الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نبات الزرع والشجر، كان إسناد الإنبات إليه سبحانه، لكيلا يظن أحد أن ذلك الإنبات من الأخذ بالأسباب والمسببات، وأنه فعل طبائع الأشياء، وبين اللَّه تعالى أن ذلك الإنبات منه، وهو فوق الأسباب والمسببات، سبحانه بديع السماوات والأرض، والخالق لكل شيء على غير مثال سبق، وقال بعد ذلك سبحانه: أإله مع اللَّه، أي يتساوى الخالق والمخلوق بل أدنى مخلوق، واللَّه خير من أوثانهم، ودل على عدم التساوي بتوبيخهم على أن يجعلوا مع اللَّه إلها آخر، مع هذا التفارق، وأنه لَا يكون المخلوق كالخالق أبدا، ثم قال تعالى:(بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي يعدلون عن حكم العقل، وحكم المنطق، والطريق المستقيم، وكان التعبير بالمضارع لتصوير عدولهم عن الحق إلى الباطل، ومن العقل إلى الهوى، ألا ساء ما يقولون، وما يفعلون.
وقوله بالنسبة لإنبات الحدائق فيه إشارتان بيانيتان.
الأولى: أنه عبر بالإنبات للأشجار مع أنه في آيات أخريات كان يضيف الإنبات إلى الزرع ويعبر عن خلق الأشجار، بقوله تعالى:(فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)، وذكر الإنبات هنا بالنسبة للحدائق ذات الأشجار الوارفة الظلال؛ لبيان عظيم قدرته في أنه ينبت هذه الدوحات والأشجار العظام، ويتعهد من حال النبات، حتى يصير فيحاء ذات بهجة وزينة، ويسر الناظرين مرآها، ويسر الناظرين ثمرها اليانع، وقطوفها الدانية.
الثانية: هي قوله تعالى: (مَا كانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا) كان هي كان الناقصة، ونفيها معناها نفي الكينونة، أي ليس في وجود ولا كيان، أن لكم، أي في قدرتهم، أن تنبتوا شجرها، إنما ينبتها العزيز الرحيم، والخلاق العظيم.
(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(61)
أم: للإضراب الانتقالي، ودالة على الاستفهام المتضمن معنى المعادلة والموازنة، بين اللَّه تعالى خالق الكون وما فيه ومن فيه، وأوثانهم التي يعبدونها.
وإن الإضراب الانتقالي مؤداه أنه انتقال من لوم وتوبيخ إلى لون آخر فيه أشد تأنيبا، وأبعد استنكارا وكلمة (جَعَلَ الْأَرْضَ)، أي خلق الأرض، ومهدها تمهيدا، بحيث جعلها ذات قرار وإقامة، واستمكانا للأحياء يمكنون فيها ويتخذون مساكن، من البناء أو الأخبية، وجعل من خلالها أنهارا أي في أوساطها وأجزاء منها أنهارا مياها عذبة تكون ذات مناظر بهيجة، وتلطف حرارتها، وترطبها، وتذهب بجفافها، وتكون منها المياه العذبة، منها إنبات الزرع وفلق الحب والنوى، والكلأ الذي يأكل منه الحيوان، وتتغذون به، وتكون منه إبلكم التي فيها جمال حتى تريحون، وحين تسرحون.
(وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ) أي جبالا رواسي ثابتة تثبت الأرض، وهي لها كالأوتاد، وتنحتون فيها بيوتا، ويكون فيها مزارع وأشجار ونخيل، بل غابات تحمي الأنفس، كما نرى في جبال الجزائر وجبال الشامات، وفيها جبال جرد وغرابيب سود، أي أن فيها متعة ومنعة، وقوة بأس.
وما في الأرض اجتماع المياه العذبة والمياه التي فيها ملح أجاج، وتجاورهما من غير أن يختلط أحدهما بالآخر، بل يكون العذب الفرات بجوار الملح الأجاج، ومع تجاورهما لَا يختلطان كأن بينهما بقدرة اللَّه القادر القهار، حاجزا يحجز أحدهما ذا الثقل وهو الملح عن الأخر الخفيف، ولذا قال تعالى:(وَجَعَلَ بَيْن الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا) أي جعل بين بحر العذب الفرات والبحر الأجاج حاجزا ربانيا لا يجعل أحدهما يختلط بالآخر، كما قال تعالى:(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20).
هل يستوي خالق هذا، ومبدع الأرض ذلك الإبداع مع أوثان لَا تضر ولا تنفع، ولذا قال تعالى نافيا عنها الألوهية (أَإِلَهٌ معَ اللَّهِ) الاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع، والمعنى لَا إله مع اللَّه، بل هم قوم لَا يعلمون، ومن للإضراب الانتقال وهم لَا يعلمون، أي لَا علم لهم، ويتجدد جهلهم بتجدد أفعالهم، ولذلك كان التعبير بالمضارع الدال على التصوير، وتجدد الفعل بتجدد أفعالهم وإنكارهم.