طاف وسعى للقدوم، وإن أحرم بعد الزَّوال لم يطفْ، وفرَّق بين الوقتين بأنَّه بعد الزَّوال يخرج من فَوره إلى منًى، فلا يشتغل عن الخروج بغيره، وقبلَ الزَّوال لا يخرج فيطوف. وقول ابن عبَّاسٍ والجمهور هو الصَّحيح الموافق
(4)
لعمل الصَّحابة، وباللَّه التَّوفيق.
فصل
والطَّائفة الثَّانية قالت: إنَّه صلى الله عليه وسلم سعى مع هذا الطَّواف، وقالوا: هذا حجَّةٌ في أنَّ القارن يحتاج إلى سعيين كما يحتاج إلى طوافين. وهذا غلطٌ عليه كما تقدَّم، والصَّواب أنَّه لم يسْعَ إلا سعيَه الأوَّل كما قالته عائشة وجابر، ولم يصحَّ عنه في السَّعيين حرفٌ واحدٌ، بل كلُّها باطلةٌ كما تقدَّم، فعليك بمراجعته.
(1)
ك، ص، ج:«قادمًا» . والمثبت من ق، ب، مب.
(2)
كذا في جميع النسخ، وفي المطبوع:«محمد بن الحسن» .
(3)
ق: «أنه قال إن» . والمثبت من بقية النسخ.
(4)
«الموافق» ليست في ك.
فصل
والطَّائفة الثَّالثة الذين قالوا: أخَّر طواف الزِّيارة إلى اللَّيل، وهم طاوسٌ ومجاهد وعروة. ففي سنن أبي داود والنَّسائيِّ وابن ماجه
(1)
من حديث أبي الزبير المكيِّ عن عائشة وجابر
(2)
: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخَّر طوافَ يوم النَّحر إلى اللَّيل. وفي لفظٍ: «طواف الزِّيارة» . قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ.
وهذا الحديث غلطٌ بيِّنٌ، خلافُ المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم الذي لا يشكُّ فيه أهل العلم بحجَّته صلى الله عليه وسلم، ونحن نذكر كلام النَّاس فيه:
قال الترمذي في كتاب «العلل»
(3)
له: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث وقلت له: سمع أبو الزبير من عائشة وابن عبَّاسٍ؟ قال: أمَّا من
(4)
ابن عبَّاسٍ فنعم، وإنّ في سماعه من عائشة نظرًا.
وقال أبو الحسن بن القطَّان
(5)
: عندي أنَّ هذا الحديث ليس بصحيحٍ، إنَّما طاف النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومئذٍ نهارًا، وإنَّما اختلفوا: هل صلَّى الظُّهر بمكَّة أو رجع إلى منًى، فصلَّى بها بعد أن فرغ من طوافه؟ فابن عمر يقول: إنَّه رجع
(1)
رواه أبو داود (2000) والترمذي (920) والنسائي في «الكبرى» (4155)، وإسناده ضعيف لأجل عنعنة أبي الزبير، ولكنه توبع بطاوس عند ابن ماجه (3059). ولكن روايات جابر وابن عمر وأبي سلمة عن عائشة تقدم عليه، لكونها أصح وأشهر وأكثر رواة، فوجب تقديمها. انظر:«المجموع» (8/ 223).
(2)
كذا في جميع النسخ، والصواب:«عن عائشة وابن عباس» كما في المصادر.
(3)
«العلل الكبير» (ص 134).
(4)
«من» ليست في ك، ص، ج.
(5)
«بيان الوهم والإيهام» (5/ 64 - 67).
إلى منًى، فصلَّى الظُّهر بها
(1)
، وجابر يقول: إنَّه صلَّى الظُّهر بمكَّة، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه الَّتي فيها أنَّه أخَّر الطَّواف إلى اللَّيل، وهذا شيءٌ لم يُروَ إلا من هذه
(2)
الطَّريق، وأبو الزبير مدلِّسٌ لم يذكر هاهنا سماعًا من عائشة، وقد عُهِد يَروي عنها بواسطةٍ، ولا أيضًا من ابن عبَّاسٍ، فقد عُهِد كذلك يروي عنه بواسطةٍ، وإن كان قد سمع منه. فيجب التَّوقُّف فيما يرويه أبو الزبير عن عائشة وابن عبَّاسٍ ممَّا لا يذكر فيه سماعه منهما، لِما عُرِف به من التَّدليس، ولو عُرِف سماعه منهما
(3)
لغير هذا، فأمَّا ولم يصحَّ لنا
(4)
أنَّه سمع من عائشة، فالأمر بيِّنٌ في وجوب التَّوقُّف فيه.
وإنِّما يختلف العلماء في قبول حديث المدلِّس إذا كان عمَّن قد عُلم لقاؤه له وسماعه منه. هاهنا يقول قومٌ: يُقبل، ويقول آخرون: يُردُّ ما يعنعنه عنهم حتَّى يتبيَّن الاتِّصال في حديثٍ حديثٍ. وأمَّا ما يعنعنه المدلِّس عمَّن لم
(5)
يُعلم لقاؤه له ولا سماعه منه، فلا أعلم الخلاف فيه بأنَّه لا يُقبل. ولو كنَّا نقول بقول مسلمٍ في
(6)
أن معنعن المتعاصرين محمولٌ على الاتِّصال ولو لم يعلم التقاؤهما، فإنَّما ذلك في غير المدلِّسين.
وأيضًا فلما قدَّمناه من صحَّة طواف النبيِّ صلى الله عليه وسلم يومئذٍ نهارًا. والخلاف في
(1)
«بعد أن فرغ
…
الظهر بها» ساقطة من ق بسبب انتقال النظر.
(2)
ق: «هذا» ، والمثبت من بقية النسخ. والطريق يذكّر ويؤنّث.
(3)
ق، م، ب، مب:«منها» . والمثبت من بقية النسخ موافق لما عند ابن القطان.
(4)
«لنا» ليست في ك.
(5)
«لم» ليست في ص.
(6)
«في» ليست في ق، م، ب، مب.
ردِّ حديث المدلِّسين حتَّى يُعلم اتِّصاله أو قبوله حتَّى يعلم انقطاعه، إنَّما هو إذا لم يعارضه ما لا شكَّ في صحَّته
(1)
، وهذا فقد عارضه ما لا شكَّ في صحَّته. انتهى كلامه.
ويدلُّ على غلطه
(2)
على عائشة أنَّ أبا سلمة بن عبد الرَّحمن روى عن عائشة أنَّها قالت: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفَضْنا يومَ النَّحر
(3)
.
وروى محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها: [أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى.
ورواه عمر بن قيس عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم بن محمد عن عائشة:]
(4)
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذِنَ لأصحابه فزاروا البيتَ يوم النَّحر ظهيرةً، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلًا
(5)
. وهذا غلطٌ أيضًا.
قال البيهقي
(6)
: وأصحُّ هذه الرِّوايات حديث نافع عن ابن عمر، وحديث جابر، وحديث أبي سلمة عن عائشة. يعني: أنَّه طاف نهارًا.
(1)
ق، م، ب، مب:«مصلحته» . والمثبت من بقية النسخ موافق لما عند ابن القطان.
(2)
في هامش ب: «لعله: صحته» . وما في المتن هو الصواب. وفي المطبوع: «غلط أبي الزبير» خلاف النسخ.
(3)
رواه البيهقي (5/ 144).
(4)
الزيادة من البيهقي، ولعلها سقطت بسبب انتقال النظر عند المؤلف أو الناسخ الأول.
(5)
الروايتان عند البيهقي (5/ 144)، وعمر بن قيس المعروف بسندل متكلم فيه. انظر:«الإرواء» (4/ 265).
(6)
تعقيبًا على الروايات السابقة.
قلت: وإنَّما
(1)
نشأ الغلط من تسمية الطواف، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخَّر طواف الوداع إلى اللَّيل، كما ثبت في «الصَّحيحين»
(2)
من حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكرت الحديث، إلى أن قالت: فنزلنا المحصَّبَ، فدعا عبد الرَّحمن بن أبي بكرٍ، فقال: «اخرجْ بأختك من الحرم، ثمَّ افرغا من طوافكما، ثمَّ تأتياني
(3)
هاهنا بالمحصَّب». قالت: فقضى الله العمرة، وفرغنا من طوافنا في جوف اللَّيل، فأتيناه بالمحصَّب، فقال: فرغتما؟ قلنا: نعم. فأذَّن في النَّاس بالرَّحيل، فمرَّ بالبيت فطاف به، ثمَّ ارتحل متوجِّهًا إلى المدينة. فهذا هو الطَّواف الذي أخَّره إلى اللَّيل بلا ريبٍ، فغلِطَ فيه أبو الزبير أو من حدَّثه به
(4)
، وقال: طواف الزِّيارة، والله الموفِّق.
ولم يرمُلْ صلى الله عليه وسلم في هذا الطَّواف ولا في طواف الوداع
(5)
، وإنَّما رمل في طواف القدوم.
فصل
ثمَّ أتى زمزمَ بعد أن قضى طوافه وهم يستقون فقال: «لولا أن يَغلِبكم النَّاس لنزلتُ فسقيتُ معكم»
(6)
، ثمَّ ناولوه الدَّلو، فشرِب وهو
(1)
«وإنما» ليست في ب.
(2)
البخاري (1560) ومسلم (1211/ 123).
(3)
كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: «ائتياني» .
(4)
«به» ليست في ك.
(5)
رواه أبو داود (2001) وابن ماجه (3060)، وصححه الحاكم (1/ 475) والألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 244).
(6)
رواه مسلم (1218/ 147) من حديث جابر رضي الله عنه .
قائمٌ
(1)
. فقيل: هذا نسخٌ لنهيه عن الشُّرب قائمًا، وقيل: بل بيانٌ منه لأن النَّهي على وجه الاختيار وتركِ الأولى، وقيل: بل للحاجة، وهذا أظهر.
وهل كان في طوافه هذا راكبًا أو ماشيًا؟ فروى مسلم في «صحيحه»
(2)
عن جابر قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجَّة الوداع على راحلته، يستلم الحجر
(3)
بمِحْجَنِه لأن يراه النَّاس، وليُشْرِفَ، وليسألوه، فإنَّ النَّاس غَشُوه.
وفي «الصَّحيحين»
(4)
عن ابن عبَّاسٍ قال: طاف النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع على بعيرٍ يستلم الرُّكن بمِحْجَنٍ.
وهذا الطَّواف ليس بطواف الوداع فإنِّه كان ليلًا، وليس بطواف القدوم لوجهين:
أحدهما: أنَّه قد صحَّ عنه الرَّمل في طواف القدوم، ولم يقل أحدٌ قطُّ: رملَتْ به راحلته، وإنَّما قالوا: رَمَلَ نفسه
(5)
.
والثَّاني: قول عمرو بن الشَّرِيد
(6)
: أفضتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما مسَّت
(1)
رواه البخاري (1637) ومسلم (2027/ 117) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(2)
برقم (1273/ 254) من حديث جابر رضي الله عنه .
(3)
في المطبوع: «الركن» خلاف النسخ و «صحيح مسلم» .
(4)
رواه البخاري (1607) ومسلم (1272) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(5)
رواه مسلم (1263) من حديث جابر رضي الله عنه .
(6)
كذا في جميع النسخ. والصواب: «الشريد» أبوه كما في مصدر التخريج. وصوَّبه في المطبوع إلى: «الشريد بن سويد» .
قدماه الأرضَ حتَّى أتى جَمْعًا
(1)
. وهذا ظاهره أنَّه من حين أفاض معه ما مسَّت قدماه الأرض
(2)
إلى أن رجع. ولا ينتقض هذا بركعتي الطَّواف، فإنَّ شأنهما
(3)
معلومٌ.
قلت: والظَّاهر أنَّ عمرو بن الشَّريد
(4)
إنَّما أراد الإفاضة معه من عرفة، ولهذا قال:«حتَّى أتى جَمْعًا» وهي مزدلفة
(5)
، ولم يُرِد الإفاضة إلى البيت يوم النَّحر. ولا ينتقض هذا بنزوله عند الشِّعب حين
(6)
بال ثمَّ ركب؛ لأنَّه ليس بنزولٍ مستقرٍّ، وإنَّما مسَّت قدماه الأرضَ مسًّا عارضًا.
فصل
ثمَّ رجع إلى منًى، واختُلِف أين صلَّى الظُّهر يومئذٍ، ففي «الصَّحيحين»
(7)
عن ابن عمر أنَّه صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النَّحر، ثمَّ رجع فصلَّى الظُّهر بمنًى.
وفي «صحيح مسلم»
(8)
عن جابر أنَّه صلَّى الظُّهر بمكَّة. وكذلك قالت
(1)
الحديث رواه أحمد (19465) من حديث الشريد، وصححه محققو المسند (19465).
(2)
«حتى أتى
…
الأرض» ساقطة من ص بسبب انتقال النظر.
(3)
ك، ص، ج:«شأنها» .
(4)
كذا في جميع النسخ، وهذا يدل على أن الوهم من المؤلف. وصوّبه في المطبوع.
(5)
«وهي مزدلفة» ليست في ك.
(6)
ك: «حتى» .
(7)
لم أجده إلا عند مسلم (1308/ 335).
(8)
حديث جابر عند مسلم (1218/ 147). وحديث عائشة عند أحمد (24592) وأبي داود (1973)، وهو صحيح، وفي بعض جمله نكارة. انظر:«صحيح أبي داود - الأم» (6/ 213).
عائشة. واختُلِف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر، فقال أبو محمد بن حزم
(1)
: قول عائشة وجابر أولى، وتبعه على هذا جماعةٌ، ورجَّحوا هذا القول بوجوهٍ
(2)
:
أحدها: أن رُواتَه اثنان
(3)
، وهما أولى من الواحد.
الثَّاني: أنَّ عائشة أخصُّ النَّاس به، ولها من القرب والاختصاص والمزيَّة ما ليس لغيرها.
الثَّالث: أنَّ سياق جابر لحجَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم من أوَّلها إلى آخرها أتمُّ سياقٍ، وقد حفظ القصَّة وضبطَها، حتَّى ضبط جزئيَّاتِها، حتَّى ضبط منها أمرًا لا يتعلَّق بالمناسك، وهو نزول النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ جمعٍ
(4)
في الطَّريق، فقضى حاجته عند الشِّعب، ثمَّ توضَّأ وضوءًا خفيفًا. فمن ضبط هذا القدر فهو بضبط مكان صلاته يومَ النَّحر أولى.
الرَّابع: أنَّ حجَّة الوداع كانت في آذار، وهو تساوي اللَّيل والنَّهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشَّمس إلى منًى، وخطب بها النَّاس، ونحر بُدْنًا عظيمةً وقسَمَها، وطُبخ له من لحمها وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه،
(1)
قال في «حجة الوداع» (ص 209): وهما ــ والله أعلم ــ أضبط لذلك من ابن عمر، فعائشة أخص به عليه السلام من جميع الناس. وانظر (ص 296) منه. ولكنه في (ص 124) قال: أشكل علينا الفصل فيه بصحة الطرق في ذلك، ولا شك أن أحد الخبرين وهم والثاني صحيح، ولا ندري أيهما هو.
(2)
انظر بعضها عند ابن حزم في «حجة الوداع» (ص 296).
(3)
كذا في أكثر النسخ. وفي مب: «روايه» . وفي المطبوع: «أنه رواية اثنين» .
(4)
«ليلة جمع» ليست في م، مب.
وتطيَّب
(1)
، ثمَّ أفاض، فطاف، وشرب من ماء زمزم ومن نبيذ السِّقاية، ووقف عليهم وهم يَسقُون. وهذه أعمالٌ يبدو في الأظهر أنَّها لا تنقضي في مقدارٍ يمكن معه الرُّجوع إلى منًى، بحيث يدرك وقت الظُّهر في فصل آذار.
الخامس: أنَّ هذين الحديثين جاريان مجرى النَّاقل والمُبقي، فإن عادته صلى الله عليه وسلم كانت في حجَّته الصَّلاة في منزله الذي هو نازلٌ فيه بالمسلمين، فجرى ابن عمر على العادة، وضبط جابر وعائشة الأمر الذي هو خارجٌ عن عادته، فهو أولى بأن يكون هو المحفوظ.
ورجَّحت طائفةٌ أخرى قول ابن عمر بوجوهٍ:
أحدها: أنَّه لو صلَّى الظُّهر بمكَّة لم يُصلِّ أصحابه بمنًى وُحدانًا ولا زَرافاتٍ، بل لم يكن لهم بدٌّ من الصَّلاة خلف إمامٍ يكون نائبًا عنه، ولم ينقل هذا أحدٌ قطُّ، ولا نقل أحدٌ أنَّه استناب من يصلِّي بهم. ولولا علمه أنَّه يرجع إليهم فيصلِّي بهم لقال: إن حضرت الصَّلاة ولستُ عندكم فليصلِّ بكم فلانٌ، وحيثُ لم يقع هذا ولا هذا، ولا صلَّى الصَّحابة هناك
(2)
وُحدانًا قطعًا، ولا كان من عادتهم إذا اجتمعوا أن يصلُّوا عِزِين
(3)
، عُلِم أنَّهم صلَّوا معه على عادتهم.
الثَّاني: أنَّه لو صلَّى بمكَّة لكان خلفه بعض أهل البلد وهو مقيم
(4)
،
(1)
بعدها في ص، ك، ج:«وخطب» . وليست في ق، م، ب، مب.
(2)
«هناك» ليست في ك.
(3)
أي جماعات متفرقة.
(4)
في المطبوع: «وهم مقيمون» .
وكان يأمرهم أن يتمُّوا صلاتهم، ولنُقِل
(1)
أنَّهم قاموا فأتمُّوا بعد سلامه صلاتَهم. وحيث لم يُنقل هذا ولا هذا، بل هو معلوم الانتفاء قطعًا، عُلِم أنَّه لم يصلِّ حينئذٍ بمكَّة. وما ينقله بعض من لا علمَ عنده أنَّه قال:«يا أهلَ مكَّة أتِمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سَفْرٌ»
(2)
فإنَّما قاله عامَ الفتح، لا في حجَّته.
الثَّالث: أنَّه من المعلوم أنَّه لمَّا طاف ركع ركعتي الطَّواف، ومعلومٌ أنَّ كثيرًا من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه، فلعلَّه لمَّا ركع ركعتي الطَّواف، والنَّاس خلفه يقتدون به، ظنَّ الظَّانُّ أنَّها صلاة الظُّهر، ولا سيَّما إذا كان ذلك في وقت الظُّهر. وهذا الوهم لا يمكن رفعُ
(3)
احتماله بخلاف صلاته بمنًى، فإنَّها لا تحتمل غير الفرض.
الرَّابع: أنَّه لا يُحفظ عنه في حجته
(4)
أنَّه صلَّى الفرض بجوف مكَّة، بل إنَّما كان يصلِّي بمنزله
(5)
بالمسلمين مدَّة مقامه، كان يصلِّي بهم أين نزلوا، لا يصلِّي في مكانٍ آخر غير المنزل العامِّ.
الخامس: أنَّ حديث ابن عمر متَّفقٌ عليه، وحديث جابر من أفراد مسلم. فحديث ابن عمر أصحُّ منه، وكذلك هو في إسناده، فإنَّ رواته أحفظ وأشهر
(1)
في المطبوع: «ولم ينقل» خلاف النسخ.
(2)
رواه أبو داود (1229) وابن خزيمة (1643) وغيرهما من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
(3)
ك، ص، ج:«دفع» . والمثبت من ق، ب، مب.
(4)
ب، م، مب:«حجه» .
(5)
بعدها في المطبوع: «بالأبطح» . وليست في النسخ.
وأتقن، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله
(1)
، وأين يقع حفظ جعفر من حفظ نافع؟
السَّادس: أنَّ حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه، فرُوي عنها على ثلاثة أوجهٍ، أحدها: أنَّه طاف نهارًا، الثَّاني: أنَّه أخَّر الطَّواف إلى اللَّيل، الثَّالث: أنَّه أفاض من آخر يومه، فلم يضبط فيه وقت الإفاضة ولا مكان الصَّلاة، بخلاف حديث ابن عمر.
السَّابع: أنَّ حديث ابن عمر أصحُّ منه بلا نزاعٍ، فإنَّ حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها، وابن إسحاق مختلَفٌ
(2)
في الاحتجاج به، ولم يصرِّح بالسَّماع بل عنعنه، فكيف يُقدَّم على قول
(3)
عبيد الله: حدَّثني نافع عن ابن عمر.
الثَّامن: أنَّ حديث عائشة ليس بالبيِّن أنَّه صلَّى الظُّهر بمكَّة، فإنَّ لفظه هكذا: «أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلَّى الظُّهر، ثمَّ دفع
(4)
إلى منًى، فمكث بها ليالي أيَّام التَّشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشَّمس، كلَّ جمرةٍ بسبع حصياتٍ». فأين دلالة هذا الحديث الصَّريحة
(5)
على أنَّه صلَّى الظُّهر يومئذٍ بمكَّة؟ وأين هذا في صريح الدَّلالة إلى قول ابن عمر: «أفاض
(1)
بعدها في المطبوع: «بن عمر العمري» ، وليست في النسخ.
(2)
ص، ج:«يختلف» .
(3)
ص: «حديث» .
(4)
في المطبوع: «رجع» .
(5)
ك: «الصريح» .
يوم النَّحر، ثمَّ صلَّى الظُّهر بمنًى»؟ يعني راجعًا، وأين حديثٌ اتَّفق أصحاب الصَّحيح على إخراجه إلى حديثٍ اختُلِف في الاحتجاج به؟ والله أعلم.
فصل
قال ابن حزمٍ
(1)
: وطافت أم سلمة في ذلك اليوم على بعيرها من وراء النَّاس وهي شاكيةٌ، استأذنت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم فأذِن لها. واحتجَّ عليه بما رواه مسلم في «صحيحه»
(2)
من حديث زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة، قالت: شكوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنِّي أشتكي، فقال:«طوفي من وراء النَّاس وأنتِ راكبةٌ» ، قالت: فطفتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذٍ يصلِّي إلى جانب
(3)
البيت، وهو يقرأ:{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1 - 2].
ولا يتبيَّن أنَّ هذا الطَّواف هو طواف الإفاضة؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في ركعتي ذلك الطَّواف بالطُّور، ولا جهر في القراءة بالنَّهار بحيث تسمعه أم سلمة من وراء النَّاس. وقد بيَّن أبو محمد غلطَ من قال: إنَّه أخَّره إلى اللَّيل، وأصاب في ذلك. وقد صحَّح هو
(4)
حديث عائشة أنَّ
(5)
النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرسل بأم سلمة ليلةَ النَّحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثمَّ مضتْ فأفاضت
(6)
. فكيف يلتئم هذا مع
(1)
في «حجة الوداع» (ص 124).
(2)
برقم (1276).
(3)
في المطبوع: «جنب» خلاف النسخ.
(4)
مب: «وقد صحح من» . وفي المطبوع: «وقد صح من» والمثبت من بقية النسخ.
(5)
«أن» ليست في ص.
(6)
رواه أبو داود (1942)، وفي إسناده الضحاك فيه لين، مع اضطراب في سنده ومتنه. انظر:«ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 176) و «الإرواء» (4/ 277).
طوافها يوم النَّحر وراء النَّاس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب البيت يصلِّي ويقرأ
(1)
{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} ؟ هذا من المحال؛ فإنَّ هذه الصَّلاة والقراءة كانت في صلاة الفجر أو المغرب أو العشاء، وإنَّها
(2)
كانت يوم النَّحر، فلم يكن ذلك الوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة قطعًا، فهذا من وهمه رحمه الله.
وطافت عائشة في ذلك اليوم طوافًا واحدًا، وسعتْ سعيًا واحدًا أجزأها عن حجِّها وعمرتها، وطافت صفيَّة ذلك اليوم ثمَّ حاضت، فأجزأها طوافها ذلك عن طواف الوداع، ولم تُودِّع
(3)
. فاستقرَّت سنَّتُّه صلى الله عليه وسلم في المرأة الطَّاهر
(4)
إذا حاضت قبل الطَّواف
(5)
أن تَقْرِن وتكتفي بطوافٍ واحدٍ وسعيٍ واحدٍ، وإن حاضت بعد طواف الإفاضة اجتزأتْ به عن طواف الوداع.
فصل
ثمَّ رجع صلى الله عليه وسلم إلى منًى من يومه ذلك، فبات بها، فلمَّا أصبح انتظر زوال الشَّمس، فلمَّا زالت الشمس مشى من رحله إلى الجِمار ولم يركب، فبدأ بالجمرة الأولى الَّتي تلي مسجدَ الخيف، فرماها بسبع حَصَياتٍ، واحدةً بعد واحدةٍ، يقول مع كلِّ حصاةٍ: الله أكبر، ثمَّ تقدَّم عن
(6)
الجمرة أمامها حتَّى
(1)
بعدها في المطبوع: «في صلاته» ، وليست في النسخ.
(2)
في المطبوع: «وأما أنها» ، خطأ يقلب المعنى.
(3)
رواه البخاري (4401) ومسلم (1211/ 382) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
في المطبوع: «الطاهرة» خلاف النسخ. والطاهر مثل الحائض.
(5)
بعدها في المطبوع: «أو قبل الوقوف» . وليست في النسخ.
(6)
في المطبوع: «على» .
أسهلَ
(1)
، فقام مستقبلَ القبلة، ثمَّ رفع يديه ودعا دعاءً طويلًا بقدر سورة البقرة، ثمَّ أتى إلى الجمرة الوسطى، فرماها كذلك، ثمَّ انحدر ذات اليسار ممَّا يلي الوادي، فوقف مستقبلَ القبلة رافعًا يديه يدعو قريبًا من وقوفه الأوَّل، ثمَّ أتى الجمرة الثَّالثة وهي جمرة العَقَبة، فاستبطن الواديَ واستعرض الجمرة، فجعل البيت عن يساره ومنًى عن يمينه، فرماها بسبع حصياتٍ كذلك
(2)
.
ولم يَرْمِها من أعلاها كما يفعل الجهَّال، ولا جعلها عن يمينه واستقبل البيت وقتَ الرَّمي، كما ذكره غير واحدٍ من الفقهاء.
فلمَّا أكمل الرَّمي رجع من فوره، ولم يقف عندها، فقيل: لضيق المكان بالجبل، وقيل وهو أصحُّ: إنَّ دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلمَّا رمى جمرة العقبة فرغ الرَّميُ، والدُّعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها
(3)
أفضل منه
(4)
بعد الفراغ منها. وهذه
(5)
كانت سنَّته في دعائه في الصَّلاة؛ كان يدعو في صلبها، وأمَّا بعد الفراغ منها فلم يثبت عنه أنَّه كان يعتاد الدُّعاء، ومن روى عنه ذلك فقد غلِطَ عليه، وإن رُوي في غير الصَّحيح أنَّه كان أحيانًا يدعو
(1)
ج: «ابتهل» ، تحريف. وأسهلَ: أتى السهلَ من الأرض.
(2)
رواه البخاري (1750) ومسلم (1296/ 306،307) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. ورواه البخاري (1753) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(3)
«قبل الفراغ منها» ليست في ق، ص، ك، ج، م، مب. والمثبت من ب.
(4)
«منه» ليست في ك.
(5)
في المطبوع: «وهذا كما» .
بدعاءٍ عارضٍ بعد السَّلام
(1)
، وفي صحَّته نظرٌ.
وبالجملة، فلا ريبَ أنَّ عامَّة أدعيته الَّتي كان يدعو بها، وعلَّمها الصِّدِّيق إنَّما هي في صلب الصَّلاة. وأمَّا حديث معاذ بن جبلٍ: «لا تنسَ أن تقول دُبُرَ
(2)
كلِّ صلاةٍ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسنِ عبادتك»
(3)
، فدُبُر الصَّلاة يراد به آخرها قبل السَّلام منها، كدبر الحيوان، ويراد به ما بعد السَّلام منها، كقوله: «تُسبِّحون الله
(4)
دُبُرَ
(5)
كلِّ صلاةٍ»
(6)
الحديثَ.
فصل
ولم يزل في نفسي: هل كان يرمي قبل صلاة الظُّهر أو بعدها؟ والَّذي يغلب على الظنِّ أنَّه كان يرمي قبل الصَّلاة
(7)
، ثمَّ يرجع فيصلِّي؛ لأنَّ جابرًا وغيره قالوا: كان يرمي إذا زالت الشَّمس، فعقَّبوا زوال الشَّمس برميه.
(1)
روى أحمد (9285) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر: «اللهم خلِّص الوليد
…
»، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، ضعيف.
(2)
ك: «في دبر» .
(3)
رواه أحمد (22126) وأبو داود (1522) والنسائي (1303)، وصححه ابن خزيمة (751) وابن حبان (2020) والحاكم (1/ 273) والنووي في «الأذكار» (ص 73)، وقواه ابن حجر في «بلوغ المرام» (ص 96)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (5/ 253).
(4)
بعدها في المطبوع: «وتكبرون وتحمدون» ، وليست في النسخ.
(5)
ج: «في دبر» .
(6)
رواه البخاري (6329) ومسلم (595/ 142) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(7)
ك: «صلاة الظهر» .
وأيضًا فإنَّ وقت الزَّوال للرَّمي أيَّامَ منًى كطلوع الشَّمس لرمي يوم النَّحر، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم النَّحر لمَّا دخل وقت الرَّمي لم يقدِّم عليه شيئًا من عبادات ذلك اليوم.
وأيضًا فإنَّ الترمذي وابن ماجه رويا في «سننهما»
(1)
عن ابن عبَّاسٍ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار إذا زالت الشَّمس. زاد ابن ماجه: «قدر ما إذا فرغ من رميه صلَّى الظُّهر» . وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ، ولكن في إسناد حديث الترمذي الحجَّاج بن أرطاة، وفي إسناد حديث ابن ماجه إبراهيم بن عثمان بن شيبة
(2)
أبو شيبة ولا يحتجُّ به
(3)
. ولكن ليس في الباب غير هذا.
وذكر الإمام أحمد
(4)
أنَّه كان يرمي يوم النَّحر راكبًا، وأيَّامَ منًى ماشيًا في ذهابه ورجوعه.
فصل
فقد تضمَّنت حجَّته صلى الله عليه وسلم ستَّ وقفاتٍ للدُّعاء:
(1)
الترمذي (898) وابن ماجه (3054)، وسيأتي كلام المؤلف على إسنادهما. وحديث الحجاج يشهد له حديث جابر عند مسلم (1299/ 314)، ولفظه:«رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس» .
(2)
كذا في ق، ك، ص، ج، م، مب. وفي ب:«بن أبي شيبة» . وكلاهما خطأ. والصواب: «إبراهيم بن عثمان بن خواستي» كما في كتب التراجم.
(3)
انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» (2/ 147). وفي إسناده أيضًا جُبارة بن المغلس، ضعيف. انظر:«تهذيب الكمال» (4/ 489).
(4)
في «مسنده» (5944) و (6222) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو صحيح. انظر:«السلسلة الصحيحة» (2072) و «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 211).
الموقف الأوَّل: على الصَّفا، والثَّاني: على المروة، والثَّالث: بعرفة، والرَّابع: بمزدلفة، والخامس: عند الجمرة الأولى، والسَّادس: عند الجمرة الثَّانية.
فصل
وخطب صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بمنًى خطبتين: خطبةً يوم النَّحر وقد تقدَّمت، والخطبة الثَّانية في أوسط أيَّام التَّشريق، فقيل: هو ثاني يوم النَّحر، وهو أوسطها أي خيارها، واحتجَّ من قال ذلك بحديث سَرَّاء بنت نَبْهان، قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«تدرون أيُّ يومٍ هذا؟» ، قال
(1)
: وهو اليوم الذي يدعون يوم الرُّؤوس. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «هذا أوسط أيَّام التَّشريق. هل تدرون أيُّ بلدٍ هذا؟» ، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «هذا المشعر الحرام» . ثمَّ قال: «إنِّي لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد هذا
(2)
، ألا وإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا
(3)
، في بلدكم هذا، حتَّى تَلْقَوا ربَّكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فليبلِّغ أدناكم أقصاكم، ألا هل بلَّغتُ». فلمَّا قدمنا المدينة لم يلبث
(4)
قليلًا حتَّى مات صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود
(5)
. ويوم الرُّؤوس هو ثاني يوم النَّحر باتِفاق.
(1)
كذا في النسخ والبيهقي، والضمير لأحد الرواة. وفي المطبوع:«قالت» .
(2)
في المطبوع: «بعد عامي هذا» خلاف النسخ والبيهقي.
(3)
بعدها في المطبوع: «في شهركم هذا» . وليست في النسخ وهذه الرواية.
(4)
بعدها في المطبوع والبيهقي: «إلا» . وليست في النسخ.
(5)
رواه أبو داود مختصرًا (1953)، والبيهقي بتمامه واللفظ له (5/ 151)، وإسناده ضعيف لجهالة ربيعة بن عبد الرحمن الغنوي. انظر:«ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 178).
وذكر البيهقي
(1)
من طريق موسى بن عُبيدة الرَّبَذي، عن صَدَقة بن يسار عن ابن عمر، قال: أنزلت هذه السُّورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيَّام التَّشريق، وعرف أنَّه الوداع، فأمر براحلته القَصْواء
(2)
فَرُحِلت، واجتمع النَّاس فقال: «يا
(3)
أيُّها النَّاس»، ثمَّ ذكر الحديث في خطبته.
فصل
واستأذنه العبَّاس بن عبد المطَّلب أن يبيت بمكَّة لياليَ منًى من أجلِ سقايته، فأذن له
(4)
.
واستأذنه رِعاءُ الإبل في
(5)
البيتوتة خارجَ منًى عند الإبل، فأرخص لهم أن يرموا يوم النَّحر، ثمَّ يجمعوا رميَ يومين بعد يوم النَّحر يرمونه في أحدهما
(6)
.
(1)
في السنن الكبرى (5/ 152)، وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي متكلم فيه.
(2)
ب، ك، ص، ج، مب:«القصوى» . والمثبت من ق، م.
(3)
«يا» ساقطة من ص.
(4)
رواه البخاري (1635) من حديث ابن عباس، ورواه مسلم (1315) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(5)
«في» ساقطة من ص.
(6)
رواه مالك (218) وأبو داود (1975) والترمذي (955) وابن ماجه (3037) من حديث أبي البَدَّاح بن عاصم بن عدي عن أبيه. وصححه الترمذي والحاكم (3/ 420) وقال: «جوده مالك» . وانظر: «الإرواء» (4/ 280) و «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 216).
قال مالك
(1)
: ظننتُ أنَّه قال: في أوَّل يومٍ منهما، ثمَّ يرمون يوم النَّفر.
وقال ابن عيينة في هذا الحديث: «رخَّص للرعاء أن يرموا يومًا ويَدَعوا يومًا»
(2)
.
فيجوز للطَّائفتين بالسُّنَّة تركُ المبيت بمنًى، وأمَّا الرَّمي فإنَّهم لا يتركونه، بل لهم أن يؤخِّروه إلى اللَّيل فيرمون فيه، ولهم أن يجمعوا رميَ يومين في يومٍ. وإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد رخَّص لأهل السِّقاية وللرِّعاء في البيتوتة، فمن له مالٌ يخاف ضياعه، أو مريضٌ يخاف من تخلُّفِه عنه، أو كان مريضًا لا يُمكِنه البيتوتة، سقطت عنه بتنبيه النصِّ على هؤلاء، والله أعلم.
فصل
ولم يتعجَّل صلى الله عليه وسلم في يومين، بل تأخَّر حتَّى أكمل رمي أيَّام التَّشريق الثَّلاثة، وأفاض يوم الثُّلاثاء بعد الظُّهر إلى المحصَّب، وهو الأبطح، وهو خَيْف بني كنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب قُبَّتَه
(3)
هناك ــ وكان على ثَقَلِه ــ توفيقًا من الله عز وجل دون أن يأمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلَّى به الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقدَ رقدةً
(4)
. ثمَّ نهض إلى مكَّة، فطاف للوداع
(1)
انظر: «سنن الترمذي» (955) و «التمهيد» (17/ 258) و «الاستذكار» (4/ 354).
(2)
رواه أبو داود (1976) والترمذي (954) من حديث أبي البَدَّاح بن عاصم بن عدي عن أبيه. وصححه ابن حبان (3888) والألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 217).
(3)
في المطبوع: «ضرب له فيه قبة» .
(4)
سيأتي تخريجه.
ليلًا سَحَرًا، ولم يرمل في هذا الطَّواف، وأخبرته صفية أنَّها حائضٌ فقال:«أحابستُنا هي؟» ، فقالوا له
(1)
: إنَّها قد أفاضت، قال:«فلْتنفِرْ إذًا»
(2)
. ورغبت إليه عائشة تلك اللَّيلة أن يُعمِرها عمرةً مفردةً، فأخبرها أنَّ طوافها بالبيت وبالصَّفا والمروة قد أجزأ عن حجِّها وعمرتها، فأبتْ إلا أن تعتمر عمرةً مفردةً، فأمر أخاها
(3)
أن يُعمِرها من التَّنعيم، ففرغتْ من عمرتها ليلًا، ثمَّ وافَت المحصَّبَ مع أخيها، فأتيا في جوف اللَّيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فرغتما؟» ، قالت: نعم، فنادى بالرَّحيل في أصحابه، فارتحل النَّاس، ثمَّ طاف بالبيت قبل صلاة الصُّبح. هذا لفظ البخاري
(4)
.
فإن قيل: كيف تجمعون بين هذا وبين حديث الأسود عنها الذي في «الصَّحيح»
(5)
أيضًا؟ قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى
(6)
إلا الحجَّ
…
فذكرت الحديث، وفيه:«فلمَّا كانت ليلة الحصبة قلت: يا رسول الله، يرجع النَّاس بحج وعمرةٍ وأرجع أنا بحجَّةٍ؟ قال: «أوما كنتِ طُفتِ لياليَ قدِمنا مكَّة؟» ، قالت: قلت: لا. قال: «فاذهبي مع أخيك إلى التَّنعيم، فأهلِّي بعمرةٍ، ثمَّ موعدُكِ مكانُ كذا وكذا» . قالت عائشة: فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُصعِدٌ من مكَّة، وأنا منهبطةٌ عليها، أو أنا مُصعِدةٌ وهو منهبطٌ منها».
(1)
«له» ليست في ك.
(2)
رواه البخاري (4401) ومسلم (1211/ 382) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
بعدها في المطبوع: «عبد الرحمن» . وليست في النسخ.
(4)
برقم (1788).
(5)
رواه البخاري (1561) ومسلم (1211/ 128).
(6)
في المطبوع: «ولم نر» .
ففي هذا الحديث أنَّهما تلاقيا في الطَّريق، وفي الأوَّل أنَّه انتظرها في منزله، فلمَّا جاءت نادى بالرَّحيل في أصحابه. ثمَّ فيه إشكالٌ آخر، وهو قولها
(1)
: «لقيني وهو مُصعِدٌ من مكَّة وأنا منهبطةٌ عليها» ، أو بالعكس، فإن كان الأوَّل فيكون قد لقيها مصعدًا منها راجعًا إلى المدينة، وهي منهبطةٌ عليها للعمرة، وهذا ينافي انتظاره لها بالمحصَّب.
وقال أبو محمَّدٍ بن حزمٍ
(2)
: الصَّواب الذي لا شكَّ فيه أنَّها كانت مُصعِدةً من مكَّة وهو منهبطٌ؛ لأنَّها تقدَّمت إلى العمرة وانتظرها صلى الله عليه وسلم حتَّى جاءت، ثمَّ نهض إلى طواف الوداع، فلقيها منصرفةً إلى المحصَّب عن مكَّة.
وهذا لا يصحُّ، فإنَّها قالت: وهو منهبطٌ منها، وهذا يقتضي أن يكون بعد المحصَّب والخروجِ من مكَّة، فكيف يقول أبو محمد: إنَّه نهض إلى طواف الوداع وهو منهبطٌ من مكَّة؟ هذا محالٌ. وأبو محمد لم يحجَّ. وحديث القاسم عنها صريحٌ كما تقدَّم في أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرها في منزله بعد النَّفْر حتَّى جاءت، فارتحل وأذِن للنَّاس بالرَّحيل. فإن كان حديث الأسود هذا محفوظًا فصوابه: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مُصعِدةٌ من مكَّة وهو منهبطٌ إليها، فإنَّها طافت وقضت عمرتها، ثمَّ أصعدتْ لميعاده، فوافتْه
(3)
وهو قد أخذ في الهبوط إلى مكَّة للوداع، فارتحل وأذَّن في النَّاس بالرَّحيل. ولا وجهَ لحديث الأسود غير هذا.
(1)
ك: «قوله» .
(2)
في «حجة الوداع» (ص 223).
(3)
ك: «فوافقته» .
وقد جُمِع بينهما بجمعين آخرين، وهما وهمٌ:
أحدهما: أنَّه طاف للوداع مرَّتين، مرَّةً بعد أن بعثها وقبل فراغها، ومرَّةً بعد فراغها للوداع. وهذا مع أنَّه وهمٌ بيِّنٌ فإنَّه لا يرفع الإشكال بل يزيده، فتأمَّلْه.
الثَّاني: أنَّه انتقل من المحصَّب إلى ظهر العقبة خوف المشقَّة على المسلمين في التَّحصيب، فلقيتْه وهي منهبطةٌ إلى مكَّة وهو مُصعِدٌ إلى العقبة
(1)
. وهذا أقبح من الأوَّل؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من العقبة أصلًا، وإنَّما خرج من أسفلِ مكَّة من الثَّنيَّة السُّفلى بالاتِّفاق. وأيضًا، فعلى تقدير ذلك لا يحصل الجمع بين الحديثين.
وذكر أبو محمَّدٍ بن حزمٍ
(2)
أنَّه رجع بعد خروجه من أسفل مكَّة إلى المحصَّب، وأمر بالرَّحيل. وهذا وهمٌ أيضًا، لم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وداعه إلى المحصَّب، وإنَّما مرَّ من فوره إلى المدينة.
وذكر في بعض تواليفه أنَّه فعل ذلك ليكون كالمُلْحِق مكَّةَ
(3)
بدائرةٍ في دخوله وخروجه، فإنَّه بات بذي طُوًى، ثمَّ دخل من أعلى مكَّة، ثمَّ خرج من أسفلها، ثمَّ رجع إلى المحصَّب، ويكون هذا الرُّجوع من يماني مكَّة حتَّى تحصل الدَّائرة، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا جاء نزل بذي طُوًى، ثمَّ أتى على مكَّة من
كَدَاءٍ
(1)
، ثمَّ نزل به لمَّا فرغ من الطَّواف، ثمَّ لمَّا فرغ من جميع النُّسك نزل به، ثمَّ خرج من أسفل مكَّة وأخذ من يمينها حتَّى أتى المحصَّب. ويحمل أمره بالرَّحيل ثانيًا على أنَّه لقي في رجوعه ذلك إلى المحصَّب قومًا لم يرحلوا، فأمرهم بالرَّحيل، وتوجَّه من فَورِه ذلك إلى المدينة.
ولقد شانَ
(2)
نفسَه وكتابَه بهذا الهذَيان البارد السَّمِج الذي يُضحَك منه، ولولا التَّنبيه على أغلاط من غلِطَ عليه صلى الله عليه وسلم لرغبنا عن ذكر مثل هذا الكلام. والَّذي كأنَّك تراه من فعله أنَّه نزل بالمحصَّب، وصلَّى به الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقدَ رقدةً، ثمَّ نهض إلى مكَّة، وطاف بها طواف الوداع ليلًا، ثمَّ خرج من أسفلها إلى المدينة، ولم يرجع إلى المحصَّب، ولا دار دائرةً، ففي «صحيح البخاريِّ»
(3)
عن أنسٍ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقدَ رقدةً بالمحصَّب، ثمَّ ركب إلى البيت وطاف به.
وفي «الصَّحيحين»
(4)
عن عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وذكرت الحديث، قالت: حين
(5)
قضى الله الحجَّ ونفرنا من منًى، فنزلنا بالمحصَّب، فدعا عبد الرَّحمن بن أبي بكرٍ فقال: «اخرجْ بأختك من الحرم، ثمَّ افْرُغا من
(1)
«من كداء» ليست في ك.
(2)
بعدها في المطبوع: «أبو محمد» ، وليست في النسخ. وهو مفهوم من السياق.
(3)
برقم (1764).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
ك، ص، ج:«حتى» .
طوافكما، ثمَّ تأتياني
(1)
هاهنا بالمحصَّب». قالت: فقضى الله العمرة وفرغنا من طوافنا من جوف اللَّيل، فأتيناه بالمحصَّب. فقال:«فرغتما؟» قلنا: نعم. فأذَّن في النَّاس بالرَّحيل، فمرَّ بالبيت فطاف به، ثمَّ ارتحل متوجِّهًا إلى المدينة.
فهذا من أصحِّ حديثٍ على وجه الأرض، وأدلِّه على فساد ما ذكره ابن حزمٍ وغيره من تلك التَّقديرات الَّتي لم يقع شيءٌ منها، ودليلٌ على أنَّ حديث الأسود غير محفوظٍ، وإن كان محفوظًا فلا وجهَ له غير ما ذكرنا، وباللَّه التَّوفيق.
وقد اختلف السَّلف في التَّحصيب: هل هو سنَّةٌ أو منزل اتِّفاقٍ؟ على قولين:
فقالت طائفةٌ: هو من سنن الحجِّ، فإنَّ في «الصَّحيحين»
(2)
عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أراد أن ينفر من منًى: «نحن نازلون إن شاء الله غدًا
(3)
بخَيْفِ بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر». يعني بذلك المحصَّب؛ وذلك أنَّ قريشًا وبني كنانة تقاسموا على بني هاشمٍ وبني المطَّلب أن لا يُناكحوهم، ولا يكون بينهم
(4)
شيءٌ حتَّى يسلِّموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إظهار شعار
(5)
الإسلام في المكان الذي
(1)
في المطبوع: «ائتياني» .
(2)
رواه البخاري (1590) ومسلم (1314/ 344).
(3)
ق: «غدًا إن شاء الله» .
(4)
بعدها في المطبوع: «وبينهم» . وليست في النسخ.
(5)
ق، م، ب، مب:«شعائر» . والمثبت من بقية النسخ.
أظهروا فيه شعار الكفر والعداوة لله ورسوله، وهذه كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه أن يقيم شعار التَّوحيد في مواضع شعار الكفر والشِّرك، كما أمر
(1)
أن يبنى مسجد الطَّائف موضع اللَّات
(2)
.
قالوا: وفي «صحيح مسلم»
(3)
عن ابن عمر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا ينزلونه. وفي روايةٍ لمسلم
(4)
عنه: أنَّه كان يرى التَّحصيب سنَّةً.
وقال البخاريُّ
(5)
عنه: كان يصلِّي به الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء، ويهجع، ويذكر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
وذهب آخرون ــ منهم: ابن عبَّاسٍ وعائشة ــ إلى أنَّه ليس بسنَّةٍ، وإنَّما هو منزل اتِّفاقٍ، ففي «الصَّحيحين»
(6)
عن ابن عبَّاسٍ: ليس المحصَّب بشيءٍ، وإنَّما هو منزلٌ نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيهما
(7)
عن عائشة: إنما كان منزلًا نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم
(8)
ليكون أسمحَ لخروجه.
(1)
بعدها في المطبوع: «النبي صلى الله عليه وسلم» ، وليس في النسخ.
(2)
بعدها في المطبوع: «والعزى» ، وليست في النسخ.
(3)
برقم (1310/ 337).
(4)
برقم (1310/ 338).
(5)
برقم (1768).
(6)
البخاري (1766) ومسلم (1312/ 341).
(7)
البخاري (1765) ومسلم (1312/ 340).
(8)
«وفيهما
…
صلى الله عليه وسلم» ساقطة من المطبوع، بسبب انتقال النظر.
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن أبي رافع: «لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل بمن معي بالأبطح، ولكن أنا ضربتُ قبَّتَه، ثمَّ جاء فنزل» . فأنزله الله فيه بتوفيقه تصديقًا لقول رسوله: «نحن نازلون غدًا بخَيْفِ بني كنانة» ، وتنفيذًا لما عزم عليه، وموافقةً منه لرسوله صلوات الله وسلامه عليه.
فصل
هاهنا ثلاث مسائل: هل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيتَ في حجَّته
(2)
أم لا؟ وهل وقف في الملتزم بعد الوداع أم لا؟ وهل صلَّى الصُّبح ليلةَ الوداع بمكَّة أو خارجًا منها؟
فأمَّا المسألة الأولى، فزعم كثيرٌ من الفقهاء وغيرهم أنَّه دخل البيت في حجَّته، ويرى كثيرٌ من النَّاس أنَّ دخول البيت من سنن الحجِّ اقتداءً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم. والَّذي تدلُّ عليه سنَّته أنَّه لم يدخل البيت في حجَّته ولا في عمرته
(3)
، وإنَّما دخله عامَ الفتح. ففي «الصَّحيحين»
(4)
عن ابن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكَّة على ناقةٍ لأسامة، حتَّى أناخَ بفِناء الكعبة، فدعا عثمان بن طلحة بالمفتاح، فجاء به، ففتح، فدخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأجافوا عليهم البابَ مَليًّا
(5)
، ثمَّ فتحوه. قال عبد الله:
(1)
برقم (1313).
(2)
ك: «في حجته البيت» .
(3)
ك، ص، ج، م:«عمرة» . ق: «غيره» ، تحريف.
(4)
رواه البخاري (504، 1598) ومسلم (1329/ 391).
(5)
أي ردُّوا عليهم الباب زمنًا طويلًا.
فبادرتُ النَّاس، فوجدتُ بلالًا على الباب، فقلت: أين صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بين العمودين المقدَّمين. قال: ونسيت أن أسأله كم صلَّى.
وفي «صحيح البخاريِّ»
(1)
عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا قدم مكَّة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، قال: فأمر بها فأُخرِجتْ، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قاتلهم اللَّه! أما والله لقد علموا أنَّهما لم يَستقسِما بها قطُّ» . قال: فدخل البيتَ فكبَّر في نواحيه، ولم يصلِّ فيه.
فقيل: كان ذلك دخولين، صلَّى في أحدهما، ولم يصلِّ في الآخر.
وهذه طريقة ضعفاء النَّقد، كلَّما رأوا اختلافَ لفظٍ جعلوه قصَّةً أخرى، كما جعلوا الإسراء مرارًا لاختلاف ألفاظه، وجعلوا اشتراءه من جابر بعيرَه مرارًا لاختلاف ألفاظه، وجعلوا طواف الوداع مرَّتين لاختلاف سياقه، ونظائر ذلك.
وأمَّا الجهابذة النُّقَّاد فيرغبون عن هذه الطَّريقة، ولا يَجْبُنون عن تغليط من ليس معصومًا من الغلط، ونسبته إلى الوهم. قال البخاريُّ وغيره من الأئمَّة: والقول قول بلال؛ لأنَّه مثبِتٌ شاهدَ صلاته، بخلاف ابن عبَّاسٍ. والمقصود أنَّ دخوله
(2)
إنَّما كان في غزاة الفتح، لا في حجِّه ولا عُمَره. وفي «صحيح البخاريِّ»
(3)
عن إسماعيل بن أبي خالدٍ قال: قلت لعبد الله بن أبي
(1)
برقم (1601).
(2)
بعدها في المطبوع: «البيت» ، وليست في النسخ.
(3)
برقم (1791)، ورواه أيضًا مسلم (1332).
أوفى: أدَخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في عمرته البيت؟ قال: لا.
وقالت عائشة
(1)
: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيِّب النَّفس، ثمَّ رجع إليَّ وهو حزين القلب، فقلت: يا رسول اللَّه، خرجت من عندي وأنت كذا وكذا. فقال:«إنِّي دخلتُ الكعبة، ووددتُ أنِّي لم أكن فعلتُ، إنِّي أخاف أن أكون قد أتعبتُ أمَّتي من بعدي» . فهذا ليس فيه أنَّه كان في
(2)
حجَّته، بل إذا تأمَّلته حقَّ التَّأمُّل أطلعك التَّأمُّل على أنَّه كان في غزاة الفتح، والله أعلم.
وسألته عائشة أن تدخل البيت، فأمرها أن تصلِّي في الحِجْر ركعتين
(3)
.
فصل
وأمَّا المسألة الثَّانية: وهي وقوفه في الملتزم، فالَّذي رُوي عنه أنَّه فعله يوم الفتح، ففي «سنن أبي داود»
(4)
عن عبد الرحمن بن صفوان
(5)
قال: لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة انطلقتُ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من الكعبة
(1)
رواه أبو داود (2029) والترمذي (873) وابن ماجه (3064)، وفي إسناده إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير متكلم فيه. انظر:«ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 194) و «السلسلة الضعيفة» (3346).
(2)
في المطبوع: «فيه» خلاف النسخ.
(3)
أخرجه أحمد (24616) وأبو داود (2028) والترمذي (876) والنسائي (2912) من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الترمذي وابن خزيمة (3018).
(4)
برقم (1898)، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد متكلم فيه. وانظر:«ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 171).
(5)
في المطبوع: «أبي صفوان» ، خطأ.
هو وأصحابه، قد استلموا الرُّكن من الباب إلى الحطيم، ووضعوا خدودَهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطَهم.
وروى أبو داود
(1)
أيضًا من حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه قال: طفتُ مع عبد الله، فلمَّا حاذى دُبُرَ الكعبة قلت: ألا
(2)
تتعوَّذ؟ قال: نعوذ بالله من النَّار، ثمَّ مضى حتَّى استلم الحجر، فقام بين الرُّكن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفَّيه
(3)
هكذا، وبسطَها
(4)
بسطًا، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
فهذا يحتمل أن يكون وقتَ
(5)
الوداع، وأن يكون في غيره، ولكن قال مجاهد والشَّافعيُّ بعده وغيرهما: إنَّه يُستحبُّ أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع ويدعو. وكان ابن عبَّاسٍ يلزم
(6)
ما بين الرُّكن والباب، وكان يقول:«لا يلتزم ما بينهما أحدٌ يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إيَّاه»
(7)
، والله أعلم.
(1)
برقم (1899) وابن ماجه (2962)، و «عن جده» سهو من المؤلف، وهو مقحم، لأن القائل هو شعيب، فإنه طاف مع جده عبد الله. وفي إسناده المثنى بن الصباح ضعيف؛ لكن التزام ما بين الركن والباب المذكور في هذا الحديث، يشهد له الحديث الذي قبله، وأحاديث أخرى موقوفة صحيحة. انظر:«ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 172) و «السلسلة الصحيحة» (2138).
(2)
ك: «أما» .
(3)
ج: «ذراعه» .
(4)
كذا في النسخ، وفي المطبوع:«بسطهما» .
(5)
في المطبوع: «في وقت» خلاف النسخ.
(6)
كذا في النسخ هنا. وفي الموضع الآتي: «يلتزم» . وفي المطبوع في الموضعين: «يلتزم» .
(7)
رواه البيهقي (5/ 164).
فصل
وأمَّا المسألة الثَّالثة: وهي موضع صلاته صلى الله عليه وسلم الصُّبحَ صبيحةَ
(1)
ليلة الوداع، ففي «الصَّحيحين»
(2)
عن أم سلمة قالت: شكوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنِّي أشتكي، فقال:«طُوفي من وراء النَّاس وأنتِ راكبةٌ» . قالت: فطفتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذٍ يصلِّي إلى جنب البيت، وهو يقرأ بـ (الطور وكتاب مسطور).
فهذا يحتمل أن يكون في الفجر
(3)
وفي غيرها، وأن يكون في طواف الوداع أو غيره، فنظرنا في ذلك، فإذا البخاريُّ قد روى في «صحيحه»
(4)
في هذه القصَّة: أنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا أراد الخروج، ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت، وأرادت الخروج، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا أقيمتْ صلاة الصُّبح فطُوفي على بعيرِك والنَّاس يصلُّون» . ففعلتْه ولم تصلِّ حتَّى خرجتْ
(5)
. وهذا محالٌ قطعًا أن يكون يومَ النَّحر، فهو طوافُ الوداع بلا ريبٍ، فظهر أنَّه صلَّى الصُّبح يومئذٍ عند البيت، وسمعته أم سلمة يقرأ فيها بالطُّور.
فصل
ثمَّ ارتحل صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى المدينة، فلمَّا كان بالرَّوحاء لقي رَكْبًا، فسلَّم
(1)
«صبيحة» ليست في ك، ج.
(2)
رواه البخاري (1619) ومسلم (1276) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(3)
ك: «صلاة الفجر» .
(4)
برقم (1626) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(5)
«حتى خرجت» ليست في ب.
عليهم وقال: «من القوم؟» ، فقالوا
(1)
: المسلمون، فمن القوم؟ فقال:«رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، فرفعت إليه امرأةٌ صبيًّا لها من مِحَفَّة
(2)
، فقالت: يا رسول اللَّه، ألهذا حجٌّ؟ قال:«نعم، ولك أجرٌ»
(3)
.
فلمَّا أتى ذا الحليفة بات بها، فلمَّا رأى المدينة كبَّر ثلاثَ مرَّاتٍ وقال:«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، آئبون تائبون عابدون ساجدون، لربِّنا حامدون، صدق الله وعدَه، ونصر عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده»
(4)
. ثمَّ دخلها نهارًا من طريق المُعرَّس، وخرج من طريق الشَّجرة
(5)
، والله أعلم.
فصل
في الأوهام
فمنها: وهمٌ لأبي محمد بن حزم في «حجَّة الوداع»
(6)
حيث قال: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعلمَ النَّاسَ وقتَ خروجه أنَّ عمرةً في رمضان تَعدِل حجَّةً.
(1)
«فقالوا» ليست في ك.
(2)
هي شبه الهودج إلا أنه لا قبة عليها.
(3)
رواه الشافعي في «الأم» (3/ 274) ومن طريقه البيهقي (5/ 155) ومسلم (1336/ 409) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ولفظة «المحفة» ليست عند مسلم.
(4)
رواه البخاري (1797) ومسلم (1344/ 428) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(5)
رواه البخاري (1533) ومسلم (1257) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(6)
(ص 115).
وهذا وهمٌ ظاهرٌ؛ فإنَّه إنَّما
(1)
قال ذلك بعد رجوعه إلى المدينة من حجَّته، قال لأم سِنان الأنصارية:«ما منعَكِ أن تكوني حججتِ معنا؟» ، قالت: لم يكن لنا إلا ناضحانِ
(2)
، فحجَّ أبو ولدي وابني على ناضحٍ، وترك لنا ناضحًا ننضَحُ عليه. فقال:«فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإنَّ عمرةً في رمضان تقضي حجَّةً» . هكذا رواه مسلم في «الصحيح»
(3)
.
وكذلك أيضًا قال هذا لأم مَعقِل بعد رجوعه إلى المدينة، كما رواه أبو داود
(4)
من حديث يوسف بن عبد الله بن سلامٍ عن جدَّته أم مَعقِل، قالت: لمَّا حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّة الوداع، وكان لنا جملٌ فجعله أبو مَعقِل في سبيل اللَّه، فأصابنا مرضٌ، فهلك أبو معقل، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا فرغ
(5)
جئتُه، فقال:«ما منعكِ أن تخرجي معنا؟» ، فقالت: لقد تهيَّأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جملٌ هو الذي نحجُّ عليه، فأوصى به أبو مَعقِل في سبيل اللَّه. قال: «فهلَّا خرجتِ عليه؟ فإنَّ الحجَّ من سبيل اللَّه، فإذْ فاتتْكِ هذه الحجَّة معنا فاعتمري في رمضان؛ فإنَّها حجَّة
(6)
».
(1)
ك، ب، ج:«فإنما» .
(2)
الناضح: الدابة يُستقى عليها.
(3)
برقم (1256) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(4)
برقم (1989)، وفي إسناده عيسى بن معقل لم يذكره إلا ابن حبان في الثقات، وأيضًا فيه ابن إسحاق، ولكن الحديث له طرق وشواهد تقويه، من ذلك الحديث الذي قبله. وانظر:«التلخيص الحبير» (2/ 227) و «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 230).
(5)
«فرغ» ليست في ب.
(6)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «كحجة» وفق الرواية.
فصل
ومنها: وهمٌ آخر له، أنَّ خروجه كان يوم الخميس لستٍّ بقين من ذي القعدة
(1)
. وقد تقدَّم أنَّه خرج لخمسٍ، وأنَّ خروجه كان يوم السَّبت.
فصل
ومنها: وهمٌ آخر لبعضهم ذكره
(2)
الطبريُّ في «حجَّة الوداع»
(3)
، أنَّه خرج يوم الجمعة بعد الصَّلاة. والَّذي حمله على هذا الوهم القبيح قولُه في الحديث:«خرجَ لستٍّ بقين» ، فظنَّ أنَّ هذا لا يمكن إلا أن يكون الخروج يوم الجمعة؛ إذ تمام السِّتِّ يوم الأربعاء، وأوَّل ذي الحجَّة كان الخميس بلا ريبٍ.
وهذا خطأٌ فاحشٌ؛ فإنَّه من المعلوم الذي لا ريبَ فيه أنَّه صلَّى الظُّهر يوم خروجه بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين ثبت ذلك في «الصَّحيحين» .
وحكى الطبريُّ في «حَجَّته»
(4)
قولًا ثالثًا: إنَّ خروجه كان يوم السَّبت، وهو اختيار الواقديِّ
(5)
، وهو القول الذي رجَّحناه أوَّلًا، لكنَّ الواقديَّ وهم
(1)
انظر: «حجة الوداع» (ص 115).
(2)
كذا في النسخ، وفي المطبوع:«ذكر» .
(3)
«صفوة القِرى في صفة حجة المصطفى» (ص 11).
(4)
المصدر نفسه (ص 11).
(5)
في «المغازي» له (3/ 1089)، وفيه ذكر وهمين آخرين له.
في ذلك ثلاثة
(1)
أوهامٍ:
أحدها: أنَّه زعم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى يوم خروجه الظُّهرَ بذي الحليفة ركعتين.
الوهم الثَّاني: أنَّه أحرم ذلك اليوم عقيبَ صلاة الظُّهر، وإنَّما أحرم من الغد بعد أن بات بذي الحليفة.
الوهم الثَّالث: أنَّ الوقفة كانت يوم السَّبت
(2)
، وهذا لم يقله غيره، وهو وهمٌ بيِّنٌ.
فصل
ومنها: وهمٌ للقاضي عياضٍ
(3)
وغيره، أنَّه صلى الله عليه وسلم تطيَّب هناك قبل غسله، ثمَّ غسل الطِّيب عنه لمَّا اغتسل.
ومنشأ هذا الوهم من سياقٍ وقع في «صحيح مسلم»
(4)
في حديث عائشة أنَّها قالت: طيَّبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طاف على نسائه بعد ذلك، ثم اغتسل
(5)
، ثمَّ أصبح محرمًا. والَّذي يردُّ هذا الوهم قولها:«طيَّبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه»
(6)
، وقولها: «كأنِّي أنظر إلى وَبيصِ الطِّيب ــ أي بَريقه ــ في
(1)
«ثلاثة» ساقطة من ك.
(2)
كما في «المغازي» (3/ 1100، 1101) حيث جعل يوم التروية يوم الجمعة.
(3)
في «إكمال المعلم» (4/ 189).
(4)
رقم (1192).
(5)
كذا في النسخ بزيادة «ثم اغتسل» . وليست عند مسلم.
(6)
رواه البخاري (1539) ومسلم (1189).
مفارقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرمٌ»
(1)
، وفي لفظٍ
(2)
: «وهو يلبِّي» ، وفي لفظ
(3)
: «بعد ثلاثٍ من إحرامه» ، وفي لفظٍ
(4)
: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
إذا أراد أن يُحرِم تطيَّب بأطيبِ ما يجد، ثمَّ أرى وبيصَ الطِّيب في رأسه ولحيته بعد ذلك». وكلُّ هذه الألفاظ ألفاظ الصَّحيح.
وأمَّا الحديث الذي احتجَّ به فهو حديث إبراهيم بن محمَّد بن المنتشر عن أبيه عنها: «كنتُ أطيِّب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يطوف على نسائه، ثمَّ يصبح محرمًا»
(6)
، وهذا ليس فيه ما يمنع الطِّيب الثَّاني عند إحرامه.
فصل
ومنها: وهمٌ آخر لأبي محمد بن حزم
(7)
أنَّه صلى الله عليه وسلم أحرم قبل الظُّهر. وهو وهمٌ ظاهرٌ لم يُنقل في شيءٍ من الأحاديث، وإنَّما أهلَّ عقيبَ صلاة الظُّهر في موضع مصلَّاه، ثمَّ ركب ناقته، واستوت به على البيداء وهو يُهِلُّ، وهذا يقينًا كان بعد صلاة الظُّهر.
(1)
رواه البخاري (271) ومسلم (1190/ 42).
(2)
عند مسلم (1190/ 41).
(3)
«وفي لفظ» من ك، ج. وليست في بقية النسخ. والصواب إثباتها. وهذا اللفظ عند البيهقي (5/ 35)، وليس في «الصحيح» .
(4)
رواه البخاري (5923) ومسلم (1190/ 44).
(5)
«وهو محرم
…
صلى الله عليه وسلم» ساقطة من مب بسبب انتقال النظر.
(6)
رواه مسلم (1192/ 48).
(7)
في «حجة الوداع» (ص 115).
فصل
ومنها: وهمٌ آخر له
(1)
، وهو قوله: وساقَ الهديَ مع نفسه، وكان هديَ تطوُّعٍ. وهذا بناءً منه على أصله الذي انفرد به عن الأئمَّة
(2)
أنَّ القارن لا يلزمه هديٌ، وإنَّما يلزم المتمتِّع، وقد تقدَّم بطلان هذا القول.
فصل
ومنها: وهمٌ آخر لمن قال: إنَّه لم يعيِّن في إحرامه نسكًا، بل أطلقه، ووهمُ من قال: إنَّه عيَّن عمرةً مفردةً كان متمتِّعًا بها، كما قاله القاضي أبو يعلى وصاحب «المغني» وغيرهما
(3)
، ووهمُ من قال: عيَّن إفرادًا مجرَّدًا لم يعتمر معه، ووهمُ من قال: عيَّن عمرةً، ثمَّ أدخل عليها الحجَّ، ووهم من قال: عيَّن حجًّا مفردًا، ثمَّ أدخل عليه العمرة بعد ذلك، وكان من خصائصه، وقد تقدَّم بيان مستندِ ذلك ووجهِ الصَّواب فيه.
فصل
ومنها: وهمٌ لأحمد بن عبد الله الطبري في «حجَّة الوداع» له
(4)
، أنَّهم لمَّا كانوا ببعض الطَّريق صاد أبو قتادة حمارًا وحشيًّا ولم يكن مُحرِمًا، فأكل منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم. وهذا إنَّما كان في عمرة الحديبية، كما رواه البخاريُّ
(5)
.
(1)
«له» ليست في ك، ق، مب. وانظر المصدر السابق (ص 115).
(2)
ك: «الأمة» .
(3)
«ووهم من قال
…
وغيرهما» ساقطة من ق بسبب انتقال النظر.
(4)
«صفوة القرى» (ص 23). وقد سبق التنبيه عليه (ص 204).
(5)
برقم (1821) من حديث عبد الله بن أبي قتادة.
فصل
ومنها: وهمٌ آخر لبعضهم حكاه الطَّبريُّ
(1)
عنه، أنَّه صلى الله عليه وسلم دخل مكَّة يوم الثُّلاثاء. وهو غلطٌ، فإنَّما دخلها يوم الأحد صبحَ رابعةٍ من ذي الحجَّة.
فصل
ومنها: وهمُ من قال: إنَّه صلى الله عليه وسلم حلَّ بعد طوافه وسعيه، كما قاله القاضي أبو يعلى وأصحابه. وقد بيَّنَّا أنَّ مستند هذا الوهم وهمُ معاوية أو من روى عنه أنَّه قصَّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِشْقَصٍ على المروة في حجَّته.
فصل
ومنها: وهمُ من زعم أنَّه كان يقبِّل الرُّكن اليمانيَّ في طوافه. وإنَّما ذلك الحجر الأسود، وسمَّاه اليمانيَّ لأنَّه يُطلق عليه وعلى الآخر اليمانيَّين، فعبَّر بعض الرُّواة عنه باليمانيِّ منفردًا.
فصل
ومنها: وهمٌ فاحشٌ لأبي محمد بن حزم
(2)
أنَّه رمل في السَّعي ثلاثة أشواطٍ، ومشى أربعةً. وأعجبُ من هذا الوهم وهمه في حكاية الاتِّفاق على هذا القول الذي لم يقله أحدٌ سواه.
فصل
ومنها: وهمُ من زعم أنَّه طاف بين الصَّفا والمروة أربعة عشر
(1)
شوطًا، وكان ذهابه وسعيه
(2)
مرَّةً واحدةً، وقد تقدَّم بيان بطلانه.
فصل
ومنها: وهمُ من زعم أنَّه صلَّى الصُّبح يوم النَّحر قبل الوقت. ومستند هذا الوهم حديث ابن مسعودٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى الفجر يوم النَّحر قبل ميقاتها
(3)
. وهذا إنَّما أراد به قبل ميقاتها الذي كانت عادته أن يصلِّيها فيه، فعجَّلها عليه يومئذٍ، ولا بدَّ من هذا التَّأويل، وحديث ابن مسعودٍ إنَّما يدلُّ على هذا، فإنَّه في «صحيح البخاريِّ»
(4)
عنه أنَّه قال: «هما صلاتان تُحوَّلان عن وقتهما: صلاة المغرب بعدما يأتي النَّاس المزدلفةَ، والفجر حين يَبزُغُ الفجر» ، وقال جابر في حجَّة الوداع
(5)
: «فصلَّى الصُّبح حين تبيَّن له الصُّبح بأذانٍ وإقامةٍ» .
فصل
ومنها: وهمُ من وهِمَ في أنَّه صلَّى الظُّهر والعصر يوم عرفة
(6)
والمغرب
(1)
ق، م، ب:«أربع عشر» . ك، مب:«أربع عشرة» .
(2)
كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: «وإيابه» .
(3)
رواه البخاري (1682) ومسلم (1289) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
(4)
برقم (1675) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
(5)
رواه مسلم (1218/ 147).
(6)
«يوم عرفة» ليست في ص، ج.
والعشاء تلك اللَّيلة بأذانين وإقامتين، ووهمُ من قال: صلَّاهما بإقامتين بلا أذانٍ أصلًا، ووهمُ من قال: جمع بينهما بإقامةٍ واحدةٍ. والصَّحيح أنَّه صلَّاهما بأذانٍ واحدٍ وإقامةٍ لكلِّ صلاةٍ.
فصل
ومنها: وهم من زعم أنَّه خطب بعرفة خطبتين جلس بينهما، ثمَّ أذَّن المؤذِّن، فلمَّا فرغ أخذ في الخطبة الثَّانية، فلمَّا فرغ منها أقام الصَّلاة. وهذا لم يجئ في شيءٍ من الأحاديث البتَّةَ، وحديث جابر صريحٌ في أنَّه لمَّا أكمل خطبته أذَّن بلال وأقام الصَّلاة
(1)
، فصلَّى الظُّهر بعد الخطبة.
ومنها: وهمٌ لأبي ثورٍ أنَّه لمَّا صعد أذَّن المؤذِّن، فلمَّا فرغ قام فخطب. وهذا وهمٌ ظاهرٌ؛ فإنَّ الأذان إنَّما كان بعد الخطبة.
فصل
ومنها: وهمُ من روى أنَّه قدَّم أمَّ سلمة ليلة النَّحر، وأمرها أن توافيه صلاةَ الصُّبح بمكَّة، وقد تقدَّم بيانه.
فصل
ومنها: وهمُ من زعم أنَّه أخَّر طواف الزِّيارة يوم النَّحر إلى اللَّيل. وقد تقدَّم بيان ذلك، وأنَّ الذي أخَّره إلى اللَّيل طوافُ الوداع. ومستند هذا الوهم ــ والله أعلم ــ أنَّ عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه، كذلك قال
(1)
«الصلاة» ليست إلا في ب، مب.
عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها
(1)
، فحمل عنها على المعنى. وقيل: أخَّر طواف الزِّيارة إلى اللَّيل.
فصل
ومنها: وهمُ من وهِمَ وقال: إنَّه أفاض مرَّتين: مرَّةً بالنَّهار، ومرَّةً مع نسائه باللَّيل. ومستند هذا الوهم ما رواه عمرو
(2)
بن قيس عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أذنَ لأصحابه فزاروا البيت يومَ النَّحر ظهيرةً، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلًا
(3)
. وهذا غلطٌ، والصَّحيح عن عائشة خلاف هذا أنَّه أفاض نهارًا إفاضةً واحدةً. وهذه طريقةٌ وخيمةٌ جدًّا
(4)
، يسلكها ضِعاف العلم المتمسِّكون بأذياله، والله أعلم.
فصل
ومنها: وهمُ من زعم أنَّه طاف للقدوم يوم النَّحر، ثمَّ طاف بعده للزِّيارة. وقد تقدَّم مستند ذلك وبطلانه.
ومنها: وهمُ من زعم أنَّه يومئذٍ سعى
(5)
مع هذا الطَّواف، واحتجَّ بذلك على أنَّ القارن يحتاج إلى سعيين. وقد تقدَّم بطلان ذلك عنه، وأنَّه لم يسعَ إلا سعيًا واحدًا، كما قالت عائشة وجابر.
(1)
أخرجه أحمد (24592) وأبو داود (1973) وابن حبان (3868) وغيرهم بهذا الإسناد، وهو حديث حسن.
(2)
كذا في جميع النسخ. وعند البيهقي (5/ 144): «عمر» ، وهو الصواب.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
«جدا» ليست في ك.
(5)
ك، ج:«سعى يومئذ» .
فصل
ومنها: على القول الرَّاجح وهمُ من قال إنَّه
(1)
صلَّى الظُّهر يوم النَّحر بمكَّة. والصَّحيح أنَّه صلَّاها بمنًى كما تقدَّم.
ومنها: وهمُ من زعم أنَّه لم يُسرِع في وادي مُحَسِّرٍ حين
(2)
أفاض من جَمْعٍ إلى منًى، وأنَّ ذلك إنَّما هو فعل الأعراب. ومستند هذا الوهم قول ابن عبَّاسٍ: إنَّما كان بدء الإيضاع
(3)
من أهل البادية كانوا يقفون حافَّتي النَّاس، قد علَّقوا القِعاب
(4)
والعِصيَّ، فإذا أفاضوا تقعقعوا
(5)
فأنفرتْ بالنَّاس، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ ذِفرَى
(6)
ناقته لتمسُّ حاركَها
(7)
، وهو يقول:«يا أيُّها النَّاس، عليكم السَّكينة»
(8)
.
وفي لفظٍ: «إنَّ البِرَّ ليس بإيجاف الخيل والإبل، فعليكم بالسَّكينة» ، فما
(1)
«إنه» ليست في ك.
(2)
ك، ص، ج:«حتى» .
(3)
الإيضاع: حمل الدابة على السير السريع.
(4)
جمع قعب: القدح الضخم الغليظ من الخشب.
(5)
أي أحدثوا صوتًا وصخبًا عند التحرك.
(6)
الذفرى: أصل الأذن.
(7)
الحارك: الكاهل.
(8)
رواه أحمد (2193) وابن خزيمة (2863) والبيهقي (5/ 126) واللفظ له، وصححه ابن خزيمة والألباني في تعليقه عليه، وحسن إسناده محققو «المسند» (2193). وقد غيّر لفظ الحديث في المطبوع تغييرًا كثيرًا ليطابق لفظ «المسند» ، وأثبتنا ما في الأصول، وهو لفظ البيهقي.
رأيتها رافعةً يديها حتَّى أتى منًى. رواه أبو داود
(1)
.
وكذلك أنكره طاوسٌ والشعبيُّ، قال الشعبيُّ: حدَّثني أسامة بن زيدٍ أنَّه أفاض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة، فلم ترفع راحلته رجليها غاديةً
(2)
حتَّى بلغ جمعًا. قال: وحدَّثني الفضل بن عبَّاسٍ أنَّه كان رديفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
من جمعٍ، فلم ترفع راحلته رجليها غاديةً حتَّى رمى الجمرة
(4)
. وقال عطاء: إنَّما أحدث هؤلاء الإسراع، يريدون أن يفوتوا الغبارَ
(5)
.
ومنشأ هذا الوهم اشتباه الإيضاع وقتَ الدَّفع من عرفة الذي يفعله الأعراب وجُفاة النَّاس بالإيضاع في وادي محسِّرٍ، فإنَّ الإيضاع هناك بدعةٌ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل نهى عنه، والإيضاع في وادي محسِّرٍ سنَّةٌ نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر وعليُّ بن أبي طالبٍ والعبَّاس بن عبد المطَّلب، وفعله عمر بن الخطَّاب، وكان ابن الزبير يُوضِع أشدَّ الإيضاع، وفعلته عائشة، وغيرهم
(6)
من الصَّحابة
(7)
، والقول في هذا قول من أثبتَ، لا قول من نفى، والله أعلم.
(1)
برقم (1920)، ورواه أحمد (2507) والحاكم (1/ 465)، والبيهقي (5/ 126)، وصححه الحاكم والألباني، والحديث عند البخاري من طريق آخر مختصرًا (1671). وانظر:«صحيح أبي داود - الأم» (6/ 168).
(2)
ق، ب، مب:«رجلها عادية» . والمثبت من بقية النسخ. والرواية في المصادر بالوجهين.
(3)
بعدها خرم كبير في م يبلغ مئة صفحة من هذه الطبعة.
(4)
رواه أحمد (1829) والبيهقي (5/ 127).
(5)
أورده البيهقي (5/ 127).
(6)
ك: «وغيرها» .
(7)
انظر هذه الأحاديث والآثار في «السنن الكبرى» للبيهقي (5/ 125، 126).
فصل
ومنها: وهمُ طاوسٍ وغيره أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُفيض كلَّ ليلةٍ من ليالي منًى إلى البيت، وقال البخاريُّ في «صحيحه»
(1)
: ويُذكر عن أبي حسّان عن ابن عبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيَّام منًى. ورواه ابن عَرْعَرة
(2)
قال: دفع إلينا معاذ بن هشامٍ كتابًا، قال: سمعته من أبي، ولم يقرأه، قال: وكان فيه عن أبي حسان عن ابن عبَّاسٍ أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كلَّ ليلةٍ ما دام بمنًى، قال: وما رأيت أحدًا واطأه عليه. انتهى. ورواه الثَّوريُّ في «جامعه» عن ابن طاوس عن أبيه مرسلًا
(3)
.
وهو وهمٌ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى مكَّة بعد أن طاف للإفاضة ورجع إلى منًى إلى حين الوداع، والله أعلم.
فصل
ومنها: وهمُ من قال: إنَّه ودَّع مرَّتين، ووهمُ من قال: إنَّه جعل مكَّة دائرةً في دخوله وخروجه، فبات بذي طُوًى، ثمَّ دخل من أعلاها، ثمَّ خرج من أسفلها، ثمَّ رجع إلى المحصَّب عن يمين مكَّة، فكملت الدَّائرة.
ومنها: وهمُ من زعم أنَّه انتقل من المحصَّب إلى ظهر العقبة.
فهذه كلُّها من الأوهام، نبَّهنا عليها مفصَّلًا ومجملًا، وباللَّه التَّوفيق.
(1)
معلقًا (3/ 567)، ووصله الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (1567) والبيهقي (5/ 146) وغيرهما من طريق ابن عرعرة بسند صحيح، والحديث صحيح. وانظر:«السلسلة الصحيحة» (804).
(2)
أخرجه البيهقي (5/ 146).
(3)
ذكره البيهقي (5/ 146) عنه.