الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن من كانت هذه أحوالهم يظنون التقصير في ذات أعمالهم، ويترقبون العقاب، ويغلب عليهم الخوف، ولذا يقولون:
(رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
لقد توقعوا النار وأيقنوا بعذابها، وعملوا ما يجنبهم إياها، ولكنهم مع ذلك أيقنوا أن أعمالهم لَا تكفي لتجنبهم، فضرعوا إلى ربهم أن يصرفها عنهم عالمين أن الجنة من فضل اللَّه، وليست بعمل عملوه ولكن برضا من اللَّه عما عملوه، قال تعالى:
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) والتعبير بالمضارع يفيد أن هذا حال ملازمة لهم يكررونها دائما، بالخضوع والخشوع والحذر الدائم المستمر، فهم في حذر دائم مستمر، فيكونون مع الله بحذرهم لَا يفترُون، (إِنَّ عذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) أي كان أمرا ملازما، فالغرام هو الأمر الملازم الذي يكون خسارا وشرا، ولذا فسر بعض التابعين الغرام بالشر الملازم وكل غرام يزول عن صاحبه أو يفارق صاحبه إلا غرام جهنم، وإن المؤمن الحق يؤتي اللَّه حقه، ولا يحسبه قد أوفى، ولذا قال تعالى:(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ. . .).
(إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا
(66)
ساءت: بمعنى بئس، فهي لذم جهنم، والمستقر هو مكان الاستقرار، والمقام هو مكان الإقامة، والمعنى بئس الورود إليها على جهة الاستقرار، والإقامة فيها، والجمع بينهما للإشارة إلى أنه ليس استقرارا عارضا ولكنه إقامة دائمة.
بعد أن ذكر حال عباد اللَّه مع اللَّه، ومع الناس أخذ سبحانه وتعالى يذكر حالهم في أنفسهم، ودنياهم وأسرهم، فقال عز من قائل:
(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا
(67)
الإنفاق هو الصرف فيما يقيم الأود ويدفع الجوع، والإسراف هو الإنفاق في غير الحاجة بالزيادة عليها، والإسراف المنهي عنه هو الإنفاق في غير حق للَّه أو
للناس أو لنفسه، ولقد قال ابن عباس:" من أنفق مائة ألف في حقه فليس بمسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو مسرف، ومن منع من حق عليه قتر ".
وظاهر الآية أن عباد الرحمن قد أخذوا بقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)، والقتر هو التضييق على النفس بحيث يكون في قدرة، ويحرم نفسه من أقل مطالب الحياة، أو يضيق فيها، والإقتار الفقر أو الضيق في المادة، كما قال تعالى:(عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ. . .)، ومعنى الآية أنه ينفق في حلال بمقدار طاقته وقدرته، ولا يضيق على نفسه في الحلال، (وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا) أي عدلا بين الإسراف والقتر.
وإن النص الكريم يفهم منه أمران: أحدهما - ألا ينفق في حرام قط، وألا يضن عن حلال موجود إلا تربية للنفس وتهذيبا، وفطما لها عن الشهوات، ولذا كان عمر رضي الله عنه يعد من يطلب كل ما يشتهى مسرفا، لأنه إذا حق الأمر لا يستطيع قدع نفسه عن شهواتها.
الأمر الثاني - أن الإنفاق بين الإسراف والقتر يختلف باختلاف أحوال الأشخاص، فإذا كان الرجل كسوبا عليه أن ينفق في الحلال والجهاد بمقدار كسبه وطاقته ما دام ينفق في مطلوب، وما دام كسبه واسعا، ولقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر كل موفور ماله لأنه تاجر كسوب، يعرف مواضع الكسب والخسارة، ولم يقبله من غيره، وقد قال تعالى:(وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ. . .)
، أي السهل اللين الذي لَا يجهد ذا المال إنفاقه ولا يصعب عليه.
هذه أحوال إيجابية هي التي صورت شخصية عباد الرحمن والتي كونت فيهم الإيمان والعمل الصالح، والجمع بين سلامة القلب، واستقامة العمل، وتكوين الإنسان النافع، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك ما يتجنبونه لكيلا يكون ما يعوق هذه الأخلاق العالية، فقال تعالى:
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
إن أولئك الأبرار الذين رضي اللَّه سبحانه وتعالى أن يضيفهم إلى ذانه العلية، فقال وعباد الرحمن، قد اتصفوا بالكمالات البشرية فهم لَا يستعلون على الناس، ويرفقون بهم، ولا يشاكسون بل تكون علاقتهم بالناس دائما أمنا وسلاما، وامتلأت قلوبهم بالتقوى والخوف من العذاب، والذين قد اتزنوا في حياتهم لا يسرفون ولا يقترون، أولئك فد اتصفوا بصفات، وهي ذاتها تحمل جزاء، فالكريم إذا اتصف بمعالي الصفات، كان جزاؤه هو هذه الصفات ذاتها، وهي نعم الجزاء، ولذا لم يذكر سبحانه وتعالى جزاءها، وإن كان لها الجزاء الأوفى.
وقد ذكر سبحانه ما اجننبوه، وهو كبريات المساوئ الإنسانية، كما أنهم تحلوا بأعلى المناهج الكمالية، فقال تعالى:
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ).
وهذا أول معصية تحط من قدر الإنسان، وتنزل به إلى أكبر المهاوي الإنسانية (يَدْعُونَ) يعني يعبدون، لأن العبادة دعاء للَّه تعالى وضراعة إليه، وتسليم كل أمورهم في جنب اللَّه، والدعاء مخ العبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم، والإنسان يهبط في درجة الإنسانية إذا عبد غير اللَّه، وأي كرامة إنسانية لمن يعبد حجرا لَا يضر ولا ينفع، أو يعبد إنسانا مثله، أو يعبد ما يصوره وهمه كالملائكة يتصور أنها تعبد، أو نارا، أو غيرها، إن هذا انهواء إنساني، ومن يعبد شيئا من هذا، إنما يعبد وهما تدفع إليه شهوة منحرفة، فقد اتخذ إلهه هواه.
هذا هو الانحراف الأول الذي تجنبه عباد الرحمن، أما الانحراف الثاني الذي تجنبوه فقد نفاه اللَّه تعالى عنهم بقوله عز من قائل:(وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) وهذا وصف للعاصين، وهو المشاكسة التي تؤدي إلى القتل، فهذا مقابل للسلام في قوله تعالى:(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا)، وقوله تعالى:(إِلَّا بِالْحَقِّ) الجار والمجرور متعلق (لا يَقْتُلُونَ) الحق هو الأمر الثابت الذي يسوغ القتل من اعتداء أثيم، أو زنى أو رِدَّة بعد إيمان، وهذا النص يفيد أن