الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض الفقهاء، ومنهما الظاهرية والحنابلة أو بعضهم، وبعض قليل من الشافعية والمالكية والحنابلة وأكثر الشافعية على أن نكاح الزناة ليس بفاسد.
ويجب أن نقول: إن الزانية التي وصف الزنى قائم بها، وإذا تابت فإنها تنخلع منه؛ لأن التوبة النصوح تجبُّ ما قبلها، وكذلك الزاني، فإن التوبة تطهر النفس، والإخلاص في التوبة يوجب الندم، وإن الله هو قابل التوبة، وغفار الذنوب، وكذلك نقرر أنه بالإجماع يجوز الزواج ممن تاب وآمن وعمل صالحا.
وإن الشريعة كما تطهر الأسرة من الزناة تحميها من الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فيعاقب الذين يرمون الطاهرات العفيفات بالزنى ووضعت لهم عقابا رادعا ثمانين جلدة، فقال تعالت كلماته:
* * *
حد القذف
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
(4)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
هذه جريمة القذف، وهو في الشريعة رمي المحصن بالزنى، والمذكور في الآية رمي المحصنات، وقد ثبت بقانون المساواة أن هذا حكم رامي الرجال؛ ذلك لأن قانون المساواة الشرعية يجعل حكم الرجل كحكم المرأة، فإننا نرى التكليف كان في أكثر الأحوال يجيء بمخاطبة الرجال، ثم يدخل النساء بحكم قانون المساواة في التكليف.
وذكر النساء وحدهن، وإن دخل الرجال بحكم قانون المساواة؛ لأن المحصنات يصيبهن ضرر الرمي بالزنا أكثر من الرجل بحكم العرف في الدنيا؛ ولأنها موضع الأمانة الربانية، فصيانتها أوجب، ورميها يكون أشد، ولأن أول رمي كان لأطهر نساء قريش - بعد فاطمة - زوج محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت أبي بكر الصديق، فكان ذكر النساء أولا.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) لم يقل بالزنى، بل لم يذكر المرمى به تحصنا وإبعادًا لألفاظ الشين عن المحصنات الطاهرات العفيفات، وقوله تعالى:(فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)، الفاء هنا كفاء الشرط لتضمن الموصول معنى الشرط، وفيه مع ذلك إشارة واضحة إلى أن رمي المحصنات هو سبب هذا الحكم القاسي، والإحصان يتضمن معاني ثلاثة: أولها: الإسلام، فلا إحصان لغير مسلم ولا مسلمة، وثانيها: الحرية فلا إحصان لعبد، ولا لأمة، وثالثها: ألا يقع في زنى من قبل، أو يكون قد دخل في عقد فاسد بشبهة تسقط الحد، ولا تمنع بقاء وصف الزنى كالعقد على المحارم ونحوه مما هو مفصل في كتاب " الزواج "، فليرجع إليه (1).
والعقوبات ثلاث كما أشرنا:
الأولى: الجلد ثمانين جلدة، ووضحنا المعنى في التعبير بقوله (فَاجْلِدُوهُمْ) من حيث إن المراد ضرب يؤلم الجِلْد، فلا يكون ثمة حاجز يمنع إيلام الجلد كحشية أو نحو ذلك، وهذه عقوبة بدنية تصيب البدن وتؤلمه، وإذا كانت هذه عقوبة ومن قبل عقوبة الزانية فيها قسوة، فإنها رحمة بالجماعة المؤمنة من أن يفشو فيها الزنى، ويشيع، وفي ذلك فتنة وخراب وفساد كبير، وضياع للأمم، وللنسل، وخيانة للأمانة التي أودعها الله أصلاب الرجال، وأرحام النساء.
الثانية: إهدار أقوال القاذفين بألا تقبل لهم شهادة في قضاء، وهذا قوله تعالى:(وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) والأبدية توجب ألا تقبل لهم شهادة مطلقا: تابوا أو لم يتوبوا، وهذا ما قرره الحنفية وأكثر الفقهاء، وقرر الشافعية أن التوبة
(1) ارجع إلى كتاب " عقد الزواج وآثاره " للإمام محمد أبو زهرة.
النصوح تنهي هذه العقوبة؛ لأدن التوبة المقبولة تجبُّ ما قبلها من المعاصي؛ ولأن استثناء التوبة في الآية:
(إِلَّا الَّذِين تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) جاء بعد (لا تَقْبَلُوا)، والحكم بالفسق، فيشمل الاستثناء منهما لَا من أحدهما، ونحن نميل إلى ما فهمه الحنفية، أولا لأن النص على الأبدية يمنع الاستثناء؛ ولأن (وَأُوْلَئِكَ هُم الْفَاسِقُونَ) جملة مستقلة، والجملة " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " قد انتهت، فلا يتعلق الاستثناء بها، ولأن هذا هو الذي يلائم أنها عقوبة، ولأن إشاعة الفاحشة أعظم جرائم اللسان، فيجب أن تتعلق العقوبة به.
العقوبة الثالثة: الوصف بالفسق في قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وهذه هي التي دخلها الاستثناء؛ لأنها في جملته والحكم بالفسق اقترن به الاستثناء، فخرج المستثنى من حكم المستثنى منه.
وشرط تحقق حد القذف، ألا يأتي من يرمي بالزنى بأربعة شهود هو منهم، وبعبارة أدق بثلاثة معه يقرون قوله، ولذا قال تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) وكان التعبير في العطف بـ (ثم) الدالة على التراخي فيه إشارة إلى بعد الحصول على ثلاثة يشهدون معه، فإن إثبات الزنى بأربعة عسير، إلا أن يكون فعلا علنيا، ولا يحدث ذلك إلا في أفحش الأمم فجورا كأهل أوروبا وأمريكا.
والرمي - لكي يقام حد القذف - يجب أن يكون رميا صريحا بالزنى حتى يقول الفقهاء إنه رآه يضع إحليله في فرجها كما تضع الميل في المكحلة، أو نحو هذا التعبير.
ولو عَرَّضَ لَا يكون رميا بالزنى، ولو كان التعريض كالتصريح وضوحا، وقد رُمي المغيرة بن شعبة الذي صار نصيرا لمعاوية، فشهد ثلاثة من الأربعة بالرمي الصريح، وعرض زياد ابن أبيه الذي ألحقه معاوية بنسبه لم يصرح، فَعَدَّهُم عمر بن الخطاب الذي كان يقضي في الأمر بنفسه، قاذفين، وعاقبهم عقوبة الجلد.
وما كان ذلك إلا ليحمل الناس الذين يرون تلك الجريمة البشعة ألا ينطقوا بها، حتى لَا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويشيع الترامي بالزنى، فيستهين الناس به.
ثم قال الله تعالى في وصف القاذفين (. . . وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
الإشارة إلى الذين يرمون المحصنات، والإشارة إلى الموصوف بصفة أو القائم بعمل، بين أن ذلك العمل هو سبب الحكم، فالقذف سبب الحكم بالفسق؛ لأنه في ذاته فسق في القول، وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم بفسقهم أولا: بالجملة الاسمية، وثانيا: تضمير الفصل " هم "، وثالثا: بجعل الفسق وصفا لهم، ورابعا: بقصرهم على الفسق، أي أنهم لا يخرجون من الفسق، فهم في دائرته لَا يخرجون عنها، فهم في شر مستمر دائم لا يخرجون عن دائرته قط إلا إذا تابوا، ولذا قال تعالى:
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
الاستثناء من الحكم باستغراق الفسق؛ لأن رحمة الله تتسع للعصاة الذين أذنبوا، ولذلك ترفع عن القاذفين عقوبة عدم قبول شهادة، وإن ذلك هو الذي يتفق مع المتبادر من السياق البياني للقرآن الكريم؛ إذ إن الأمر بعدم قبول الشهادة في آية منفردة عن هذه الآية، وهي أمر بهذا العقاب معطوف على أمر بالعقاب البدني، وهما في جملتين إنشائيتين، والحكم بالفسق في جملة خبر.
والرأي الذي في المذهب الشافعي الذي يجيز قبول الشهادة إن تابوا، قال: إن الاستثناء من الآيتين معا، وقد قلنا: إننا نميل إلى رأي الجمهور في الاستثناء من الحكم بالفسق فقط، لذكر كلمة (أَبَدًا) وما كان قول الله لغوا، ولأنه المتبادر.
ولأن منع قبول الشهادة لحق الناس ولصيانة مجلس القضاء.
والاستثناء هو قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) فالتوبة هي الإقلاع عن هذا والعزم على ألا يعود إليه، والندم على ما وقع، وذلك بالشعور بالحسرة لوقوعه، ولابد من الإصلاح بدل الإفساد والتخريب، فالذي تغير الفسق،
وذلك بأن يكون صالحا، وخصوصا أن الله جل جلاله سجل عليهم وصف الفسق، فلا يزيله إلا وصف الإصلاح.
وبين قبول توبتهم عن الفسق، فيقول عز من قائل:(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ) وقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ غفُورٌ رحِيم) دليل على قبول التوبة؛ لأن الفاء كالواقعة في جواب الشرط، لتضمن التوبة والإصلاح معنى الشرط، والمعنى فإن الله يقبل توبة هؤلاء الفاسقين لأن الله غفور رحيم يغفر الذنوب لمن يتوب من عباده، ويعفو عن السيئات، وذلك رحمة بعباده.
ونقرر أخيرا أن العقوبة بعدم قبول الشهادة أمر دنيوي نظم الله تعالى أهلية الشهادة، والحكم بها، وأما الغفران فأمره إلى الله تعالى، وهو الغفور الرحيم.
* * *
اللعان
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
* * *
روى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل يجد الرجل مع أهله وإن قتله قتلتموه، وإن تكلم ضربتموه، وإن سكت سكت على غيظ اللهم بين "(1)؛ فكانت
(1) عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: إِنَّا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَتَكَلَّمَ، جَلَدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَلَ، قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ، سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، وَاللهِ لَأَسْأَلَنَّ عَنْهُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ". . الحديث. رواه مسلم: اللعانَ باب (2748)، كما رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد.
هذه الآيات علاجا لذلك وشفاء لغيظه، ورحمة بالناس، وخاصة بالأسرة الإسلامية: لتقوم على الاطمئنان النفسي، والثقة التي تكون بين ركنيها، وهما الزوجان، ولصيانتها عن القالة.
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ)، أي لم يكن شهداء غيرهم ولم يذكر عددا في الرمي، للإشارة إلى ما ينبغي، وهو ألا يعلم أحد بما يلاحظه على زوجه في هذه التهمة، فأسرار الأسرة لَا يصح أن تعلن على الملأ فلا يُسأل: مَنْ شهودك الذين يشهدون بصحة قولك، ولا يقدم هو تهمته، فيعفيه حكم اللعان من تقديم شهادة أو المطالبة بأي شاهد.
وسميت العقوبة عقوبة اللعان، لما اشتملت عليها بعض الأيمان بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وكلمة (شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ) الشهادة تطلق، ويراد بها الحضور، ولعل هذا هو المعنى الأصلي، وتطلق ويراد بها الإقرار كقوله تعالى:(. . . وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا. . .)، وتطلق ويراد بها الشهادة، وكلمة أشهد بالله تتضمن معنى اليمين، وقال بعض اللغويين: إن كلمة (أشهد) بذاتها من غير اقترانها بكلمة (بالله) تتضمن معنى اليمين.
وكلمة: (وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ) هي جمع شهيد أو شاهد، الظاهر أنه ليس معهم شاهد يشهد إلا أنفسهم، لأنه لم يحضر سواهم، أو لم يتقدم للشهادة أحد سواهم، وأنفسهم مستثنى مفرغ من (شهداء)، أي لم يشهد في الرمي إلا أنفسهم، وقد ذكر الله أربع شهادات (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَات بِاللَّهِ إِنَّه لَمِنَ الصَّادِقِينَ)، ونرى أن الشهادة قد اقترنت بالله فكانت الشهادة يمينا، فيحلف - أربع مرات متتالية (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)، وقد أكد صدقه في يمينه بثلاثة مؤكدات: أولها (إنَّ) التي تفيد التوكيد، واللام المؤكدة دخلت عليه، والثالثة وصفه بأنه من الصادقين، أي من زمرة أهل الصدق، وجماعتهم، وهم المتقون الأبرار.
والشهادة الخامسة، أي اليمين الخامسة يحلف بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، أي يحلف بأن الله تعالى ينزل عليه لعنته إن كان من الكاذبين، فهو يوثق