المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يهمل ومن يطيع، ولكل جزاؤه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا - زهرة التفاسير - جـ ٢

[محمد أبو زهرة]

الفصل: يهمل ومن يطيع، ولكل جزاؤه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا

يهمل ومن يطيع، ولكل جزاؤه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر؛ وإذا كان المكلف يحس بأنه تحت رقابة الله دائمًا فإنه يراقب الله في عمله، ويكون منه الخير واجتناب الشر.

* * *

ص: 822

(وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ

(235)

الخطبة: من الخطاب، وهي مخاطبة المرأة أو ذويها في أمر زواجها؛ والتعريض ضد التصريح، وهو إفهام المراد لكلام يحتمل ما يريده المتكلم، ويحتمل غيره، وهو في ظاهره غير ما يريد، ولكن يبدو من لحن القول وإشاراته والمقام ما يريده، وهو من عَرْضِ الشيء وهو جانبه، كأنه يحوم به حول الشيء وعلى جوانبه ولا يظهر مراده.

والنساء المراد بهن في الآية هن المتوفى عنهن أزواجهن في أثناء العدة. والإكنان في النفس أن يخفي إرادة الزواج والرغبة فيه مع الإصرار عليه، واعتزامه من غير إعلانه الأحد.

ومعنى الجملة الكريمة: أنه لَا إثم في التعريض بخطبة المتوفى عنهن أزواجهن، كما أنه لَا إثم في الرغبة في الزواج منهن مع إكنان ذلك وستره من غير كشف وإعلان؛ لأن الكشف والإعلان قد يؤذي الميت، وهو فوق ذلك لَا يليق بأهل المروءة من الرجال.

والتصريح بالخطبة لَا يجوز، حتى لَا يؤذي أهل الميت، وحتى لَا يدفعها إلى الامتناع عن الحداد على زواجها، فوق أن ذلك نقص في الخلق. وفساد في الذوق لا يصدر عن ذي إحساس كريم؛ فالتعريض فقط هو المباح في الخطبة في حال عدة الوفاة؛ وأساليب التعريض متباينة يبينها المقام؛ ومن ذلك ما يروى عن سكينة بنت حنظلة أنها قالت:" استأذن عليَّ محمد بن علي زين العابدين فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابتي من علي، وموضعي في العرب. . فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك؛ تخطبني في عدتي!! قال إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن علي ".

ص: 822

وقد أخرج الدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة، فقال:" لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي ". وكانت تلك خطبة (1).

(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا) في هذه الجملة الكريمة يشير سبحانه وتعالى إلى طبائع النفس البشرية فيمنعها من الانسياق فيما يردي ويفسد، ويبيح لها ما لَا ضرر فيه، وقد يكون فيه ما تطيب به نفوس، وتطمئن إليه قلوب.

فالله سبحانه وتعالى علم أن العارفين لأخبار المتوفى عنها زوجها وأحوالها وحقيقتها، من جمال أو نحوه، ومن حسن عشرة ولطف مودة، أنهم سيذكرونها في نفوسهم ويقرنون الذكر بالرغب والاتجاه إلى طلبها، وإعلان الرغبة والتحبب إليها وإمالة قلبها، ولقد علم الله سبحانه وتعالى حال النفوس هذه فأباح للناس ما تكون مغبته حسنة، ومنع غيره، فأباح إكنان الرغبة في الأنفس وحديث النفس بها، فإن حديث النفس ليس موضع مؤاخذة؛ وأباح التعريض بالخطبة، ونهى عن أمرين:

أولهما: المواعدة السرية، سواء أكانت تلك المواعدة على الزواج أو غيره.

وقد تكلم العلماء في معنى كلمة " سرًّا " فقيل: إن معناها ما يكون بين الرجل وزوجه من متعة جسدية. وقيل: إن معناها عقد الزواج. وقيل إنَّ سرًّا، معناها زنا.

وروي أن ابن عباس وابن جبير والشعبي ومجاهدًا وعكرمة والسدي، فسروا " سرًّا " بألا يأخذ عليها ميثاقا بألا تتزوج غيره في استسرار وخفية.

وإن الذي نميل إليه أن " سرًّا " وصف لمحذوف أي لَا تواعدوهن وعدًا سريا بأي شكل من الأشكال، وفي أي موضوع من الموضوعات؛ لأن الإسرار يدفع إلى الخلوة فتكون الحال في مكان النهي حيثما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما "(2) والمعنى على هذا: لَا تندفعوا وراء رغباتكم فتلتقوا بهن سرًّا

(1) ذكره بهذا اللفظ وهذا التخريج القرطبي في تفسيره: سورة البقرة 235 وراجع الدارقطني في سننه.

(2)

جزء من حديث رواه أحمد: مسند العَشرة (109) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والترمذي بنحوه: الفتن - ما جاء في لزوم الجماعة (2091) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 823

وتقولوا معهن ما تستحيون من قوله جهرًا؛ إما لأنه قبيح لَا يعلن، وإما لأنه فى غير وقته فيستنكر القول فيه فور الوفاة؛ وذلك فوق قبح الخلوة في ذاتها.

ولقد استثنى سبحانه استثناء منقطعا في قوله تعالى: (إِلَّا أَن تَقولُوا قَوْلًا مًعْرُوفًا) والمعنى لكن المباح لكم أن تقولوا قولا معروفا لَا تستنكره العقول، وتقره الأخلاق، ولا يقبح إعلانه، بل يقال في غير استسرار؛ وبهذا الاستثناء يحد الله سبحانه فرق ما بين الحلال والحرام في هذا المقام؛ فالسرية ممنوعة أيا كان موضوعها، لما يكون معها من ملابسات محرمة، والقول المعروف الذي يكون بالتعريض، وإظهار المودة بشكل لَا يؤدي إلى محرم، ولا تستهجنه العادات الفاضلة والأخلاق الكريمة، هذا حلال لَا ريب فيه.

وقبل أن نترك الكلام في هذا الأمر المنهي عنه، نذكر تحقيقًا لفظيًا ذكره الزمخشري، وهو مقام " لكن " في قوله تعالى:(وَلَكِن لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)، مما قبلها؛ فقد قرر رحمه الله أن المعنى: علم الله أنكم ستذكرون النساء فاذكروهن، ولكن لَا تواعدوهن سرًا، ويكون المؤدى اذكروهن ذكرًا حسنا معروفًا معلنًا غير منكر، لَا تمجه الأذواق، ولا تنبو عنه الأخلاق.

الأمر الثاني الذي هو في موضع النهي ما اشتمل عليه قوله تعالى: (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) العزم: القطع، وهو يتعدى بعلى، وبنفسه، فيقال: عزم الأمر وعزم عليه، وعقدة النكاح: الارتباط به. والكتاب: هو الأمر المكتوب المفروض، وهو هنا العدة. والأجل: هو انتهاء المدة المقررة للعدة والمعنى: لَا تعقدوا العزم نهائيًا في أثناء العدة على أن تتموا الزواج بعدها، بأن تقطعوا في أمر الخطبة فتجعلوها تصريحًا بدل أن تكون تعريضًا؛ فإن العزم القاطع لا يكون بالتعريض، بل يكون بالتصريح؛ لأن عبارة التعريض كيفما كانت يدخلها الاحتمال، فلا تنبئ عن القطع أو الجزم؛ وعلى ذلك يكون هذا الكلام السامي ذكرًا لما فهم عند نفي الإثم عن التعريض من منع التصريح؛ وفوق ذلك فيه دلالة على

منع العزم مطلقًا ولو بإصرار النية، وإكنان النفس؛ لأن العاقل لَا يسوغ له أن يعزم

ص: 824

أمرًا ولو في نفسه قبل أن يجيء وقته؛ لأن المستقبل بيد الله ولا تدري نفس ماذا تكسب غدًا، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) في هذا الكلام الكريم الحكيم تحذير وتقريب، وتخويف ورحمة؛ إذ بيَّن سبحانه أنه يعلم خلجات القلوب، وخطرات النفوس، وما تخفي الصدور وما يستكن فيها، وما يعلن؛ وإن للنفس هواجس وخواطر، فإذا همت النفس أو جالت فيها أمور تستهجن ولا تستحسن، كأن يجول بخاطره أن يكلم المعتدة من وفاة في أمر منكر لا يسوغ في الدين، ولا في العرف، ولا في الأخلاق، فليعلم أن الله عليه رقيب يعلم تلك الخواطر؛ فليحذره؛ لكيلا يبرزها إلى الوجود، فيندفع وراءها، وإنه إذا قمعها وقدع نفسه عنها، وجعلها في محيط قلبه لَا تخرج منه، فإن ذلك يكون في عفو الله تعالى؛ ولذا قال سبحانه:(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غفُورٌ حَلِيمٌ) يغفر الله فلا يأخذ العبد إلا بما يفعل ولا يأخذه بما يجول بخاطره، ولا بما تحدثه به نفسه، ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء، تبارك الله سبحانه هو المنتقم الجبار العفو القدير، الغفور الرحيم.

* * *

(لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

* * *

ص: 825

بين سبحانه آثار الفراق بين الزوجين بالطلاق أو الموت؛ فقد بين العدة، وهي في معناها حق الزواج وحق الزوج وحق الولد؛ وقد ذكر بعد ذلك حق المرأة الخالص، وهو المهر أو المتعة، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بإيتاء المهر في قوله تعالى:(وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً. . .)، ووجوبه كاملا في حال الطلاق بعد الدخول في قوله تعالى:(وَإِنْ أَرَدْتُّم اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مكَانَ زَوْجِ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أتَأخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا).

وفى هذه الآية يبين سبحانه المهر الواجب أو ما يقوم مقامه في الصورة التي قد يتوهَّم الناس أنه لَا مهر فيها، لأنه لم يفض أحدهما إلى صاحبه؛ إذ لم يحصل مساس بينهما؛ فقال تعالى:

ص: 826

(لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الجناح معناه الإثم، ومعنى تمسوهن هنا أي لم تباشروهن ولم تدخلوا بهن، وهو كناية جميلة من كنايات القرآن الكريم التي هذبت الألفاظ العربية، وعلمت الناس الأدب في التعبير، ليتهذب الذوق الخلقي، والبياني، والاجتماعي.

والمس في أصل معناه اللغوي: اللمس، فهو يطلق على كل ما يكون فيه إدراك بحاسة اللمس، ثم أطلق على سبيل الكناية على كل ما يكون فيه إصابة حسية أو معنوية ولها مظهر حسي، ولذا كنى به القرآن الكريم عما يكون بين المرء وزوجه، كما في هذه الآية الكريمة، وكما في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ. . .)، وقوله تعالى:(أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ. . .).

وكنى بالمس عما يصيب العقل أو الجسم من مرض أو أذى؛ فقد قال تعالى: (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. . .)، وقال تعالى:(مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضرَّّاءُ. . .)، وقال تعالى:(وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضرَُّ دَعَانَا لجَنْبِه أَوْ قَاعِدَا أَوْ قَائمًا. . .)، وقال تعالى:(وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مًّعْدُودَةً. . .). . وهكذا.

ص: 826

والفريضة معناها المهر المقدر، وأصل الفرض معناه التقدير؛ فمعنى لم تفرضوا لهن فريضة: لم تقدروا لهن تقديرًا.

ومعنى الآية الكريمة بعد ذلك التفسير اللفظي، أنه لَا إثم على من يطلق قبل الدخول إذا لم يكن ثمة فريضة مقدرة.

ونفي الجناح أو الإثم عن الطلاق قبل المسيس لَا عن مطلق طلاق؛ ولقد فهم بعض العلماء أن نفي الإثم هو عن مجرد الطلاق، لَا عن الطلاق المقيد، واستنبط من هذا أن الطلاق مباح في ذاته من غير نظر إلى دواعيه؛ وذلك النظر لَا نحسب أنه الصواب، لسببين:

أحدهما: أن الطلاق أبغض الحلال إلى الله (1)، وأن الله ما أحل شيئًا أبغضه كالطلاق (2). فلا يمكن أن يكون الأصل فيه الحل من غير نظر إلى دواعيه وبواعثه؛ لأنه شرع للحاجة النفسية إليه، وذلك إذا تعذر قيام المودة في الحياة الزوجية؛ ولذا قال سبحانه بعد محاولة الإصلاح بين الزوجين بكل الطرق وتعذر الإصلاح:(وَإِن يَتَفَرقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتهِ. . .).

ثانيهما: إن من المقررات اللغوية أن أداة النفي إذا دخلت على شيء مقيد بوصف أو حال، فإن النفي لَا يكون منصبا عليه مقيدًا بذلك القيد، ويكون القيد هو موضع النفي، لَا أصل الشيء في ذاته؛ وكذلك هنا؛ فالنفي منصب على الطلاق المقيد بأنه قبل الدخول وقبل فرض فريضة، أو بالأحرى هو منصب على الطلاق قبل المسيس، سواء أكان ثمة فريضة أم لم تكن، ولكنه في حال الفرض للمهر قدر مخصوص، وفي حال عدم الفرض للمرأة حق آخر معلوم.

(1) رواه أبو داود: الطلاق - في كراهية الطلاق (1863)، وابن ماجه: الطلاق - باب حدثنا سويد بن سعيد (2008).

(2)

عَنْ مُحَارِب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا أحَل اللَّهُ شيْئًا أبْغَضَ إِلَيْهِ مِنْ الطَّلاقِ ".

[رواه: أبوَ داود الطلاق - كراهية الطلاق (1862)، وهو حديث مرسل؛ ومحارب بن يسار السدوسي من الطبقة دون الوسطى من التابعين، وكنيته أبو مطرف، أقام بالكوفة وتوفى بها 116 هـ.

ص: 827

وننتهي من ذلك إلى أن موضوع الآية الكريمة هو حق المرأة في حال الطلاق قبل الدخول، سواء أكان ثمة فرض أم لم يكن فرض، وإذا كان ثمة نفي للإثم فهو عن الطلاق في هذه الحال، وإن نفي الإثم عن الطلاق في هذه الحال، لَا يقتضي نفي الإثم في غيرها، وإن الفرق بين الحالين واضح، فإن الفرقة قبل الدخول يكون الضرر الواقع فيها على المرأة أقل، ولم يستوف فيها شيء من أحكام الزواج، ولم توثق الصلة فيها بأولاد، وإقامة بيت، يتهدم بالطلاق، أما الطلاق بعد الدخول، فإن جُل أو كل أحكام الزواج فيها تكون قد استوفيت، والضرر فيها أشد، وقد يتعدى الضرر إلى ثمرات الزواج؛ فنفي الإثم في الحال الأفل ضررًا، أو التي لَا ضرر فيها لا يستلزم نفي الإثم في الحال الأشد ضررًا.

وقد يقول قائل: إن الطلاق قبل المسيس قد يسيء إلى سمعة المرأة، ويقول الناس إنه ما طلقها إلا من شيء، وقد يكون اختياره لها مفوتًا لزوج كفء ربما لا يمكن تداركه، وذلك حق في بعض الأحوال. ويجاب عنه بأن حسن سمعة الأسرة التي تنتمي إليها الزوجة، وكرم محتدها قد يرد كل إيهام أو اتهام، وإن ما يعروها من ألم بسبب ذلك الفراق المعجل يخففه التمتيع، وهو إعطاء المتعة، وفوق كل هذا إن الاختلاف الذي أدّى إلى الافتراق قبل الدخول يدل على أن الاختيار في الزواج لم يكن موفقًا، فكان إنهاؤه قبل الدخول من المصلحة الحقيقية للزوج، ويهون بجواره كل ألم في سبيل تلك المصلحة؛ لأنه يكون الأمر بعد ذلك عيشة كلها مضارة، أو افتراق في غير الوقت المناسب، وإذا كانت المرأة قد تألمت فالرجل قد أصابه غرم مالي.

(وَمَتِّعُوهُن عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) هذا بيان لما تعوض به المرأة إذا حصلت فرقة قبل الدخول وقبل أن يُقدَّر لها شيء من المهر؛ فذكر الله سبحانه أن الواجب هو المتعة؛ ولذا قال سبحانه: (وَمَتِعُوهُنَّ)، والمعنى أعطوهن متعة ينتفعن بها ويكون فيها تسرية عن أنفسهن، وبعض التعويض عما نالهن، وما فاتهن في هذا الزواج، فتطيب نفوسهن. والتمتيع

ص: 828

مأخوذ من المتاع، وأصل المتاع الامتداد في الارتفاع، يقال متع النهار إذا ارتفع؛ ثم انتقل إلى الانتفاع الممتد، ثم إلى الشيء المنتفع به انتفاعًا ممتدًا يعلو به الشخص في الحياة الدنيا، ثم أطلق على كل ما ينتفع به؛ ومنه المتعة في الزواج، وهو ما يعطي للمطلقة لتنتفع به مدة عدتها؛ ويلاحظ أن يكون الانتفاع مما يمتد زمنًا، ومما يعلو به الشخص؛ ولذا عرَّفها الشافعي بأنها: شيء نفيس يعطيه المطلق للمرأة لتنتفع به أمدًا.

وقد جعل الله سبحانه المتعة تابعة لحال الرجل، فقال:(عَلَى الْمُوسِع قَدَرهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ).

المُوسِع: القادر المطيق للإنفاق عن سعة، فهو ذو السعة أي القدرة الكبيرة، كما قال تعالى في الإنفاق:(لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْينفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ. . .)، والمقتر هو من كان قليل المال، مأخوذ من أقتر الرجل بمعنى قلَّ ماله؛ والقدَر: الطاقة، أو المقدار؛ والمعنى؛ على الموسع قدر طاقته، وعلى المقل قدر طاقته؛ وقرئ (قَدَرهُ)، وهما بمعنى واحد. وبعض العلماء يفرق بينهما فيجعل " القدَر " بالتحريك المقدار، و " القدْر " بالتسكين الطاقة، والمؤدى واحد بلا ريب؛ إذ المراد والله أعلم: أن ذلك المال الكثير يكون عطاؤه متناسبا مع ما آتاه الله من بسطة في الرزق؛ وذو المال القليل يكون عطاؤه بقدر طاقته.

ولكن مع هذه الرخصة التي أعطيت للمقتر يجب أن يكون ما يعطيه مقدارًا يكون الانتفاع به ممتدًا زمنا؛ ولذا قال سبحانه: (مَتَاعًا بِالْمَعْروفِ) أي يكون شيئًا ينتفع به انتفاعا ممتدًا في الزمان بالقدر المتعارف بين الناس، الذي لَا يستنكره عرفهم، ولا الطبقة التي يكون فيها الزوجان بين الناس. والناس أصناف وألوان، وكل بقدر ما يتعارفه.

ولقد أكد سبحانه وتعالى الطلب في قوله: (وَمَتِّعُوهُن) أكده بصيغة تفيد أن التمتيع لازم لَا مساغ من التخلص من لزومه، فقال سبحانه عز من قائل:(حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)، أي أن التمتيع هو حق أي أمر ثابت لازم واجب على المحسنين

ص: 829

الذين يتحرون الإحسان إلى معاشريهم ومخالطيهم والمتصلين بهم؛ فالتعبير بالمحسنين؛ للإشارة إلى أن ذلك الواجب هو من قبيل الإحسان في المودة، والإشعار بالقربى في وقت الانفصال، ومنع الغضاضة والألم، وتطييب القلوب؛ وذلك لا ينافي الوجوب واللؤوم.

ولقد قال بعض العلماء: إن التعبير بالمحسنين يدل على أن المتعة غير واجبة، وذلك لاعتقاده أن الإحسان تبرع غير واجب، وكان ذلك حقا علي المحسنين الذين يُلزمون أنفسهم بما لَا يلتزم به الناس. ولكن الظاهر غير ذلك القول؛ لأن الإحسان لا ينافي الوجوب الذي دلَّ عليه الأمر في قوله تعالى:(وَمَتِّعُوهُنَّ) وثأكد ذلك الأمر بقوله: (حَقا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)؛ لأن الإحسان في ذاته: الإجادة والإتقان وتحري الحق وأداؤه على الوجه الأكمل، وذلك يتلاقى مع معنى الوجوب؛ وقد ورد الإحسان في القرآن شيء معنى الواجب فقد قال تعالى عن نفوس الكافرين يوم القيامة:(أَوْ تَقولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، أي يكون ممن يؤدون الواجبات كلها فيكون من المحسنين، وذلك لَا يتصور فيه معنى التبرع، بل وفوق ذلك فإن قوله تعالى:(عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)، يؤكد معنى الوجوب؛ إذ فيه التعبير بعلى التي تفيد اللزوم؛ وفيه أن المقل والمكثر عليهما أداء بطاقتهما؛ ولو كانت المتعة تبرعا لأعفى منه المقل، واستحسنت من المكثر، ومع أن المتعة واجبة إذا لم يكن ثمة مهر مسمى في العقد، ولم يكن دخول؛ فإن الشارع قد ترك تقديرها إلى نظر المطلق، وتقديره وطاقته، ولم يكن لها حد معلوم؛ وقد قدرها الحنفية بكسوة كاملة للمرأة وهي لباس الخروج، فإن المرأة تلبس عادة عند خروجها أكمل ثيابها، وتركوا نوع الثياب إلى طاقة الرجل وتقديره، واشترطوا ألا تقل عن خمسة دراهم، وهي نصف الحد الأدنى للمهر عندهم، وإذا اختلف الرجل والمرأة في تقديرها، كان الحكم في ترجيح قول أحدهما على الآخر نصف مهر مثلها؛ فإن كان أَقل مما ادعى الزوج كان القول قوله، وإن كان أكثر مما تدعي الزوجة كان القول قولها.

ص: 830