المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

السماوات والأرض فأتقن كل شيء خلقه، خلق طبيعة الإنسان تتأدى - زهرة التفاسير - جـ ٢

[محمد أبو زهرة]

الفصل: السماوات والأرض فأتقن كل شيء خلقه، خلق طبيعة الإنسان تتأدى

السماوات والأرض فأتقن كل شيء خلقه، خلق طبيعة الإنسان تتأدى إلى ذلك النوع من المغالبة؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى:(وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) فإنه لما وجد الاعتراض بقوله تعالى: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا) كرر مشيئة الله سبحانه، ليعقبها بقوله:(وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ).

ولكنا نميل إلى تعميم الاقتتال بتعدد أسبابه من غير نظر إلى مجرد الاختلاف

بسبب الإيمان والكفر.

والاستدراك في قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) فيه الإشارة إلى أنه سبحانه لم يشأ منع الاقتتال، بل أراد أن تكون هكذا طبيعة الإنسان، وهو العلي القدير، فعال لما يريد.

* * *

ص: 926

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ

(254)

بعد أن بين سبحانه أن الاقتتال قائم في الدنيا، وأن الحق لَا ينال في راحة واطمئنان؛ لأن البغي والعدوان في طبيعة كثير من بني الإنسان؛ وإذا كان الحق في ذاته أنبل ما يطلبه ابن الإنسان فإن الطريق إليه ليس خاليًا من مَذْأَبةٍ من ابن الإنسان؛ وإذا كان ابن آدم قد قتل أخاه؛ لأنهما قربا قربانًا فتقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، فقال من رُد عليه قربانه لأخيه: لأقتلنك، وقتله؛ فالنزاع مستمر؛ لذلك (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، فكان لابد من أخذ الأهبة، وبذل النفس، ثم بذل النفيس أيضًا.

ولذلك أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يستعدوا للقتال بالإنفاق في سبيل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) أي أنفقوا في سبيل الله. فالإنفاق في سبيل الله هو الإنفاق في سبيل الحق، وسبيل كل خير في هذا الوجود، فكل ما ينفق في سبيل الفضيلة من إعطاء لليتامى والمساكين وابن السبيل، وإقامة دعائم الاقتصاد الفاضل، والعمران الشامل هو مما ينفق في سبيل الله، وأقواها مما ينفق في سبيل حماية الحوزة، والدفاع عند الاعتداء.

ص: 926

وإن إنفاق المال في سبيل الله على المعنى الذي وضحناه هو عنصر القوة في الأمة، وبالقوة تستطيع الأمة أن تدافع عن نفسها، وترد كيد أعدائها في نحورهم.

وكان الإنفاق على ذلك النحو عنصر القوة في الأمة لثلاثة أسباب:

أولها: أن المال عدة التسليح، ولا قتال من غير سلاح يفل شوكة العدو ويدفع كيده، بل يمنعه من أن يفكر في الاعتداء، فإنه لَا شيء أنفَى للقتال من السلاح؛ فذو الناب لَا يعدو على ذي الناب، وتعدو الذئاب على من لَا كلاب له.

وثانيها: أن الإنفاق في سبيل إقامة العمران رفع لمستوى الأمة الاقتصادي، والاقتصاد سلاح ماض، والحرب اليوم تلبس لبوس الاقتصاد في الحصار الاقتصادي والتضييق التجاري.

وثالثها: أن الإنفاق على ضعفاء الأمة يجعل منهم سواعد قوية تحمي الذمار، وإن تركهم يجعل منهم شوكة في جنب الدولة يعوقها عن العمل، وقد يكونون قوة مدمرة مخربة، وإن الهرة إذا جوعتها انقلبت ذئبًا.

وقد قال سبحانه وتعالى في المال المنفق منه (مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أفاض بنعمته على الغني فهيأ له الأسباب، ومكنه من الفرص، ومنع عنه العوائق، فإن أنفق في سبيل الله فأعطى المجاهدين، والضعفاء، فمن المال الذي مكنه الله منه أنفق؛ ولقد قال صلى الله عليه وسلم:" ابغوني في ضعفائكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم "(1).

والإنفاق المطلوب في هذه الآية واجب، بدليل الوعيد الذي تضمنه الطلب " ولذا قال كثير من المفسرين إن الإنفاق المطلوب في هذه الآية هو الزكاة، والزكاة ينفق منها في الجهاد وللفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين، ففيها كل المعاني التي تتحقق بها قوة الأمة من حماية للحوزة وسد للخلة، وإقامة للعمران.

وإنا نوافقهم على أن الإنفاق المطلوب في هذه الآية إنفاق واجب؛ ولكنه أعم من الزكاة، فليس الإنفاق الواجب مقصورا على الزكاة. . بل الإنفاق في الحرب

(1) سبق تخريجه.

ص: 927

عندما تشتد الشديدة، ولا يكون في بيت المال ما يكفي - يكون واجبا. والإنفاق على الفقراء إذا لم تكف الزكاة يكون واجبًا؛ فالقصر على الزكاة ليس بصحيح.

وقد ذكر الله سبحانه وعيدًا شديدًا لمن لَا ينفق في سبيل الله فقال سبحانه:

(مِّن قَبْلِ أَن يَأتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شفَاعَة) والُخلَّة المودة والمحبة، وأصلها من الخلل بمعنى الفرجة بين الشيئين، وقد جاء في مفردات الراغب ما نصه:" الُخلَّة المودة، إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها، وإما لأنها تُخِلُّ بين النفس فتؤثر فيها تأثير السهم في الرميّة، وإما لفرط الحاجة إليها؛ يقال منه خاللته مخاللة وخلالا فهو خليل ". والشفاعة مأخوذة من الشفع بمعنى الضم، فالشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه، وأكثر ما تستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو دونه، ومنه الشفاعة يوم القيامة.

وقد صرح سبحانه وتعالى بأن الإنفاق يجب أن يتداركه المنفقون قبل أن يأتي اليوم الذي لَا يجدي فيه بيع ولا مودة ولا شفاعة. ولا شك أن هذا اليوم هو يوم القيامة، ولكن ما المراد من نفي البيع والصداقة والشفاعة فيه؟.

هناك منهاجان في معنى هذا النفي:

أحدهما: أن معنى هذا النفي أنه يوم لَا بيع فيه أي لَا تجارة حتى يدفع الحرص عليها إلى عدم الإنفاق، ولا صداقة حتى يؤثر الإنفاق عليها أو طلب المادة عن طريقها في عدم الإنفاق، أو شفاعة أي طلب المال بطريق شفاعة الشفعاء ووساطة الوسطاء، والمعنى على هذا: أنفقوا قبل أن يجيء اليوم الذي لَا تجدون فيه جدوى للمال بتجارة، أو بصداقة تتبادل فيها المنافع المعنوية والمادية، أو بشفاعة شفعاء يطلب المال عن طريقهم. والمغزى في هذا أنه إذا غرتكم فوائد المال في هذه الأبواب الدنيوية، فأنفقوا لتتقوا بهذا الإنفاق اليوم الذي لَا تروج فيه هذه الأسباب، بل يحكم فيه الحكم العدل مالك الملك.

والمنهاج الثاني: أن يكون المراد نفي هذه الأمور في الآخرة؛ فالمعنى: أنفقوا قبل أن يأتي اليوم الذي لَا تستطيعون فيه أن تفتدوا نفوسكم بعدل تقدمونه فيكون

ص: 928