الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما أحل اللَّه، وأكثر أهل مكة كارهون للحق:(وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ. . .)، وإن هو إلا الهوى سيطر عليهم واتخذوا إلههم هواهم؛ ولذا قال تعالى:
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ
(71)
الهوى ينبعث من مصدرين:
أولهما - الشهوة والسيطرة التي قد تجمح بصاحبها عن مناهج السداد، وموضع الاستقامة، والتي تضل معها الأفهام والعقول.
وثانيهما - سيطرة الأهواء، فيتخيل ثم يخال، وإن هذين الأمرين لَا يقوم بهما أمر صالح للبقاء، فالشهوات نزعات ولا تكون معها إلا لذات وقتية لَا تدوم، بل تنتهي بانتهاء وقتها؛ فلذة الخمر تنتهي بانتهاء وقتها، وكذلك كل لذة جسمية تنفعل بها النفس لَا تدوم، وشهوات الناس مختلفة، فيكون التضاد بين الناس والتنازع المستمر، والتناحر القاتل، كما نرى الآن في أمم أوربا وخاصة أمريكا، ثم الأوهام من شأنها أن تصور ما ليس واقعا كأنه واقع، ويتخيل الشخص، ثم يخال.
هذا هو الهوى، وأهواء العرب، كانت انحرافا فكريا أدى إلى استحسان الشر، وضعفا عقليا أدى إلى اتباع الآباء ولو كانوا لَا يعقلون شيئا، مما أدى إلى تحريم ما أحل اللَّه، وأدى إلى الطواف عرايا، للتخلص من نجاسة الثياب المعنوية، كما توهموا، وأدى إلى قتل أبنائهم ووأد بناتهم، وإلى استباحة أكل أموال الناس بالباطل.
هذه هي الأهواء ما كان معروفا منها بعضه عند العرب، أما الحق فإن مصدره العقل، والعقل يقوم على ثلاثة أمور:
أولها - الميزان بين الأشياء والأفعال فيتخير أنقاها وأثبتها وأصلحها، وأكثرها نفعا.
وثانيها - القسطاس المستقيم الذي يكون ميزان الأشياء، وحكم الموازنة فيها.
وثالثها - أنه يقدر خير الأمور بأنه ما يكون باقيا، ولو كان في آجل. على هذا لَا يمكن أن يكون الحق متفقا مع الأهواء، وخصوصا أهواء العرب
التي أشرنا إلى بعضها؛ ولذا قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَق أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ). أما فساد السماوات فلأنها قائمة على تماسك أجرأهما بأركان قوية منتظمة لَا تتخلف، ولو كانت خاضعة لأهواء أهل الشرك لتزايلت؛ لأن أهواء أهل الشرك تفرق المجتمع، كما كانت الحال بينهم، وأما الأرض فلأنها تعمر باستنباط خيرها، وتعرُّف إصلاحها والغرائز الإنسانية التي تمد النفوس بشهوة الغلب، وشهوة الجنس، وشهوة المال، وشهوة السلطان والتحكم، وإذا حكمت هذه وأشباهها، فإن الحاكم يعجل بفنائه، ولولا رحمة من ربك ببقاء سلطان الحق ولو في الأقوال دون الأفعال، لآذنت الدنيا بخراب، قال تعالى في بيان أن الرسل جميعا جاءوا بالحق وميزانه:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25).
(بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكرِهِم مُعْرِضُونَ) بل للإضراب عن توهمهم أن الحق يساير أهواءهم، وأتيناهم بما بذكرهم الحق، ويبعدهم عن أهوائهم ويذكرهم بمعنى التذكير، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي جئناهم بما يذكرهم، وينبههم إلى خلل تفكيرهم وبعدهم عن الحق وسيطرة أهوائهم (فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) و " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فرتبوا النقيض على نقيضه، وبنوا إهمال التذكير على التذكير، وذلك من ضلال العقول، فرتبوا الإعراض على التذكير. اللهم اكفنا شر ضلال الأهواء، إن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الحق الخالص، لَا يسألهم أجرا، ولا جزاء ولا سلطانا؛ ولذا قال تعالى:
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)