الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ْواللام في قوله تعالى (يَسْتَأذِنكُمُ) هي لام الأمر، والأمر للوجوب إلا إذا كان ثمة ما يخرجها عن معنى الوجوب من نص أو قرينة حال.
وقد نص الله تعالى على حكم الأطفال الذين بلغوا الحلم:
(وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
…
(59)
هذه حال الأطفال الذين يبلغون الحلم، وإنهم إذا بلغوا الحلم صاروا رجالا، وتسميتهم أطفالا باعتبار ما كان، كاليتامى في قوله تعالى:(وَآتُوا الْيَتَامى أَمْوَالَهُمْ. . .)، وكان تسميتهم أطفالا في داخل الأسرة؛ لأنهم كانوا يعاملون معاملة الأطفال، حتى طرأت هذه الحال، والرجال لَا يعدون من الطوافين، ولكن يعدون من الداخلين على البيت الذين يجب عليهم الاستئذان قبل الدخول، ولو كانوا داخلين على آبائهم وأمهاتهم، حتى أوجب النبي على الرجل أن يستأذن على أمِّه بالنص منه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فإن الاستئذان يطلب من الرجال على كل حال، وقال الزهري المحدث: يستأذن الرجل على أمه؛ وذلك لأن الرجال ليسوا من الذين يلازمون البيت، ويكونون من الطوافين؛ لأن هذا إنما يكون للمتخصصين للبيوت لخدمتها، والقيام بواجبات كالمملوكين.
ويبين الله تعالى حال القواعد من النساء، فقال عز من قائل:
(وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(60)
القواعد جمع قاعدة بالتاء، وهي التي لَا تحيض، ولا قدرة لها على العمل، ولا تستخدم عادة في البيوت، وقال بعض اللغويين: القواعد هنا جمع قاعد من غير تاء وهي قعود الكبر، وحذفت التاء ليكون الحذف مميزًا لها عن غيرها، كما حذفت التاء في حامل في حاملة لتتميز عن الحاملة على كتفها كحاملة الحطب.
وإن الآية واردة في النساء القعود عن العمل في البيت اللاتي لَا يرجون نكاحا، أي لَا يطمعن في زواج؛ لأنهن من الكبر العاتي يجعلهن لَا يرجونه، لهذه
السن، ولأنهن في حال لن يقبل الناس على الزواج منهن، وهذه الأوقات التي تكشف فيها عورات غيرهن، لَا عبرة لها عندهن، ولا تعد هذه الأوقات عورات لهن، وليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن، أي يلقين عن أنفسهن ثيابهن، كالخمار ونحوه، مما يتستر به الشواب اللائي يطمع فيهن، ويرجون النكاح لأنهن في سن الزواج، وليس معنى ذلك أن للقواعد أن يتجردن من الثياب، ويكن في البيت عاريات، بل المراد أنهن يضعن بعض الثياب التي يثقل عليهن حملها، ولذا كانت قراءة ابن مسعود (أن يضعن من ثيابهن)(1) أي بعض ثيابهن، والبعضية، وإن لم تكن (من) في القراءات الأخريات ملاحظة فيها، وهي مفهومة من سياق القول.
وقد لاحظ الله تعالى في القرآن ما يكون من بعض العجزة من رغبة شديدة في الزينة ناسيات سنهن وما ينبغي لمثلهن، ولذا قال:(غَيْرَ مُتَبَرِّجَات بِزِينَةٍ) التبرج الظهور بالزينة، أي غير مظهرات الزينة، كان الإسلام تسامح معهن في الزينة، وإن لم تكن في وقتها، بيد أنه لم يرض لهن إكراما لهن بأن يظهرن بها.
وقد فرض الله فيهن الرغبة في الرجال، ولو كان وقتها قد فات، فقال:(وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) السين والتاء للطلب، والمعنى: وأن يطلبن العفة خير لهن، وفي هذا تنبيه كريم إلى ما ينبغي لهن من غير أن يؤذي إحساسهن، وفيه تذكر بما ينبغي، وبما يليق بهن في رفق قول، وقد ختم الله تعالى الآية بقوله:(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، أي علم علما دقيقا هو علم من يسمع، وعليم، فهو محيط بكل شيء علما.
* * *
التعاون في الأسرة
قال تعالى:
(1)(أن يضعن من ثيابهن) ليست من العشر المتواترة.
(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا
مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
* * *
هذه الآية الكريمة واضحة في بيان التعاون في الأسرة في المال وما توجبه النفقات، وكأن مال الأسرة شركة بينهم، وإنها شركة يفرضها التعاون، وسد حاجة المحتاج، بحيث يعطي الغني القادر من فضل ماله ما يسد حاجة الفقير العاجز، وكأنَّه يسد حاجة نفسه، وبذلك تكون القرابة والمودة هي الرابطة بين الناس لَا النظم التي تسلب الغني ملكيته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفسه "(1)، ولا يطمع الفقير في مال لم يكسبه، فيكون أخذه إياه اغتصابا.
وهذه الآية تقرر أمرين، هما ما يؤخذ بسبب القرابة من نفقة، وما يكون إباحة من ذي مال كصديق، أو رجل فاضل أعطاه مفاتحه، وعلى ذلك نقول: إن الآية اشتملت على أمرين، أولهما: نفقة القريب، والثاني: الأخذ من مال قد أبيح
(1) جزء من حديث حجة الوداع كما رواه أحمد: أول مسند البصريين - حديث عم أبي حرة الرقاشي - (19774).
له. وشرط الأمرين أن يكون فقيرا عاجزا عن الكسب؛ ولذلك ابتدأت بذكر ما يومئ عن العجز، والفقر، وقد كان الأمر بالأخذ لَا جناح فيه ولا إثم إشارة إلى أن الإعطاء مودة ورحمة، وتبادل لها بين المعطي والآخذ، ونفي الجناح فيه إشارة إلى الاحتياج، بل الاضطرار.
قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَج حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)، أي ضيق أو إثم، وهذا فريق الفقراء العاجزين الذين يشترط فيهم مع الفقر العجز عن الكسب، ثم قال تعالى:(وَلا عَلَى أَنفسِكُمْ أَن تَأكُلُوا مِنْ بُيوتِكمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ) ولم يذكر في هذا العجز، بل ذكر مطلقا عن العجز، فهذا يدل على أن العجز ليس بشرط بالنسبة لأنفسكم، والجواب عن ذلك هو شرط بالنسبة للجميع، إلا من يعتبر ماله هو ماله كالأب وولده والأم وولدها، فقد قال عليه الصلاة والسلام:" أنت ومالك لأبيك "(1)، (أَن تَاكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) ذكر البيوت مضافة إلى من يأخذ النفقة، فيه إشارة إلى تشابه بيت طالب النفقة والمطلوب منه، فهما كبيت واحد بالنسبة للمستحق للنفقة، إذ هو كبيته لما بينهما من قرابة أوجبت هذا التعاون.
(أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ) ويلاحظ هنا ملاحظتين: أولاهما: أن (أو) ليست للتخيير المجرد، إنما هي تدل على الترتيب الأقرب فالأقرب، فالأول الآباء، فإن لم يكن فالأمهات بأن كان الآباء عاجزين، وهكذا يتوالى الوجوب الأقرب فالأقرب بشرط أن يكون قادرا على الإنفاق على نفسه وغيره.
الثانية: أن هؤلاء الأقارب لوحظ أنهم أقارب ذوو رحم محرم منه تستحق النفقة، وبذلك اشترط الحنفية لاستحقاق النفقة على القريب أن يكون ذا رحم محرم منه، وعدوا الميراث مرجحا ولم يعدوه شرطا أساسيا، بحيث لو كان قريبان أحدهما
(1) سبق تخريجه.
ذو رحم محرم ووارث، يرجح على الآخر إذا كان ذا رحم محرم فقط، وإذا كان وارث كابن العم، وبنت الأخ لَا نفقة على الوارث هنا؛ لأنه ليس ذا رحم.
والحنابلة جعلوا الميراث أساس وجوب النفقة لقوله تعالى: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ. . .)، ولأن الغنم بالغرم، فإذا كان يستحق ميراثه إذا مات، فعليه نفقته إذا احتاج، وكان عاجزا.
هذه هي النفقة بين الأقارب، بقي بيان الآخذ من المال الذي يباح للعاجز، وقد ذكر سبحانه وتعالى حالين:
الأولى: (مَا مَلَكْتم مَّفَاتِحَهُ)، أي بتمكين من المالك، فإعطاؤه المفاتيح دليل على الإباحة
الثانية: الصديق، فهو يأخذ نفقة من مال صديقه.
وإن الأخذ في هاتين الحالتين لَا يكون بإلزام قضائي، إنما يكون بتبرع شخصي من المالك ذي الصلة الوثيقة، سواء أكان نائبا عنه في إدارة أمواله، أم كان صديقا بينهما خلطة تجعل المحبة بينهما مالهما مشتركا.
وقد قال تعالى في تأكيد معنى التعاون، وشركة الأسرة:(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) أي تأكلون مجتمعين، أو أشتاتا جمع شت وهو التفرق، أي تأكلون جماعات وفرادى.
وإن ذلك مظنة الدخول في بيت من تكون النفقة منه، والاستئذان حينئذ واجب، ولذا قال تعالى:(فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) فالسلام هنا سلام استئذان، وقال:(عَلَى أَنفسِكَمْ)، أي أن بعضكم من بعض، فهم أنتم وأنتم هم (تَحِيَّةً) مصدر، أي يحيى بهذا السلام (تَحِيَّةً مِّن عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةَ)، وكانت (مِّنْ عِندِ اللَّهِ) لأنه أمر بها ولأنها يحفها رضا الله وبركته، وطيبهُ.
(كذَلِكَ يُبَيِّن اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تعْقِلُونَ)، أي كهذا البيان الواضح المبين المرشد، بين الله تعالى لكم الآيات المتلوة، أي يأتي لكم بينة واضحة هادية مرشدة (لَعَلَّكُمْ تعْقِلُونَ)، أي رجاء أن تعقلوا وتدركوا ما فيه خيركم وصلاح حالكم، وقيام جمعكم، والرجاء من العبد، أي أن الله تعالى قدم لكم ما يرجى به صلاح أموركم، واجتماع على الحق والهداية والتعاون.
* * *
الإيمان الحق
قال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
* * *
ابتدأت السورة الكريمة بقوله تعالى: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَات لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وأنزل سبحانه وتعالى ما يكون وقاية للأسر، من عقوبات للزناة، والذين يرمون المحصنات الأطهار، ويريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وبينت أمرأ أهم المسلمين جميعا، وهو حديث الإفك، ثم تكلمت في نور الإيمان وظلمات الكفر، ثم تكلمت على عورات الأسرة في داخلها وحماية آحادها، وانتقلت السورة من حماية الأسرة إلى حماية الجماعة المؤمنة، وحمايتها بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا، وطاعة الإمام العادل الذي يخلفه بشورى المؤمنين، واختبارهم من بعده، فقال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ).
(إِنَّمَا) هنا أداة قصر، أي أن المؤمنين حقا وصدقا وحدهم دون غيرهم هم الذين يؤمنون بالله ورسوله، إيمان إذعان وتسليم، لَا إسلام تردد أو تمرد، كضعاف الإيمان المنافقين الذين في قلوبهم مرض النفاق وهو أشد أمراض القلوب، بل إنه داؤها الدوي، وأن يكون في حال تظلهم، ولا يخرجون عنها، وهذه الحال التي عبر عنها سبحانه بقوله (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ).
أي إذا كانوا مع الرسول على أمر جامع لهم كشورى في مصلحتهم المؤمنين، أو دفع ضرر يعمهم إن وقع، أو مداهمة عدو يغير عليهم، أو الخروج لغزوات اضطرت الأحوال للخروج إليها كغزوة تبوك أو نحو ذلك، يجتمعون حوله لمبادلة النظر، ثم يذهبون إليه مجتمعين على كلمة الحق وأمر الرسول، وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقوله:(لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأذِنُوهُ)، فإن هذا الكلام يتضمن اجتماعهم، كأنه مطوى كلمة اجتمعوا، ويكون سياق الكلام، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى: وإذا كانوا معه على أمر جامع ودعاهم اجتمعوا له، ولم يذهبوا حتى يستأذنوه، أي يدخلون في الأمر الجامع مجتمعين غير متفرقين، وقوله تعالى:
(لَمْ يَذْهَبُوا)" لَمْ " لنفي الماضي، وهذا دليل على أنهم اجتمعوا معه، فهو عطف نفي في الماضي على اجتماع قبله.
وما حدود الأمر الجامع؛ حاول أن يضبطه القرطبي فقال نقلا من بعض الأقوال:
المراد به ما للإمام من حاجة إلى جمع الناس لإذاعة مصلحة من إقامة سنة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم، وللحروب، قال تعالى:(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ. . .)، فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك (1).
وخلاصة هذا القول والأقوال التي ساقها من بعد أن يكون أمرا عاما يجمعهم ليتشاور فيه معهم، إذ يكون له أثر في الناس من بعد، ولعلاج حال قائمة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك كما شاورهم في غزوة أحد، وفي غزوة الخندق وكما جمعهم لغزوة تبوك.
وكان خلفاؤه كذلك من بعده، فجمعهم أبو بكر لمقاومة الردة، وجمعهم عمر لتقسيم الأراضي بين الغزاة، أو بقائها تحت يد ولي الأمر العادل، وكما جمعهم لاستشارتهم في خروجه بشخصه إلى الحرب، إذ تكاثر الفرس على المؤمنين، فأرادوا أن يخرج إليهم، فجمعهم، ونهاه عليّ، وبرأيه أخذ المجتمعون رضي الله عنهم أجمعين، وإن الاستئذان لَا ينقص الإيمان، ولذا قال:(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) الفاء للإفصاح (لِبَعْضِ شَأنِهِمْ) بعض أحوالهم الخاصة بهم التي يجدون حرجا عليهم في أن يذهبوا مع الغزاة أو يستمروا مع المجتمعين لأمر ما: (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) الفاء واقعة في جواب (لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ولا يشاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإمام العادل من بعده إلا ما هو خير ومصلحة، فيكون الإذن لمن لا يضر الإذن له، ولمن يعلم حاجته إلى التخلف، ولمن يعلم صدقه، ومن يأذن له يطلب الغفران له، ولذا قال تعالى:(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ) السين والتاء للطلب أي اطلب
(1) الجامع لأحكام القرآن: 12/ 320.