المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجته - زاد المعاد في هدي خير العباد - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة والزكاة

- ‌فصلفي أسباب شرح الصَّدر وحصولها على الكمال له صلى الله عليه وسلم

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الصِّيام

- ‌فصلفي هديه في صيام التطوع

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في حجِّه وعُمَره

- ‌فصلفي سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجَّته

- ‌فصلغَلِط في عُمَر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خمس طوائف:

- ‌فصلفي أعذار القائلين بهذه الأقوال، وبيان منشأ الوهم والغلط

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الهدايا والضحايا والعقيقة

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في تسمية المولود وختانه

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكنى

- ‌فصلفي فقه هذا الباب

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الذِّكر

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم عند دخوله منزلَه

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار الوضوء

- ‌فصلفي هديه صلى الله عليه وسلم في الأذان وأذكاره

- ‌فصلفيما يقوله مَن رأى مُبتلًى

- ‌فصلفيما يقوله من لحقَتْه طِيَرَة

- ‌فصلفيما يقوله مَن رأى في منامه ما يكرهه

- ‌فصلفيما يقوله ويفعله من بُلِيَ(7)بالوسواس

- ‌فصلفيما يقوله ويفعله مَن اشتدَّ غضبُه

- ‌فصلوكان صلى الله عليه وسلم يدعو لمن تقرَّب إليه بما يحبُّ

الفصل: ‌فصلفي سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجته

حسين

(1)

، عن بعض ولد أنس: أنَّ أنسًا كان إذا كان بمكَّة فحمَّم

(2)

رأسُه، خرج إلى التَّنعيم فاعتمر

(3)

.

‌فصل

في سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجَّته

لا خلاف أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يحجَّ بعد هجرته إلى المدينة سوى حجَّةٍ واحدةٍ وهي حجَّة الوداع، ولا خلافَ أنَّها كانت سنة عشرٍ.

واختُلِف: هل حجَّ قبل الهجرة؟ فروى الترمذي

(4)

عن جابر بن عبد الله قال: حجَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ثلاثَ حِججٍ: حجَّتين قبل أن يهاجر، وحجَّةً بعدما هاجر معها عمرةٌ. قال الترمذي

(5)

: هذا حديثٌ غريبٌ من حديث سفيان. قال: وسألتُ محمَّدًا ــ يعني البخاريَّ ــ عن هذا، فلم يعرفه من حديث الثَّوريِّ، وفي روايةٍ: لا يعدُّ هذا الحديث محفوظًا.

ولمَّا نزل فرض الحجِّ بادرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجِّ من غير تأخيرٍ، فإنَّ فرض الحجِّ

(6)

تأخَّر إلى سنة تسعٍ أو عشرٍ. وأمَّا قوله تعالى: {(195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فإنَّها وإن نزلت سنة ستٍّ عامَ الحديبية، فليس فيها

(1)

في ق، ك، مب:«سفيان بن أبي حسين» ، خطأ.

(2)

ج: «فحم» . ك: «حجم» ، خطأ. وسبق شرحه.

(3)

ورواه أيضًا الشافعي في «الأم» (3/ 335 - 336) ــ وعنه البيهقي في «الكبرى» (4/ 344) و «المعرفة» (7/ 46) ــ وابن أبي شيبة (12874). وفي سنده راو مبهم.

(4)

برقم (815)، ورواه ابن ماجه (3076) وابن خزيمة (3056).

(5)

في «الجامع» عقب الحديث. وفيه: «ورأيته لم يعد

» بدل «وفي رواية: لا يعد

».

(6)

«بادر

الحج» سقطت من ق بسبب انتقال النظر.

ص: 122

فريضة

(1)

الحجِّ، وإنَّما فيها الأمرُ بإتمامه وإتمامِ العمرة بعد الشُّروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوبَ الابتداء.

فإن قيل: فمن أين لكم تأخُّر

(2)

نزول فرضه إلى التَّاسعة أو العاشرة؟

قيل: لأنَّ صدْر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحهم على أداء الجزية، والجزية إنَّما نزلت عام تبوك سنة تسعٍ، وفيها نزل صدر سورة

(3)

آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التَّوحيد والمباهلة. ويدلُّ عليه أنَّ أهل مكَّة وجدوا في نفوسهم بما فاتهم من التِّجارة من المشركين لمَّا أنزل الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، فأعاضهم الله من ذلك بالجزية. ونزولُ هذه الآيات

(4)

والمناداةُ بها إنَّما كان في سنة تسعٍ، وبعث الصِّدِّيق يؤذِّن بذلك في مكَّة في مواسم الحجِّ، وأردفه بعلي. وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحدٍ من السَّلف. والله أعلم.

فصل

ولمَّا عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجِّ أعلمَ النَّاسَ أنَّه حاجٌّ، فتجهَّزوا للخروج معه، وسمع بذلك مَن حول المدينة، فقدموا يريدون الحجَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافاه في الطَّريق خلائقُ لا يُحصَون، فكانوا من بين يديه

(1)

في المطبوع: «فرضية» خلاف جميع الأصول.

(2)

ق، ع، ب، مب:«تأخير» .

(3)

«سورة» ليست في ك، ص. وفي ب:«صدر» ليست مثبتة.

(4)

ك، ص، ج:«الآية» .

ص: 123

ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مدَّ البصر. وخرج من المدينة نهارًا بعد الظُّهر لستٍّ بقين من ذي القعدة بعد أن صلَّى الظُّهر بها أربعًا، وخطبَهم قبل ذلك خطبةً علَّمهم فيها الإحرامَ وواجباتِه وسننَه.

قال ابن حزمٍ

(1)

: وكان خروجه يوم الخميس.

قلت: والظَّاهر أنَّ خروجه كان يوم السَّبت، واحتجَّ أبو محمد ابن حزمٍ على قوله بثلاث مقدِّماتٍ، إحداها: أنَّ خروجه كان لستٍّ بقين من ذي القعدة. والثَّانية: أنَّ استهلال ذي الحجَّة كان يوم الخميس. والثَّالثة: أنَّ يوم عرفة كان يوم الجمعة. واحتجَّ على أنَّ خروجه كان لستٍّ بقين من ذي القعدة بما روى البخاريُّ

(2)

من حديث ابن عبَّاسٍ: انطلق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجَّل وادَّهن، فذكر الحديث. وقال: وذلك لخمسٍ بقين من ذي القعدة

(3)

.

قال ابن حزمٍ

(4)

: وقد نصَّ عمر

(5)

على أنَّ يوم عرفة كان يوم الجمعة، وهو التَّاسع، فاستهلالُ ذي الحجَّة بلا شكٍّ ليلة الخميس، فآخرُ ذي القعدة يوم الأربعاء، فإذا كان خروجه لستِّ ليالٍ بقين من ذي القعدة كان يوم الخميس، إذ الباقي بعده ستُّ ليالٍ سواء.

ووجهُ ما اخترناه أنَّ الحديث صريحٌ في أنَّه خرج لخمسٍ بقين، وهي يوم

(1)

في «حجة الوداع» (ص 115).

(2)

برقم (1545).

(3)

انظر: «حجة الوداع» (ص 131).

(4)

المصدر نفسه (ص 131).

(5)

في المطبوع: «ابن عمر» خلاف جميع النسخ و «حجة الوداع» . وقول عمر أخرجه البخاري (45) ومسلم (3017/ 5).

ص: 124

السَّبت والأحد والاثنين والثُّلاثاء والأربعاء، فهذه خمسٌ، وعلى قوله يكون خروجه لسبعٍ بقين، فإن لم يعدَّ يوم الخروج كان لستٍّ، وأيُّهما كان فهو خلاف الحديث.

وإن اعتبر اللَّيالي كان خروجه لستِّ ليالٍ بقين لا لخمسٍ، فلا يصحُّ الجمع بين خروجه يومَ الخميس وبين بقاء خمسٍ من الشَّهر البتَّةَ، بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السَّبت، فإنَّ

(1)

الباقي بيوم الخروج خمسٌ بلا شكٍّ. ويدلُّ عليه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكر لهم في خطبته شأنَ الإحرام وما يلبس المحرم بالمدينة على منبره، والظَّاهر أنَّ هذا كان يوم الجمعة، لأنَّه لم يُنقل أنَّه جمعهم ونادى فيهم لحضور الخطبة، وقد شهد ابن عمر هذه الخطبة بالمدينة على منبره. وكان عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلِّمهم في كلِّ وقتٍ ما يحتاجون إليه إذا حضر فعلُه، فأولى الأوقات به الجمعة الَّتي تلي خروجه، والظَّاهر أنَّه لم يكن ليدع الجمعة وبينه وبينها بعضُ يومٍ من غير ضرورةٍ، وقد اجتمع إليه الخلق، وهو أحرص النَّاس على تعليمهم الدِّين، وقد حضر ذلك المجمع العظيم. والجمع بينه وبين الحجِّ

(2)

ممكنٌ بلا تفويتٍ. والله أعلم.

ولمَّا علم أبو محمد ابن حزم أنَّ قول ابن عبَّاسٍ وعائشة: «خرج لخمسٍ بقين من ذي القعدة» لا يلتئم مع

(3)

قوله أوَّلَه بأن قال: معناه أنَّ

(4)

اندفاعه من ذي الحليفة كان لخمسٍ= قال: وليس بين ذي الحليفة وبين المدينة إلا أربعة أميالٍ

(1)

ع، ج، ك:«كان» . وصحح في هامش ع.

(2)

ج: «الجمعة» ، خطأ.

(3)

ق، ع، ب، مب:«على» .

(4)

«أن» ليست في ك.

ص: 125

فقط، فلم تعدَّ هذه المرحلة القريبة لقلَّتها، وبهذا تأتلف جميع الأحاديث

(1)

.

قال

(2)

: ولو كان خروجه من المدينة لخمسٍ بقين لذي القعدة لكان خروجه بلا شكٍّ يوم الجمعة، وهذا خطأٌ؛ لأنَّ الجمعة لا تُصلَّى أربعًا، وقد ذكر أنس

(3)

أنَّهم صلَّوا الظُّهر معه بالمدينة أربعًا.

قال: ويزيده وضوحًا، ثمَّ ساق من طريق البخاريِّ

(4)

حديث كعب بن مالكٍ: لَقلَّ ما

(5)

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا خرج في سفرٍ إلا يوم الخميس. وفي لفظٍ آخر: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحبُّ أن يخرج يوم الخميس»

(6)

، فبطل خروجه يوم الجمعة لِما ذكرنا عن أنس، وبطل خروجه يوم السَّبت؛ لأنَّه يكون حينئذٍ خارجًا من المدينة لأربعٍ بقين من ذي القعدة، وهذا ما لم يقله أحدٌ.

قال: وأيضًا فقد صحَّ مبيتُه بذي الحليفة اللَّيلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة، فكان يكون اندفاعُه من ذي الحُليفة يوم الأحد. يعني: لو كان خروجه يوم السَّبت، وصحَّ مبيتُه بذي طوى ليلةَ دخوله مكَّة، وصحَّ أنَّه دخلها صُبْحَ

(7)

رابعةٍ

(8)

من ذي الحجَّة= فعلى هذا يكون مدَّة سفره من

(1)

«حجة الوداع» (ص 231).

(2)

المصدر نفسه (ص 231 - 233).

(3)

«ذكر أنس» ساقطة من ب.

(4)

برقم (2949).

(5)

ق، ع:«قلَّ ما» .

(6)

رواه البخاري (2950) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه .

(7)

ص، ج:«صبيح» .

(8)

مب: «أربعة» .

ص: 126

المدينة إلى مكَّة سبعةَ أيَّامٍ؛ لأنَّه كان يكون خارجًا من المدينة لو كان ذلك لأربعٍ بقين لذي القعدة، واستوى على مكَّة لثلاثٍ خلون من ذي الحجَّة

(1)

وفي استقبال اللَّيلة الرَّابعة، فتلك سبع ليالٍ لا مزيد، وهذا خطأٌ بإجماعٍ وأمرٌ لم يقله أحدٌ، فصحَّ أنَّ خروجه كان لستٍّ بقين لذي القعدة، وتآلفت الرِّوايات كلُّها، وانتفى التَّعارض عنها بحمد الله.

قلت: هي متآلفةٌ متوافقةٌ، والتَّعارض منتفٍ عنها مع خروجه يومَ السَّبت، ويزول عنها الاستكراه الذي أوَّلتَها عليه كما ذكرناه.

وأمَّا قول أبي محمد: لو كان خروجه من المدينة لخمسٍ بقين من ذي القعدة لكان خروجه يوم الجمعة، إلى آخره= فغير لازمٍ، بل يصحُّ أن يخرج لخمسٍ، ويكون خروجه يوم السَّبت. والَّذي غَرَّ أبا محمد أنَّه رأى الرَّاوي قد حذف التَّاء من العدد، وهي إنَّما تُحذف مع المؤنَّث، ففهم لخمس ليالٍ بقين، وهذا إنَّما يكون إذا كان الخروج يوم الجمعة، ولو كان يوم السَّبت لكان لأربع ليالٍ بقين. وهذا بعينه ينقلب عليه، فإنَّه لو كان خروجه يوم الخميس لم يكن لخمس ليالٍ بقين، وإنَّما يكون لستِّ ليالٍ بقين، ولهذا اضطُرَّ إلى أن يؤوِّل الخروج المقيَّد بالتَّاريخ المذكور بخمسٍ على الاندفاع من ذي الحليفة، ولا ضرورةَ له إلى ذلك، إذ من الممكن أن يكون شهر ذي القعدة كان ناقصًا، فوقع الإخبار عن تاريخ الخروج بخمسٍ بقين منه بناءً على المعتاد من الشَّهر، وهذه عادة العرب والنَّاس في تواريخهم، أن يؤرِّخوا بما بقي من الشَّهر بناءً على كماله، ثمَّ يقع الإخبار عنه بعد انقضائه وظهور

(1)

ص، ج، ق، ب، مب:«لذي الحجة» .

ص: 127

نقصِه كذلك، لئلَّا يختلف عليهم التَّاريخ، فيصحُّ أن يقول القائل يومَ الخامس والعشرين:«كُتِب لخمسٍ بقين» ، ويكون الشَّهر تسعًا وعشرين.

وأيضًا فإنَّ الباقي كان خمسة أيَّامٍ بلا شكٍّ بيوم الخروج، والعرب إذا اجتمعت اللَّيالي والأيَّام في التَّاريخ غلَّبت لفظَ اللَّيالي لأنَّها أوَّل الشَّهر، وهي أسبق من اليوم، فتذكر اللَّيالي ومرادها الأيَّام، فيصحُّ أن يقال:«لخمسٍ بقين» باعتبار الأيَّام، ويُذكَّر لفظ العدد باعتبار اللَّيالي، فصحَّ حينئذٍ أن يكون خروجه لخمسٍ بقين ولا يكون يوم الجمعة.

وأمَّا حديث كعب فليس فيه أنَّه لم يكن يخرج قطُّ إلا يوم الخميس، وإنَّما فيه أنَّ ذلك كان أكثر خروجه، ولا ريبَ أنَّه لم يكن يتقيَّد في خروجه إلى الغزوات بيوم الخميس.

وأمَّا قوله: لو خرج يوم السَّبت لكان خارجًا لأربعٍ، فقد تبيَّن أنَّه لا يلزم، لا

(1)

باعتبار اللَّيالي ولا باعتبار الأيَّام.

وأمَّا قوله: إنَّه بات بذي الحليفة اللَّيلةَ المستقبلة من يوم خروجه من المدينة إلى آخره، وإنه يلزم من خروجه يوم السَّبت أن تكون مدَّة سفره سبعة أيَّامٍ= فهذا عجبٌ منه، فإنَّه إذا خرج يوم السَّبت وقد بقي من الشَّهر خمسة أيَّامٍ ودخل مكَّة لأربعٍ مَضَين من ذي الحجَّة فبين خروجِه من المدينة ودخوله مكَّة تسعةُ أيَّامٍ، وهذا غير مشكلٍ بوجهٍ من الوجوه، فإنَّ الطَّريق الَّتي سلكها إلى مكَّة بين المدينة وبينها هذا المقدار، وسيرُ العرب أسرع من سير

(1)

«لا» ليست في ق، ب، مب.

ص: 128

الحضر بكثيرٍ، ولا سيَّما مع عدم المحامل والكَجاوات

(1)

والزَّوامل الثِّقال. وهذا القول الذي اخترناه أحد القولين في تاريخ خروجه، قاله الواقدي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

.

عدنا إلى سياق حَجته، فصلَّى الظُّهر بالمدينة بالمسجد أربعًا، ثمَّ ترجَّل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه

(3)

، وخرج بين الظُّهر والعصر، فنزل بذي الحليفة فصلَّى بها العصر ركعتين، ثمَّ بات بها، وصلَّى بها المغرب والعشاء والصُّبح

(4)

والظُّهر

(5)

، فصلَّى بها خمس صلواتٍ. وكان نساؤه كلُّهنَّ معه

(6)

، فطاف عليهنَّ تلك اللَّيلة، فلمَّا أراد الإحرام اغتسل غسلًا ثانيًا لإحرامه غيرَ غسلِ الجماع الأوَّل.

ولم يذكر ابن حزمٍ أنَّه اغتسل غير الغسل الأوَّل للجنابة

(7)

، فإمَّا أن يكون تركه عمدًا لأنَّه لم يثبت عنده، وإمَّا أن يكون سهوًا منه، وقد قال زيد بن ثابتٍ: إنَّه رأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تجرَّد لإهلاله واغتسل

(8)

. قال الترمذي:

(1)

جمع الكَجَاوة، وهي كلمة فارسية بمعنى الهودج والمحمل.

(2)

«وهذا القول

ابن تيمية» ليست في ق، ص، ب، مب والمطبوع. والمثبت من ك، ج، ع.

(3)

تقدم تخريجه، رواه البخاري (1545) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .

(4)

رواه البخاري (1551) من حديث أنس رضي الله عنه .

(5)

رواه مسلم (1243) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .

(6)

رواه البخاري (267) ومسلم (1192/ 48) من حديث أنس رضي الله عنه .

(7)

بعدها في المطبوع: «وقد ترك بعض الناس ذكره» ، وليست في الأصول.

(8)

رواه الترمذي (830) وحسَّنه، وصححه ابن خزيمة (2595). وانظر:«الإرواء» (1/ 178).

ص: 129

حديثٌ حسنٌ غريبٌ.

وذكر الدَّارقطنيُّ

(1)

عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرِم غسلَ رأسه بخِطْميٍّ وأُشنانٍ. ثمَّ طيَّبته عائشة بيدها بذَرِيرةٍ

(2)

وبطيبٍ فيه مِسْكٌ في بدنه ورأسه، حتَّى كان وَبيصُ

(3)

المسكِ يُرى في مفارِقه ولحيته صلى الله عليه وسلم

(4)

. ثمَّ استدامَه ولم يغسله، ثمَّ لبس إزاره ورداءه، ثمَّ صلَّى الظُّهر ركعتين، ثمَّ أهلَّ بالحجِّ والعمرة في مصلَّاه. ولم يُنقل عنه أنَّه صلَّى للإحرام ركعتين غيرَ فرض الظُّهر.

وقلَّد قبل الإحرام بَدَنتَه نعلين، وأشعرها في جانبها الأيمن، فشقَّ صفحةَ سَنامها، وسَلَتَ الدَّم عنها

(5)

.

وإنَّما قلنا: إنَّه أحرم قارنًا لاثنين وعشرين

(6)

حديثًا صريحةً صحيحةً في ذلك:

أحدها: ما خَرَّجا

(7)

في «الصَّحيحين»

(8)

عن ابن عمر، قال: تمتَّع

(1)

برقم (2451)، ورواه أحمد (24490) والبزار (1085 - «كشف الأستار»)، وحسنه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 217).

(2)

رواه البخاري (5930) ومسلم (1189/ 35) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

ج، ك، ع:«الطيب» . والمثبت من ق، مب.

(4)

وهوعند مسلم (1190/ 44 و 45) عنها.

(5)

رواه مسلم (1243) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .

(6)

ق، ب، مب:«لبضعة وعشرين» .

(7)

ص: «خرج» .

(8)

البخاري (1691) ومسلم (1227).

ص: 130

رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع بالعمرة إلى الحجِّ، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعمرة، ثمَّ أهلَّ بالحجِّ. وذكر الحديث.

وثانيها: ما خرَّجا

(1)

في «الصَّحيحين»

(2)

أيضًا عن عروة عن عائشة، أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن عمر سواءً.

وثالثها: ما روى مسلم في «صحيحه»

(3)

من حديث قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر: أنَّه قرن الحجَّ إلى العمرة، وطاف لهما طوافًا واحدًا، ثمَّ قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورابعها: ما روى أبو داود

(4)

عن النُّفيلي، ثنا زهير بن معاوية

(5)

، ثنا أبو إسحاق

(6)

، عن مجاهد: سئل ابن عمر: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: مرَّتين. فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثًا سوى الَّتي قَرنَ بحجَّته.

ولا يناقض هذا قول ابن عمر: «إنَّه صلى الله عليه وسلم قرنَ بين الحجِّ والعمرة» ؛ لأنَّه أراد العمرة الكاملة المفردة ولا ريب أنَّهما عمرتان: عمرة القضاء وعمرة

(1)

ص: «خرج» .

(2)

البخاري (1692) ومسلم (1228).

(3)

برقم (1230/ 182).

(4)

برقم (1992)، ورواه أحمد (5383). وإسناده ضعيف؛ لأجل اختلاط أبي إسحاق وتدليسه. انظر:«ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 183).

(5)

ق، مب:«زهير وهو ابن معاوية» .

(6)

في المطبوع: «إسحاق» ، خطأ.

ص: 131

الجعرانة؛ وعائشة أرادت العمرتين المستقلَّتين، وعمرة القِران، والَّتي صُدَّ عنها، ولا ريب أنَّها أربعٌ.

وخامسها: ما رواه

(1)

سفيان الثَّوريُّ، عن جعفر بن محمَّدٍ، عن أبيه

(2)

، عن جابر بن عبد اللَّه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّ ثلاث حِجَجٍ: [حجَّتين]

(3)

قبل أن يهاجر، وحجَّةً بعدما هاجر، معها عمرةٌ. رواه الترمذي وغيره

(4)

.

وسادسها: ما روى

(5)

أبو داود

(6)

عن النُّفيلي وقُتيبة قالا: حدَّثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ، قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمرٍ: عمرة الحديبية، والثَّانية حين تواطأوا على عمرةٍ من قابلٍ، والثَّالثة

(7)

من الجِعرانة، والرَّابعة الَّتي قرن مع حجَّته.

وسابعها: ما رواه البخاريُّ في «صحيحه»

(8)

عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: «أتاني اللَّيلةَ آتٍ من ربِّي عز وجل، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةٌ في حجَّةٍ» .

(1)

ك: «روى» .

(2)

«عن أبيه» ليست في ك.

(3)

ليست في النسخ، وزيدت من مصدر التخريج.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

ق: «رواه» .

(6)

برقم (1993)، ورواه أيضًا الترمذي (816) وابن ماجه (3003)، وإسناده صحيح.

(7)

ق، ك، ج، ب، مب:«وثالثة» .

(8)

برقم (1534).

ص: 132

وثامنها: ما رواه أبو داود

(1)

عن البراء بن عازبٍ قال: كنت مع علي حين أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن، فأصبتُ معه أواقيَّ، فلمَّا قدم عليٌّ من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجدتُ فاطمة قد لبست ثيابًا صَبِيغًا

(2)

، وقد نَضَحت البيت بنَضُوحٍ، فقالت: ما لك؟ فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأَحَلُّوا، قال: قلتُ لها: إنِّي أهللتُ بإهلال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال لي: «كيف صنعتَ؟» قال: قلت: أهللتُ بإهلال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: «فإنِّي قد

(3)

سقتُ الهدي وقرنتُ»، وذكر الحديث.

تاسعها: ما رواه النَّسائيُّ

(4)

عن عمران بن يزيد الدمشقي، ثنا عيسى بن

(5)

يونس، ثنا الأعمش، عن مسلم البَطِين، عن علي بن الحسين، عن مروان بن الحكم قال: كنتُ جالسًا عند عثمان، فسمع عليًّا يلبِّي بحج وعمرةٍ، فقال: ألم يكن يُنهى عن هذا؟ فقال: بلى، ولكنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبِّي بهما جميعًا، فلم أدَعْ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك.

عاشرها: ما رواه مسلم في «صحيحه»

(6)

من حديث شعبة، عن

(1)

برقم (1797) واللفظ له، ورواه النسائي (2725). والحديث صححه المصنف في «تهذيب السنن» (1/ 313) والألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 51).

(2)

في المطبوع: «صبيغات» خلاف الأصول ومصدر التخريج.

(3)

«قد» ليست في ص، ج.

(4)

برقم (2722) وإسناده صحيح. ورواه البخاري (1563) من طريق علي بن الحسين عن مروان بن الحكم أيضًا.

(5)

«عيسى بن» ليست في ك.

(6)

برقم (1226/ 167).

ص: 133

حميد بن هلالٍ قال: سمعت مطرِّفًا قال: قال عمران بن حُصينٍ: أحدِّثك حديثًا عسى الله أن ينفعك به: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرةٍ، ثمَّ لم يَنْهَ عنه حتَّى مات، ولم ينزل قرآنٌ يُحرِّمه.

وحادي عشرها: ما رواه يحيى بن سعيدٍ القطَّان وسفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: إنَّما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحجِّ والعمرة، لأنَّه علم أنَّه لا يحجُّ بعدها

(1)

. وله طرقٌ صحيحةٌ إليهما.

وثاني عشرها: ما رواه الإمام أحمد

(2)

من حديث سُراقة بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخلتِ العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة» ، قال: وقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع. إسناده ثقاتٌ.

وثالث عشرها: ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه

(3)

من حديث أبي طلحة الأنصاريِّ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحجِّ والعمرة. ورواه ابن ماجه

(4)

، وفيه الحجَّاج بن أرطاة.

(1)

رواه زكريا المروزي في «جزء فيه حديث سفيان بن عيينة» (27) من طريق ابن عيينة، ورواه الدارقطني في «العلل» من طريق القطان (6/ 138) ورجح الإرسال. وانظر:«ذخيرة الحفاظ» (2/ 997).

(2)

برقم (17583)، ورواه أيضًا الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3725)، وصححه محققو «المسند» .

(3)

أحمد (16346/ 1) وابن ماجه (2971)، وفي إسناده حجاج بن أرطاة متكلم فيه. والحديث يصح بالشواهد. انظر:«صحيح أبي داود - الأم» (6/ 49، 51).

(4)

في المطبوع: «الدارقطني» خلاف الأصول، والحديث لم يروه الدارقطني.

ص: 134

ورابع عشرها: ما رواه الإمام أحمد

(1)

من حديث الهِرماس بن زيادٍ الباهليِّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرنَ في حجَّة الوداع بين الحجِّ والعمرة.

وخامس عشرها: ما رواه البزّار

(2)

بإسنادٍ صحيحٍ إلى ابن أبي أوفى قال: إنَّما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحجِّ والعمرة لأنَّه علمَ أنَّه لا يحجُّ بعد عامه ذلك. وقد قيل: إنَّ يزيد

(3)

بن عطاء أخطأ في إسناده

(4)

، وقال آخرون: لا سبيلَ إلى تخطئته بغير دليلٍ.

وسادس عشرها: ما رواه الإمام أحمد

(5)

من حديث جابر بن عبد اللَّه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحجَّ والعمرة، فطاف لهما طوافًا واحدًا. ورواه الترمذي، وفيه الحجَّاج بن أرطاة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيءٍ أو

(6)

يخالف الثِّقات.

وسابع عشرها: ما رواه الإمام أحمد

(7)

من حديث أم سلمة قالت:

(1)

رواه عبد الله بن أحمد في «زوائده» (15971)، ومن طريقه الطبراني في «المعجم الأوسط» (4327)، وفيه مقال. انظر:«العلل» لابن أبي حاتم (3/ 286) و «إتحاف المهرة» لابن حجر (13/ 620).

(2)

برقم (3344)، ورواه الدارقطني في «العلل» (6/ 139).

(3)

ك، ب، ص، ج، مب:«زيد» ، تحريف.

(4)

انظر: «مسند البزار» (3344)، «ذخيرة الحفاظ» لابن القيسراني (2/ 997).

(5)

برقم (14942)، واللفظ الذي ساقه المصنف لفظ الترمذي (947).

(6)

«أو» ليست في ك.

(7)

برقم (26548)، ورواه الحارث بن أبي أسامة (364) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3722) وابن حبان (3920) والبيهقي (4/ 355)، وصححه ابن حبان والألباني في «السلسلة الصحيحة» (2469) وشعيب الأناؤوط في تحقيق «صحيح ابن حبان» (3920).

ص: 135

سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أهِلُّوا يا آلَ محمَّدٍ بعمرةٍ في حجٍّ» .

وثامن عشرها: ما أخرجاه في «الصَّحيحين»

(1)

ــ واللَّفظ لمسلم ــ عن حفصة قالت: قلت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما شأن النَّاس حَلُّوا ولم تَحلِلْ من عمرتك؟ قال: «إنِّي قلَّدتُ هَدْيي، ولبَّدتُ رأسي، فلا أحلُّ حتى أحلَّ من الحجِّ» . وهذا يدلُّ على أنَّه كان في عمرةٍ معها حجٌّ، وأنَّه لا يحلُّ من العمرة حتَّى يحلَّ من الحجِّ. وهذا على أصل مالك والشَّافعيِّ ألزمُ؛ لأنَّ المعتمر عمرةً مفردةً لا يمنعه عندهما الهديُ من التَّحلُّل، وإنَّما يمنعه عمرة القران، فالحديث على أصلهما نصٌّ.

وتاسع عشرها: ما رواه النَّسائيُّ والتِّرمذيُّ

(2)

عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، أنَّه سمع سعد بن أبي وقَّاصٍ والضَّحَّاكَ بن قيسٍ عامَ حجَّ معاوية بن أبي سفيان، وهما يذكران التَّمتُّع بالعمرة إلى الحجِّ، فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهِلَ أمرَ اللَّه، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي! قال الضحاك: فإنَّ

(3)

عمر بن الخطَّاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه. قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

(1)

رواه البخاري (1697) ومسلم (1229/ 177).

(2)

النسائي (2734) والترمذي (823)، ورواه أحمد (1503)، وصححه الترمذي وابن حبان (3939).

(3)

ك، ع:«قال» .

ص: 136

ومراده هنا بالتَّمتُّع بالعمرة إلى الحجِّ: أحدُ نوعيه، وهو تمتُّع القِران، فإنّ لغة القرآن والصَّحابةِ الذين شهدوا التَّنزيل والتَّأويل تشهد بذلك، ولهذا قال ابن عمر

(1)

: «تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحجِّ، فبدأ فأهلَّ بالعمرة، ثمَّ أهلَّ بالحجِّ» ، وكذلك قالت عائشة

(2)

.

وأيضًا فالذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو متعة القِران بلا شكٍّ، كما قطع به أحمد، ويدلُّ على ذلك أنَّ عمران بن حُصينٍ قال: تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتَّعنا معه. متَّفقٌ عليه

(3)

. وهو الذي قال لمطرِّف: أُحدِّثك حديثًا عسى الله أن ينفعك به: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعَ بين حجٍّ وعمرةٍ، ثمَّ لم يَنْهَ عنه حتَّى مات. وهو في «صحيح مسلم»

(4)

. فأخبر عن قِرانه بقوله: «تمتَّع» ، وبقوله:«جمعَ بين حجٍّ وعمرةٍ» .

ويدلُّ عليه أيضًا ما ثبت في «الصَّحيحين» عن سعيد بن المسيِّب قال: اجتمع علي وعثمان بعُسْفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي: ما تريد إلى أمرٍ فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دَعْنا منك، فقال: إنِّي لا أستطيع أن أدَعَك. فلمَّا رأى عليٌّ ذلك أهلَّ بهما جميعًا. هذا لفظ مسلم

(5)

.

(1)

رواه البخاري (1691) ومسلم (1227).

(2)

رواه البخاري (1692) ومسلم (1228).

(3)

رواه البخاري (1571) ومسلم (1226/ 171) واللفظ له.

(4)

برقم (1226/ 167)، وقد تقدم قريبًا.

(5)

برقم (1223)، وقد تقدم قريبًا لفظ النسائي.

ص: 137

ولفظ البخاريِّ

(1)

: «اختلف علي وعثمان وهما بعُسْفان في المتعة، فقال علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمرٍ فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رأى عليٌّ ذلك أهلَّ بهما جميعًا» .

وخرَّج البخاريُّ

(2)

وحده من حديث مروان بن الحكم قال: شهدتُ عليًّا وعثمان، وعثمانُ ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلمَّا رأى عليٌّ ذلك أهلَّ بهما: لبَّيك بعمرةٍ وحجَّةٍ، وقال: ما كنتُ أَدَعُ سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحدٍ.

فهذا يبيِّن أنَّ من جمع بينهما كان متمتِّعًا عندهم، وأنَّ هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وافقه عثمان على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فإنَّه لمَّا قال له: ما تريد إلى أمرٍ فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه، لم يقل له: لَمْ يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أنَّه وافقه على ذلك لأنكره. ثمَّ قصد عليٌّ موافقةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والاقتداءَ به في ذلك، وبيانَ أنَّ فعْلَه لم يُنسَخ، فأهلَّ بهما جميعًا، تقريرًا للاقتداء به ومتابعته في القِران، وإظهارًا لسنَّةٍ نهى عنها عثمان متأوِّلًا، وحينئذٍ فهذا دليلٌ مستقلٌّ تمام العشرين.

الحادي والعشرون: ما رواه مالك، عن ابن شهابٍ، عن عروة، عن عائشة أنَّها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجَّة الوداع، فأهللنا بعمرةٍ، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من كان معه هَدْيٌ فليُهِللْ بالحجِّ مع العمرة، ثمَّ لا يحلُّ حتَّى يحلَّ منهما جميعًا» . رواه في «الموطأ»

(3)

.

(1)

برقم (1569).

(2)

برقم (1563).

(3)

برقم (1228)، ومن طريقه البخاري (4395) ومسلم (1211/ 111). ورواه مالك أيضًا (1227) من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 138

ومعلومٌ أنَّه كان معه الهدي، فهو أولى من بادر إلى ما أمر به، وقد دلَّ عليه سائر الأحاديث الَّتي ذكرناها ونذكرها.

وقد ذهب جماعةٌ من السَّلف والخلف إلى إيجاب القِران على

(1)

من ساق الهدي، والتمتُّع بالعمرة المفردة على من لم يَسُقِ الهدي، منهم: عبد الله بن عبَّاسٍ وجماعةٌ، فعندهم لا يجوز العدول عمَّا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به أصحابه، فإنَّه قرنَ وساق وأمرَ كلَّ من لا هدْيَ معه بالفسخ إلى عمرةٍ مفردةٍ، فالواجب أن يُفعَل كما فعله أو كما أمر. وهذا القول أصحُّ من قول من حرَّم فسخ الحجِّ إلى العمرة، من وجوهٍ كثيرةٍ

(2)

سنذكرها إن شاء الله تعالى.

الثَّاني والعشرون: ما خرَّجا في «الصَّحيحين»

(3)

عن أبي قِلابة، عن أنس بن مالكٍ قال: صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظُّهر أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فبات بها حتَّى أصبح. ركبَ حتَّى استوت به راحلته على البيداء، حمِدَ الله وسبَّح ثمَّ أهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ، وأهلَّ النَّاس بهما. فلمَّا قدِمنا أمر النَّاسَ فحلُّوا، حتَّى إذا كان يوم التَّروية أهلُّوا بالحجِّ.

وفي «الصَّحيحين»

(4)

أيضًا عن بكر بن عبد الله المزنيِّ، عن أنس قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبِّي بالحجِّ والعمرة جميعًا، قال بكر: فحدَّثتُ بذلك ابن عمر فقال: لبَّى بالحجِّ وحده. فلقيتُ أنسًا، فحدَّثته بقول ابن عمر فقال

(1)

ك، ع:«إلى» .

(2)

«كثيرة» ليست في ك.

(3)

البخاري (1551) ومسلم (690).

(4)

البخاري (4353) ومسلم (1232/ 185) واللفظ له.

ص: 139

أنس: ما تعدُّونا إلا صبيانًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبَّيك حجًّا وعمرةً. وبين أنس وابن عمر في السِّنِّ سنةٌ أو سنةٌ وشيءٌ.

وفي «صحيح مسلم»

(1)

عن يحيى بن أبي إسحاق وعبد العزيز بن صُهيبٍ وحُميد أنَّهم سمعوا أنسًا قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ بهما: لبَّيك عمرةً وحجًّا لبيك عمرةً وحجًّا.

وروى أبو يوسف القاضي عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ، عن أنس قال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لبَّيك بحجٍّ وعمرةٍ معًا»

(2)

.

وروى النَّسائيُّ

(3)

من حديث أبي أسماء، عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُلبِّي بهما.

ورَوى أيضًا

(4)

من حديث الحسن البصريِّ عن أنس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالحجِّ والعمرة حين صلَّى الظُّهر.

وروى البزّار

(5)

من حديث زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطَّاب، عن أنس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أهلَّ بحجٍّ وعمرةٍ.

(1)

برقم (1251/ 214).

(2)

انظر: «البدر المنير» (6/ 106).

(3)

برقم (2730). وفي إسناده أبو أسماء الرحبي مجهول، ويصح الحديث بالمتابعات عند الشيخين، وقد تقدمت.

(4)

برقم (2662)، ورواه أحمد (13153) وأبو داود (1774)، والحديث صححه الألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (4/ 379).

(5)

برقم (6246)، ورجاله كلهم ثقات، وصححه ابن كثير في «البداية والنهاية» (7/ 466) ط. هجر.

ص: 140

ومن حديث سليمان التَّيمي عن أنس كذلك

(1)

، وعن أبي قُدامة عن أنس مثله

(2)

.

وذكر وكيعٌ: ثنا مصعب بن سُليم قال: سمعت أنسًا مثله

(3)

.

قال: وحدَّثنا ابن أبي ليلى، عن ثابتٍ البنانيِّ، عن أنس مثله

(4)

.

وذكر الخُشني

(5)

: ثنا محمَّد بن بشَّارٍ، ثنا محمَّد بن جعفرٍ، ثنا شعبة، عن أبي قَزَعة، عن أنس مثله.

وفي «صحيح البخاريِّ»

(6)

عن قتادة، عن أنس: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمرٍ، فذكرها وقال: وعمرةٌ مع حجَّته. وقد تقدَّم.

وذكر عبد الرزاق: ثنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة وحُميد بن هلالٍ، عن أنس مثله

(7)

.

فهؤلاء ستَّة عشر نفسًا من الثِّقات، كلُّهم متَّفقون عن أنس

(8)

أنَّ لفظ

(1)

رواه البزار (6510)، قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (7/ 467):«وهو على شرط الصحيح ولم يخرجوه» .

(2)

رواه أحمد (12448)، وجوّده وقوّاه ابن كثير في «البداية والنهاية» (7/ 471).

(3)

رواه أحمد (12899).

(4)

رواه أحمد (12898)، وفي إسناده ابن أبي ليلى متكلم فيه، ولكنه توبع ببكر المزني وأبي قلابة وحميد الطويل في جماعة آخرين.

(5)

رواه أحمد (12745).

(6)

برقم (4148)، وقد تقدم.

(7)

رواه البزار (6792)، وجوّده وقوَّاه ابن كثير في «البداية والنهاية» (7/ 465).

(8)

ك، ج، ع:«على أنس» .

ص: 141

النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان إهلالًا بحجٍّ وعمرةٍ معًا، وهم: الحسن البصريُّ، وأبو قِلابة، وحُميد بن هلالٍ، وحُميد بن عبد الرحمن

(1)

الطويل، وقتادة، ويحيى بن سعيدٍ الأنصاريُّ، وثابتٌ البُنانيُّ، وبكر بن عبد الله المزنيُّ، وعبد العزيز بن صُهيبٍ، وسليمان التَّيميُّ، ويحيى بن أبي إسحاق، وزيد بن أسلم، ومصعب بن سُليم، وأبو أسماء، وأبو قُدامة عاصم بن حَبْتر

(2)

، وأبو قَزَعة وهو سُويد بن حُجَير

(3)

الباهلي.

فهذا إخبار أنس عن لفظ إهلاله الذي سمعه منه، وهذا علي والبراء يخبران عن إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالقران، وهذا عليٌّ أيضًا يخبر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا عمر بن الخطَّاب يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ربَّه أمره بأن يفعله هو، وعلَّمه اللَّفظ الذي يقوله عند الإحرام. وهذا عليٌّ أيضًا يخبر أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبِّي بهما جميعًا. وهؤلاء بقيَّة من ذكرنا يخبرون عنه بأنَّه فعله، وهذا هو صلى الله عليه وسلم يأمر به آله، ويأمر به من ساق الهدي.

وهؤلاء الذين رَوَوا القِران بغاية البيان: عائشة أمُّ المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، وعبد الله بن عبَّاسٍ، وعمر بن الخطَّاب، وعليُّ بن أبي طالبٍ، وعثمان بن عفَّان بإقراره لعليّ وتقريرِ عليّ له، وعمران بن الحصين، والبراء بن عازبٍ، وحفصة أمُّ المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي

(1)

ك، ع:«تير» بدل «عبد الرحمن» . وهذا أحد الأقوال في اسم والد حميد. انظر «تهذيب التهذيب» (3/ 38).

(2)

ك، ج، ب:«حنين» . ق، ع والمطبوع:«حسين» . وكلاهما تصحيف. والصواب ما أثبت. انظر: «التاريخ الكبير» (6/ 482) و «الثقات» (5/ 237).

(3)

في مب والمطبوع: «حجر» ، خطأ.

ص: 142

أوفى، وأبو طلحة، والهِرْماس بن زيادٍ، وأم سلمة، وأنس بن مالكٍ، وسعد بن أبي وقَّاصٍ. فهؤلاء سبعة عشر صحابيًّا، منهم من روى فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به.

فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر وجابرًا وعائشة وابن عبَّاسٍ؟ وهذه عائشة تقول: «أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ» ، وفي لفظٍ:«أفرد الحجَّ» ، والأوَّل في «الصَّحيحين»

(1)

والثَّاني في مسلم

(2)

. وله لفظان هذا أحدهما، والثَّاني:«أهلَّ بالحجِّ مفردًا» ، وهذا ابن عمر يقول:«لبَّى بالحجِّ وحده» ذكره البخاريُّ

(3)

، وهذا ابن عبَّاسٍ يقول:«أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ» رواه مسلم

(4)

، وهذا جابر يقول:«أفرد الحجَّ» رواه ابن ماجه

(5)

.

قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطتْ فإنَّ أحاديث الباقين لم تتعارض

(6)

، فهَبْ أنَّ أحاديث من ذكرتم لا حجَّة فيها على القِران ولا على الإفراد لتعارضها، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحَّتها؟ فكيف وأحاديثهم يصدِّق بعضها بعضًا ولا تعارُضَ

(1)

البخاري (1562) ومسلم (1211/ 118).

(2)

برقم (1211/ 122).

(3)

إنما رواه مسلم (1232/ 185).

(4)

برقم (1240/ 199).

(5)

برقم (2966) والحديث صحيح.

(6)

ص: «تعارض» .

ص: 143

بينها

(1)

، وإنَّما ظنَّ من ظنَّ التَّعارض لعدم إحاطته بمراد الصَّحابة من ألفاظهم، وحَمْلِها على الاصطلاح الحادث بعدهم.

ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه

(2)

فصلًا حسنًا في اتِّفاق أحاديثهم أسوقُه بلفظه، قال

(3)

: والصَّواب أنَّ الأحاديث في هذا الباب متَّفقةٌ ليست بمختلفةٍ إلا اختلافًا يسيرًا، يقع مثله في غير ذلك، فإنَّ الصَّحابة ثبت عنهم أنَّه تمتَّع، والتَّمتُّع عندهم يتناول القِران، والَّذين رُوي عنهم

(4)

أنَّه أفرد رُوي عنهم أنَّه تمتَّع.

أمَّا الأوَّل: ففي «الصَّحيحين»

(5)

عن سعيد بن المسيَّب: «اجتمع عثمان وعلي بعُسْفانَ، وكان

(6)

عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال عليٌّ: ما تريد إلى أمرٍ فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دَعْنا منك، فقال: إنِّي لا أستطيع أن أدعَك. فلمَّا رأى علي ذلك أهلَّ بهما جميعًا». فهذا يبيِّن أنَّ من جمع بينهما كان متمتِّعًا عندهم، وأنَّ هذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافقه عثمان على أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لكن كان النِّزاع بينهما: هل ذلك الأفضل في حقِّنا أم لا؟ وهل يُشرَع فسخ الحجِّ إلى العمرة في حقِّنا كما تنازع فيه الفقهاء؟ فقد اتَّفق علي وعثمان على أنَّه تمتَّع، والمراد بالتَّمتُّع عندهم القِران.

(1)

ص، ع، مب:«بينهما» .

(2)

«ابن تيمية قدَّس الله روحه» ليست في ق، ب، مب.

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (26/ 66 - 74). وقد اختصر المؤلف كلام شيخه.

(4)

ك: «رووا عنه» .

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

ص، ك، ج، ع:«فكان» . والمثبت من ق، مب.

ص: 144

وفي «الصَّحيحين»

(1)

عن مطرِّف قال: قال عمران بن حُصينٍ: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجٍّ وعمرةٍ، ثمَّ إنَّه لم ينهَ عنه حتَّى مات، ولم ينزل فيه قرآنٌ يحرِّمه. وفي روايةٍ عنه:«تمتَّع نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم وتمتَّعنا معه» . فهذا عمران وهو من أجلِّ السَّابقين الأوَّلين أخبر أنَّه تمتَّع، وأنَّه جمع بين الحجِّ والعمرة.

والقارن عند الصَّحابة متمتِّعٌ، ولهذا أوجبوا عليه الهدي، ودخل في قوله تعالى:{أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. وذكر حديث عمر: «أتاني آتٍ من ربِّي فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقلْ: عمرةٌ في حجَّةٍ»

(2)

.

قال

(3)

: فهؤلاء الخلفاء الرَّاشدون عمر وعثمان وعلي وعمران بن حُصينٍ، رُوي عنهم بأصحِّ الأسانيد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرَنَ بين العمرة والحجِّ، وكانوا يسمُّون ذلك تمتُّعًا، وهذا أنس يذكر أنَّه سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يلبِّي بالحجِّ والعمرة جميعًا.

وما ذكره بكر بن عبد الله المزنيُّ عن ابن عمر أنَّه «لبَّى بالحجِّ وحده» ، فجوابه: أنَّ الثِّقات الذين هم أثبتُ في ابن عمر من بكر مثل سالمٍ ابنه ونافعٍ رووا عنه أنَّه قال: «تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحجِّ» ، وهؤلاء أثبت عن

(4)

ابن عمر من بكر. فتغليطُ بكرٍ عن ابن عمر أولى من تغليط سالم

(5)

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

أي شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (26/ 70).

(4)

كذا في النسخ. وفي الفتاوى: «في» .

(5)

في المطبوع بعده: «ونافع» ، وليست في النسخ والفتاوى.

ص: 145

عنه، وتغليطِه هو على

(1)

النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. ويُشبِه أنَّ ابن عمر قال له: «أفرد الحجَّ» فظنَّ أنَّه قال: «لبَّى بالحجِّ» ، فإنَّ إفراد الحجِّ كانوا يطلقونه ويريدون به إفراد أعمال الحجِّ، وذلك ردٌّ منهم على من قال: إنَّه قرن قرانًا طاف فيه طوافين وسعى فيه سعيين، وعلى من يقول: إنَّه أحلَّ

(2)

من إحرامه. فرواية من روى من الصَّحابة أنَّه أفرد الحجَّ تردُّ على هؤلاء.

يبيِّن هذا ما رواه مسلم في «صحيحه»

(3)

عن نافع عن ابن عمر قال: أهللنا

(4)

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجِّ مفردًا، وفي روايةٍ «أهلَّ بالحجِّ مفردًا». فهذه الرِّواية إذا قيل: إنَّ مقصودها أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أهلَّ بحجٍّ مفردٍ

(5)

، قيل: فقد ثبت بإسنادٍ أصحَّ من ذلك عن ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تمتَّع بالعمرة إلى الحجِّ، وأنَّه بدأ فأهلَّ بالعمرة ثمَّ أهلَّ بالحجِّ، وهذا من رواية الزُّهريِّ عن سالم عن ابن عمر. وما عارض هذا عن ابن عمر: إمَّا أن يكون غلطًا

(6)

عليه، وإمَّا أن يكون مقصوده موافقًا له، وإمَّا أن يكون ابن عمر لمَّا علم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يحلَّ ظنَّ أنَّه أفرد، كما وهم في قوله:«إنَّه اعتمر في رجبٍ» ، وكان ذلك نسيانًا منه، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا لم يحلَّ من إحرامه ــ وكان هذا حالَ المفرد

(7)

ــ ظنَّ أنَّه أفرد.

(1)

ع: «عن» .

(2)

ع: «حل» .

(3)

برقم (1231).

(4)

ك: «أهللت» .

(5)

مب: «مفردًا» .

(6)

ك، ع:«غلط» .

(7)

ص: «الا المفرد» ، خطأ.

ص: 146

ثمَّ ساق

(1)

حديث الزُّهريِّ عن سالم عن أبيه: تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث. وقول الزُّهريِّ: وحدَّثني عروة عن عائشة بمثل حديث سالم عن أبيه

(2)

. قال

(3)

: فهذا من أصحِّ حديثٍ على وجه الأرض، وهو من حديث الزُّهريِّ ــ أعلمِ أهل زمانه بالسُّنَّة ــ عن سالم عن أبيه، وهو من أصحِّ حديث ابن عمر وعائشة.

وقد ثبت عن عائشة في «الصَّحيحين»

(4)

أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَرٍ، الرَّابعة مع حجَّته. ولم يعتمر بعد الحجِّ باتِّفاق العلماء، فتعيَّن أن يكون متمتِّعًا تمتُّعَ قرانٍ أو التَّمتُّع الخاصَّ.

وقد صحَّ عن ابن عمر أنَّه قرَنَ بين الحجِّ والعمرة وقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاريُّ في «الصَّحيح»

(5)

.

قال

(6)

: وأمَّا الذين نُقل عنهم إفراد الحجِّ فهم ثلاثةٌ: عائشة، وابن عمر، وجابر، والثَّلاثة نُقل عنهم التَّمتُّع، وحديث عائشة وابن عمر أنَّه تمتَّع بالعمرة إلى الحجِّ أصحُّ من حديثهما أنه أفرد الحج

(7)

، وما صحَّ من ذلك عنهما

(1)

أي شيخ الإسلام في «الفتاوى» (26/ 71 - 72).

(2)

بعدها في ك: «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وليست في بقية النسخ و «الفتاوى» .

(3)

أي شيخ الإسلام.

(4)

هو عند البخاري (1779، 1780، 4148) ومسلم (1253) من حديث أنس بهذا السياق.

(5)

برقم (1639).

(6)

أي شيخ الإسلام، والكلام متصل بما قبله.

(7)

«أنه أفرد الحج» ساقطة من المطبوع وق، ب، مب.

ص: 147

فمعناه إفراد أعمال الحجِّ، أو أن يكون وقع فيه

(1)

غلطٌ

(2)

كنظائره، فإنَّ أحاديث التَّمتُّع متواترةٌ، رواها أكابر الصَّحابة كعمر وعلي وعثمان وعمران بن حُصينٍ، ورواها أيضًا عائشة وابن عمر وجابر، بل رواها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بضعة عشر من الصَّحابة.

قلت: وقد اتَّفق أنس وعائشة وابن عمر وابن عبَّاسٍ على أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرٍ، وإنَّما وهِمَ ابن عمر في كون إحداهنَّ في رجبٍ، وكلُّهم قالوا: وعمرةٌ مع حجَّته، وهُم سوى ابن عبَّاسٍ قالوا: إنَّه أفرد الحجَّ، وهم سوى أنس قالوا: تمتَّع. فقالوا هذا وهذا وهذا، ولا تناقضَ بين أقوالهم، فإنَّه تمتَّع تمتُّع قرانٍ، وأفرد أعمال الحجِّ، وقرنَ بين النُّسكين، فكان قارنًا باعتبار جمعه بين النُّسكين، ومفرِدًا باعتبار اقتصاره على أحد الطَّوافين والسَّعيين، ومتمتِّعًا باعتبار

(3)

ترفُّهه بترك أحد السَّفرين.

ومن تأمَّل ألفاظ الصَّحابة، وجمعَ الأحاديث بعضها إلى بعضٍ، واعتبر بعضَها ببعضٍ، وفهم لغة الصَّحابة= أسفر له صبحُ الصَّواب، وانقشعتْ عنه ظلمةُ الاختلاف والاضطراب، والله الهادي لسبيل الرَّشاد الموفِّق لطريق السَّداد.

فمن قال: «إنَّه أفرد الحجَّ» ، وأراد به أنَّه أتى

(4)

بالحجِّ مفردًا، ثمَّ فرغ منه

(1)

ك، ع، ب، مب:«منه» .

(2)

مب: «غلطًا» .

(3)

«باعتبار» ساقطة من المطبوع.

(4)

ج: «لبى» .

ص: 148

وأتى بالعمرة بعده من التَّنعيم أو غيره، كما يظنُّ كثيرٌ من النَّاس= فهذا غلطٌ لم يقله أحدٌ من الصَّحابة، ولا التَّابعين، ولا الأئمَّة الأربعة، ولا أحدٌ من أهل الحديث. وإن أراد به أنَّه حجَّ حجًّا مفردًا لم يعتمر معه، كما قاله طائفةٌ من السَّلف والخلف= فوهم أيضًا، والأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة تردُّه كما تبيَّن. وإن أراد به أنَّه اقتصر على أعمال الحجِّ وحده، ولم يُفرِد للعمرة أعمالًا، فقد أصاب، وعلى قوله تدلُّ جميع الأحاديث.

ومن قال: «إنَّه قرَنَ» ، فإن أراد به أنَّه طاف للحجِّ طوافًا على حدةٍ، وللعمرة طوافًا على حدةٍ، وسعى للحجِّ سعيًا، وللعمرة سعيًا، فالأحاديث الثَّابتة تردُّ قوله. وإن أراد أنَّه قرنَ بين النُّسكين، وطاف لهما طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا، فالأحاديث الصَّحيحة تشهد لقوله، وقوله هو الصَّواب.

ومن قال: «تمتَّع» ، فإن أراد أنَّه

(1)

تمتَّع تمتُّعًا حلَّ منه، ثمَّ أحرم بالحجِّ إحرامًا مستأنفًا، فالأحاديث تردُّ قوله، وهو غلطٌ. وإن أراد أنَّه

(2)

تمتَّع تمتُّعًا لم يحلَّ منه، بل

(3)

بقي على إحرامه لأجل سَوْق الهدي، فالأحاديث الكثيرة تردُّ قوله أيضًا، وهو أقلُّ غلطًا. وإن أراد تمتُّع القران فهو الصَّواب الذي تدلُّ عليه جميع الأحاديث الثَّابتة، ويأتلف به شَمْلُها، ويزول عنها

(4)

الإشكال والاختلاف.

(1)

ك، ص، ج، ع:«به» . والمثبت من ق، مب.

(2)

«أنه» ليست في ك، ع. وفي ص، ج:«به» . والمثبت من ق، مب.

(3)

بعدها سقط كبير في ع.

(4)

ك: «عنه» .

ص: 149