الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطهر والنقاء، والعمل الصالح المجدي، ألم تر إلى عمر بن الخطاب الذي مكث يكابر ويغلظ في عناد، ويشتد على المؤمنين بضع سنين بعد البعث المحمدي، كيف تاب وآمن وعمل عملا صالحا، ألا تراه قد زالت مآثمه من قلبه وأحل اللَّه تعالى محلها عملا صالحا، فَحَلَّت الأعمال الصالحة ذات الأثر البعيد في الإسلام محل ما كان منه في الجاهلية، ولذا قال سبحانه (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) فالتبديل على هذا هو تغيير ما كان في النفس من أدران السيئات، وإحلال طيبات الأعمال والنيات محلها.
وختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) هاتان صفتان من صفات اللَّه تعالى أنه يغفر السيئات ويسترها، ويرحم عباده بهذا الغفران، وكذلك شأنه الأعلى، شأنه سبحانه يقرب عباده بالغفران والرحمة وفتح باب التوبة لمن أراد من عباده الصالحين.
ثم قال تعالى:
(وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا
(71)
في هذا النص السامي يبين اللَّه تعالى أن من يؤمن تائبا، ويعمل العمل الصالح ضارعا، فإنه يعود إلى اللَّه تعالى راضيا مرضيا، ويركن إلى اللَّه تعالى، وحسبه أنه ركن إلى اللَّه تعالى القوي القهار الغالب، يأمن بجانب اللَّه تعالى شر كل مخلوق، ومتاب - أحسب أنه اسم مكان، أي أنه يعود إلى مكان التوبة وملجئها الحصين الذي لَا يذل من يلجأ إليه، ويجعله حصنه الحصين، وركنه الركين، والفاء في قوله تعالى:(فَإِنَّهُ يَتُوبُ) الفاء واقعة في جواب الموصول؛ لأنه في معنى الشرط كما ذكرنا، وإن ذلك هو الثمرة الكبرى للتوبة.
وقال سبحانه وتعالى في الأحوال النافية لعباد الرحمن:
(وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا
(72)
الزور: هو كل باطل مزور مزخرف بحيث يؤثر في النفس مرآه، وهو زخرف باطل، فيدخل في ذلك اللهو العابث والقول الماجن، والكذب والفحش
وفسوق القول، فعباد اللَّه الرحمن الذين شرفوا بالانتساب إليه لَا يحضرون هذا النوع من الباطل، لأنه من سوق الخطائين الذين تروج بضاعته بينهم، وبهذا تفسر الآية الآية، فلا يشهدون أي لَا يحضرون، فهم لَا يجلسون في مجالس الزور من الأقوال والأفعال، بل تستغرقهم مجالس العبادة، ومجالس الجد والأفعال الحميدة التي تعود بالنفع على الناس، وتدرس فيها الحقائق الكونية والمصلحية، وتروى فيها السنة النبوية، وتعرف فيها معاني الذكر الحكيم، والقرب من رب العالمين.
هذا تفسير للنص القرآني، ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى على أنه احتمالي:" يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين، فلا يحضرونها، ولا يقربونها تحرزا عن مخالطة الشر وأهله صيانة لدينهم عما يثلمه، لأن مشاهدة الباطل شركة فيه، ولذا قيل في النظارة إلى ما لَا تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الإثم، لأن حضورهم ونظرهم دليل على الرضا به، وسبب وجوده والزيادة فيه، لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة، ورغبتهم في النظر إليه، وفي مواعظ عيسى عليه السلام: " إياكم ومجالسة الخطائين " وهذا نظر حسن، واتجاه سليم فإنه من المقررات أن أول الشر استحسانه، وأول الباطل حضوره.
هذا احتمال في معنى الآية وهو معنى حكيم سليم مرشد، وهو يليق بحال عباد الرحمن، وهناك احتمال آخر، وهو أنهم لَا يشهدون شهادة الزور، ويكون الكلام على حذف مضاف، فمعنى (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي لَا يشهدون شهادة الزور وسميت الشهادة في هذه الحال الزور؛ لأنها كذب، وهي تكون في مجالس الظلم أو معاونة للظالم، أو معاونة على الظلم، ويصح لنا أن شهادة الزور التي يروج فيها الباطل، ويُنصر الظالم، وتؤكل أموال الناس بالباطل تكون داخلة في شهادة الزور، وحضور مجالسه.
ويقال للكذب زور لأنه مائل بالنفس عن قول الحق، وكأن طبيعة النفس ألا تقول إلا صدقا، والكذب انحراف بها وميل عن الصراط المستقيم؛ لأن القلب
المخلص يتجه اتجاها مستقيما، ثم ينطق نطقا مستقيما، فينطق بالصدق، ثم يسير في خط الاستقامة إلى أقصى مداه، وهو خط الحكمة والفطرة الإنسانية.
ولقد قال تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) اللغو من الكلام ما لَا يعتد به وهو الذي يورد من غير روية وفكر، ليجري مجرى اللغا، وهو صوت الطير الذي يكون له معنى محدود، وكما يقصر اللغو على القول الذي لَا يكون له قصد معقول يقره العقلاء، كذلك يطلق على الأفعال العابثة، والمقابح التي يلهو بها بعض الناس في جلوسهم على المقاهي، وأهل اللغو من شأنهم أن يعيبوا غير المعيب، ويسخروا من أهل الفضل، ولا يجاريهم إلا من يكون على شاكلتهم في الأفعال والأقوال، ويقطعون الساعات في غير عبادة مقررة، ولا عمل نافع يقصد إليه، فعباد الرحمن لَا يخوضون مع هؤلاء في قول أو فعل، ولذا قال تعالى:(وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) أي مروا معرضين، كما يقول اللَّه تعالى:(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ. . .)، وكراما تدل أولا: على أنهم ينكرونه بقلوبهم لَا ينكرون ما يفعله أهله بألسنتهم، حتى لا يخوضوا معهم في حديث يجرهم إلى أن يجيء على مسامعهم رفث القول وفسوقه، وثانيا: يكتفون بالاستنكار السلبي، وذلك يفعل في النفوس ما لَا تفعله الأقوال، وهو موعظة واستنكار للأشخاص والأفعال، والأقوال، وثالثا: ينصرف إلى نفسه، فيهذبها عن اللغو، وذلك في ذاته دعوة إلى الجد، والابتعاد عن العبث وانصراف إلى المجد.
وسماهم في هذه الحال كراما؛ لأن الكريم يعلو بنفسه عن مواضع العبث والهذر والسخف، يقال تكرم فلان عما يشينه، وإكرم نفسه عن القبح، وفي ذلك إشعار بأن الخوض في العبث أو مشاركة أهله فيه هو مهانة كل المهانة، وحط كل الحطة.
ومن أحوال المؤمن السلبية، وإن جاء بشكل فيه مظهر إيجاب ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: