الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في حجِّه وعُمَره
اعتمر صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة أربع عُمَرٍ كلُّهنُّ في ذي القعدة
(1)
:
الأولى: عمرة الحديبية، وهي أولاهنُّ سنة ستٍّ، فصدَّه المشركون عن البيت، فنحر البُدْن
(2)
حيث صُدَّ بالحديبية، وحلق هو وأصحابه رؤوسهم، وحلُّوا من إحرامهم، ورجع من عامه إلى المدينة.
الثَّانية: عمرة القضيَّة في العام المقبل، دخلها فأقام بها ثلاثًا، ثمَّ خرج بعد إكمال عمرته. واختُلِف: هل كانت قضاءً للعمرة الَّتي صُدَّ عنها في العام الماضي، أم عمرةً مستأنفةً؟ على قولين للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد، أحدهما: أنَّها قضاءٌ وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني: ليست بقضاءٍ، وهو قول مالك. والَّذين قالوا: كانت قضاءً احتجُّوا بأنَّها سمِّيت عمرة القضاء، وهذا الاسم تابعٌ للحكم. قال الآخرون: القضاء هنا من المقاضاة، لأنَّه قاضى أهل مكَّة عليها، لا أنَّه من قضى يقضي قضاءً. قالوا: ولهذا سمِّيت عمرةَ القضيَّة. قالوا: والَّذين صُدُّوا عن البيت كانوا ألفًا وأربعمائةٍ، وهؤلاء كلُّهم لم يكونوا معه في عمرة القضيَّة
(3)
، ولو كانت قضاءً لم يتخلَّف منهم أحدٌ. وهذا القول أصحُّ؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر من كان معه بالقضاء.
(1)
سيأتي تخريجه من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
ج: «الهدي» .
(3)
ج: «القضاء» .
الثَّالثة: عمرته الَّتي قَرنَها مع حجَّته، فإنَّه كان قارنًا، لبضعة عشر دليلًا سنذكرها عن قريبٍ إن شاء اللَّه.
الرَّابعة: عمرته من الجِعْرَانة، لمَّا خرج إلى حنينٍ ثمَّ رجع إلى مكَّة، فاعتمر من الجعرانة داخلًا إليها. ففي «الصَّحيحين»
(1)
عن أنس بن مالكٍ قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عُمَرٍ، كلُّهنَّ في ذي القعدة، إلا الَّتي مع حجَّته: عمرةٌ من الحديبية أو زمنَ الحديبية في ذي القعدة، وعمرةٌ من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرةٌ من الجِعرانة حيث قَسَم غنائم حنينٍ في ذي القعدة، وعمرةٌ مع حجَّته
(2)
.
ولا يناقض هذا ما في «الصَّحيحين»
(3)
عن البراء بن عازبٍ قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحجَّ مرَّتين. لأنَّه أراد العمرة المفردة المستقلَّة التي تمَّتْ، ولا ريبَ أنَّهما اثنتان، فإنَّ عمرة القِران لم تكن مستقلَّةً، وعمرة الحديبية صُدَّ عنها، وحِيلَ بينه
(4)
وبين إتمامها. وكذلك قال ابن عبَّاسٍ: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عُمَرٍ: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء من قابلٍ، والثَّالثة من الجعرانة، والرَّابعة مع حجَّته. ذكره الإمام أحمد
(5)
.
(1)
البخاري (4148) ومسلم (1253).
(2)
«وعمرة مع حجته» ليست في ص.
(3)
إنما رواه البخاري (1781) من حديث البراء رضي الله عنه .
(4)
ص: «بينهم» . ق: «بينها» .
(5)
في «المسند» (2211)، ورواه أيضًا أبو داود (1993) والترمذي (816) وابن ماجه (3003). وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (3946) والحاكم (3/ 50) والألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 234).
ولا تناقضَ بين حديث أنس: أنَّهنَّ في ذي القعدة إلا الَّتي مع حجَّته، وبين قول عائشة وابن عبَّاسٍ: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة
(1)
؛ لأنَّ مبدأ عمرة القِران كان في ذي القعدة، ونهايتها كان في ذي الحجَّة مع انقضاء الحجِّ، فعائشة وابن عبَّاسٍ أخبرا عن ابتدائها، وأنس أخبر عن انقضائها.
وأما قول عبد الله بن عمر: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعًا، إحداهنَّ في رجبٍ= فوهمٌ منه، قالت عائشة لمَّا بلغها ذلك عنه:«يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرةً قطُّ إلا وهو شاهدٌ، وما اعتمر في رجبٍ قطُّ»
(2)
.
وأمَّا ما رواه الدَّارقطنيُّ
(3)
عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرةٍ في رمضان، فأفطر وصمتُ، وقصَرَ وأتممتُ، فقلت: بأبي وأمِّي، أفطرتَ وصمتُ وقصَرتَ وأتممتُ، فقال:«أحسنتِ يا عائشة» = فهذا الحديث غلطٌ، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قطُّ، وعُمَره مضبوطة العدد والزَّمان، ونحن نقول: يرحم الله أمَّ المؤمنين، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان قطُّ، وقد قالت رضي الله عنها: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة. رواه ابن ماجه وغيره
(4)
.
(1)
حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه ابن ماجه (2996) وأبو يعلى (2340)، وفي إسناده ابن أبي ليلى متكلم فيه، ويشهد له حديث عائشة الآتي.
(2)
رواه البخاري (1776) ومسلم (1255).
(3)
برقم (2293). وتقدم الكلام عليه.
(4)
رواه ابن ماجه (2997) من طريق ابن أبي شيبة (13204)، وإسناده صحيح كما قال الحافظ في «الفتح» (3/ 600). ورواه أيضًا من طريق آخر عنها أحمد (25910)، وفي إسناده ابن إسحاق وقد عنعن.
ولا خلافَ أنَّ عُمَره لم تزد على أربعٍ، فلو كان قد اعتمر في رجبٍ لكانت خمسًا، ولو كان قد اعتمر في رمضان لكانت ستًّا، إلا أن يقال: بعضهنَّ في رجبٍ، وبعضهنَّ في رمضان، وبعضهنَّ في ذي القعدة، وهذا لم يقع، وإنَّما الواقع اعتماره في ذي القعدة، كما قال أنس وابن عبَّاسٍ وعائشة. وقد روى أبو داود في «سننه»
(1)
عن عائشة: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوَّالٍ. وهذا إن كان محفوظًا فلعلَّه في عمرة الجِعرانة حين خرج في شوَّالٍ، ولكن إنَّما أحرم بها في ذي القعدة.
فصل
ولم يكن في عُمَره عمرةٌ واحدةٌ خارجًا من مكَّة كما يفعله
(2)
كثيرٌ من
(3)
النَّاس اليوم، وإنَّما كانت عُمَره كلُّها داخلًا إلى مكَّة، وقد أقام بعد الوحي بمكَّة ثلاث عشرة سنةً لم يُنقَل عنه أنَّه اعتمر خارجًا من مكَّة في تلك المدَّة أصلًا. فالعمرة الَّتي فعلَها وشَرعَها هي عمرة الدَّاخل إلى مكَّة، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحلِّ ليعتمر، ولم يفعل هذا على عهده أحدٌ قطُّ إلا عائشة وحدها من بين سائر من معه؛ لأنَّها كانت قد أهلَّت بالعمرة فحاضت، فأمرها، فأدخلت الحجَّ على العمرة وصارت قارنةً، وأخبرها أنَّ طوافها بالبيت وبين
(1)
برقم (1991)، ومن طريقه البيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 455). وقد أعِلَّ بأن رواه مالك (972) مرسلًا، وهو الذي رجحه ابن عبد البر في «التمهيد» (22/ 289). وسيأتي الكلام عليه عند المؤلف.
(2)
ب: «فعل» .
(3)
«كثير من» ليست في ج.
الصَّفا والمروة قد وقع عن حجّها
(1)
وعمرتها، فوجدَتْ
(2)
في نفسها، إذ ترجع صواحباتها
(3)
بحجٍّ وعمرةٍ مستقلتين، فإنَّهنَّ كنَّ متمتِّعاتٍ ولم يحِضْن ولم يقرِنَّ، وترجع هي بعمرةٍ في ضِمْنِ حجَّتها، فأمر أخاها أن يُعمِرها من التَّنعيم تطييبًا لقلبها، ولم يعتمر هو من التَّنعيم في تلك الحجَّة ولا أحدٌ ممَّن كان معه، وسيأتي مزيدُ تقريرٍ لهذا
(4)
وبسطٍ له عن قربٍ إن شاء الله تعالى.
فصل
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة بعد الهجرة خمسَ مرَّاتٍ سوى المرَّة الأولى، فإنَّه وصل إلى الحديبية وصُدَّ عن الدُّخول إليها، أحرم في أربعٍ منهنَّ من الميقات لا قبله، فأحرم عام الحديبية من ذي الحليفة، ثمَّ دخلها المرَّة الثَّانية، فقضى عمرته وأقام بها ثلاثًا، ثمَّ خرج، ثمَّ دخلها المرَّة الثَّالثة عام الفتح في رمضان بغير إحرامٍ، ثمَّ خرج منها إلى حنينٍ، ثمَّ دخلها بعمرةٍ من الجعرانة، ودخلها في هذه العمرة ليلًا وخرج ليلًا، فلم يخرج من مكَّة إلى الجعرانة ليعتمر كما يفعل أهل مكَّة اليوم، وإنَّما أحرم منها في حال دخوله إلى مكَّة، ولمَّا قضى عمرته ليلًا رجع من فَوْره إلى الجعرانة، فبات بها، فلمَّا أصبح وزالت الشَّمس خرج في بطن سَرِف حتَّى جامعَ الطَّريقَ
(5)
، ولهذا خفيت
(1)
ك، ع، ب:«حجتها» .
(2)
أي: حزنت.
(3)
ك: «صواحبها» .
(4)
ب: «تقرير هذا» .
(5)
رواه أحمد (15513، 15519) وأبو داود (1996) والترمذي (935) والنسائي (2863) من حديث محرش الكعبي. ومداره على مزاحم بن أبي مزاحم المكي، مجهول. ومع ذلك حسنه الترمذي وصححه الألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (6/ 237).
هذه العمرة على كثيرٍ من النَّاس.
والمقصود أنَّ عُمَره كلَّها كانت في أشهر الحجِّ مخالفةً لهدي المشركين، فإنَّهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحجِّ ويقولون: هي من أفجر الفجور، وهذا دليلٌ على أنَّ الاعتمار في أشهر الحجِّ أفضل منه في رجبٍ بلا شكٍّ.
وأمَّا التفضيل بينه وبين الاعتمار في رمضان فموضع نظرٍ، فقد صحَّ عنه أنَّه أمر أمَّ مَعْقِلٍ لمَّا فاتها الحجُّ معه أن تعتمر في رمضان، وأخبرها أنَّ عمرةً في رمضان تعدل حجَّةً
(1)
.
وأيضًا فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضلُ الزَّمان وأفضلُ البقاع، ولكن لم يكن الله ليختار لنبيِّه في عُمَره إلا أولى الأوقات وأحقَّها بها، فكانت العمرة في أشهر الحجِّ نظيرَ وقوع الحجِّ في أشهره، وهذه الأشهر قد خصَّها الله بهذه العبادة، وجعلها وقتًا لها، والعمرة حجٌّ أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحجِّ، وذو القعدة أوسطها، وهذا ممَّا يُستخار الله فيه، فمن كان عنده فضلُ علمٍ فليرشد إليه.
وقد يقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهمُّ من العمرة، ولم يكن يمكنه الجمعُ بين تلك العبادات وبين العمرة، فأخَّر العمرة إلى أشهر الحجِّ، ووفَّر نفسَه على تلك العبادات
(2)
في رمضان،
(1)
رواه البخاري (1782) ومسلم (1256) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
«وبين العمرة
…
العبادات» ساقطة من ص بسب انتقال النظر.
مع ما في ترك ذلك من الرَّحمة بأمَّته والرَّأفة بهم، فإنَّه لو اعتمر في رمضان لبادرت الأمَّة إلى ذلك، وكان يشقُّ عليها الجمع بين العمرة والصَّوم، وربَّما لا تسمح أكثر النُّفوس بالفطر في هذه العبادة حرصًا على تحصيل العمرة وصوم رمضان، فتحصل المشقَّة، فأخَّرها إلى أشهر الحجِّ. وقد كان يترك كثيرًا من العمل وهو يحبُّ أن يعمله خشيةَ المشقَّة عليهم. ولمَّا دخل البيت خرج منه حزينًا، فقالت له عائشة في ذلك، فقال:«أخاف أن أكون قد شَقَقْتُ على أمَّتي»
(1)
. وهَمَّ أن ينزِل يستقي مع سُقاة زمزم للحاجِّ، فخاف أن يُغلَب أهلُها على سِقايتهم بعده
(2)
. والله أعلم.
فصل
ولم يُحفَظ
(3)
عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه اعتمر في السَّنة إلا مرَّةً واحدةً، ولم يعتمر في سنةٍ مرَّتين. وقد ظنَّ بعض النَّاس أنَّه اعتمر في سنةٍ مرَّتين، واحتجَّ بما رواه أبو داود في «سننه»
(4)
عن عائشة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين: عمرةً في ذي القعدة، وعمرةً في شوَّالٍ. قالوا: وليس المراد بهذا ذكر مجموع ما اعتمره، فإنَّ عائشة وأنسًا وابن عبَّاسٍ وغيرهم قد قالوا: إنَّه اعتمر أربع عمرٍ، فعُلِم أنَّ مرادها به أنَّه اعتمر في سنةٍ مرَّتين: مرَّةً في ذي القعدة، ومرَّةً في شوَّالٍ،
(1)
رواه أبو داود (2029) والترمذي (873) وابن ماجه (3064) من حديث عائشة رضي الله عنها.، وفي إسناده إسماعيل بن عبد الملك متكلم فيه. انظر:«السلسلة الضعيفة» (3346) و «ضعيف أبي داود - الأم» (2/ 194).
(2)
رواه مسلم (1218/ 147) من حديث جابر رضي الله عنه.
(3)
ص: «يخفض» ، تحريف.
(4)
تقدم تخريجه قريبًا.
وهذا الحديث وهمٌ إن كان محفوظًا عنها، فإنَّ هذا لم يقع قطُّ، فإنَّه اعتمر أربع عمرٍ بلا ريبٍ: العمرة الأولى كانت في ذي القعدة عمرة الحديبية، ثمَّ لم يعتمر إلى العام القابل، عمرة القضيَّة في ذي القعدة
(1)
، ثمَّ رجع إلى المدينة ولم يخرج إلى مكَّة حتَّى
(2)
فتحها سنة ثمانٍ في رمضان، ولم يعتمر ذلك العام، ثمَّ خرج إلى حنينٍ وهزم الله عدوَّه، فرجع إلى مكَّة وأحرم بعمرةٍ، وكان ذلك في ذي القعدة كما قال أنس وابن عبَّاسٍ، فمتى اعتمر في شوَّالٍ؟ ولكن لقي العدوَّ في شوَّالٍ وخرج فيه من مكَّة، وقضى عمرته لمَّا فرغ من أمر العدوِّ في ذي القعدة ليلًا، ولم يجمع ذلك العام بين عمرتين ولا قبله ولا بعده، ومن له عنايةٌ بأيَّامه وسيرته وأحواله لا يشكُّ ولا يرتاب في ذلك.
فإن قيل: فبأيِّ شيءٍ يستحبُّون العمرة في السَّنة مرارًا إذا
(3)
لم يُثبِتوا ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم؟
قيل
(4)
: قد اختُلِف في هذه المسألة، فقال مالك: أكره أن يعتمر في السَّنة أكثر من عمرةٍ واحدةٍ، وخالفه مُطرِّف من أصحابه وابن الموَّاز، فقال مطرِّف: لا بأس بالعمرة في السَّنة مرارًا، وقال ابن الموَّاز: أرجو أن لا يكون به بأسٌ، وقد اعتمرت عائشة مرَّتين في شهرٍ، ولا أرى أن يُمنع أحدٌ من التَّقرُّب إلى
(1)
«عمرة الحديبية
…
ذي القعدة» ساقطة من ص بسبب انتقال النظر.
(2)
ك: «إلى حين» .
(3)
ص، ج:«إذ» . وليست في ب.
(4)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (26/ 267 وما بعدها).
الله بشيءٍ من الطَّاعات، ولا من الازدياد من الخير في موضعٍ لم يأتِ بالمنع منه نصٌّ، وهذا قول الجمهور. إلا أنَّ أبا حنيفة استثنى خمسة أيَّامٍ لا يعتمر فيها: يوم عرفة، ويوم النَّحر، وأيَّام التَّشريق. واستثنى أبو يوسف يوم النَّحر وأيَّام التَّشريق خاصَّةً. واستثنت الشَّافعيَّة البائتَ بمنًى لرمي أيَّام التَّشريق
(1)
.
واعتمرت عائشة في سنةٍ مرَّتين، فقيل للقاسم: لم ينكِر عليها أحدٌ؟ فقال: أعلى أمِّ المؤمنين
(2)
؟ وكان أنس إذا حمَّم
(3)
رأسُه خرج فاعتمر
(4)
. ويُذكر عن علي أنَّه كان يعتمر في السَّنة مرارًا
(5)
. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينهما»
(6)
.
ويكفي في هذا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أعمرَ عائشة من التَّنعيم سوى عمرتها الَّتي كانت أهلَّت بها، وذلك في عامٍ واحدٍ. ولا يقال: عائشة كانت قد رفضت العمرة، فهذه الَّتي من التَّنعيم قضاء عنها; لأنَّ العمرة لا يصحُّ رفضها. وقد قال لها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«يَسَعُكِ طوافكِ لحجِّكِ وعمرتكِ»
(7)
، وفي لفظٍ:«حللتِ منهما جميعًا»
(8)
.
(1)
«واستثنت
…
التشريق» ساقطة من ج.
(2)
رواه الشافعي في «الأم» (3/ 336، 337). وعند البيهقي (4/ 344): «أنها اعتمرت في سنةٍ ثلاثَ مرات» .
(3)
ق، ع، ك، ج:«احمر» ، تحريف. وحمَّم الرأس: نبت شعره بعد ما حُلق.
(4)
سيأتي تخريجه.
(5)
سيأتي تخريجه.
(6)
رواه البخاري (1773) ومسلم (1349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(7)
رواه مسلم (1211/ 132) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(8)
رواه مسلم (1213/ 136) من حديث عائشة رضي الله عنها.
فإن قيل: فقد ثبت في «صحيح البخاريِّ»
(1)
أنَّه صلى الله عليه وسلم قال لها: «ارفُضِي عمرتك، وانقُضِي رأسَك وامتشطي» ، وفي لفظٍ آخر
(2)
: «انقُضي رأسك وامتشطي، وأهلِّي بالحجِّ، ودعي العمرة» ، وهذا صريحٌ في رفضها من وجهين، أحدهما: قوله ارفُضيها ودعيها، والثَّاني: أمره لها بالامتشاط.
قيل: معنى قوله «ارفضيها» : اتركي أفعالها والاقتصارَ عليها، وكوني في حجَّةٍ معها. ويتعيَّن أن يكون هذا المراد لقوله:«حللت منهما جميعًا» لمَّا قضتْ أعمال الحجِّ، وقولِه:«يسَعُكِ طوافُك لحجِّك وعمرتك» ، فهذا صريحٌ أنَّ إحرام العمرة لم يَرتفِضْ
(3)
، وإنَّما رفضتْ أعمالَها والاقتصارَ عليها، وأنَّها بانقضاء حجِّها
(4)
انقضى حجُّها وعمرتها، ثمَّ أعمرَها من التَّنعيم تطييبًا لقلبها، إذ تأتي بعمرةٍ مستقلَّةٍ كصواحباتها.
ويُوضح ذلك إيضاحًا بيِّنًا ما روى مسلم في «صحيحه»
(5)
من حديث الزُّهريِّ، عن عروة عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع، فحِضتُ، فلم أزل حائضًا حتَّى كان يوم عرفة، ولم أُهِلَّ إلا بعمرةٍ، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنقُضَ رأسي وأمتشط، وأُهِلَّ بالحجِّ، وأترك العمرة، قالت: ففعلتُ ذلك، حتَّى إذا قضيتُ حجِّي بعث معي رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرَّحمن بن أبي بكرٍ، وأمرني أن أعتمر من التَّنعيم مكانَ عمرتي الَّتي
(1)
برقم (1783) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه البخاري (316) ومسلم (1211/ 111) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
ب: «يرفض» .
(4)
«بانقضاء حجها» ليست في ك.
(5)
برقم (1211/ 112) من حديث عائشة رضي الله عنها.
أدركني الحجُّ ولم أحِلَّ
(1)
منها. فهذا حديثٌ في غاية الصِّحَّة والصَّراحة أنَّها لم تكن أَحلَّتْ من عمرتها، وأنَّها بقيتْ محرِمةً بها
(2)
حتَّى أدخلت عليها الحجَّ، فهذا خبرها عن نفسها، وذاك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، كلٌّ منهما يوافق الآخر، وباللَّه التَّوفيق.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة»
(3)
دليلٌ على التَّفريق بين الحجِّ والعمرة في التَّكرار، وتنبيهٌ على ذلك، إذ لو كانت العمرة كالحجِّ لا تُفعل في السَّنة إلا مرَّةً
(4)
لسوَّى بينهما ولم يفرِّق.
وروى الشَّافعيُّ
(5)
عن علي أنَّه قال: في كلِّ شهرٍ مرَّةً
(6)
. وروى وكيعٌ عن إسرائيل، عن سُويد بن أبي ناجية، عن أبي جعفر قال: قال علي: اعتمِرْ في الشَّهر إن أطقتَ مرارًا
(7)
. وذكر سعيد بن منصورٍ عن سفيان عن ابن أبي
(1)
ك: «أهل» . والمثبت من النسخ الأخرى موافق لما في «صحيح مسلم» .
(2)
«بها» ليست في ع.
(3)
أخرجه مالك (987) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومن طريقه البخاري (1773) ومسلم (1349).
(4)
ج: «لا تفعل إلا مرة واحدة في السنة» .
(5)
في «الأم» (3/ 336)، ومن طريقه البيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 344) و «معرفة السنن» (7/ 46). ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (12872).
(6)
كذا في النسخ. وفي مصادر التخريج: «عمرة» . وفي المطبوع زيادة «اعتمر» في أوله ليست في النسخ.
(7)
لم أقف عليه، ولم أعرف سويد بن أبي ناجية، والمؤلف صادر عن شيخه، ينظر:«مجموع الفتاوى» (26/ 269).