المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أولها: إن هؤلاء الذين دعوا ربهم بالتوفيق لابد أن يقرن - زهرة التفاسير - جـ ٢

[محمد أبو زهرة]

الفصل: أولها: إن هؤلاء الذين دعوا ربهم بالتوفيق لابد أن يقرن

أولها: إن هؤلاء الذين دعوا ربهم بالتوفيق لابد أن يقرن دعاؤهم بإِرادة قوية عاملة متجهة إلى تحقيق ما يبغون وما يدعون الله سبحانه وتعالى في التوفيق له، وإن لم يكن عمل فالدعاء أماني وأحلام، ولا يتحقق فيها القصد الكامل والضراعة الخاشعة لرب العالمين؛ لأنَّ الدعاء مخ العبادة؛ فإن كان صادقا فالإرادة تتجه نحوه.

الأمر الثاني: الذي يشير إليه التعبير الكريم: أن الجزاء ليس على الدعاء، وإنما الجزاء على العمل، فيجب أن يعملوا؛ فليس الدعاء وحده بمستحق جزاء إن كان العمل ينافيه.

الأمر الثالث: أن كسب العبد لعمل الخير يطوي في ثناياه جزاءه، وكذلك كل عمل للأنسان جزاؤه مشتق من منهاجه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر؛ فمن أسدى إلى الناس معروفا، فقد قدم بهذا الإسداء لنفسه؛ ومن أعان مكروبا، فقد كسب الجزاء ساعة عمل، وكذلك من قتل نفسا، فقد قتل نفسه إذ استحق ذلك الجزاء، ومن سرق فقد قطع يده، ومن زنى فقد رجم نفسه، وهكذا (كلُّ امرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِين).

وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله الكريمة (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) وسرعة حسابه سبحانه وتعالى كناية عن تحقيقه، وتحقق يوم القيامة وقربه، وعلمه سبحانه وتعالى بإِحسان المحسن وإساءة المسيء؛ لأنَّ تطويل الحساب يكون من جهل المحاسب، فيبطئ ليعرف؛ فإذا كان المحاسب هو العليم الحكيم الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فإن حسابه يكون كريما؛ إذ لَا تخفى عليه سبحانه خافية.

وفى هذا التذييل إشارة إلى عقاب الذين ليس لهم في الآخرة من خلاق على ما يرتكبون من موبقات ما داموا قد جعلوا الدنيا كل همهم، وغاية أمرهم، ومقصد وجودهم.

ص: 630

(وَاذْكروا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ معْدودَات

(203)

هذا ذكر لله خاص في أيام مذكورة بعد قضاء مناسك الحج؛ وقد أمر الله في الآية السابقة بالذكر العام، وفي هذه الآية ذكر

ص: 630

خاص، والأيام المعد ودات التي يصحبها ذكر خاص، أيام التشريق الثلاثة، وقد نقل القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن عن أبي عمر بن عبد البر الإجماع على أن الأيام المعدودات في الآية الكريمة هي أيام منى، أيام التشريق الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، وهي أيام أكل وشرب. وذكر الله الخاص في هذه الأيام بالتصدق على الفقراء من الذبائح التي ذبحوها في يوم النحر، ورمي الجمار فيها، بعد أن يكون الحجيج قد رموا جمرة العقبة في يوم النحر؛ وفي رمي الجمار يكبر عند كل حصاة يرميها؛ وهذا بلا شك ذكر خاص.

ورمي الجمار على ذلك الشكل في أيام منى الثلاثة عملي حسي مادي يقترن به عمل نفسي وجداني، وهو إشعار القلب بعظمة رب المالمين، وتلك الحركات الجسمية هي للدلالة على التعلق القلبي بالأرض التي بارك الله فيها، وبالتالي التعلق بمن شرفها بالانتساب إليه، فسماها حرمه المقدس، وبيته الآمن. وكون الحركات على هذا الشكل وبهذا الوضع ليس من الأمور التي تحلل، كما أن محاولة معرفة العلة في كون الصلاة على هذا الشكل محاولة في غير جداء، إنما هذا أمر توقيفي، قد ارتضاه رب المالمين على لسان النبي الكريم سبيل الزلفى إليه، وتوجه القلوب نحو ذاته العلية التي لَا يحدها مكان، ولا يجري عليها الزمان.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن هذه الأيام هي أيام منى بما روى الدارقطني والترمذي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا فنادى:(الحج عرفة، فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه)(1).

وإن هذه الأيام يحرم الصوم فيها عند جمهور الفقهاء؛ فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيام التشريق أيام كل وشرب وذكر لله "(2).

(1) رواه الترمذي عن عبد الرحمن بن يعمر: كتاب الحج - من أدرك الإمام بجمع (814)، ورواه النسائي (2994) وأبو داود (1664) وابن ماجه (3006) وأحمد (18022) والدارمي (1811).

(2)

رواه مسلم: كتاب الموم - تحريم صوم أيام التشريق (1926) وأحمد: أول مسند البصريين (19797).

ص: 631

(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى)

هذه الأيام هي التي يكون بعدها النفير إن كان قد أدى الحاج كل الأركان، وقد بين القرآن الكريم أنه لَا يلزم أن يبقى الأيام الثلاثة بمنى فإن شاء بقي يومين يرمي فيهما الجمرات، ونفر قبل فجر اليومِ الثالث؛ وإن شاء بقي اليوم الثالث؛ وهذا معنى الجملة الكريمة (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يوْمَيْنِ) أي سافر معجلا في اليومين الأولين فلا إثم عليه في التعجيل (وَمَن تَأخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي من بقي إلى تمام اليوم الثالث فلا إثم عليه.

وقد قيد الله سبحانه نفي الإثم بقوله (لِمَنِ اتَّقَى) للإشارة إلى أن العبرة بتقوى القلوب فتلك الحركات الحسية من التزام مكان معين في زمان معين، ورمي الجمار الثلاث لكل جمرة سبع حصيات؛ كل هذا لَا غاية له، ولا ثمرة إلا تربية التقوى وتنميتها في القلوب، لتتهذب النفس، ويربى الوجدان ويخشى العبد الديان، فيراقبه في كل الأفعال وكل الأقوال، فيكون مجتمعًا مهذبًا كاملًا صالحًا قويًا؛ لأن تهذيب الآحاد تقوية لبناء الجماعة، فلا تتنافر أجزاؤها، ولا تتباعد آحادها، وتقوم على تقوى من الله ورضوان.

وإن هذه الأيام التي يقوم فيها الحجيج بذلك الذكر في البقعة المباركة، يشاركهم فيها المسلمون في كل بقاع الأرض في بعض أفعالهم، وذكرهم؛ فالحجيج ينحرون ليتحللوا، وسائر المسلمين ينحرون ليضحوا، ويشاركوا وفود الله في صدقاتهم؛ والحجيج يكبرون ويرمون الجمار، والمسلمون في الأمصار يشاركونهم في التكبير عقب الصلوات.

وقد اتفق الفقهاء على أن المسلمين يسن لهم أن يكبروا عقب الصلوات من صبح يوم عرفة وهو اليوم التاسع إلى ما بعد صلاة العصر يوم عيد الأضحى؛ واقتصر أبو حنيفة على ذلك وتبع في ذلك عبد الله بن مسعود، ولكن أبا يوسف ومحمدا مع جمهور الفقهاء على أن التكبير لَا ينتهي عقب صلاة عصر يوم النحر، بل يستمر إلى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق، أي اليوم الثالث عشر من ذي

ص: 632

الحجة؛ وأن تكبير المسلمين جميعا إشعار لهم بأنهم جميعا مع الحجيج بقلوبهم وذكرهم؛ وأن المجتمع الأكبر في حرم الله هو جمعهم أجمعين، وأن أولئك الضيوف الذين حلوا في ساحة الكريم المنان هي وفودهم إلى ذلك المؤتمر الأكبر، وأن المؤمنين مهما تتباعد الديار كلهم على قلب رجل واحد في رفع راية الإسلام ونشر مبادئه الفاضلة.

(وَاتَقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ختم الله سبحانه وتعالى آيات الحج التي أشار فيها إلى مناسكه، وذكر فيها بعض أعمال الحجيج الواجبة فيها، بهذه الجملة السامية، وبذلك الأمر الجازم القاطع، وهو الأمر المكون من عنصرين أحدهما: تقوى الله، وثانيهما: العلم اليقيني بالحشر، وأنه سيكون إلى رب العالمين؛ وفي هذا إشارة إلى خلاصة التدين وثمرة العبادات بكل أنواعها وكل طرقها، فإن لم تؤد أية عبادة إلى هذين الأمرين، فهي صورة لَا روح فيها، وشكل لا ثمرة منه، فإن لم ترب العبادة قلبا خاشعًا، وعقلا خاضعًا، وهوى ممنوعا، وترقبا خائفا، فهي عبادة جوفاء، وإن نسي الشخص لغفلة في نفسه أو غفوة من عقله؛ أو غشيان الضلال على قلبه - الحشر والحساب والعقاب والثواب فقد ضل ضلالا بعيدا. . إن الإيمان باليوم الآخر هو لب الدين، وهو الفاصل بين المهتدي والضال، فمن حسبها دنيا لَا آخرة بعدها، فقد خسر خسرانا مبينا؛ خسر نفسه، فضل وأضل، وخسر حياته ففهمها أجلا محدودا لَا غاية وراءها، ولا سمو بعدها، وخسر العزاء الروحي الذي يجعله يرضى بشدائد الحياة رجاء لما وراءها؛ ولذلك قال الله تعالى:(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ. . .).

وفى الجزء الثاني من الأمر تهديد بالعقاب، بعد الترغيب في الثواب، وعند الله حسن المآب.

* * *

ص: 633

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

* * *

بين الله سبحانه وتمالي في الأيات السابقة بعض العبادات التي تطهر النفوس وتزكي القلوب، وتحمي الجماعات وتوجهها نحو الخير العميم؛ فذكر الصدقات ثم ذكر الصوم، ثم ذكر الحج الذي تتلاقى فيه القلوب وتلتقي فيه وفود الجماعات الإسلامية من كل فج عميق في الساحة الربانية؛ وقد ذكر في طيِّ الكلام أصناف الناس في أدعيتهم التي تكشف عن خبايا قلوبهم، وأن منهم من يطلب الدنيا، ولا غاية له وراءها، ومنهم من يقول:(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

والعبادات أيا كان نوعها دواء الجماعة وبلسم القلوب الشافي، وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الدواء الناجع ذكر سبحانه داء الجماعات المستحكم، ومرضها الممض، وهو النفاق، وخلابة اللسان مع فساد القلب والمظهر الحسن مع القصد السيئ، ومحاولة اجتذاب الناس بالقول المعسول مع فعله المرذول حتى إذا نال ثقتهم ملأ الدنيا بالشر، وظهر الفساد في البر والبحر.

ص: 634

وهكذا يذكر الله سبحانه دواء القلوب، ويذكر داءها، ليطب كل امرئ لنفسه بما يداويها، وتطب الجماعة لنفسها باجتثاث الشر من بين ربوعها، ونفي الخبث عنها كما ينفي الكير خبث الحديد.

وهذا التداوي يقوم به فريق الخير الذي نصبه الله سبحانه حجة للحق ومنارًا للشرع، وهذا ما ترمي إليه الأيات الكريمات:

ص: 635

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إلى آخر الآيات المذكورات.

وقد ذكر الله سبحانه في هذه الآيات أن الناس فريقان: فريق الشر أهل النفاق، وهم الداء، وهم درن الأمة، بل السرطان الذي يقضي عليها، إن لم يجتث من أصله. والفريق الثاني، وهم الذين يتولون العلاج وهم الأخيار الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله.

وقد ابتدأ سبحانه بذكر الداء، ليعلم أهل الخير مقدار ما يبتلون به، وقد ذكر صفات أهل الشر؛ فكانت ثلاثة:

أولها: حسن البيان والقول الحلو. وثانيها: كثرة الحلف الكاذب.

وثالثها: اللدد في الخصومة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) هي الصفة الأولى، وهي أصل الداء القاتل وقوته، فإن خلابة اللسان المنافق، وقوة البيان الكاذب، وحسن العرض للقول الباطل، هي المعاول القوية التي يرفعها المبطلون لهدم الفضائل؛ فهم بمعرفتهم بمأتى القول ومورده يثيرون الإعجاب بحسن تأتيهم، وينالون الاستحسان العظيم بلطف مداخلهم، أو بزخرف القول وزوره، ويسترعون ألباب بعض أهل الخير الكرام؛ فالمؤمن كريم، والمنافق خب لئيم (1).

(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَفَعَاهُ جَمِيعًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ ". [رواه الترمذي: كتاب البر والصلة - ما جاء في البخيل، (1887) وأبو داود: كتاب الأدب - حسن الحشرة (1458)، وأحمد في مسنده (8755)، الغر: قليل الفطنة للشر لكرمه وحسن خلقه. والخب: الخداع الذي يسعى بالإفساد بين الناس.

ص: 635

وقوله تعالى: (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إما أن يكون متعلقًا بالقول، ويكون المعنى يعجبك قولهم الذي يكون موضوعه الحياة الدنيا، إذ يفهمون ما فيها ولا يدركون سواها؛ لأنها خِلْب أكبادهم، وغاية أمورهم، ومن أحب شيئًا أحسن القول فيه، ومن كانت الدنيا همه أحسن حكاية أمورها، حتى إن قوله فيها ليكون عجيبًا؛ أما الآخرة فلا يحسن القول فيها، لأنه لَا يبتغيها، فإن تكلم في أمر يتعلق بها اعترته حبسة وعي وحصر.

وإما أن يكون (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) متعلقًا بالإعجاب، أي أن قدرته على إثارة الإعجاب والاستحسان لبيانه إنما يكون ذلك في الدنيا فينتج ثمرته حيث يكون الحكم للظاهر، ولا ينقب عن القلوب والسرائر، كما قال عمر رضي الله عنه: أيها الناس إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم هذا أمر الدنيا، أما الآخرة فالحكَم فيها علام الغيوب الذي يعلم ما تخفي الصدور، فلا سبيل للخديعة بالقول، فالله يكشف مستور القلوب، ويحكم عليه بمقصده وغايته، لا بقوله وإجادته.

ونحن نختار أن يكون متعلق الجار والمجرور لَا القول؛ لأنه الذي يتفق مع السياق؛ إذ إن السياق في بيان الذين يخدعون الناس في الدنيا وقلوبهم مريضة لا بيان حال من يجيدون القول فيها، وإن بعض الذين يجيدون القول في الدنيا أخيار لا أشرار.

هذا أول حال من أحوال الذين يظهرون ما لَا يخفون، ويقولون ما لا يفعلون.

أما الصفة الثانية فهي قوله تعالى: (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) أي أن هذا الذي يثير إعجاب الناس في الدنيا بخلابة لسانه وقوله الحلو المعجب المطرب، إن رأى الناس يتشككون في قوله أقسم بصدقه؛ لأنه قد يبدو من فحوى بيانه ما يدل على جنانه كما قال تعالى سبحانه في شأن المنافقين ومن في قلوبهم مرض:(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. . .)، فإذا لمح المخادع من النظرات التي

ص: 636

توجه إليه استغرابًا لدعاويه، أو استبعادًا لها، وثقها بأن أشهد الله على أن ما في قلبه يوافق ما يجري على لسانه.

فمعنى قوله تعالى: (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) أنه يقسم بالله تعالى إن ما جرى على لسانه هو نفس ما يختلج في قلبه، أو ما يؤمن به ولقد قرر علماء اللغة أن من ألفاظ القسم: الله يعلم أني فعلت كذا، أو الله يشهد أني قلت كذا؛ فهذا توكيد بالأيمان معروف في لغة العرب، ولقد قرروا أن الحلف على هذا النحو أوكد وأوثق من القسم الصريح، وقال بعض الفقهاء: إن من يقول كاذبا: الله يشهد بكذا أو يعلم بكذا، مؤكدا كذبه بذلك، يعتبر مرتدا، لأنه كذب على الله، أو رماه بالجهل، وعندي أن ذلك لَا يعد كفرا لعدم القصد إلى ذلك المعنى الإلحادي؛ ولكنه على أي حال مستهين بحق الله عليه كشأن كل حالف بالكذب، سواء أكان الحلف بلفظ صريح في الحلف، أو بلفظ يؤدي إليه.

أولئك المخادعون الذين يخدعون الناس ولا يخدعون الله هم الذين يقطعون أوصال الأمة، وبهم تبتلى، وبسببهم تنزل الفتن ويثور الشر، وتذهب الثقة بين الناس، وتقوم العداوة بينهم مقام المودة، والبغضاء محل الإخاء، لأنهم بخديعتهم للناس، ثم تكشف أحوالهم بمرور الأيام تضيع الثقة؛ ثم الذين يعمدون إلى تلك الأساليب الماكرة لَا يبغون خيرًا، بل لَا يبغون إلا شرا، لأن الأخيار لَا يحتاجون إلى إخفاء نياتهم، وما يجول في قلوبهم؛ إنما الذين يبدون ما لَا يخفون هم الذين توسوس نفوسهم بالشر والهوى، ولا يريدون أن يطلع عليه أحد؛ ولذلك عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الشر بأنه:" ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس "(1)، فالشر لا يعيش إلا في كِنٍّ مظلم والنور يقتله، والخير يزيده النور وضوحا وقوة ونماء " ومن كان الشر غايته فهو عنصر مخرب مفسد مهلك؛ وهو بلاء لأمته وجماعته وأسرته " بل بلاء على نفسه في الدنيا عندما يعلم أمره، وفي الآخرة له عذاب أليم.

(1) عَنْ النَّوَّاسِ بنِ سمعَانَ الأنصَارِي قَالَ: سألْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبِر وَالإثْم فَقَالَ: " الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكً فِى صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النًّاسُ ". [رواه مسلم: البر والصلة: البر والإثم (4632)، والترمذي في الزهد (2311) وأحمد (16973)، والدارمي: الرقاق (2670).

ص: 637

ولذلك كان أخوف ما يخافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من بعده: رجلا عليم اللسان منافق القلب (1)؛ فإن ذلك النوع من الرجال يثير التظنن بالصالحين، ويفسد الأمر على المحقين؛ ويجعل بأس الأمة بينها شديدا، ولقد روى ابن جرير عن بعض الصالحين أنه قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب؛ ويقول الله عز وجل: فعليَّ يجترئون وبي يفترون، وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران (2).

ومهما يكن من أمر ذلك الخبر، فإن معناه متحقق سجله الإسلام، وأثبتته الوقائع، فما من أمة ابتلاها الله بهيمنة هذا النوع من الرجال إلا فسد أمرها، واضطرب حالها، وسارت في طريق أوله نفاق وفساد، وآخره فتنة وخراب.

(وَهوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) هذه هي الصفة الثالثة الملازمة للمخادعين الذين يستلبون قلوب الناس من جنوبهم بحسن بيانهم وكذبهم على الله بايمانهم، والألد من معناه في اللغة: العوج، وفسر بعض العلماء قوله تعالى:(وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا).، أي عوجًا، والمنافق ألد دائما لأنه أعوج دائما.

واللدد من معناه اللغوي أيضا: الشدة في الخصومة والمغالبة فيها، ويقال رجل ألد وامرأة لدَّاء، وقد لَددَ يَلُدُّ - كفرح يفرح - لددا؛ أي صار ألد، ولدَدْته ألُدُّ كنصر ينصر إذا جادله فغَلبه، وقال الزجاج في أصل اشتقاق اللدد بمعنى الشدة في الجدل والخصومة إنه مأخوذ من لديدي العنق، وهي صفحتاه؛ وتأويله أنه من أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الجدل غلب.

(1) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِن أخْوَف ما أخَاف عَلَى أمَّتِى كُل مُنَافِقٍ عَليم اللسَانِ ". [رواه أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة (137)].

(2)

روى الترَمذي: كتاب الزهد - باب ما جاء في ذهاب البصر (2328) عن أَبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: أَبِي يَغْتَرُّونَ، أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ؟ فَبِي حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا ".

ص: 638

والخصام - إما أن يقال إنه مصدر خاصم أي جادل أو عادى؛ أو تقول جمع خصم كضخم وضخام؛ وقال أبو عبيدة الأول أي أنه مصدر خاصم، وقال الزجاج الثاني.

والمعنى على الأمرين: أن ذلك النوع من الناس الذي يحاول أن يخدع الناس بحلو لسانه، ويضلهم بقدرة بيانه، فيه طبع ملازم له، وهو شدة الخصومة، ويصح أن نفسر الخصومة بالعداوة، كما يصح أن نفسرها بالجدل والمغالبة البيانية في ميدان المناظرات.

وعلى الأول يكون المعنى إنه شديد العداوة واللجاجة في الخصومة، فليس هينا لينا قريب الرضا سهل الرجوع، بل إنه لحب نفسه وكراهيته لخير الناس، لا يصفح عمن ينال منه ولو بالحق فهو قد أكل الحقد قلبه، واعتركت في نفسه حسكة (1) الحسد؛ وكذلك كل شرير؛ لَا يحب الناس، ولا يظهر لهم المودة إلا برئاء القول: بل ذلك شأن المجرمين؛ ففي طبيعة كل مجرم بغض للمجتمع، وكأن بينه وبين الناس ثأرا لَا يطل، وترات (2) يجب استيفاؤها؛ وكلما انحدر في جريمة وتلقفته يد العدالة ازداد للناس كرها وعاد إلى مثلها أو أكثر؛ وكذلك أولئك الذين في قلوبهم مرض، وفي ألسنتهم حلاوة يخدعون بها الناس: يبغضون الناس ولا يحبونهم إلا بمقدار ما ينالون من أرب فيهم، ولا يصفحون عمت ينالهم بالقصاص العادل، ويتبعون العورات؛ وهكذا هم في خصومات قلبية بينهم وبين الأخيار؛ يظهرون القول الحسن ليستمكنوا من الرقاب، ثم يشفوا غيظهم.

وعلى الثاني، وهو أن يكون الخصام بمعنى المجادلة والمنازلة البيانية، يكون المعنى: أن هؤلاء الذين يخادعون الناس بالقول الحلو، يثيرون الإعجاب بحسن بيانهم، ويوثقونه بالأيمان المغلظة، ويجادلون عنه بقوة وعنف وغلب؛ فالكلام

(1) الحسكة: نبت له ثمرة خشنة (السعدان)، أو عشب له شوك يؤذي، وحسكة الصدر: العداوة والحقد والضغينة، على التشبيه. لسان العرب.

(2)

ترَّات: جمع ترة، من تر العضو إذا بانَ وانقطع بضربة بالسيف ونحوه. لسان العرب.

ص: 639

يكون كله في بيان منهاجهم في خدع الناس، وسلب ثقتهم بقول الزور؛ ولذلك كان هذا المعنى أنسب للسياق.

واللدد في الجدل في ذاته صفة ملازمة للمراء والمهاترة؛ لأن من يكون همه الجدل يندفع إلى تأييد مذهبه بالحق وبالباطل، إذ لَا يهمه الحق بمقدار مايهمه انتصار فكره، وغلبه في ميدان النزال البياني؛ ولذلك كان مبغضا إلى الله، وإلى الذين يدعون إلى الحق المجرد؛ ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم:" إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم "(1) ولقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يقول: كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

وفى الحق إن أولئك الذين يحاولون أن يكسبوا قلوب الناس ليتمكنوا من رقابهم بالقول المعسول الخادح فيهم الأمران السابقان: فيهم البغض الشديد للناس، وفرضهم أعداء وخصوما، ولا يفرضونهم أولياء وإخوانا؛ وفيهم اللدد في الجدال ومحاولة الغلب بالحق وبالباطل.

بل إن بغضهم للناس، أو على الأقل عدم نظرتهم إليهم نظرة أخوة واصلة، ومودة مقربة، هي التي جعلتهم يحاولون خديعتهم بالقول البراق، واليمين الغموس، والجدل الذي تبرق فيه الألفاظ، ويختفي فيه نور الحق وتنقطع به أسباب اليقين؛ ولو كانوا يفرضون الأخوة الرابطة بينهم وبين الناس، لأحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم، ولكرهوا ما يكرهون لهم، ولكشفوا عن نيتهم واضحة بينة؛ فالحق دائما أبلج، والباطل لجلج (2)؛ فحيثما كانت خديعة فثمة هوة فارقة، لَا أخوة جامعة؛ وحيثما كانت لجاجة فثمة حق ضائع وباطل رائج.

(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب المظالم والغضب (2277)، ومسلم: العلم (4821) عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

(2)

يقال: الحَقُّ أبْلَجُ والباطلُ لَجْلَج، أي يُرَدد من غير أن يَنْفذ، واللَّجْلَجُ: المخْتَلِطُ الذي ليس بمستقيم، والأبْلَجُ: المُضِىءُ المُستقيمُ. لسان العرب.

ص: 640

(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) في هذه الآية الكريمة بيان الغاية التي تغياها من يريد أن يخدع الناس، فهو يخدعهم ليمكن لأهوائه وشهواته. وإذا تمكنت الأهواء والشهوات واندفع الشخص في اجتراعها، يشتار عسلها (1) من غير دين رادع، ولا حكم زاجر - سرى الفساد في جسم الأمة كما يسرى الداء العضال في جسم المريض، وبذلك يهلك الحرث والنسل، أي يهلك الزرع والحيوان، وفيهما جماع حاجات بني الإنسان، فما من أمر يحتاج إليه الإنسان في مقومات جسمه إلا كان من الحيوان أو من النبات، وهلاكهما كناية عن الخراب العام، والضيق الشديد، والفساد المستحكم، وضياع المصالح.

والحرث: مصدر حرث يحرث؛ بمعنى أثار الأرض لإعدادها للزراع ثم أطلق وأريد به المحروث وهو الأرض نفسها، ثم أطلق وأريد به ثمرات الحرث وهو الزرع الذي حان حصاده، والثمر الذي آتي اكله؛ والمراد به هنا ذلك.

والنسل في أصله: مصدر نسل ينسل بمعنى خرج وسقط، ومنه قوله تعالى:(إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) وقوله تعالى: (مِّن كلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ)

، أي يخرجون، ثم أطلق على خروج الحيوان (2) من بطن أمه وولادته، ثم أطلق وأريد به ذات الحيوان الوليد.

وفى التعبير بهلاك الحرث والنسل بسبب استحكام الشهوات وسيطرة أهل الأهواء، إشارة كما قلنا إلى عموم الفساد في المدائن والقرى، وبين أهل الزرع وسكان البوادي، أي بيان عموم الشر للحاضرة والبادية؛ لأن هلاك النسل رمز لهلاك ما تقوم عليه البادية وما به قوام حياتها؛ إذ إن رأس مال البادية النعم من الإبل والبقر والغنم وأخواتها، وقيام الثروة في سواد الأرض الزرع وما تنتجه

(1) اشتار العسل: اجتناه من خلاياه ومواضعه. قلت: وسياق الكلام يدل على المقصود وهو ما يجده الفاجر من لذة الشهوات المحرمة، هي عنده كالعسل حلاوة لمّا مات قلبه، وفسد حسّه، حتى إذا ما جاءهم الموت حيل بينهم وبين ما يشتهون.

(2)

الحيوان: الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة [التعريفات - باب الحاء - ج 1 ص 13]. فيشمل الإنسان والبهائم.

ص: 641

الأرض، فإذا هلك الأمران بسبب استحكام الأهواء والشهوات، فقد عم الفساد؛ وهلك العباد.

وقوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَ) قد قال العلماء فيه إن التولي يحتمل أحد أمرين: إما أن يكون معناه الانصراف والذهاب بعد أن خدع الناس بحلو القول وأقسم بالأيمان المغلظة الكاذبة وجادل وناضل فيما يدعيه من حب للخير والإصلاح، وإما أن يراد به التولي بمعنى الولاية والإمرة على الناس، ولقد قال العلماء إن الآية الكريمة تحتمل الأمرين كما نوهنا.

وعلى الأمر الأول يكون المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده: إن ذلك الذي يدعى الصلاح والإصلاح، وحب الخير والمنفعة، ويعلن ذلك بحلو اللسان، ويقسم عليه الأيمان، ويجادل عنه بأبلغ البيان - إذا تفرقت المجالس، وانصرف إلى العمل، بدت طويته، وظهرت نيته، وانكشفت سريرته، فاندفع في الشهوات ينال منها؛ وقد ترك قوله دَبر أذنه، وما قال ما قال إلا ليكيد أو ليخفي حقيقة أمره، فيكون منه الشر والفساد، وإذا كثر من على شاكلته فسدت الحال، وكانت العاقبة السوءى.

وعلى الأمر الثاني، وهو أن يكون معنى تولى صار واليًا: أن هذا الذي اجتذب ثقة الناس بالأماني البراقة، والأقوال الخادعة والأيمان الكاذبة واللسن في الجدل إذا تحققت بغيته، ونال طلبته، وصار واليًا على الناس، لَا يسعى لنفعهم، ولا يقيم الحق بينهم، بل يسعى لإشباع رغباته، ويحكم الناس لنفسه لَا لهم، والفاصل بين الحكم العادل والحكم الظالم، أن الحاكم العادل يعتقد أنه تولى أمر الناس لتكون ثمرة الحكم للناس، كما كان الشأن في أبي حفص عمر رضي الله عنه، وأما الحاكم الظالم فهو الذي يحكم الناس لتكون الثمرة له ومن معه، وأمثلة ذلك في التاريخ كثيرة لَا يحصيها العد.

وهذا الخادع الكاذب المجادل المرائي يكون حكمه الناس لنفسه لَا لهم، ومن ثم تحكم رغباته وأهواؤه، ومن حكمت رغباته وأهواؤه فإن لممعيه لَا محالة يؤدي إلى الفساد، لَا إلى الصلاح، لأن الطمع يلد الطمع، والهوى يلد الهوى فتتسلسل

ص: 642

الأهواء في سلسلة أولها إعجاب بالنفس وزهو وخيلاء، وآخرها ضياع وفساد، وهلاك للحرث والنسل، ثم ذل واستخذاء.

واللام في قوله تعالى: (لِيُفْسِدَ فِيهَا) هي التي يسميها العلماء لام العاقبة أي أنها تشير إلى أن العاقبة - في عمل المتولي الذي يحكم الناس لنفسه ولرغباته وأهوائه لا لمصالحهم ونفعهم - هي الفساد في الأرض، والهلاك العام لكل ينابيع الثروة في البلاد، والله يتولى برحمته العباد.

ونحن نختار أن يكون معنى التولي هو صيرورته واليًا؛ لأنه ذلك هو الذي يتفق مع الآية الآتية، وهي قوله تعالى:

ص: 643

(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ).

وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) وذلك لعدة أمور:

أولا - لبيان أن الله لَا يحب ذلك الصنف من الناس الذي يخدع الناس ويكذب على الله، ويجادل ويمارى، ويضل عن بينة، ويسعى في الأرض بالفساد؛ إذ الله لَا يحب الفساد فلا يحب المفسدين، ومن لَا يحبه الله فهو بعيد عن رحمته، معرض لنقمته.

ثانيا - ولبيان أن الله سبحانه وتعالى لَا يريد بما فرض من عبادات إلا مصلحة الناس ودفع الضر عنهم، فهو الغني الحميد الذي لَا يكسب من عبادة عابد؛ ولا يضار من فسق فاسق؛ إنما الأمر في ذلك إلى مصلحة الناس ودفع الضر عنهم.

ثالثا - وفوق ذلك هذا التذييل يدل على أن شرع الله كله أساسه إقامة المصلحة ودفع المضرة، فما من أمر شرعه الله إلا فيه جلب نفع أو دفع ضرر، وأن دفع الضرر، مقدم على جلب النفع، وأن دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص، وأن جلب المنفعة العامة مقدم على جلب المنفعة الخاصة.

رابعا - وإن هذا التذييل فوق ذلك يشير إلى أن الله سبحانه استخلف الإنسان في هذه الأرض ليَعْمُرها لَا ليفسدها، فأولئك الذين يبذلون الجهود العقلية ليصلوا

ص: 643

إلى ما يدمر الأرض ويخربها ويجعلوا عاليها سافلها قد ضلوا عن سنة الله، وخرجوا على قانون الفطرة وهم بعيدون عن محبة الله؛ لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) هذه حال الطغاة يرتكبون ما يرتكبون، وينزلون بالناس ما ينزلون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنًا، وإذا كانت النوازل تنزل بالضعفاء لم يلتفتوا إليها لعماية الطغيان وفساد البصر والمدارك، فإذا تقدم أحد الناس مرشدًا واعظًا نهروه، وربما امتدت إليه أيديهم بالأذى، وأخذتهم العزة؛ أي الاستعلاء الجاهلي وحماقة الكبرياء؛ ودفعتهم الجرائم إلى إثم آخر فوق إثم الطغيان، وفوق ما ارتكبوا من آثام، وما أنزلوا بالضعفاء من آلام.

والباء في قوله تعالى: (بِالإِثْمِ) إما أن تكون بمعنى المصاحبة والاقتران، والمعنى على هذا أخذتهم العزة واستولت عليهم مقترنة بالإثم مصاحبة له، فهي ليست عزة محمودة، بل كبرياء مبغوضة؛ أو تكون الباء للسببية بمعنى لام التعليل، ويكون المعنى: أخذتهم العزة الغاشمة والعنجهية الظالمة بسبب الإثم الذي استغرق قلوبهم وأحاط بنفوسهم، أي أنهم لفرط ما ارتكبوا من آثام، قد أحاطت بهم خطيئاتهم فسدت مسارب الهداية إلى قلوبهم، فإذا سمعوا كلمة الرشاد لم يتقبلوها، وأنغضوا رءوسهم حاسبين أن ذلك إهانة لسلطانهم؛ وإصغار لشأنهم، وما هو في حقيقة الأمر إلا حماية للسلطان، وإكبار للأمر، وخصوصًا إذا كان من ناصح أمين.

وإذا كانت تلك حالهم فلا صلاح لهم في الدنيا؛ وهم في إحدى حالين، وكلتاهما نتيجتها السوءى: إما أن يديل الله منهم في الدنيا، ويجعلهم عبرة المعتبرين، ويذيقهم وبال أمرهم في الدنيا، وتمامه في الآخرة. . وإما أن يمهلهم ويملي لهم حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ويلقي بهم في نار جهنم؛ ولذا قال سبحانه:(فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)، الفاء هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانت هذه حال ذلك الطاغي الفاجر: لَا يقيم الحق، بل يفسد،

ص: 644

ولا يطيع الناصح بل يؤذيه، وربما يقتله؛ فالله كافيه ومتوليه، وهو العزيز المنتقم الجبار، والله سبحانه ينزل به العذاب الأليم، بإلقائه في نار الجحيم؛ فمعنى (فَحَسْبُهُ جَهَنَّم) أي جهنم هي التي تكفيه، بدل كلمة الحق التي كانت تؤذيه، (وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) اللام هنا تنبئ عن قسم مقدر وهي داخلة على جوابه، والمهاد جمع مهد، وهو المكان المهيأ للنوم، والتعبير عن جهنم بأنها بئس المهاد لَا يخلو من تهكم بأولئك الفاجرين، كما يقال:(تحية بينهم ضرب وجيع) وكقوله تعالى: (فَبَشِّرْهم بِعَذَابٍ أَلِيم).

وبعد، فإن أول مظاهر الطغيان صم الآذان عن سماع كلمة الحق؛ ولعل الأمارة الظاهرة للحاكم العادل هي سماعه النقد والملام، فضلا عن الوعظ والإرشاد؛ وأمارة الحاكم الطاغي تبرمه بنصح الناصحين ونقد الناقدين فضلا عن لوم اللائمين؛ والمثل في التاريخ كثيرة مستفيضة؛ يروى أن رجلا قال لعمر بن الخطاب أمثل الحكام: اتق الله، فقال بعض الحاضرين أو تقول لأمير المؤمنين:(اتق الله) فالتفت الفاروق، وقال: ألا فليقلها، لَا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها! وعمر هذا هو الذي صاح عندما تولى: من رأى منكم فيَّ اعوجاجا فليقومه فقال أعرابي: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا! فقال أبو حفص: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوِّم عمر إذا اعوج! ولو تنزلنا عن مقام عمر مقام الصديقين لوجدنا من بعض الحاكمين حتى في عصور الاستبداد من يستمع إلى كلمة الحق أحيانًا؛ يروى التاريخ أن يهوديا له حاجة تلقى هارون الرشيد، وهو خارج، وقال له: اتق الله يا أمير المؤمنين وذكر حاجته، فنزل هارون عن دابته وخر ساجدًا، ثم أمر فقضيت لليهودي حاجته؛ فقيل له: يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك لقول يهودي! قال: لَا، ولكن تذكرت قول الله تعالى:(وَإذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ).

وبجوار هذه الذكريات العطرة، توجد صور معتمة؛ ومن ذلك ما قاله أحد ملوك بني أمية: من قال لي: اتق الله قطعت عنقه.

ص: 645

بل إن هذه الصورة المعتمة هي التي يسود بها تاريخ المستبدين، فإن لم يقولوها بلسان المقال قالوها بلسان الفعال، وهو أقوى أثراً وأبعد طغيانا؛ ولذلك كان من الجهاد في سبيل الله: أن يقول المؤمن لهم كلمة الحق؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: " أفضل الجهاد كلمة حق لسلطان جائر "(1).

(1) رواه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (10716) في حديث طويل فيه مواعظ وفوائد. ورواه الترمذي في الفق (2100)، وأبو داود في اللاحم (3781).

ص: 646

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) بعد أن ذكر الله سبحانه بعض الناس الذين يعدون داء الجماعات التي تؤدي إلى الفساد، وإلى الهلاك، وحالهم إذا تولوا حكم الناس - ذكر أهل الفضل الذين يعدون دواء هذا الداء، وعلاج ذلك المرض الفتاك، وصلاح ذلك الفساد؛ فإنه إذا كان طغيان بعض الولاة هو الذي يؤدي إلى هلاك الحرث والنسل، فأولئك الأبرار الذين يجاهدون الطغيان هم الذين يقفون تياره، ويصدعون بأمر الله، وهم الذينِ باعوا أنفسهم مجاهدين ناطقين بكلمة الحق؛ ولذا قال سبحانه:(وَمِنَ النَّاسِ من يَشْرِي نَفْسَه) أي يبيع نفسه لله سبحانه؛ فيفدي دين الله والحق بنفسه وماله وكل ما يملك وفي ذكر الفريق المقابل لأهل الشر بذلك الوصف الذي يشعر بأن أخص حالهم بذل النفس والنفيس، لا مجرد الإخلاص والبراءة من النفاق - إشارة إلى عظم المهمة الملقاة على عاتقهم، وهي مجاهدة الشر والتغلب عليه، وإزالة أوضاره؛ فإن ذلك يقتضي التعرض للأذى، بل للتلف، ومن قتل في سبيله قتل شهيدًا، بل إنه يكون أفضل الشهداء، كما صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم (2).

(2) عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الشُّهَدَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الَّذِينَ إِنْ يُلْقَوْا فِي الصَّفِّ لَا يَلْفِتُونَ وُجُوهَهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا، أُولَئِكَ يَتَلَبَّطُونَ فِي الْغُرَفِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ، وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ، وَإِذَا ضَحِكَ رَبُّكَ إِلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا فَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ " ". [رواه أحمد: باقي مسند الأَنصار (21438)].

وروى الترمذي: فضل الشهداء عند الله، عن عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الإِيمَانِ، لَقِيَ العَدُوَّ، فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ، فَذَلِكَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ هَكَذَا " وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى وَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ، قَالَ: فَمَا أَدْرِي أَقَلَنْسُوَةَ عُمَرَ أَرَادَ أَمْ قَلَنْسُوَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: «وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الإِيمَانِ لَقِيَ العَدُوَّ فَكَأَنَّمَا ضُرِبَ جِلْدُهُ بِشَوْكِ طَلْحٍ مِنَ الجُبْنِ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا لَقِيَ العَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ =

ص: 646

وإن هذا الذي يبيع نفسه لله سبحانه، ويفدي الحق بنفسه وماله، لَا يطلب إلا ثمنا واحدا، هو أعلى الأثمان، وهو رضا الله سبحانه وتعالى؛ ولذا قال سبحانه فيما يطلبه:(ابْتِغَاءَ مرْضاتِ اللَّهِ) الابتغاء: الطلب الشديد والرغبة القوية الصادقة؛ ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا، ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين التعبير بالمصدر الميمي وغيره؛ والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعا قائما متحققا في الوجود، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجردا؛ فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجردا من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أو لَا، أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق، أو في صورة الوجود المتحقق؛ وعلى ذلك يكون معنى (ابْتِغَاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلبا موثقا رضا الله سبحانه حقيقة واقعة مؤكدة، ويتصورون رضاه سبحانه حقيقة قائمة قد حلت بهم، فيشتد طلبهم، وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم.

وأولئك الذين باعوا أنفسهم لله، وافتدوا الحق بأموالهم وأنفسهم، هم حجة الله القائمة في عهد الظلم والظلمات؛ وإذا كان الله سبحانه وتعالى يبتلي الجماعات بأهل الشر والطاغوت، وحكم الظالمين؛ فإنه يرسل في هذا البلاء أولئك الذين ندبوا أنفسهم للحق يدعون عليه، ويجهرون به، ويجاهدون في سبيل الله لرفع مناره، وجعل كلمة الله هي العليا؛ وعندئذ يكون معهم كل من يميل إلى الحق قلبه، وبين هؤلاء قوم لَا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

وبذلك يكون الناس أربع طوائف:

أولاها - أهل الشر الطاغون، الظالمون.

= حَتَّى قُتِلَ فَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ لَقِيَ العَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ». قَآلَ أبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسنٌ غَرِيب. ورواه أحمد في مسند العشرة المبشرين (145)

ص: 647

وثانيتها - أهل العدل الذين يفتدون الحق بأنفسهم وأموالهم، ويطرحون كل هوى لهم في سبيل رضا الله وإقامة الحق.

وثالثتها - أولئك الذين يتبعونهم وإن لم يبلغوا شأوهم، ولم يفتدوا الحق مثل افتدائهم.

ورابعتها - أولئك الذين ينظرون، ويتبعون الفريق الغالب في هذه المعركة التي تقوم بين الخير والشر؛ وأولئك هم الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم الإمعة؛ وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن مسلكهم، فقال:" لَا تكونوا إمعة؛ تقولون إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا "(1).

(وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) ذَيَّل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بتلك الكلمة السامية؛ للإشارة إلى أمور ثلاثة وصلت إليها مداركنا:

أولها - إن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده جعل الخير القوي بجوار الشر المندفع، فهدى الله أهل الخير الأقوياء إلى مدافعة أهل الشر الطغاة، ولولا ذلك لعم الفساد، وهلك العباد، (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ. . .).

وثانيها - الإشارة إلى أن الغلب للحق دائما؛ لأن ذلك من دواعي رأفته ورحمته بعباده، والحق الذي يجيء بالمغالبة حق قوي عزيز يعض عليه بالنواجذ؛ وفيه إعلان لغلبة المعاني الإنسانية على النواحي الحيوانية.

وثالثها - إن من رحمة الله بعباده ألا يمكن للظالمين، وأن يمكن للعادلين؛ فإن الحكم العادل يكون رحمة بالناس ورفقا بهم؛ والحاكم العادل ظل الله في أرضه، ورحمته بخلقه؛ وتسليط الظالمين من أمارة غضب العلي الحكيم.

(1) رواه الترمذي: كتاب البر والصلة - باب الإحسان والعفو (1930). والإمعة من يقلد غيره في قوله أو فعله.

ص: 648

ثم في تذييل الآية ذلك التذييل فوق ما سبق دعوة إلى الرحمة بالناس والرفق بهم والحدب عليهم، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:" اللهم من وليَ من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن وليَ من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به "(1) اللهم هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.

* * *

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

* * *

(1) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَتْ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَقَالَتْ: كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا، إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ، فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهُ لَا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: «اللهُمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ ". [رواه بهذا اللفظ مسلم: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (3307) ورواه أحمد مختصرا (23481)].

ص: 649

بين الله سبحانه في الآية السابقة على هذه الآيات حال أولئك الذين يفرقون بين الجماعات، ويعيثون في الأرض فسادا، ويهلكون الحرث والنسل، وفيهم لدد وعنف وخصومة تغري بالعداوة، وتنشر الفرقة والانقسام؛ وكل هذا ضد مبادئ الإسلام؛ ولذلك ناسب بعد أن بين عمل المفسدين، أن يبين واجب المصلحين؛ وهو السلم بين بني الإنسان، والوحدة بين أهل الإسلام، ولذلك قال سبحانه:

ص: 650

(يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَةً) قرئ السِّلم بكسر السينِ، كما قرئ في قراءة مشهورة بفتحها، وكذلك قوله تعالى:(وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. . .)، فقد قرئ بفتح السين، كما قرئ في قراءة أخرى مشهورة بكسرها (1)؛ ولذلك قال الكسائي وعلماء البصرة: إن السِّلم والسَّلم بمعنى واحد، ويطلقان على المسالمة وعلى الإسلام؛ وفرق عمرو بن العلاء فقرأها في هذه الآية بالكسر، وقال: إنه الإسلام، وفي قوله تعالى:(وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ. . .)، قرأها بالفتح، وقال: المراد الموادعة والمسالمة؛ وأنكر المبرد هذه التفرقة.

وعندي أن لفظ السلم بالكسر أو الفتح هو للمسالمة والصلح، وإطلاقه على الإسلام من حيث إن أحكام الدين الحنيف تتجه كلها نحو تحقيق السلام بين الناس، وتخليص القلوب من أدرانها، وتوجيه الناس نحو السلامة، والبعد بها عن مواقع الهلاك.

وما معنى السلم في الآية: أهو الإسلام، أم هو المسالمة والموادعة والصلح؟ اتجه بعض المفسرين من السلف والخلف إلى أن معنى السِّلم في الآية الإسلام؛ ومعنى كافة: مجتمعين، وتكون كافة حالا من الواو في " ادخلوا " أو تكون حالا من كلمة " السلم "، والمعنى على الأول: يَا أيُّهَا الذين آمنوا وصدق إيمانهم ادخلوا في الإسلام مجتمعين غير متفرقين ولا متنابذين، أي انقادوا لأحكامه

(1)(لِلسِّلْمِ) هذه القراءة لأبي بكر والمفضل كلاهما عن عاصم، وقرأها بالقح (لِلسَّلْمِ) نافع وابن كثير وأبو جعفر والكسائي. غاية الاختصار - ج 2/ 427.

ص: 650

مجتمعين لَا يفرقكم إقليم ولا يحاجز بينكم جنس ولا لون، لأن وصف الإيمان جامعكم، وكلمة التوحيد رابطة بينكم؛ فإيمانكم يبعثكم إلى أن تكونوا طائعين منقادين للإسلام في اجتماع لَا افتراق معه، ويوجب عليكم أن قوحدوا كلمتكم.

والمعنى على أن كافة حال من " السلم ": ادخلوا في الإسلام بكل شرائعه وأحكامه، فلا تأخذوا بحكم وتتركوا حكما، فلا تأخذوا بالصلاة وتمنعوا الزكاة، ولا تأخذوا بأحكام الزواج وتتركوا أحكام الربا، ولا تأخذوا بنظام الميراث وتتركوا أحكام الحدود وتعطلوها، وهكذا لَا يصح أن يؤخذ بعض الإسلام، ويترك بعضه، من فعل ذلك كان كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه، وكان كمن جعل أحكام القرآن عضين، فيفرق بينها بالطاعة والعصيان، والأخذ والترك، وأحكام الإسلام كل لا يقبل التجزئة، ومجموعها هداية العقول، وطب القلوب، وعلاج الأدواء الاجتماعية والشخصية، فمن أخذ ببعضها وترك الآخر، فقد فتح في قلبه للشيطان ثلمة ينفذ منها، وحيثما حل الشيطان في قلب زلت الأقدام، وحكمت الأوهام، فيطمس نور الهداية من قلبه، وتنحل عُرَى الإسلام في نفسه من بعد ذلك عروة عروة.

هذا توضيح المعنى على تفسير كلمة السلم بمعنى الإسلام، وهو قول الأكثرين. وقال قتادة ووافقه بعض مفسري السلف: إن معنى السلم المسالمة والموادعة والصلح، وهو يشمل مسالمة المسلمين فيما بينهم، فلا يفترقون، ولا يختصمون، ولا يتنازعون حتى لَا يكون بأسهم بينهم شديدا، ويكونوا طعمة للآكلين ونهزة للمفترضين، كما يشمل مسالمتهم لغيرهم، فلا يعتدون على غيرهم ما دام لم يعتد عليهم.

والمعنى على هذا: يَا أيُّهَا الذين آمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم أن تدخلوا في السلام العام، فلا تنابذوا أحدًا لم يعتد عليكم، ولا تقاتلوا من لم يرفع عليكم سيفًا، ولم يوال عليكم عدوا، ثم قووا وحدتكم بالسلم الموثقة والإخاء الجامع.

ولا شك أن السلام بين المسلمين أمر يفرضه الدين، وهو مما علم من الدين بالضرورة لَا يماري فيه من في قلبه ذرة من إيمان، ومن قال غيره فقد أعظم الفرية على الإسلام وأهله.

ص: 651

أما مسالمة المسلمين لغير المسلمين فقد أثار القول حولها من فهم ظواهر الأمور، ولم يتغلغل في بواطنها، إذ قال إن الإسلام قد أباح القتال، والقتال والسلام نقيضان لَا يجتمعان، والكثرة الكبرى من فقهاء المسلمين تقرر أن الأصل في العلاقة الدولية بين المسلمين وغيرهم الحرب، حتى يتقدموا بعهد أو موادعة، كما قال سبحانه:(وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْم فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوكلْ عَلَى اللَّهِ. . .).

ذلك قول الذين فهموا الأمور بظواهرها. والحقيقة أن الإسلام دعا إلى السلام وحث عليه، ومبدؤه العام التعارف بين بني الإنسان لَا التنابذ بينهم؛ ولذا قال تعالى:(يَا أَيّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. . .)، فما جاء الإسلام للحرب والخصام، بل جاء بالهدى والسلام، ولكن سلام الإسلام سلام عزيز قوي، وليس بسلام ذليل خانع، والسلام القوي يرد الاعتداء بمثله؛ ولذلك لما اعتدى المشركون على المسلمين أباح الإسلام القتال وقال سبحانه:(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)، فما أباح الإسلام القتال إلا لدفع الاعتداء، وليس القتال لدفع الاعتداء إلا دعوة إلى السلام القوي الفاضل، وفرق ما بين السلم العزيزة القوية، وبين الذل والخضوع، أن السلام القوي هو القدرة على رد اعتداء المعتدين إن اعتدوا؛ أما الذل فهو الاستسلام والخضوع للمعتدين، وما بذلك أمر الإسلام، وليس هذا من السلام في شيء، بل هو إغراء بالقتل والقتال وتمكين لظلم الظالمين.

وإنه لَا يغري بالقتال إلا ضعف الضعفاء واستخذاؤهم، فإن أخذوا الأهبة وأعدوا العدة وقاوموا الشر بمثله، تروَى القوي في غارته، أو امتنع عن عدوانه، فما استمرأ الذئب لحم الشاة إلا لأنها ليس لها ناب، وما عاف الأسد لحم الأسد إلا

ص: 652

لأن له نابا وبراثن يفتك بها، فالحرب أنفَى للحرب، والقوة العادلة سبيل السلم العزيزة.

ولقد قرر الفقهاء أن الأصل الحرب حتى يكون عهد، لأن الأصل بين الدول في وقت استنباطهم كان الاعتداء حتى يتعاهدوا، فما كان الإسلام ليسالم وهم يحاربون.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدوٌّ مبِينٌ) الخطوات: جمع خطوة بفتح الخاء وضمها، وهي مابين قدمي من يخطو، والمعنى: لَا تتبعوا سير الشيطان. وعبر عنه بخطواته لأن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء لَا تجر المرء إلى الشر دفعة واحدة، بل تأخذه إليه درجة درجة، فيبتدئ بأيسرها وأصغرها فيقتحمه من أغواه لصغره، حتى إذا ألفه جرأه على ما هو أكبر منه، ثم ما هو أكبر حتى تحيط بالنفس خطيئاتها، وتستغرقها مآثمها، فيكون الشرير الآثم الذي تصعب عليه التوبة ولقد قال العلماء: إن كثرة ارتكاب الصغائر تجري على الكبائر، والشيطان يأتي من صغائر المعاصي ليغرس في النفوس غرس الرذائل، فخطوات الشيطان مدارجه يغري بالواحدة بعد الأخرى حتى يصل بالمرء إلى أقصى درجات الرذيلة.

ولقد كان ذلك النهي بعد الأمر بالدخول في السلم، لأننا إن فسرناه بالإسلام يكون المعنى ادخلوا في الإسلام كله، ولا تحلوا عراه عروة عروة باتباع خطوات الشيطان، وإطاعة هوى النفس الأمارة بالسوء، فإن ذلك يذهب بالإسلام كله وبحرماته في النفس؛ وإن فسرنا السلم بالسلام والموادعة، فيكون المعنى: لَا تحلوا وحدتكم، ولا تتبعوا خطوات الشيطان المفرق لجماعتكم بإغرائه وتدرجه في الإغراء وإردافه المعصية المفرقة بأكبر منها حتى يكون الانقسام، ويكون بأس المسلمين بينهم شديدًا.

ولقد ذيل الله سبحانه الآية بقوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُو مُّبِينٌ) أى إن الشيطان الذي يتحكم في النفس الأمَّارة عدو مبين، أي ظاهر العداوة، بظهور آثار المآثم التي يحرض عليها، في تفريق الجماعة، وضياع الكلمة، وإصابة أهل الإسلام بالذلة،

ص: 653

وجعلهم طعامًا سائغا؛ فظهور العداوة بظهور آثار الأعمال الوخيمة؛ إذ إنه يغري باتباع الشهوات وهي حلوة المذاق، فإذا ذاقها من أغواه اندفع فيها، وهي مردية في نتائجها وبيئة في نهاياتها، فيكون الضرر المحقق بالآحاد والجماعات.

وإن عداوة الشيطان مقررة ثابتة من بدء الخليقة، فهو الذي أغوى آدم وأنزله من الجنة، وبمثل ما صنع مع الأب يصنع مع الأبناء، وإن الله سبحانه قد سجل أن عداوته مستمرة، فقال سبحانه:(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).

ص: 654

(فإِن زَلَلْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يقترن في آي الله الحكيم الأمر بالشيء بالنهي عن نقيضه، وعن أسباب المخالفة، ويقترنان بالترغيب في نعيم الله أحيانًا، وبالترهيب من بطش الله العزيز الحكيم أخرى، وفي هذه الآية قد اقترن النهي بالترهيب من العصيان، لأن النهي كان منصبًا على اتباع خطوات الشيطان والخضوع لإغرائه، وهو يجيء إلى النفس من جهة شهواتها وما تألفه، فناسب ذلك الترهيب من العقاب، ليعلم من يجترح اللذات أن وراءها محاسبة القوي الجبار الذي لَا تخفى عليه خافية، ولقد بين عداوة الشيطان للإنسان، فمن والاه فقد عادى نفسه وربه، ويحق عليه العقاب، وقبل نزوله يلزم التهديد به ليكون على بينة من أمره.

(فَإن زَلَلْتُم) أي عدلتم عن الطريق المستقيم إلى الطريق المنحرف، وأصل الزلل يكون في القدم، ثم استعمل في الآراء والمسالك المعنوية، يقال زل يزل زللا وزلولا، أي دحضت قدمه، وهناك لغة في زل تجعلها من باب فرح يفرح، (مِّنْ بَعْد مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي من بعد أن ساق الله سبحانه وتعالى لكم الحجج والأدلة المبينة لكم الحق من الباطل، والضلال من الهدى.

ومعنى الآية إجمالا: إن حدتم عن طريق الاستقامة والإخلاص والحق من بعد أن علمتموه ببرهانه، فليس ثمة إلا العقاب الرادع بعد الدليل القاطع، واعلموا أن الله عزيز لَا يغلب، ولا يهزم من ينصره، ومن عاداه وعادى أولياءه فهو عرضة

ص: 654

لنقمته، وهو حكيم يضع الأمور في مواضعها؛ فلا يجعل المسيئ كالمحسن، ولا المصلح كالمفسد؛ فكان من مقتضى حكمته أن يفرق بين الأخيار والأشرار وأهل الإيمان وأهل الكفر.

ص: 655

(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ منَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) نادى الله سبحانه أهل الإيمان بأن يدخلوا في الإسلام بكل شرائعه وأحكامه، وأن يدخلوا في السلام العام، كما يقيم فيما بينهم السلام والأمن؛ وحذرهم من الشيطان وغروره؛ وحذرهم من أن يزلوا فيحوموا من نصر الله، وينزل بهم عقابه؛ وبعد ذلك أشار سبحانه إلى أهل الضلال، وكيف استمرءوا الغواية، وسدوا في نفوسهم طريق الهداية؛ وقد أقام سبحانه عليهم الدليل بعد الدليل والحجة بعد الحجة، وقد استنكر حالهم منذرًا، فقال:(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ منَ الْغَمَامِ) وينظرون: معناها ينتظرون؛ يقال نظرته وانتظرته بمعنى واحد؛ و " ظلل ": جمع ظلة. كظلم جمع ظلمة؛ و " الغمام " اسم جنس جمعي لغمامة، وهي السحاب الرقيق؛ وسمي بذلك لأنه يغم أي يستر؛ والاستفهام إنكاري؛ فمعنى (هَلْ يَنظرونَ) لَا ينتظرون. وقد وجه بعض المفسرين الآية على أن الكلام على حذف مضاف؛ فمعنى إتيان الله إتيان عقابه، وعلى ذلك يكون المعنى: إن هؤلاء المشركين الذين كفروا بالله بعد أن جاءتهم البينات هم في غيهم يعمهون، وكأنهم لا ينتظرون بعد هذه الحجج الدامغة القاطعة إلا أن يأتي هم عذاب الله في ظلل من السحاب يحسبونها عارضًا ممطرهم، وهي عذاب يسحقهم، فتأتيهم النقمة من حيث ينتظرون النعمة، ويأتي هم العذاب من حيث لَا يشعرون فعلى هذا التخريج تكون الآية للوعيد، ويكون معنى إتيان الله وملائكته إنزال عذابه الدنيوي؛ ومعنى قوله تعالى:(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) على هذا التخريج أنه إذا نزل عذاب الله في الدنيا فقد قضى أمره فيهم؛ إذ لم يكن ثمة رجاء في إيمانهم؛ وكذلك كان يفعل الله سبحانه في الأقوام الذين طغوا وبغوا، وحالوا بين الناس والهداية، كما فعل بعاد قوم هود، وبثمود قوم صالح، وبفرعون وجيشه، ومن قبل ذلك بقوم نوح، وغيرهم، أما الذين علم الله أن سيكون فيهم هداية، فإنه يمهلهم ولا يهملهم.

ص: 655

وهناك اتجاه آخر، وهو عدم تقدير كلمة عذاب، وأن مجيء الله هو تجليه يوم القيامة، وكشف الحجاب للناس يوم الجزاء؛ فيتجلى عليهم ربهم وملائكته؛ والمعنى على هذا الاتجاه أن أولئك الجاحدين سادرون في ضلالهم ولهوهم حتى يأتي هم أجهلم، وكأنهم لَا ينتظرون وهم مستمرون في ضلالهم إلى اليوم الآخر حيث يحاسبهم الديان، وتجرهم إلى النار ملائكة الجبار، وينال المؤمنون مثوبة الرحمن؛ ويكون معنى (وَقُضِيَ الأَمْرُ) أنهم عاينوا الحقائق التي أنكروها حيث قضي الأمر نهائيا ولم تعد لديهم فرصة للتوبة والرجوع إلى ربهم؛ ولقد قال صلى الله عليه وسلم:" يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قيامًا أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي "(1).

وقد بدا معنى لي غير المعنيين السابقين في إتيان الله سبحانه وملائكته، وهو أن أولئك المشركين قد كفروا مع أن الحجة قاطعة، والبينات دامغة، والحق واضح أبلج والرسول بين ظهرانيهم قد عرف طول حياته بالصدق والأمانة، وإذا كانوا قد كفروا مع تلك البينات فهل ينتظرون أن يأتي هم الله هو وملائكته في ظلل من الغمام، لكي يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن يشاهدوا الله وملائكته؛ ولقد طلبوا أن ينزل ملك من السماء برسالة محمد صلى الله عليه وسلم:(وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)، فالاستفهام حينئذ للتوبيخ واللوم مع النفي؛ أي أن حالهم حال من لَا يريدون أن يؤمنوا إلا بعد أن يعاينوا ويروا الله وملائكته جهرة؛ كما قال إخوان لهم سبقوهم لموسى:(أَرِنَا اللَّهُ جهْرَةً. . .)؛ ومعنى (وَقُضِيَ الأَمْرُ) أي انتهى الأمر عند هذه المعجزة التي جاء بها محمد، (فَمَن شَاءَ فَلْيؤْمِن ومَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ. . .). (وَإِلَى اللَّهِ ئُرْجَعُ الأُمُورُ) إليه سبحانه وحده لَا إلى أحد سواه، ولا إلى أحد معه، تصير الأمور خيرها وشرها، وسيجزى كلا بما يستحق، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

(1) رواه ابن أبي الدنيا، والطبراني من طرق أحدها صحيح، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. ذكره المنذري في الترغيب والترهيب.

ص: 656

(سَلْ بَنِي إِسْرَائلَ كمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَة) وإذا كان المشركون قد كفروا مع البينات وطلبوا ملائكة ينزلون من السماء، أو كتابًا في قرطاس يقرءونه، فليس ذلك لنقص في الدليل؛ أو لأنه عقلي ويريدون حسيا؛ بل الكفر غشاوة تكون على قلب الكافر تجعله ينكر الحق، ولو كان مع الحق ألف دليل؛ وهذا أمر بني إسرائيل: نزلت عليهم عدة آيات، ومع ذلك قالوا أرنا الله جهرة؛ ولذا قال سبحانه:(سَلْ بَنِي إِسْرَائلَ) سل الحاضرين منهم أو استقر أخبار السابقين وسل تاريخهم: (كَمْ آتَيْنَاهم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَة) من معجزة واضحة مثبتة إثباتا لَا مجال للشك فيه، ولا إثارة الريب حوله؛ فيد موسى تنقلب بيضاء من غير سوء، وعصاه تنقلب حية تسعى، ويضرب بها البحر فتفلقه اثني عشر طريقا، وتضرب الحجر فينبجس منه اثنتا عشرة عينا، وتظلهم الغمام في الحر، وينزل عليهم المن والسلوى؛ ومع كل هذه الآيات البينات قالوا: أرنا الله جهرة، ومنهم من كفر وعبد العجل؛ فقوة الدليل لَا تحمل الجاحد على الإيمان، ومن كفر لَا يكفر عن نقص في الدليل، ولكن عن فساد في الفكر، بسبب غشاوة على القلب وضلال في النفس؛ وقوة الدليل مع هذه الحال لَا تزيده إلا عنادا وإصرارا.

(وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ) نعمة الله هنا عامة تشمل نعمه الظاهرة والباطنة؛ فتشمل نعمة الصحة، ونعمة المال، ونعمة الجاه، كما تشمل نعمة العقل، ونعمة الهداية بإرسال الرسل وإقامة الأدلة على رسالتهم؛ ومن يبدل هذه النعم السابغة فيجعلها حجة عليه تؤدي إلى العقاب، فلا يبذل جهده في مرضاة الله، بل في معصيته، ولا يبذل ماله في النفع بل في الضرر، ولا يبذل جاهه لإعانة الضعيف، بل لحيف الشريف؛ ولا يعمل عقله ليصل إلى الحق؛ بل ليضل نفسه؛ ولا يقبل الهداية بل يردها؛ ومن يبدل نعمة الله ذلك التبديل، فإنه سبحانه وتعالى سيعاقبه لَا محالة؛ ولذلك قال (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) والكلام فيه حذف، إذ حذف السبب، اكتفاء بذكر المسبب، كما تذكر المقدمة ولا تذكر النتيجة لأنها مفهومة ضمنا؛ والمعنى: من يبدل ذلك التبديل فإن الله سيعاقبه عقابا شديدًا، لأنه سبحانه شديد العقاب، كما أنه عفو غفور، تواب رحيم.

ص: 657

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بعد أن بين سبحانه أن الذين كفروا قد جحدوا بالله، وقد كثرت البينات، وقامت الدلائل القاطعة، بين السبب في غشيان الضلال قلوبهم؛ وهو أن الدنيا زينت لهم فحسبوها كل شيء وأنساهم ذلك ذكر الآخرة وما فيها من حساب وعقاب، بل إنه بسبب ضيق عقولهم انحصر تفكيرهم في هذه، وحسبوا أن لَا بعث ولا نشور، وأنكروا ذلك إنكارًا تامًا؛ ولذلك قال سبحانه:(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) فهي كل شيء في تفكيرهم وقد دفعهم إلى اللجاجة في الكفر والجحود أن وجدوا من لم يؤتوا حظا من الدنيا، وهم الضعفاء والفقراء والعبيد هم الذين سبقوا بالإيمان؛ ولذلك سخروا من الحق والمؤمنين إذ علموا في أنفسهم أن التقدير عند الله هو التقدير بحال الدنيا من مال وجاه، وحسب ونسب، لَا بمقدار الحق في ذاته؛ ولم يعلموا أن الله لَا ينظر إلى الأحساب والأموال والصور ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال (1)؛ ولذلك سخروا من الذين أحبوا الإيمان وأهله وقالوا: أهؤلاء الذين سبقونا بالإيمان؛ ولذلك قال سبحانه: (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يستهزئون بالذين آمنوا. ولقد قال عطاء في هذه الآية: نزلت في المنافقين: عبد الله ابن أُبي وأصحابه، كانوا يتنعمون في الدنيا، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين، وفقراء المهاجرين، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.

وإن أهل الحق دائما ليسوا ممن نالوا حظا كبيرا في الدنيا؛ فإن أولئك أقرب إلى بذل النفوس في سبيله بعد الإيمان، والعبر كل يوم قائمة شاهدة مثبتة.

ولقد ذكر سبحانه منزلة المؤمنين الذين يستهزأ بهم فقال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ) الذين آمنوا واتقوا الله فوق أولئك الجاهلين الجاحدين الذين كفروا بالآخرة، وآمنوا الإيمان كله بالدنيا؛ ولا ارتباط بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، بل قد يكون

(1) ذكره المنذري في الرغب والرهيب وقال: رواه ابن أبي الدنيا والطبراني من طرق أحدها صحيح واللفظ له والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

ص: 658

محروم الدنيا هو المنعم في الآخرة، والجزاء على الأعمال لَا على الأموال، وعلى القلوب لَا على الأحساب، وعلى التقوى لَا على الأنساب؛ ولذلك قال سبحانه:(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب) فالله سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا أحد يحاسبه، وليس عطاؤه دليل رضاه، فقد يعطي الكافر، وهو غير راض عنه كما قال تعالى:(وَلَوْلا أَن يَكونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)، والرزق في الدنيا منوط بأسباب دنيوية يجيدها الكافر كما قد يجيدها المؤمن، ومن سلك سبيلها وطلبها من مظانها رزقه الله، مؤمنا كان أو كافرًا، ومن تنكب الطريق، لم يرزقه الله، وله فوق الأسباب تصريف الحكيم وتدبير العليم سبحانه، إنه على ما يشاء قدير.

والخطأ أن يجعل تقدير الناس بأموالهم لَا بأعمالهم، وبمظاهرهم لا بنفعهم، روي أن رسول الله كان بين أصحابه فمر بهم رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل جالس عنده:" ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن تكلم أن يسمع فسكت رسول الله؛ ثم مر رجل آخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما رأيك في هذا "؟ فقال: يا رسول الله إن هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال لَا يسمع لقوله، فقال صلى الله عليه وسلم: " هذا خير من ملء الأرض مثل هذا " (1).

وإن المال هو الذي يضل العباد فيجعلهم يخطئون في تقدير الناس، وتقطع به الأواصر، ولو قدره الناس حق قدره، ولم يتجاوزوا به الحد ما كانت تلك الآفات، ولو كان الناس يقدرون بفضائلهم لَا بأموالهم وتساووا في الحقوق أمام القانون ما كان ذلك الألم الذي يمض الفقير، وحسْبُ الغني أن المال عبء عليه، وأنه ظل زائل، وعرض حائل؛ ولقد قال صلى الله عليه وسلم: " يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك

(1) رواه البخاري: النكاح - الأكفاء في الدين (4701) عن ابن سعد رضي الله عنه.

ص: 659