الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فنزلت هذه الآية. وفي رواية أخرى أنه حاول إكراههما فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الأنصاري: يا رسول الله يدخل بعضي النار وأنا أنظر إليه! فنزل قوله تعالى: (لا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ)(1).
وقد كان المسلمون يسيرون على هذا المبدأ وهو (لا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ) ويروى في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمدًا بالحق، فقالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليَّ قريب. فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اشهد، وتلا (لا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَي).
* * *
(1) رواه ابن جرير الطبري (4539) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى أبو داود: الجهاد - الأسير يكره على الإسلام (2307).
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
…
(257)
لقد ذكرنا في الآية السابقة أن الطريق للإيمان هو الكفر بالطغيان، بالامتناع عن إجابة كل دعاة الشر من كبراء متجبرين، وحكام مسيطرين بأوهام باطلة، وهكذا، وأن من كفر بالطاغوت فقد آوى إلى ركن شديد، إذ لجأ إلى الله العلي القدير، ومن بقي تحت سلطان الطاغوت من ملوك عاتين، ورؤساء ضالين، فقد آوى إلى ما لَا يعتمد عليه؛ لأنه ركن هاو يهوي بصاحبه في نار جهنم.
والولي فعيل بمعنى فاعل من الولاية. ولقد قال الراغب الأصفهاني: الولاية بالكسر النصرة، والولاية بالفتح تولي الأمر. وقيل الوِلاية والوَلاية واحدة، نحو الدِّلالة والدَّلالة؛ والولي والمولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما في معنى الفاعل " والولاية كما تطلق بمعنى السلطان تطلق بمعنى المحبة والولاء، كما في قوله تعالى:(هُنَالِكَ الْوَلايَة لِلَّهِ الْحَقِّ. . .).
والولي في الآية الكريمة: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) يكون بمعنى ناصرهم؛ وقد ذكرنا أن الولاية تكون بمعنى النصرة، وبمعنى المسيطر على نفوسهم وحده الموجه الهادي، إذ قد سلمت نفوس المؤمنين من نزغات الشيطان.
والظلمات جمع ظلمة، والمراد بها هنا الضلالة؛ ففي الكلام مجاز؛ لأن المفاسد التي ينشرها الطغيان تظلم بها النفس وتكون في حيرة، وتنقطع عن سبيل الهداية؛ والنور هو الهدى؛ لأن الهدى يكشف عن ينابيع الحق والخير في النفس، وهو سلوك الطريق الموصل إلى ما يسعد الإنسان في الفانية والباقية فهو كالمصباح للمؤمن به يهتدي، وبه يصل إلى الغاية. والمعنى للجملة السامية: الله سبحانه جل جلاله الذي ليس فوقه شيء وهو القاهر فوق كل شيء هو ولي الذين آمنوا أي ناصرهم يأخذ بأيديهم من ضلالات الشرك والأوهام والشهوات، والذلة والاستعباد، إلى نور الحق والهداية والتحرر من الأوهام ومن الذلة، والاستقامة نحو العزة. فهذه الجملة تتضمن ثلاثة أمور:
أولها: نصرة الله القوي القادر، فلا يصح لمؤمن أن يضعف أمام جبروت الملوك الطغاة أو الجبابرة العتاة، أو الكبراء المضلين.
وثانيها: أن الله سبحانه وتعالى هو المسيطر على النفوس يوجه القلوب المؤمنة إلى الحق فيلوح لها نوره، وتشرق فيها حججه.
وثالثها: أن الذين يفيض الله عليهم بهذا النور ويؤيدهم بنصره هم الذين ارتضوا الحق بإرادتهم المختارة، ورفضوا طغيان الكبراء والجبابرة، وقاوموا نزغات الشيطان؛ فإن هؤلاء هم الذين ينصرهم رب العالمين، ويهديهم بنوره.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) المؤمنون يوجه قلوبهم رب العالمين، وينصرهم بقدرته، ويعتزون بعزته، وهو رب العزة، له الكبرياء في السماوات وفي الأرض، وهو العلي العظيم؛ أما الذين كفروا فالطاغوت أي الطغيان بكل أنواعه من جبابرة متحكمين، وكبراء مضلين، وأوهام مستحكمة، وضلالات مسيطرة، هو الذي ينصرهم ويسيطر على قلوبهم؛ والسبب في ذلك أنهم جعلوا الكفر وستر الفطرة هو الذي يتحكم في قلوبهم، فهم اختاروا تلك الأوهام المضلة، وولاية الجبابرة المذلة، واتباع الكبراء المردي، ففتحوا بسبب ذلك قلوبهم للضلالة تدخل فيها جزءًا جزءًا حتى أظلمت وبعدت عن نور الفطرة، وغلقت عليها
أبواب الحق، فلا يدخلها إلا ضلال، وكأن للقلب بابين: بابًا للنور، وبابًا للضلال؛ فإن أركست النفس في الشهوات، فإن باب الضلالة يتسع ويضيق باب الحق حتى يغلق فلا يدخل النور إليها.
وفى الجملة الكريمة السامية إشارات بيانية يجب التنبيه إليها:
أولها: أن الله سبحانه وتعالى قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) ففي التعبير بالذين كفروا إشارة بيانية إلى أنهم هم الذين ارتضوا أن يجعلوا الطغيان متحكمًا في قلوبهم، إذ كفرهم واستيلاء الشهوات على نفوسهم هو الذي سهل استمراء ولاية الطاغوت عليهم، وتحكمه فيهم، وسيطرته على نفوسهم، وحيث كانت الشهوات مستحكمة فللأوهام سلطان، وللجبابرة سلطان، وللكبراء المضلين مكان.
والثانية: أنه أفرد الطاغوت، وجمع الأولياء، ففي ذلك إشارة بيانية إلى أن الطاغوت مهما تتعدد ضروبه، وأشكاله ومظاهر سلطانه، فهو نوع واحد، أساسه أن يتحكم الوهم والهوى والذل والضعف في النفس ولكن مع ذلك يتعدد سلطانه، فهو مرة يظهر في مظهر ذي سلطان متجبر تخضع الرقاب لطغيانه لتحكم الذلة أو الشهوة الردية في نفوس الذين يتحكم فيهم، ومرة يظهر سلطان الطاغوت في دعوة إلى الباطل زخرفها تمويه داعية مضل، وأحيانا تكون في أوهام مسيطرة على الجماعة تجعلها تعبد حجرًا أصم لَا يسمع ولا يبصر، وعلى ذلك يكون الطاغوت واحدًا؛ لأنه ضلال كيفما كان، ولكن لتعدد مظاهر سلطانه تعددت ولاياته وكلها لَا قوة لها أمام قوة الله سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا.
والثالثة من الإشارات البيانية: ما تضمنه قوله تعالى: (يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) أي الضلالات الردية المختلفة الأنواع، فإن في ذلك إشارة إلى أن الفطرة في أصلها نور، ففي الفطرة الإنسانية نور الحق ووجدان الهداية، والإيمان الفطري، حتى يكون الضلال إذ تتحكم الاهواء والأوهام وتستخذي النفوس، فكل
مولود يولد على الفطرة (1)، وهي نور، حتى يكون الضلال بما في النفس من استعداد له مع وجود ذلك النور.
(أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الإشارة إلى الذين كفروا، وفي هذه الإشارة بيان إلى أن أحوالهم التي عرفوا بها من كفرهم، ورضاهم بالطغيان حاكمًا عليهم متحكمًا فيهم مسيطرًا على قلوبهم، هي السبب في ذلك الحكم الخالد عليهم، وهو أنهم أصحاب النار.
وفى التعبير بأصحاب النار إشارة إلى ملازمتهم لها، وبقائهم فيها، واختصاصها بهم؛ لأن أصحاب جمع صاحب، والصاحب هو الرفيق الملازم الذي اختصصت بصحبته، فهذا التعبير أفاد ملازمتهم للنار واختصاص النار بهم.
وفى قوله تعالى: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تأكيد لبقائهم فيها واختصاصها بهم دون غيرها؛ ذلك لأن التعبير بالجملة الاسمية فيه تأكيد، وتكرار المسند إليه بذكر كلمة " هم "، فيه فضل تأكيد، وتقديم الجار والمجرور وهو " فيها " دليل على اختصاصها بخلودهم فيها فلا منفذ لهم في غيرها؛ لأنهم سدوا على أنفسهم باب النور في الدنيا، فسدت عليهم أبواب الرحمة في الدنيا والآخرة.
* * *
(1) عن أبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ "، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، [رواه البخاري (1271): الجنائز، ومسلم (4803): القدر].
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
* * *
بعد أن بين سبحانه تحكم الطغيان في نفوس الكافرين ذكر سبحانه وتعالى لونًا من ألوان الطغيان أو أظهر ألوانه فقال:
(أَلَمْ تَرَ) وفي هذا تصوير لملك من الملوك يدفعه اغتراره بملكه إلى أن ينكر رب العالمين ويسأل إبراهيم عنه، وتصوير لطاغية من طغاة الدنيا يدفعه طغيان الغرور على نفسه ثم طغيانه على شعبه إلى أن يدعي الربوبية.
فلننظر إلى تلك الحاجة: ينبهنا الله سبحانه وتعالى إلى تلك الحال الشاذة فيقول سبحانه: (أَلَمْ تَرَ) وقد بينا ما في هذا التركيب من أسرار بلاغية عند تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
…
)، وخلاصة المعنى: لقد عرفت هذه القصة بالخبر القرآني اليقيني معرفة واضحة جلية بينة كأنها في تعينها ووضوحها المعرفة بطريق الرؤية البصرية والنظر، وهذا على أن رأى بمعنى أبصر. وإن كانت رأى بمعنى علم فالمعنى: تأمل وانظر بعين بصيرتك وادرس حال تلك النفس الطاغية التي تحمل الناس على الظلمات بطغيانها وإذا تأملتها علمت أيها المكلف أو أيها القارئ للقرآن إلى أي مدى يصل الطغيان من الظلمات والضلالات.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) حاجه: أي بادله المحجة وفي تسمية كلامه حجة إنما هو من قبيل المماثلة اللفظية أو هو حجة في نظره السقيم الذي أفسد تفكيره وأضله فقد توهم وتخيل ثم ظن فضلَّ عن معرفة نفسه وعن معرفة الحق ووقع في أمور لَا يقبلها أي عقل سليم.
وما السبب في كل ذلك الضلال؛ هو شيء واحد هو أن الله سبحانه وتعالى أعطاه الملك؛ ولذلك قال تعالى: (أَنْ آتَاهُ اللَّهَ الْمُلْكَ) أي أن سبب تلك المحاجة التي تدل على مقدار ضلاله وطغيانه هو أن الله سبحانه وتعالى آتاه أي أعطاه الملك والسلطان الدنيوي وهو زائل فقوله: (أَنْ آتَاهُ اللَّهَ الْمُلْكَ) مجرور بحرف جر محذوف هو الباء أو اللام، أي أن الذي بعثه على ذلك الإسراف في القول الوقوع في هذا الضلال هو نعمة الملك التي أنعم الله بها عليه فجعلته مسرفًا في الضلال ذلك الإسراف المردي.
وفى الكلام إشارة إلى أن هذا ما كان يسوغ له أن ينكر وأن يحاج في إنكاره، لأنه يحاج في موضوع لَا يقبل الجدل والمناقشة، لأنه يناقش في ربه خالقه وخالق كل شيء، فالضمير في " ربه " يعود إلى ذلك الملك الطاغي المتجبر، ويصح أن يعود الضمير إلى إبراهيم وإني اختار الأول، لأن الطاغية هو المتحدث عنه فالضمير يعود إليه.
(إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) هذا كلام نبي الله إبراهيم وخليله، كلام معترف بالربوبية عرف ربه بأوضح ما يعرف به وبأروع آثار قدرته في هذا الوجود وبأبعدها أثرًا في نفس العاقل المتفكر المتدبر وهو الحياة والموت لأنهما أشد الأمور أثرًا في نفس كل إنسان ذي حس وشعور وعقل وأفاد القول صيغة الحصر إذ قال سبحانه:(رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وفي ذلك تعريف المبتدأ والخبر وتعريفهما يفيد القصر، فالمعنى أنه وحده سبحانه هو الذي يحيي ويميت ولا أحد سواه يفعل ذلك. ومعنى يحيي ينشئ الحياة ويوجدها، ومعنى يميت يوجد تلك الحقيقة التي تفقد الجسم معنى الحياة. والتعبير بالمضارع يفيد معنى الاستمرار الذي يرى ويحس كل يوم، فالمعنى أن ربي وخالقي هو الذي يحيي الناس كل يوم كما ترى ويميت منهم كل يوم من ترى.
هذا كلام إبراهيم وهو يحوي حجة قوية واضحة من شأنها أن تثير في النفس نزوع الاتجاه إلى الحق، لأنها تشير مع ذلك إلى حقيقة الحياة وهي أنها إلى فناء، فلا يصح أن يغر الشخص بها الغرور ولا يذهب به الطغيان إلى إنكار ربوبية الخالق.
(قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) هذا جواب الملك الذي سيطر الهوى عليه فأضله وسيطر الطاغوت على نفسه فحمل شعبه على الإذعان لطغيانه وضلاله، ومنعهم من أن يصل النور إلى قلوبهم وحاجز بينهم وبين كل دعوة إلى الحق والنور، وبذلك كان ممن يدعون إلى الظلمات كما ذكر في الآية السابقة (وَالَّذينَ كَفَرُوا أَوْليَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَات).
أجاب ذلك الملك بنقض الاختصاص الذي ذكره خليل الله لرب العالمين، وهو أنه وحده الذي يحيي ويميت، فقال ذلك الضال: أنا أحيي وأميت أيضا، ومرمى قوله أنه إذا كان ربك يا إبراهيم يحيي ويميت واستحق الربوبية لذلك، فأنا أيضا أحيي وأميت فاستحق هذه الربوبية، ويقصد بالإحياء كما يقول العلماء العفو عمن حكم عليه بالإعدام وبالإماتة وقتل من شاء قتله هذا ما قاله العلماء. ولو أن لي أن أقول كلامًا آخر لقلت إن ذلك الطاغوت يقصد بالإحياء الاستيلاد والاستنبات ونحو ذلك مما يفعله الإنسان ويتخذه سببا عاديا من أسباب ظهور الحي بحياته، وبالإماته القضاء على الحي بالقتل أو القطع أو الاستئصال ونحو ذلك مما يجوز أن تسند فيه أسباب الحياة إلى الإنسان وأسباب الإماتة إليه، وهذا بلا شك غير ما قصده الخليل عليه السلام، لأن ما قصده هو خلق الحياة وخلق الموت، وذلك ما لا يستطيعه إلا رب العالمين تعالى الله علوا كبيرا. وكان الخليل يستطيع أن يبين له تلك الحقيقة ويحرر موضع القول ولكن ذلك قد يجر إلى مراء فاختار طريقًا آخر أجدى
وأردع وأقوى وأشد إفحامًا، قال له ما حكاه رب العالمين في قوله:
(قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) لقد ادعى الطاغية أنه شريك الله سبحانه وتعالى، والشركة تقتضي المساواة في القدرة والسلطان والخلق والتكوين ولا تبدو تلك المساواة إلا إذا كان أحد المتساويين عنده قدرة على مقاومة إرادة الآخر وبسط سلطانه حيث بسط هو سلطانه، والله سبحانه ْيأتي بالشمس من المشرق، أي الجهة التي تشرق منها فعلى المدعي أن يعاند هذا النظام المسيطر الذي يدعي ربوبيته عليه، بأن يأتي بالشمس من جهة الغروب، ويعكس الفلك الدوار.
والفاء في قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأتِي) هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر وتقدير القول: إذا كنت تدعي الألوهية أو الربوبية فأظهر أمارات قدرتك وسلطانك على الكون بأن تأتي بالشمس من جهة غروبها الآن بدل أن تخرج من جهة شروقها، والمعنى أن ذلك الكون قد خلق على نظام محكم وأحكم تنسيقه بنظم
قدرها منشئه وأمارة قدرتك أن تغير هذه النظم فافعل إن كنت قديرًا، فليست القدرة في أن تدعي إنشاء نظام وجد قبل أن توجد أنت وأشباهك من الطغاة، إنما القدرة تكون في تغييره فافعل هذا التغيير وما كان ذلك في قدرته لأنه ضال مضل؛ ولذا حكى الله سبحانه وتعالى حاله في قوله:(فَبُهِتَ الَّذِي كفَرَ) أي تحير واضطرب ولم يجد جوابًا ولم يستطع أن يتكلم قليلا أو كثيرا. وقد عبر عنه بقوله: (الَّذي كفَرَ) للإشارة إلى أن سبب الحيرة هو كفره، إذ لو كان طالب هداية لكانت الحجة القاطعة الملزمة هادية بدل أن تكون محيرة ولكنه صمم على الكفر وأصر عليه، فكانت نفسه حائرة بين حق ظهرت بيناته وباطل قد عض عليه بالنواجذ، وكذلك شأن كل من أضله الله على علم.
(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ختم الله سبحانه وتعالى الآية بهذه الجملة السامية وهي تدل على ثلاثة أمور:
أولها: إن الذين يعاندون الحق ظالمون دائمًا: يظلمون أنفسهم لأنهم يسدون منافذ النور فلا يصل إلى قلوبهم، ويظلمون أقوامهم لأنهم يحملونهم على الضلال، ويظلمون الحق لأنهم يحاربونه.
ثانيها: إن ظلمهم يسبق كامل ضلالهم؛ ذلك لأن الشهوات تتحكم فيهم فتدفعهم إلى طلب ما ليس لهم ثم يستهويهم الشيطان بالطمع بعد المطمع، فيتجاوزون الحدود ويطغون ثم يكون الضلال الكامل الذي تطمس فيه البصيرة فتغلف القلوب عن الحق وتقسو فلا تلين.
ثالثها: إن الظلم إذا استحكم في النفس أصبحت كل البراهين لَا تجدي بل تزيده عنادًا وإصرارًا؛ ولذلك لم يكتب الله الهداية لمن استمرأ الظلم آحادا أو جماعات والله ولي المتقين.
ولقد كان احتجاج إبراهيم عليه السلام على الطاغية الذي يدعي الربوبية بأن الله هو الذي يحيي ويميت، فتجاهل الطاغية معنى الحياة والموت، وحرَّف الكلم عن مواضعه فلوى خليلُ الله عنقه حتى أراه عَجْزَه وقدرة الله على نحو ما ذكر سبحانه:(فَبُهِتَ الَّذِي كفَرَ).