الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والترتيب والتعقيب، قد يقال كيف كان التدمير عقب الذهاب، وقد لبث موسى فيهم يدعو سنين، ونقول: إن الزمن في ذاته لم يكن طويلا، وإن كان عند الناس طويلا؛ ولأن التكذيب يتبعه لَا محالة التدمير.
وذكر القوم، ولم يذكر فرعون مع أنه الرأس الطاغي، ونقول في الجواب عن ذلك، إنه لولا حاشيته وقومه ما طغى وتجبر، وكذلك الشأن في كل طاغية جبار ملؤه هم الذين يقرونه ويشجعونه.
بعد ذلك ذكر سبحانه وتعالى قوم نوح فقال تعالى:
(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا
(37)
(وَقَوْمَ نُوحٍ) منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر قوم نوح، والرسل هنا يراد بهم نوح عليه السلام إذ إنهم كذبوه، فقد كذبوا رسالة اللَّه تعالى إلى خلقه، فكأنَّهم يكذبون الرسل جميعا الذين جاءوا قبل نوح، والذين جاءوا بعده، لأنهم كذبوا أصل الرسالة الإلهية، ولذا كان العقاب بأن استؤصلوا وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، وكان ذلك بالإغراق الذي اجتث شأفتهم أجمعين، ولم يبق إلا من آمن بنوح، وما آمن معه إلا قليل، وقال تعالى:(وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً)، أي جعلناهم آية معلمة لصدق الرسالة، وهلاك المكذبين الضالين، وقدم للناس على أية إشارة إلى أنه يعتبر بهذه الآية، ومن لم يعتبر فهو لايعد من الناس؛ لضلاله وفساد إدراكه.
(وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا)، أي هيأنا للظالمين بسبب ظلمهم، الذي يشمل الشرك والفساد في الأرض، والاعتداء على الناس، (عَذَابًا أَلِيمًا) أي مؤلما، ففعيل بمعنى اسم الفاعل، كبديعٍ بمعنى البدع، وعبر بالوصف بِالظلم، ليشير إلى أنه سبب العذاب المؤلم.
(وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
(وَعَادًا) معطوفة على قوم نوح، وعاد هم قوم هود الذين كفروا، فأنزل الله بهم عذابه في الدنيا بريح فيه عذاب شديد، كما قال تعالى:(فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24).
وثمود هم قوم صالح أهلكوا بريح صرصر عاتية.
وأما أصحاب الرس، فقد اختلفت الروايات عن السلف في تفسيرها أو من هم، وأصل الرس كما قال الأصفهاني في مفرداته: الأثر القليل الموجود في الشيء يقال: سمعت رسا من خبر، ورس الحديث في نفسي، أي أثره، وروي أن الرس اسم لبئر، وهكذا وردت روايات كثيرة عن أصحاب الرس، وأحسن ما روي في ذلك روايتان هما أن أصحاب الرس وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب الذين دعاهم إلى التوحيد، ومبادئ الأخلاق، وتنظيم المعاملة والعدالة في الكيل والميزان والثانية ما رواه ابن جرير واختاره، وهم أصحاب الأخدود الذين هلكوا بإلقائهم في أخاديد ألقيت فيها النيران، وأصحاب الأخدود الذين هلكوا هم الذين فعلوا بالمؤمنين ذلك كما جاء في سورة البروج في قوله:(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8).
وإن هؤلاء قد بلغوا أقصى غايات القسوة في معاملة المؤمنين، وقد أخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، وذكرهم في هذه المناسبة؛ لبيان عتوهم، وأنهم قد انتقم منهم كما انتقم من فرعون، وكما ينتقم من كل المشركين، وإنا نميل إلى الرواية الأولى، وهي أنهم قوم شعيب؛ لأن سنة القرآن الكريم في قصصه أن يعرض قصة شعيب بعد عاد وثمود، فبمقتضى هذا المنهاج القويم نميل إلى أنه سبحانه وتعالى أشار إلى قصة شعيب بهذه الإشارة.