الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علينا ببيان شريعته وعفوه عنا، وقد نبهنا إلى مغبة هذا لنرتدع، ونستغفر، ونقلع عن أهواء النفس، ووسوسة الشيطان، ورحمته بنا من أن نؤخذ بجرمنا فور ارتكابه، وإن كنا نستحقه، وأن الله تعالى من صفته أنه رءوف رحيم، الرأفة انفعال النفس بالرفق والعطف على من يخشى عليه، وهذا بالنسبة للإنسان، أما بالنسبة لله تعالى فهي صفة تليق بذاته الكريمة، وهي تقابل ما عند العبيد، ولكنها تتفق مع صفات الكمال التي يتصف بها الله تعالى، والرحمة لطف الله تعالى في الأحكام ووضعها في مواضعها سواء أكانت خفيفة أم كانت غليظة في عقاب، فالعقوبة - مهما كانت شديدة - من رحمة الله تعالى بعباده، وإن رمي الأبرياء من طاعة الشيطان، ولذا قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
…
(21)
ذكر سبحانه العواقب الوخيمة التي تترتب على ترداد الإفك على ألسنة الناس وإنه يترتب عليه فساد أمر المؤمنين وتشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفي هذه الآية يشير إلى أنه من وسوسة الشيطان، ومن اتباع مسالكه، ونهى المؤمنين عن ذلك صيانة لأنفسهم، ولعقولهم، فقال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا لَا تَتَّبِعوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) تقرأ بضم الخاء وفتحها، وقراءة الجمهور بضمها، وخطوات الشيطان جمع خطوة، وهي ما يكون بين الرِجْلين عند السير، وذلك يتضمن النهي عن السير في مسالك الشيطان، وعبَّر عن طريق الشيطان بخطواته، على أنه تعبير مجازي شبه من يخضع لهواه بمن يتبع الشيطان في خطواته، فيخطو مثله غير متجنب لها، ولا لطريقه.
ثم بين سبحانه سير الشيطان، وأن من يتبعه يتبع الفحشاء والمنكر، فقال عز من قائل:(وَمَن يَتَّبِعْ خطوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) والفحشاء: الأمر الزائد في القبح الذي يتجاوز كل حد، والمنكر: الأمر الذي تنكره العقول، والفطرة المستقيمة، ولا يقبله الناس، ولا يرضاه ذوو الكرامات، والذين يتطهرون في أقوالهم وأفعالهم.
وقوله تعالى (فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)، ليست جواب الشرط، بل هو يومئ إليه، لأنه علة، ويكون مجرى البيان: ومن يتبع خطوات الشيطان فهو منساق إلى الفساد، لأنه يأمر بالفحشاء والمنكر، وعبر سبحانه عن وسوسة الشيطان وإغوائه بالأمر لأنه يستولي على من اتبعه، وكأنه سلطان مسيطر يأمره وينهاه، ولا سلطان على نفس الضال غيره؛ لأنه رضي مسلك الشيطان طريقا، وهو ينتهي لَا محالة إلى الضلال الذي لَا هداية معه قط.
وإن الله سبحانه بفضله ورحمته لَا يترك الناس تحت إغواء الشيطان، ودنسه، ولذا قال تعالى:(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
الزكاة تطلق بمعنى التنمية، وتطلق بمعنى الطهارة، وهنا بمعنى تزكية العقول في النفس، وامتلائها طهرا، وعفافا وإيمانا، أي أنه لولا فضل الله تعالى بالموعظة والهداية وتربية النفوس بالتقوى ورحمته بهدايتكم وقبولكم للحق وتجنبكم مخاوف الشيطان ما طهر منكم من أحد أبدا، وقد أكد سبحانه جواب الشرط وعمومه أولا بـ " مِنْ " الدالة على استغراق النفي للآحاد والجماعة، وأكد النفي أيضا بدخول (مِن) على (أحد)، كما أكده بذكر (أبدا)؛ وذلك لأن الشيطان يأتي النفوس من قبل أهوائها وشهواتها، وشهوات النفس حلوة، ولكنها وبيئة، ولكن الله تعالى لَا يترك عباده جميعا تحت غواية الشيطان الرجيم، فهو يجتبي من عباده من يزكيه ويطهره في قلبه ولسانه ونفسه، ولا يشاء الله تعالى لعبده تلك الطهارة إلا إذا سلك سبيلها، واختار نجدها، فيأخذه إلى ما اختار.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، أي واسع الرحمة والفضل، عليم بمن يستحقها، فيتوجه إليه سبحانه وتعالى بأن يسلك به طريق الهداية والطهارة.
* * *
المعصية لَا تسوغ قطع الرحم، والبراءة من الإفك قال تعالى:
(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
* * *
(وَلا يَأتَلِ) معناها لَا يحلف، من الإلية بمعنى الحلف، وائتلى افتعل من الإلية، ويروى في ذلك أن مسطح بن أثاثة كان ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكان فقيرا مسكينا، ومهاجرا في سبيل الله. وحضر بدرا ولكن زلق لسانه فخاض في حديث الإفك مع قرابته من أبي بكر، الذي كان ينفق عليه لفقره وقرابته، وهجرته، وحضوره بدرا، فلما فعل فعلته، ولاك بلسانه سمعة الصديقة
بنت الصديق مُنِعَ النفقة، وقال: لَا أنفعه بنافعة قط، فنهاه الله تعالى عن ذلك (1) وكان نهيا عاما لكل من يكون في مثل حال الصديق ومثل حال مسطح، وإن السبب يكون خاصا، ولكن الحكم يكون عاما، وهو نهي عن الحلف، وعن المحلوف به، ومؤداه أنه يجب عليه أن يرد نافعته إليه، ويستمر في النفقة ويحنث في يمينه، كما قال صلى الله عليه وسلم:" من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليحنث وليكفر "(2)، ولا تمح أيمان مانعة من الخير كما قال تعالى:(وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ. . .)، أي لَا تجعلوها حائلة بينكم وبين أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس.
(الْفَضْلِ) هنا هو الخلق الكريم الذي يفيض بالخير على الناس، فالمعنى ولا يأتل أصحاب الفضل الذين لَا يشحون بخير على من دونهم، ومن مثل أبي بكر في الفضل بعد النبيين، الذي كان إذا رأى من يفتن في دينه اشتراه من وليه وأعتقه، و (السَّعَةِ)، أي الخير الكثير في المال، وبذلك يكون أولئك الفضلاء يجمعون بين الخلق الكامل والمال الثري، يفيض بخلقه، ويعطي من ماله، يطالب هؤلاء بأن يغفروا زلات من يعطونهم، كما يغفر الله لهم زلاتهم وخطيئاتهم إن كانت، فيقول سبحانه (أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) الاستفهام بمعنى النفي والتنبيه على وجوب الغفران، أي أنه كما أنكم تحبون أن يغفر الله لكم فاصفحوا واعفوا، فإن الجزاء من جنس العمل والوجدان والإحساس، والفرق بين العفو، والصفح، هو أن العفو هو عدم جزاء السيئة بمثلها، ودفع السيئة بالحسنة، والصفح هو محو آثار الإساءة من النفس، وقد أمر الله تعالى رسوله بالصفح الجميل، فقال عز من قائل:(. . . فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، وهو الصفح مع تجافي ما يذكر بالإساءة.
(1) راجع القصة في الموضع المشار إليه آنفا من البخاري ومسلم: وكذلك الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة النور (3104).
(2)
سبق تخريجه.