المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تطهير النفس من المال الخبيث - زهرة التفاسير - جـ ٢

[محمد أبو زهرة]

الفصل: تطهير النفس من المال الخبيث

تطهير النفس من المال الخبيث

ص: 568

(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‌

(188)

* * *

بعد أن بين سبحانه وتعالى الصوم وما فيه من تهذيب النفس - بين سبحانه وتعالى أن من التهذيب النفسي أو بث التقوى في روح الجماعة الإسلامية نزاهة المال عن الخبث كنزاهة النفس؛ ولذا عطف على الأوامر والنواهي الخاصة بالصوم النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، فقال تعالى:(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بالْبَاطل وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ).

الواو هنا عاطفة على ما سبق من إباحة ونهى، في قوله، (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ) وما تبع ذلك من صيغة أمر تبيح الأكل والشرب، ونهى عن المباشرة، وجاء النهي بعد ذلك عن أكل مال الناس بالباطل، لأنه من جنس الأوامر والنواهي السابقة، فإذا كانت لنزاهة النفس وطهارتها، فالنهي عن أكل مال الناس بالباطل، لنزاهة النفس والمجتمع وطهارته من أسباب النزاع، فالنواهي تتدرج في الخصوص الإسلامية في هذه الآيات من إبعاد نفوس الآحاد عن الإرجاس في العبادات، إلى النهي للجماعة كلها عما يفنى الجماعات من أخذ المال بالباطل؛ لأنه قتل لها كما قال تعالى في آية أخرى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُمِ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ منكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بكُمْ رَحيمًا).

فأخذ أموال الناس بالباطل، وشيوع ذلك، واستمراؤه يقتل الأمة؛ لأنه يشيع فيها الفساد، ضياع الحقوق، وألا يحترم العدل، ويسود الظلم، وبذلك تفنى الأمم، وتذهب قوتها أمام من يتربص بها الدوائر.

ص: 568

وقوله: (وَلا تَاكلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) أمر عام للجماعة الإسلامية، بأن يكون التعامل المالي بينها على أساس من احترام كل حق الآخرين، وألا يأخذ مالاً إلا بحقه، فلا يأخذه بربا أو غش أو تدليس أو بميسر، أيا كان شكله، ولا بسرقة أو غصب.

وعبر سبحانه وتعالى عن الأخذ بالأكل؛ لأن أظهر مظاهر الانتفاع بالمال الأكل حلالا أو حراما وهو أشد ما يطلب المال لأجله، ولأن الأكل إن لم يكن مصدره حلالا كان كالنار وتدخل بطن الآكل.

وقال تعالى: (أَمْوَالَكم) للإشارة إلى أن مال الآحاد مال الأمة، إن نما قويت، وإن ضعف ضعفت، وإن كان حلالا كان طيبا، كان عِزا، والإشارة إلى وجوب التعاون بين الناس في جعله لخير الجماعة، وتنميته لعمومها، وللناس كافة مع بقاء كل ملك كان على ملكيته لقوله صلى الله عليه وسلم:" لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه "(1).

وقوله تعالى: " بينكم "، أي متبادلا بينكم منتقلا من حيز إلى حيز بالحق، وفى ذلك إشارة إلى أنه لَا يصح أن ينقل بينكم إلا بالحق، فلا يصح أن ينتقل من حيز إلى حيز إلا بالحق ولا يجوز أن ينتقل بالباطل، سواء أكان برضا كالربا، والبيوع الربوية وكالميسر، والعقود التي تشتمل عليه، وغير ذلك من العقود التي جاءت على غير ما أمر به الشرع، أم كانت بغير رضا صحيح كامل، كالغصب والسرقة والغش والتدليس والتغرير، فإن أخذ المال بهذا الشكل لَا يجوز مطلقا؛ لأنه غير مبني على علم صحيح فلا يكون الرضا كاملا.

وقال تعالى بعد ذلك: (وَتدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ) هذا معطوف على النهي، فالنهي منصب على أكل مال المؤمنين بينهم، وعن

(1) رواه أحمد في مسنده عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه، في حديث خطبة الوداع الطويل، وأورده أبو يعلى بلفظ المؤلف دون زيادات - عنه أيضا - في باب مسند أبي سعيد الخدري، ج 3 ص 140) 1570)، والدارقطني عنه ج 1 ص 21 (2843)، كما أورده الدارقطني من رواية أنس رضي الله عنه (2842).

ص: 569

الإدلاء إلى الحكام، وقد وردت قراءة أُبيّ بزيادة " لا "، وهي أقرب إلى أن تكون تفسيرا، ومهما يكن فإن النهي ثابت عن الإدلاء، كالنهي عن الأكل؛ لأنه ينتهي إلى أكل للمال بالباطل، فالآية تنهى عن الأكل الظالم سواء أكان في ضمن التعامل الآثم بينكم، أم كان بالاستعانة بالحكام، بتضليل القضاء، أو بتحويل الحاكم عن الإنصاف بسحت من المال يقدم.

والإدلاء في أصله إلقاء الدلو في الماء ليحمل الماء إليه من البئر، أو من حفرة فيها ماء، ثم أطلق على إرسال أي شيء يأتي بما يفيد، وأطلق على الذي يحتج على غيره، أدلى بحجته لأنه أرسلها، ليأخذ الحق من غيره، ويقال أدلى بنسب إنما اتصل بالنسبة.

ومعنى أدلى إلى الحكام بالمال، أي أنهم يقدمونها للحكام الآثمين، من نسقه الذين يجلسون في مناصب القضاء، أو الحكام الذين يملكون العطاء والمنع، أو يملكون القسمة بين الناس، ومعنى الإدلاء بالمال على هذا تقديم المال لهؤلاء ليعدلوا بهم عن قسمة الحق إلى القسمة الضيزى التي تمنع الحق، وتقرر الباطل. . والرشوة لها صور شتى، فمرة تكون بإِعطاء المال لتحول من هو في منصب القضاء عن العدل، أو بالإهداء، أو بالضيافة، أو بأداء الخدمات حلالها وحرامها، أو بمقارضة الظلم، كأن يظلم في قضية لمجلس في منصب القاضي، ليظلم في قضيته وكل ذلك استخدام للمال، أو ما يقوم مقامه من أداء أمور تقوم بمال أو لَا تقوم بمال وفيها نفع واضح.

هذا تفسيو قوله تعالى: (وَتُدلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لتَأكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإِثْم) أي أكلا متلبسا بالإثم، وأنتم تعلمون أنه إثم، لَا حق لكم في أكله، وهذا تَاكيد لمعنى الإثم والظلم واكل أموال الناس بالباطل، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لعن الله الراشي والمرتشي "(1).

(1) " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي، رواه الترمذي. الأحكام - ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم (1257) عن عبد الله بن عمرو، وقال: حديث حسن صحيح، كما رواه أبو داود، وابن ماجه، وأخرجه أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص (6246).

ص: 570

وهناك تخريج آخر لقوله تعالى: (وَتُدلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لتَأكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإِثْم) بأن المراد بالإدلاء بها الخصومة بشأنها، والترافع في أمرها، وأنت تعلم أنك آخذها بغير حق، ولكن لَا حجة لخصمك على أن ما في يدك سلطانك عليه بالباطل، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية:(وَتُدلوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) في الرجل يكون عنده مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال ويجاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه.

فهؤلاء رشوا من هو في منصب القضاء، ولكن يضله ليأكل مقدارا من أموال الناس بالإثم، فكلمة فريق معناها مقدار قطعه من مال الناس، وهو يعلم أنه إثم.

ومن هؤلاء من يلحن بالحجة لضل الحاكم، وقد روت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ألا إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار "(1).

هذان تخريجان لمعنى النص الكريم (وَتُدلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) وإن الإدلاء لتحويل الحكام عن الحكم يكون بسحت من المال يقدم لحكام السوء، فيحولهم عن الحق إلى الباطل، وإما بحجة براقة، أو نقصان في دليل الخصم يتحولون به مخطئين من الحق إلى الباطل، ويصح الجمع بين التخريجين إذ لَا معارضة بينهما. والحكام هم المنفذون للأحكام.

* * *

(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأحكام - موعظة الإمام للخصوم (6634)، ومسلم: الأقضية: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (3231).

ص: 571