الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، فالوصول إليه قريب سهل، والصراط هو الطريق المستقيم، ولقد شبه اللَّه تعالى الحق من حيث إنه أقرب طريق للوصول إلى اللَّه تعالى، فإن اللَّه هو الحق، وطريقه الحق، ورسالته الحق، وأكد اللَّه تعالى أن رسوله يدعو إلى الحق، وأن صراطه هو المستقيم بمؤكدات:
أولها - " إن " المؤكدة الدالة على التحقيق.
والثانية - اللام في خبرها.
والثالثة - الجملة الاسمية.
وهنا نجد تفرقة واضحة بين الحق الذي يدعو إليه النبيون، والهوى الذي يدعو إليه المشركون، فاللَّه يدعو ورسوله إلى طريق مستقيم يتفق مع العقول ولا اعوجاج فيه، ولا أمت، يرتفعون فيه وينخفضون، بينما الأهواء متفرقة المخارق متفاوتة في طريق يتنازعون فيها أمرهم.
وإن هؤلاء يتنكبون الصراط المستقيم؛ ولذا قال تعالى:
(وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
(74)
يقال: نكب عنه أي: مال عنه وانحرف إلى غيره، والصراط هو الصراط المستقيم، وقد مالوا عنه إلى مثارات الشيطان، فالصراط المستقيم هو صراط الله تعالى كما قال تعالت كلماته:(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153).
وقد وصف اللَّه سبحانه الذين لَا يؤمنون بالآخرة بالميل عن طريق الحق؛ وذلك لأن الذين لَا يؤمنون بالآخرة ماديون لَا يؤمنون إلا بالمادة، والإنسان روح كماله في أن يؤمن بالغيب، ولذلك كان من أوصاف المؤمنين: الإيمان بالغيب، وإن الذين لَا يؤمنون بالغيب يحسبون أن الحياة الدنيا هي كل شيء فتسلط عليهم أهواؤهم وشهواتهم، والشهوات مردية، والأهواء فاتنة النفوس، والذين لَا يؤمنون
بالآخرة يحسبون أنهم خلقوا عبثا، وأنه لَا جزاء لمن أحسن، ولا عقاب على من يسيء، كما قال تعالى:(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).
* * *
يذكرون الله في الشدة ولا يذكرونه في الرخاء
قال الله تعالى:
(وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
* * *
إن من شأن من لَا يؤمن باللَّه واليوم الآخر، أن يكون إحساسه خاضعا للساعة التي يكون فيها لَا ينفذ ببصيرته إلى ما وراءها فيقول في كل شيء: ما هي إلا حياتنا الدنيا، ولا يفكر إلا في الحالة التي تظله.
ومن شأنه أنه إذا نالته شدة أحس بسلطان اللَّه تعالى، وأنه كاشف الضر، فإذا زال عنه الضر عاد إلى كفره، وهذا المعنى بصوره قوله تعالى:(وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ).
لقد تضرع المشركون لبلاء نزل بهم فرقَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال اللَّه تعالى مبينا سنته فيهم وفي أمثالهم:
(وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
أي لو غمرناهم برحمتنا في وقت شدتهم، فأزلنا عنهم الغم، وكشفنا الضر من مرض أو بلاء لاستمروا لاجين في ظلمهم الطاغي يعمهون، الكشف كناية عن ذهاب الضر؛ لأن الضرر يكون كالغمة، وكشفها إزالة كربها، وما المراد من الرحمة وكشف الضرر أهو زواله بعد النزول، أم أنه يستمر في الرحمة بأن يتمتع بنعمة الصحة والعافية وعدم وجود الضرر؛ إن الآية تحتملهما، وإن الرحمة هي التمتع بمتع الحياة، وعدم نزول الضرر، بل هو مكشوف عنها كل ضرر يحتمل أن يوجد، ويكون المعنى أن النعمة تغرهم فيكفرونها، وعدم نزول ضرر بهم كذلك، فيستمرون في حالهم لاجِّين فيها و (فِي طُغْيَانِهِمْ) أي في ظلمهم الطاغي (يَعْمَهُونَ)، أي يترددون ويتحيرون، فإن الطاغي متردد متحير دائما، إذ إن للفطرة العادلة صوتا وإن لم يكن مجلجلا، والظلم لجلج دائما، وإذا رأيت الظالم يعنف دائما، فاعلم أن ذلك لإسكات الصوت الخفي الذي ينبعث خافتا ليسكته.
وعلى الاحتمال الآخر، وهو أن هذا يكون بعد نزول ضرر وكشفه، فإنه واضح، ولكن نحن نرجح الأول لقوله تعالى:(لَلَجُّوا) - إلى آخره؛ لأن اللجاجة استمرار الحال قائمة، والشدة فيها، ويكون المعنى أن استمرار النعمة عليهم تطغيهم بالظلم، وتغريهم بالشر.
(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
الضمير في قوله: (أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ) يعود إلى مشركي مكة الذين كانوا يعاندون النبي صلى الله عليه وسلم، أو يعود إلى الكفار عامة من حيث إنه بيان لحال الكفار، في أنهم إذا نزلت بهم جائحة أو شديدة خنعوا في وقت نزولها، وما استكانوا لها وما تضرعوا لها وما تضرعوا بعدها وآمنوا. كان تفسير الزمخشري على أن موضوع القول، هم كفار مكة نزلت بهم مجاعة، كما جعل موضوع الآية السابقة والآية التالية أهل مكة، وذكر أن ثمامة بن أثال الحنفي منع الميرة عن أهل مكة، وقال: لا أعطيكم حبة حنطة إلا أن يأذن رسول اللَّه، فأخذهم الله تعالى بالسنين فجاء أبو سفيان إلى رسول الله في المدينة، وقال له: أنشدك اللَّه والرحم، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين. فقال محمد صلى الله عليه وسلم بلى، فقال: قتلت الآباء، وجوعت الأبناء فنزلت هذه الآيات الثلاث (1).
وربما يكون هذا الكلام مستقيما لو كانت الآيات بعد غزوة بدر، وبعد الغزوات كلها إلى الحديبية، ولكن السورة كلها مكية ونسقها مكي، فكيف تجيء آية بمعان مدنية لم تتحقق إلا في المدينة، ولم يثبت أن هذه الآيات نزلت بالمدينة استثناء من السورة.
ولذا نقول: إن الآيات الثلاث عامة في وصف غير الكفار في كفرهم من أنهم يخنعون عند الشدائد، ويعودون إلى الاستكبار، فيخنعون، ثم يتمردون، اقرأ قوله تعالى:(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135).
فاللَّه جل علاه كان ينزل الشدائد على الكافرين، فيذلون عند نزولها، ولكن إذا انكشفت الغمة عادوا إلى كفرهم وطغيانهم، كما رأينا في فرعون وملئه، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن ذلك شأن كل الكافرين يكشف اللَّه تعالى عنهم الضر إذا أصيبوا به، فيخنعون في وقته، ثم يعودون إلى كفرهم بعد كشفه.
(1) ذكره بنحو من ذلك: الطبري في جامع البيان:18/ 34، من رواية ابن حميد عن ابن عباس، وراجع سيرة ابن هشام: أسر ثمامة بن أثال الحنفي وإسلامه.