المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقد أشار الله سبحانه إلى غضبه وعقوبته إن عزم الطلاق؛ - زهرة التفاسير - جـ ٢

[محمد أبو زهرة]

الفصل: وقد أشار الله سبحانه إلى غضبه وعقوبته إن عزم الطلاق؛

وقد أشار الله سبحانه إلى غضبه وعقوبته إن عزم الطلاق؛ فقد جعل جزاء الشرط كونه سميعًا عليمًا، إذ قال (وَإِنْ عَزَموا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي أن الله سبحانه وتعالى سميع إلى ما كان من الزوج الحالف، قد سمع يمينه التي لم يرد بها خيرا، وكلامه الذي لم يرد به إلا ضرا؛ عليم بما وقع منه من مضارة وإيذاء، وأنه لم يحسن العشرة الزوجية، ولم يحسن الفراق، فإنه لم يسرحها بمعروف، بل تركها هملا حتى أنقذها الله من ظلمه بحكمه العادل الحاسم الرحيم؛ وإن الله سبحانه إذا كان عليما بما وقع، سميعًا لما قيل فإنه لابد يوم القيامة مجاز الإحسان إحسانًا والسوء سوءًا؛ والطلاق ليس العقوبة الكاملة، إنما العقوبة الكاملة يوم الجزاء الأوفى، وعندئذٍ تجزى كل نفس بما كسبت، وإلى الله مرجع الأمور.

* * *

ص: 754

(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‌

(228)

* * *

أشارت الآيات السابقة إلى أمثل السبل لاختيار الزوج، وهو أن يكون أساس الاختيار الدين والتقوى والخلق، لَا المال والنسب، (وَلأَمَةٌ مؤْمنَةٌ خَيْرٌ من مُّشْرِكة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ. . .).

ثم أشارت الآيات أيضا إلى حسن العشرة الواجبة، ولطف المودة الواصلة، وبينت أن العلاقة بين الزوجين طهر لَا دنس فيه، ونظافة لَا رجس معها يستوي في ذلك الحس والمعنى، والمخبر والمظهر.

وأوجبت أن تكون العلاقة قائمة على العدل من غير ضرار ولا ظلم، وبينت الحكم في الظلم الواقع إن استمر عليه مرتكبه، ووثق إصراره بيمين يحلفها،

ص: 754

وذكرت أن القطع في هذه الحال أولى من الوصل، والإنهاء أولى من البقاء لأن بقاء الحياة الزوجية في هذه الحال استمرارا للظلم، وبقاء للإثم، ولا منفعة ترجى، ولا جدوى تلتمس؛ ولذلك قرر الله سبحانه وتعالى حكمه الصارم وهو الطلاق القاطع لهذا الظلم المستمر.

ولقد بينت بعد ذلك هذه الآية الكريمة التي تلوناها، والتي سنتكلم في معناها حكم الطلاق، وفصلت أحواله ومراته الآيات من بعدها.

وقبل أن نخوض في معنى هذه الآية الكريمة، والإشارة إلى دقائق ألفاظها ومعانيها، نقرر أن شريعة القرآن شرعت الزواج عقدا أبديا في أصل شرعته؛ لأنه شرع لمعان وأغراض لَا تتحقق إلا مع البقاء والدوام، فقد شرع لإقامة الأسرة، وتنظيم الحياة بين الرجل والمرأة، وإنجاب النسل، والقيام على تربيته وتهذيبه والسير به في مدارج الحياة، وتلك أغراض لَا تكون على الوجه الأكمل إلا إذا استمرت الحياة الزوجية موصولة موثقة بروابط من المودة والأخلاق والشرع إلى أن يقضي الله قضاءه. ذلك حكم الشرع، وهو سنة الوجود، وهو أكثر أحوال الزواج بين بني الإنسان، لَا يختلف في ذلك شرقي عن غربي ولا مسلم عن مسيحي.

والإسلام هو دين المبادئ السامية، يبين المثل العليا ويدعو الناس إليها، فهو يشير إلى المثل السامي في الزواج في مثل قوله تعالى:(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكم مِّن أَنفُسكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ)، وبقوله سبحانه وتعالى في العلاقة الزوجية:(هُنَّ لِبَاسٌ لكُمْ وَأَنتمْ لِبَاسٌ لهُنَّ. . .).

ولكن الإسلام مع دعوته إلى تلك المثل العالية في العلاقة الزوجية يعترف بالحقائق الواقعة ويعالجها، ويطب لها، ليأخذ النفوس إلى السير في طريق الكمال، فإن عجزت أو انبتَّت في الطريق عالج ذلك العجز.

وكذلك عالج الأمر في شأن الزواج فشرعه أبديا، ولكن الشرط في استمراره أن يكون الوداد هو الرابطة الواصلة، وأن تلك الرابطة قد تتقطع أسبابها وتنفر

ص: 755

القلوْب بعد مودتها، وتنفصم عروتها، فهل يبقى المثل السامي للزواج وهو الاستمرار ولا يلتفت إلى النفرة المستحكمة والعداوة المسيطرة، ونيران البغضاء الملتهبة؛ لذلك اتجه الإسلام إلى علاج تلك الأدواء القائمة والطب لها، فلم يكتف بالمثل العليا يعلنها ويدعو إليها، بل اعترف بالواقع وعالجه، وطب للأسقام، فكان دين الحقائق الثابتة، والسمو النفسي.

والنزاع بين الزوجين أمر يقع، مهما يكن الزوجان، ومهما تكن درجة كمالهما، وقد كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يختلفن معه في الشأن الذي يربط بينهما، بمطالبته بما ليس عنده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة لقومه وأمته في أخلاقه ومعاملته لأهله، في الغضب والرضا، وفي الوفاق وفي الخلاف، ولكن أنى يكون للناس أخلاق النبيين، والوحي ينزل عليهم من السماء، ونفوسهم علت إلى الملكوت الأعلى ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي "(1).

ولقد دعا الإسلام إلى إصلاح ما بين الزوجين إن ابتدأت العلاقة بينهما تسير في غير طريق المودة؛ ولذا قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128).

ودعا الزوجين من له بهما صلة أن يتدخلوا عند الشقاق بينهما أو عند خوفه، بأن يحكموا حكمين عند خوف الشقاق وتوقع النزاع؛ ولذا قال تعالى:(وَإِنْ خِفْتمْ شقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللًّة كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا).

وإذا تعذر الإصلاح ولم يمكن التوفيق وصار الأمر نيرانا، ولم يكنِ سلاما كان لابد من التفريق؛ ولذا قال سبحانه:(وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّه كُلًّا مِّن سعَتِهِ وكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا).

(1) رواه ابن ماجه: النكاح - حسن معاشرة النساء (1967) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 756

لابد إذن من التفريق بينهما؛ لأن عقد الزواج أصبح غير صالح للبقاء، ولكن من الذي يملك التفريق؛ لَا شك أنهما إن اتفقا عليه وقع الطلاق، ولا ضير في ذلك ما دام لم يكن في نوبة غضب جامحة، ولم يكن لأمر عارض، فيجب الاحتياط لذلك ما أمكن الاحتياط.

هذا إذا لم يتفقا فهل يقع الطلاق بإرادة منفردة من غير حكم قضائي؛ لقد قال بعض الذين يظنون أن في ذلك صلاحا أنهما إن لم يتفقا على الطلاق لَا يقع إلا بأمر القضاء، وإن ذلك القول له وجهته لو كانت كل أمور الأسرة يجري فيها التقاضي، ويسوغ فيها الأعلان، وأن تتكشف أسرارها بين الناس، ولكن الأمور بين الزوجين لَا تجري فيها البينات، وهي مستورة بستر الله لَا يسوغ إعلانها، وليس من مصلحة المجتمع إظهار العيوب الخاصة فيها.

وهب السبب المسوغ للطلاق هو النفرة الشديدة فكيف يمكن إثباتها؛ إنها لا تعرف إلا من صاحبها؛ لذلك لم يكن الطلاق في الإسلام في عامة أحواله بيد القضاء، بل جرى الأمر فيه على أن يكون بيد الزوج إن كان هو الراغب، وبيد القضاء إن كانت هي الراغبة فيه.

وهنا يَرِد سؤالان: أولهما: لماذا كان بيد الزوج مطلقا وبيد الأخرى مقيدًا؟

والثاني: ألا يخشى ألا تكون النفرة مستحكمة، ويطلق الزوج لنوبة غضب جامحة، وتحت تأثير هوج ليست فيه إرادة مستقيمة؟

والجواب عن السؤال الأول: أن الزوج تكلف في سبيل الزواج مالاً كثيرا، وسيعقب الطلاق تكليفات مالية أخرى، فوق ما يحمله الزواج الجديد من أعباء جديدة، فكل هذا يدفعه إلى التأني والتروي فلا يندفع وراء هوى جامح إلا إذا إيفت مشاعره، وفسدت مداركه، أما المرأة فعكس ذلك، فلو كان الطلاق بيدها من غير تدخل قضاء لاندفعت وراء هواها جامحة، ولكان في ذلك ظلم شديد على الرجل بضياع ماله، وتكليفه بأعباء مالية جديدة فكان لابد أن يتدخل القضاء ليعرف أكان

ص: 757

الزوج ظالما فيذوق وبال أمره بفضياع ماله، وهدم الحياة الزوجية التي أقامها على الظلم، أو ليعرف أن الزوجة ظالمة بالنشوز فيقضي بالطلاق، ويكلفها المغارم المالية التي غرمها الزوج في سبيل الزواج كما هو مذهب مالك؛ وليس السبيل لمعرفة الحق في الأمر هو الإثبات بالبينات فقط، إنما هو الإثبات بتحكيم الحكمين من أهلها وأهله.

وأما الجواب عن السؤال الثاني، وهو الخاص بالا تقع الحياة الزوجية تحت تأثير الغضب الجامح، فقد احتاط الشارع الإسلامي لأمر ذلك الغضب في الطلاق بأحكام شرعها قبل الطلاق وبعده:

(أ) فهو أولا: فرض أمر الحكمين والإصلاح ما أمكن الإصلاح إذا كان شقاق بين الزوجين كما أشرنا من قبل.

(ب) وأوجب ثانيا: أن يكون الطلاق في وقت لَا تكون المرأة فيه على حال تسوغ النفرة، إلا إذا كانت مستحكمة، فمنع الطلاق في حال الحيض ومنع الطلاق في الطهر الذي دخل بها فيه، وظواهر السنة أن يكون الطلاق في هذه الأحوال باطلًا.

(جـ) واحتاط الشارع الإسلامي ثالثا بالنسبة للزوج المدخول بها وهي التي قامت معها الحياة الزوجية فعلا، فلم يسوغ أن يكون الطلاق في هذه الحال باتا، فلم يسوغه إلا واحدة، ولم يسوغه إلا رجعيا في أثناء العدة.

(د) واحتاط الشارع رابعا: فجعل للزوج الحق في مراجعة زوجته من غير عقد جديد ولا مهر جديد مدة طويلة تقارب نحو ثلاثة أشهر، فإذا مضت هذه المدة الطويلة، مع الإصرار والباب مفتوح وتدخل أهل الخير بينهما محتمل، فإن ذلك يكون دليلا على استحكام النفرة، وإن القلوب قد تشعب ودها، ولم يعد من الصالح بقاء الحياة الزوجية في ظلها.

ص: 758

(هـ) واحتاط الشارع الإسلامي خامسا فسوغ لهما أن يستأنفا حياة زوجية جديدة، إن عادت القلوب النافرة، واستقامت على الحق، وندم كل واحد على ما فرط منه في جنب صاحبه.

فإن تكرر الطلاق من بعد، تكررت الاحتياطات السابقة، فإن كانت الثالثة فهي التحريم المؤقت، حتى تكون التجربة القاسية بزواجها من رجل آخر زواجا صحيحا للدوام والبقاء وقيام ابعشرة الزوجية الجديدة ثم انتهائها بأي سبب من أسباب الإنهاء الشرعية الصحيحة، فإنها بعد ذلك تحل لزوجها الأول، وقد صقلته التجربة وصقله البعد، والله عليم بذات الصدور.

ولقد سقنا هذا القول في مقدمة تفسير هذه الآيات الكريمة المشتملة على أحكام الطلاق، لأن ذلك القول خلاصتها، وهو مرماها، ولنضع الأحجار في أفواه الذين يعيبون أحكام الطلاق في القرآن، وهي أحكام قد اشتقت من الفطرة وطبيعة الحياة الزوجية، والاحتياط لها ما أمكن الاحتياط ولم يكن شيء منها معروفا من قبل، ولم يصل العقل البشرى لأدق منها وأحكم من بعد؛ إنها شريعة اللطيف الخبير.

(وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) التربص معناه: التأني والانتظار، وقد قال بعض العلماء أنه مقلوب التصبر، فهو تكلف الأناة، وتكلف الانتظار مع صعوبة الاحتمال، كما هو الشأن في أمر الصبر والتصبر، وسواء أصح ذلك القول أم لم يصح، فالتصبر والتربص متلاقيان في المعنى، ومتشابهان في اللفظ.

والتعبير " يتربصن " يدل على الأمر، وهو الطلب اللازم المؤكد، وإن كانت الصيغة في ظاهرها صيغة خبرية، وقد قرر الخبراء بالبيان العربي أن أوكد الصيغ دلالة على اللزوم الموثق: الصيغ الخبرية التي تساق للطلب، مثل (وَالْوَالِدَات يُرْضعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يتِمَّ الرَّضَاعَةَ. . .)، ومثل هذه الآية الكريمة التي نتكلم في معناها، ولكن مع ذلك لماذا كان النسق البياني

ص: 759

السامي في أن يجيء الأمر في هذا المقام بتلك الصيغة الخبرية، فيكون معنى يتربصن: ليتربصن؟.

والجواب عن ذلك من عدة وجوه:

أولها: الإشارة إلى أن ذلك التربص يجب أن يكون من ذات نفس المطلقة، لأنه هو الذي يليق بكرامتها، ويتفق مع فطرتها، فإن كانت الرغبة تدفعها إلى الزواج العاجل السريع إن كان الزوج الجديد كفئا، فإن الكرامة توجب عليها الانتظار والتريث، فلا يليق بالحرة الكريمة أن تنتقل بين الأزواج انتقالا سريعا، لَا فاصل فيه بين الزوجين.

وثانيها: أن نداء الفطرة يوجب عليها الانتظار لتستبرئ رحمها، حتى إذا كان حمل نسب لأبيه ولا يتنازعه الأزواج، فهن إذا انتظرن وامتنعن عن الزواج هذه المدة فكأن ذلك من أنفسهن لَا من أمر فوقهن، وكأن ذلك إلزام الفطرة قبل أن يكون إلزام الشرع.

وثالثها: الإشارة إلى أن الأمر بالتربص أجيب وحصل التربص فعلا، فالتعبير بصيغة الخبر إشارة إلى الأمر والتنفيذ معا.

وإن من أبلغ الإشارات السامية الإتيان بكلمة (بِأنفُسِهِنَّ) في الإلزام بالتربص، فإن فيها الإشارة إلى ما في معنى التربص من الصيانة لأنفسهن عن الابتذال والاحتفاظ بكرامتهن. ولقد قال الزمخشري: في ذكر " الأنفس " تهييج لهن على التربص وزيادة بعث؛ لأن فيه ما يستنكفن منه، فيحملهن على أن يتربصن، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن، ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص.

ولماذا كانت تلك الإشارات المتعددة على المرأة؛ لأن التربص لَا يعرف إلا من جانبها، فمداه لَا يعرف إلا منها، فكان ذلك التشديد النفسي، لتتغلب على أهوائها ولا تقول إلا حقا.

ص: 760

وقد كانت مدة التربص بحكم القرآن الكريم هي ثلاثة قروء، والقروء جمع قرء، بضم القاف وفتحها، وقد اتفق علماء اللغة على أن كلمة القرء تطلق على الحيضة وعلى المرة من الطهر الذي يكون بين الحيضتين، وأصل معنى القرء بمعنى الجمع عند بعض علماء اللغة، ووافقهم الشافعي، ولكن خالف في ذلك أبو عمر ابن عبد البر، وقال: أن القرء مهموز لَا مقصور، والذي يكون بمعنى الجمع مأخوذ من قريت لَا من قرأت، ولكن علماء اللغة على غير ما قاله ابن عبد البر.

والقرء كما يطلق في أصل معناه على الجمع، يطلق على الانتقال والخروج من حال إلى حال، فيطلق على الانتقال من الحيض إلى الطهر، ومن الطهر إلى الحيض.

ويطلق القرء أيضا بمعنى الوقت، وهو المعنى الذي جرى فيه الاشتراك وهو وقت الطهر، أو وقت الحيض.

هذا هو الأصل اللغوي لكلمة " قُرْء "، وقد اتفق علماء اللغة على أنه يجوز إطلاقه على مدة الحيضة، وعلى مدة الطهر، ولكن اختلف مفسرو السلف في المراد بالقرء في الآية: أهو مدة الطهر بين الحيضتين، أم هو مدة الحيضة؟ فعمر وعلى وابن مسعود وأبو موسى الأشعري، ومجاهد وقتادة وعكرمة والسدي وغيرهم على أن المراد في الآية مدة الحيضة، وبهذا أخذ فقهاء العراق، وعلى رأسهم أبو حنيفة، ثم جاء على ذلك الرأي من بعد أحمد بن حنبل.

وقالت عائشة رضي الله عنها، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، والزهري وغيرهم: إن المراد بالقرء مدة الطهر بين الحيضتين، وبهذا أخذ فقهاء الحجاز، وعلى رأسهم إمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه، ثم جاء من بعده الشافعي، ونهج هذا المنهاج.

وقد حاول كل واحد من الفريقين المختلفين من الفقهاء، أن يلتمس من آي القرآن ومن السنة ما يؤيد مذهبه، ويوضح تفسيره، وقد استدل الحنفية والحنابلة في تفسير القرء بالحيضة بأدلة، منها:

ص: 761

(أ) أن " النبي صلى الله عليه وسلم فسر القرء بمعنى الحيض، وذكر ذلك في عدة مواضع، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام أقرائك " (1). ولا شك أن المراد في هذا الحديث الحيض؛ لأنه الذي تفسد الصلاة فيه، وأيضا فإن فاطمة بنت أبي حبيش [شكت] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم فقال لها صلى الله عليه وسلم: " إنما ذلك عرق، فانظري إذا أتى قرؤك؛ فلا تصلي، وإذا مر القرء فتطهري ثم صلي من القرء إلى القرء " (2).

وفوق ذلك فقد قدر عمر على جمع من الصحابة ووافقوه ولم يعرف لهم مخالف عدة الأمة بالحيض دليلا على أنهم فهموا القرء حيضة؛ لأن عدة الأمة من جنس عدة الحرة، وإن كانت نصفها، فكان لابد أن يكون المراد من القرء من الآية الحيض في نظرهم.

(ب) وإن الدليل على أن المراد بالقرء في تقدير العدة هو الحيض لَا الطهر أن القرآن الكريم جعل الأساس في تقدير العدة بالأقراء كون المعتدة حائضا أو غير حائض، فكان الأساس هو الحيض، فقد قال تعالى:(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ. . .) وإذا كان الحيض هو الأساس في تقدير الأقراء، فلابد أن تكون الأقراء هي الحيضات.

(ج) وإن الغرض الأول من العدة لَا يتحقق إلا بالحيض؛ لأن الغرض براءة الرحم، وذلك لَا يتحقق إلا بالحيض، ولأن الحيض هو الأساس للطهر الذي يتخلل الحيضتين، فكأن الأنسب للسياق البياني أن تقدر العدة بالحيضات لَا بالأطهار التي تتخللها، وفوق هذا أننا لو قدرناها بالأطهار لكانت العدة دون الثلاثة إن احتسبنا الطهر الذي حصل فيه، وتكون أكثر من الثلاثة إن لم تحتسبه، وإن احتسبنا الأقراء بالحيضات كانت الأقراء ثلاثة ما دام هو طلاق السنة الذي لَا يكون إلا في طهر. وهو المفروض شرعا.

(1) رواه الدارقطني (809) ج 1 ص 21. وجاء في البخاري: الوضوء (314) ومسلم الحيض (501).

(2)

رواه النسائي: الطهارة - باب ذكر الأقراء (211). ورواه أبو داود: الطهارة (242)، وابن ماجه (612)، وأحمد (26094).

ص: 762

ثم فوق كل ذلك إن الذي يتفق مع معنى الجمع الذي هو في معنى القرء هو الحيض؛ لأنه دليل الامتلاء والاجتماع الكامل، فهو الفيض بعد أن امتلأ الإناء.

هذه حجج الحنفية والحنابلة الذين قرروا أن القرء هو الحيض في الآية: وأن العدة تقدر بالحيضات، لَا بالأطهار التي تتخللها.

أما الشافعية والمالكية ومن سلك مسلكهم، فقد قالوا في الأحاديث السابقة إنها إن صحت تكون دليلا على أن الحيض تطلق عليه كلمة قرء، ولا مشاحة في ذلك وليست دليلا على أنه المراد في الآية الكريمة، وأما قول عمر إن عدة الأمة حيضتان، فهو سير على رأيه في تفسير القرء بالحيضة، ولا يدفع رأي صحابي برأي صحابي مثله بل يختار أقواهما، والاستدلال بآية (وَاللائِي يئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ. . .)، لاينتج؛ لأن الأقراء إذا فسرت بالطهر لَا تكون إلا لذات الحيض، إذ هو فاصل بين حيضتين.

وقد استدل لهؤلاء الذين فسروا الأقراء بالأطهار بادلة من الكتاب والسنة واللغة والرأي:

أما الكتاب والسنة فقوله تعالى: (فَطَلِّقوهُنَّ لِعِدَّتِهِنٌ. . .)،

وقد وردت السنة بأن الطلاق لَا يكون في الحيض، ولا يتصور أن يكون الطلاق في العدة مع نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطلاق في الحيض إلا إذا فسرنا القرء بالطهر لا بالحيض.

وأما استدلالهم باللغة والرأي، فلأن القرء معناه الجمع، يتم في الطهر لَا في الحيض؛ لأن الحيض، مؤداه أن يرخى الرحم فيخرج الدم، فهو تفريغ لَا جمع، والجمع في الطهر.

ولأن القرء معناه في اللغة الانتقال، فيكون المطلوب ثلاثة انتقالات، وهي الانتقال من الطهر إلى الحيض، ثم من الحيض إلى الطهر، ثم من الطهر إلى الحيض وبه تتم العدة، وذلك يقتضي أمرين:

ص: 763

أولهما - أن يفسر " القرء " بالأطهار؛ لأنها التي بها تتحقق الانتقالات الثلاثة، ولا يفسر بالحيضات، لأن بها تتحقق انتقالات أربعة لَا ثلاثة.

الأمر الثاني: أنه يحتسب من الأطهار الثلاثة الطهر الذي حصلت فيه الطلقة.

وفى الحق أننا بعد ذلك الاستدلال الطويل نميل إلى رأي عمر وعلي وابن مسعود، وهو رأي الحنفية، لأن الأساس في تقدير العدة بالاتفاق هو الحيض، سواء أفسرنا القرء بالطهر أم بالحيضة، لأن الطهر زمن بين حيضتين، والمناسب أن يكون الحيض هو وحدة التقدير، لأنه الأمر الإيجابي في المقام، والطهر أمر سلبي، ولأنه المناط المفرق بين الحامل وغير الحامل، والمفرق بين العدة بالأشهر، والعدة بالأقراء.

وقبل أن نترك هذا المقام نشير إلى أن قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء) خاص بالمعتدات من المطلقات ذوات الحيض غير الحوامل، أما غير المطلقات وهن المتوفى عنهنِ أزواجهن فقد بينت عدتهن بقوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. . .).

وأما الحوامل فقد بينت عدتهن بقوله تعالى: (. . . وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. . .).

ومن لَا يحضن ليأس من الحيض، أو لأنهن لم يرين الحيض، فقد ثبتت عدتهن بقوله تعالى:(وَاللَّائِي يَئسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ. . .).

(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) أودع الله أحشاء المرأة أمانات ناط بها أحكاما، فكانت الأمينة على تلك الأحكام كما كانت الأمينة بمقتضى نظام الله في الكون، على الأنساب والأولاد، وبمقدار عظم الأمانة كان عظم التكليف؛ لذلك قرر سبحانه وتعالى أنه لَا يحل لهن أن يكتمن أمانة الله التي خلقها في أرحامهن من ولد لينسبنه إلى غير أبيه، فإن ذلك خيانة للأمانة وكذب على الله،

ص: 764

وافتراء على الحق، وكذلك لَا يكتمن ما خلق في أرحامهن من دم تلفظه الأرحام بعد أن خلقه الله سبحانه وتعالى فيها، وذلك لتطول العدة ويمتد الإنفاق، كما كان يفعل ذلك كثيرات من نساء هذا العصر، مما اضطر الحكومة أن تمنع سماع دعوى نفقة المعتدة لاكثر من سنة ميلادية، ولا يزلن مع ذلك يكتمن ما خلق الله في أرحامهن!!.

وعبر الله سبحانه وتعالى عن الدم والولد بأنه (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) للإشارة إلى أن الكتمان كذب على الله، ونفي لخلقه وتكوينه، وفي ذلك مضاعفة الجرم وعظم الإثم، وذلك فوق أن هذا التعبير عام شامل كامل لموضوعي الإنكار والكتمان وهما الحمل والحيض.

وقد قرن سبحانه وتعالى النهي عن الكتمان بقوله تعالى: (إِن كنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) للحث على عدم الكتمان، والإخبار بما خلق الله، لتستقيم الأحكام، وتتقرر الحقوق، وفي ذلك تعظيم لأمر الكتمان، بأنه ينافي الإيمان، لأن الإيمان يبعث على الصدق، ويدعو إلى المحافظة على الأمانة، وليس من المحافظة على أمانة الله ووديعته جحودها وكتمانها، وما ترتب على ذلك من ضياع الحقوق التي تعلقت بها، والاستهانة بأحكام الله سبحانه وتعالى التي ناطها بها، وأي مؤمنة ترضي لنفسها أن تعاند أحكام الله، وتخون أمانته، وتجحد وديعته!!.

وفوق ذلك في هذه الجملة السامية تهديد ووعيد، باليوم الآخر، وما يكون فيه من عذاب شديد، ثم ما يكون فيه من إظهار ما كتم، وكشف ما أسر، وإظهار ما أخفى.

هذا وقبل أن نترك الكلام في هذا الكلم الحكم نقرر أن الفقهاء مجتمعين قرروا أن القول قول المرأة في الإخبار عن عدتها، ابتداء وانتهاء، ولكن قرروا مع ذلك أمدا ينتهي للكتب الفقهية، فإننا لَا نمس من أقوال الفقهاء إلا ما له صلة بفهم ألفاظ القرآن الكريم والله سبحانه وتعالى بكل شيء محيط.

ص: 765

(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) في هذه الجملة السامية بيان لبعض المقاصد الشرعية التي أرادها الشارع الحكيم من شرعية العدة، وهو أن يكون لدى المطلق فرصة مراجعة نفسه، بعد أن تكون قد ذهبت عنه نوبة الألم التي أدت إلى الفراق، وقد تكون سحابة صيف تقشعت، وعارضا قد زال، وفي هذا بيان لعلاج الله سبحانه وتعالى لنفوس المطيقين، إذ جعل لهم وقت التربص من جانب المرأة، وقت تروية وتدبر من جانب الرجل، وفرصة لائحة لمن يريد الإصلاح من الأهل والعشيرة، وكل من يهمهم أمر الزوجين، وما كان بينهما من ثمرة لهذا الزواج، والبعولة هم الأزواج، قال فيه الزمخشري: إنه جمع بعل على وزن فعول، ولكن ألحقت به التاء، وجوز أن تكون مصدرا على وزن فعولة أريد به الجمع، أو يكون الكلام على حذف مضاف تقديره أهل بعولة.

وتسمية المطلق بعلا، بعد أن أوقع الطلاق فعلا، دليل على أن الطلاق الرجعي الذي تجوز فيه المراجعة لَا تنفصم به عُرَى الزوجية، بل تستمر قائمة، ويعتبر المطلق زوجا، وتعتبر المطلقة زوجا أيضا، وكذا يتوارثان إذا مات أحدهما والعدة قائمة.

وفي اعتبار كل مطلقة زوجة إذا كان الطلاق الأول أو الثاني وهي ذات عدة ما دام الطلاق من غير فداء بالمال - إشارة إلى أن الطلاق الأول والثاني رجعي دائما ما دام إلى عدة، ومن غير فداء، وهو مذهب الجمهور من الفقهاء، فقد قرروا أن ذلك حكم الشارع، وأنه لَا يسوغ للمطلق أن يجعل بائنا ما اعتبره الشارع رجعيا، وخالف في ذلك الحنفية وقالوا: إنه يسوغ للمطلق أن يجعل الطلاق بائنا ولو كان بعد الدخول ودون الثالثة ومن غير فداء، لأن الرجعة حقه فله أن يسقطها.

ولكن الجمهور يرون أن الشارع الذي أعطى الزوج حق الطلاق هو الذي قيد ذلك التقييد فالرجعة ليست حقا مطلقا للزوج ولكنها فرصة، وقيد في الطلاق، فلا يرفع القيد، ولا يزيل الرخصة التي رخصها الله سبحانه وتعالى له، ونظم بها أمر

ص: 766

الطلاق، ولكنه يستطيع ألا ينتفع بها من غير أن يسقطها، فإنها لتدارك ما فاته، إن جمحت به نفسه، فنطق بالطلاق ثم تبين خطؤه.

وإن تسمية المطلق زوجا أو بعلا فهم منه فقهاء الحنفية أن الطلاق الرجعي لا يزيل الحقوق الزوجية ما دامت العدة قائمة، والتربص فيها لازما؛ ولذلك لا يعتبرون الرجعة إعادة للزواج، أو في معنى إنشائه، بل يعتبرونها استدامة لأحكام الزواج واستمرارا له؛ لأنه لم يزل ما دامت العدة قائمة؛ ولذلك لَا يعتبرون الدخول بها حراما قبل النطق بالرجعة، ويعتبرون الدخول نفسه رجعة، وفهموا أن الرد في قوله تعالى:(أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) معناه الاستدامة والاستمرار على أحكام الزواج.

ولكن الشافعية فهموا أن الرجعة ليست استدامة لأحكام الزواج، ولكنها إعادة له؛ ولذا لم يسوغوا الدخول قبل النطق بالرجعة، والدخول لَا يعتبر رجعة لأنه قبل النطق بها حرام، والحرام لَا يكون سببا لنعمة الحلال.

والرجعة عمل من جانب الزوج وحده، وليس فيها مهر جديد، ولا تعتبر عقدا يحتاج إلى رضا المرأة، وقد اشترط بعض الشافعية والحنابلة الإشهاد عليها لقوله تعالى:(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ. . .)، وكان ذلك القول الكريم بعد بيان الطلاق والرجعة، والحنفية استحسنوا الشهادة في الرجعة القولية ولم يوجبوها.

وقد قيد الله سبحانه وتعالى جواز الرجعة بقوله تعالى: (إِنْ أَرَادوا إِصْلاحًا) أي أن الرجل لَا يسوغ له أن يفكر في الرجعة إلا إذا حاول إصلاح حاله، وتقويم معوج نفسه، وحملها على الاستقامة في المعاملة، والعمل على خير الأسرة، وإبعاد الغضب عن أن يكون حكما في الحياة الزوجية، كما يحاول أخذ زوجه بالرفق، والتقويم بالموعظة الحسنة، وتقريبها بالمودة الواصلة، مع الإرشاد الحكيم، والإعراض عن البهتان، وتجنيبها الزلات، وسياسة الأسرة على أسس قويمة من الرحمة ولطف العشرة، والحزم الصادق، من غير إرهاق، ومن غير إعنات، وتعجبني كلمة حكيمة قالها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقد قال:(يعجبني الرجل يكون في أهله كالصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجدوه رجلا).

ص: 767

فإن راجعا الرجل زوجه وهو على هذه النية فقد اختار الطريقة المثلى، وسيكون التوفيق من الله، وإن راجعها في نوبة رضا غير مدركة، ولم يفكر في الأمر فعسى الله أن يحدث أمرا، وإن راجعها على نية الكيد والأذى والمضارة فهو إثم عند الله، والله عزيز حكيم.

(وَلَهنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة) هذا هو القانون العادل الشامل، نطق به القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا، وقد شرعه الإسلام في وقت لم يعترف أي قانون من قوانين العالم بأن للمرأة أي حق من حقوق، وفرضت عليها القوانين في العصور الغابرة كل الواجبات، فجاء الإسلام ووضع تلك القاعدة العادلة، وهي أن الحقوق يجب أن تكون متكافئة مع الواجبات، فما على الإنسان من واجبات يكافئ ماله من حقوق، وما من حق إلا تعلق به واجب، فإذا كان للرجل سلطان في البيت وعلى المرأة واجب الطاعة، فلها حق، وهو العدل. . وإذا كانت المرأة قارة في البيت قائمة بشئونه، وفرض عليها ذلك الواجب فلها حق الإنفاق. . وإذا كان عليها أن تعد البيت إعدادا حسنا بمقتضى العرف فلها حق المهر. . وإذا كان عليها أن تؤنس زوجها، فعليه ألا يوحشها، وقد أدرك ذلك المعنى الجليل، وهو التساوي بين الحقوق والواجبات الصحابة الأولون، حتى أن ابن عباس كان يقول:(إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي).

وإن التساوي بين الحقوق والواجبات ليس مقصورا على ما بين الرجل والمرأة، بل إنه قانون شامل سنه الإسلام وأيده العقل، وبه يقوم العدل، فقد جعل الواجب على المرء بمقدار ما له من حق، وعلى هذا السنن المستقيم جعل الإسلام عقوبة العبد نصف عقوبة الحر، لأن الرق الذي أسقط بعض حقوق الآدمية، أسقط أيضا بعض واجباتها.

وليس معنى أن الواجبات على المرأة مساوية للحقوق التي لها على الرجل أن المرأة مساوية للرجل من كل الوجوه، فإن الإسلام قرر فقط تساوي الحقوق والواجبات، بالنسبة لها وليس لذلك علاقة بشأن المساواة بينها وبين الرجل في نوع

ص: 768

الحقوق والواجبات، ولكي لَا يفهم أحد هذا المعنى قال الله سبحانه وتعالى:(وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) فالرجل ليس مساويا للمرأة، وليست المرأة مساوية الرجل؛ لأن قانون المساواة يوجب أولا تحقق المماثلة، ومن البداهة أنه لَا مماثلة بينهما، فهما وإن كانا من جنس واحد إلا أنهما نوعان متقابلان غير متماثلين، وإن كان كلاهما متمما للآخر، ومن ازدواجهما يتكامل النوع الإنساني، ويسير في مدارج الكمال.

وإذا كانت الأسرة لَا تتكون إلا من ازدواج هذين العنصرين، فلابد أن يشرف على تهذيب الأسرة، ويقوم على تربية ناشئتها وتوزيع الحقوق والواجبات فيها أحد العتصرين، وقد نظر الإسلام إلى هذا الأمر نظرة عادلة فوجد الرجل أملك لزمام نفسه، وأقدر على ضبط حسه، ووجده الذي أقام البيت بماله وأن انهياره خراب عليه، فجعل له الرياسة؛ ولذا قال سبحانه:(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ. . .).

هذه هي الدرجة التي جعلها الإسلام للرجل، وهي درجة تجعل له حقوقا، وتجعل عليه واجبات أكثر، فهي موائمة كل المواءمة لصدر النص الكريم فإذا كان للرجل فضل درجة، فعليه فضل واجب.

ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قيد المماثلة بين حقوق المرأة وواجباتها بالمعروف، كما قيدها بما للرجال من درجة تضاعف واجباتهم، والتقييد بالمعروف معناه التقييد بالأمر الذي لَا تستنكره العقول، بل تقره وترضاه، ويتعارفه العقلاء، فلا يطالب الرجل بخدمة البيت كما تطالب بها المرأة.

فعلى المرأة أن تقوم بواجباتها، وتطالب بحقوقها بالنسبة لنفسها ولأولادها في دائرة العقل، والعرف المستمد من قضايا الحق والعدل، وألف العقول والفضلاء؛ لأنه لَا يستقيم أمر الأسرة بغير ذلك التقييد العادل، وذلك التوزيع الحكيم.

ولقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وفى ذلك دلالة على ثلاثة أمور:

ص: 769

أولها - أن تلك المماثلة بين الحقوق والواجبات في الحقوق الزوجية بل في كل شئون الاجتماع الإنساني، هي مقتضى الحكمة الإلهية والعدل الرباني، وإن ذلك أقصى ما تصل إليه المعاملة الإنسانية من سمو.

ثانيها - إن الله سبحانه وتعالى القاهر القادر العزيز هو الذي أعز المرأة بعد ذلها، وأعطاها حقوقها بعد هضمها، وليس لها أن تطلب العزة من غير شرع الله فهو الملجأ والمعاذ لكل ذي حق مهضوم، وقد أعلاها بعد خفض، وكرمها بعد المهانة، فما يسوغ لامرأة مسلمة من بعد أن تتمرد على حكم العزيز الحكيم، وإن حكمته اقترنت بعزته، فما للرجل من درجة هو مقتضى الحكمة، والله بكل شيء محيط.

ثالثها - إشعار الرجل بأن الله فوقه، وهو القادر القوي الغالب، وهو المعز المذل، الحكم العدل اللطيف الخبير، فإن تجاوز الرجل شرعه، وعدا ما حده له الكبير المتعال، أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وناله عقابه وحرم من ثوابه. تلك شريعة الله العادلة، فليتدبرها الذين يشتطون في القول والعمل، وليعلموا أن القرآن أول صوت سجل حقوق المرأة المعقولة كاملة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

* * *

(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

* * *

ص: 770

ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة شرعية الطلاق، ومداه إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها طلقة رجعية؛ وفي هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى الحد الذي ينتهي فيه ما للرجل من حق المراجعة، فيبين سبحانه وتعالى أن الرجل ليس حرًا يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع لغير حد محدود؛ ولقد قيل إن الرجل في الجاهلية كان يطلق ويراجع لغير عدد ولا حد فتضطرب حياة المرأة؛ وقد يتخذ ذلك للكيد والأذى، لَا للعشرة الحسنة، والرغبة في البقاء؛ ولقد روي أن رجلا قال لامرأته: والله لَا آويك ولا أفارقك! قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل (الطَّلاق مَرَتَانِ).

وسواء أصح هذا سببا لنزول الآية أم أن الآية مقترنة بالآية قبلها متممة لموضوعها مقيدة لإطلاقها؛ فقد ذكرت الأولى أن المطلِّق أحق بامرأته ما دامت العدة قائمة، ثم بينت هذه وهي الثانية أن ذلك ليس على إطلاقه إنما هو مقيد بالطلقتين الأولى والثانية، أما الثالثة فقد ذكر من بعد حكمها، وهو أنها لَا تحل له حتى تتزوج زوجًا غيره.

ص: 771

(الطَّلاق مَرَّتَانِ) كلمة الطلاق في هذه الجملة السامية؛ ذكر الزمخشري أن المراد بها التطليق، كالسلام بمعنى التسليم؛ أي أن التطليق الشرعي الذي يقره الشارع ويسوغه هو الطلاق الذي يكون على التفريق، واحدة بعد واحدة، ومرة بعد مرة؛ وليس التطليق الذي يكون بالإرسال مرة واحدة، وعلى هذا التخريج الذي ساقه الزمخشري يكون مساق الآية لتقرير أن الطلاق الشرعي لَا يكون دفعة واحدة، بل يكون مرة بعد مرة؛ وتكون التثنية في هذه الحال لبيان التكرار لَا للعدد، كقوله تعالى:(ثُمَّ ارْجِعِ الصَرَ كَرَّتَيْنِ. . .)، وكقول:(لبيك اللهم لبيك) ويكون قوله تعالى من بعد: (فَإِمْسَاكٌ بِمعْروفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان) لبيان الغرض من التكرار وهو أن يكون بعد كل طلاق فرصة مراجعة نفسه ليمسك زوجه ويبقيها معاملا لها بالمعروف لدى أهل العقول المستقيمة الذي لَا ينكره عقل ولا شرع، أو يصر على طلاقها، وإخراجها.

ص: 771

وإن ذلك التخريج يستقيم في ذاته، ولكن قرن بالآية الكريمة بعد ذلك. قوله تعالى:

ص: 772

(فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَه. . .)، فدل هذا على أن المراد حقيقة التثنية، لأن بعد الثانية الثالثة.

ولذلك نختار التخريج الثاني، وهو أن الطلاق في قوله تعالى:(الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) أل فيه للعهد الذكري، أي الطلاق المشار إليه في قوله تعالى:(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ. . .)، فالطلاق المذكور هو الذي يكون فيه للزوج حق مراجعة زوجته فيه " فالسياق يكون لبيان الطلاق الذي تبقى معه عصمة الزوجية، ولذلك قال بعد ذلك: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ

)، فهو ذكر حكم المرتين، ثم ذكر من بعد ذلك حكم الثالثة، وتكون التثنية على هذا التخريج المستقيم من كل الوجوه على حقيقتها لَا لمجرد التكرار.

ومهما يكن السياق، فإن قوله تعالى:(الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)، يستفاد منه أن الطلاق لَا يقع العدد به مرسلا دفعة بل هو دفعات ومرات، وكل واحدة منها يتخللها رجعة أو عقد جديد، وذلك ليتحقق المقصد الحكيم الذي قصد إليه الشارع من عدد الطلاق، وإعطاء فرصة المراجعة بعد كل طلاق نحو ثلاثة أشهر، ثم تكرار تلك الفرصة، حتى إذا كانت الثالثة فصم ذلك العقد الذي أصبح بقاؤه شرًا، (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ. . .)، وأصبح من الضروري أن يكون ثمة تجربة قاسية، عساها تصلح من قلب الناشز منهما.

وذلك ما فهمه السلف الصالح، فما كان الطلاق يقع دفعة واحدة، بل كان يقع دفعات، لكيلا يقطع الرجل السبيل على نفسه، ولكيلا يتعدى حدود الله، وكما قال الله تعالى في هذا المقام:(وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)، فلعل الله في مدة العدة أو بعدها إذا طلق واحدة، أو اثنتين على دفعتين، أن يحدث أمرًا بإحلال المودة محل العداوة، والرحمة محل البغضاء، فتستأنف حياة زوجية هنيئة سعيدة.

ص: 772

وإذا أوقع الرجل الطلاق دفعة واحدة، ولم يوقعه على ثلاث مرات، أو أوقعه في مجلس واحد متتابعا، أو أوقعه في مجالس متفرقة، فما حكمه، وما مؤداه؛ لا شك أن صريح الآية أن الطلاق لَا يقع مرة واحدة، فلا يقع الطلاق الثالث بلفظ الثلاث ثلاثًا، ولكن يقع طلقة واحدة لأنه مرة واحدة، وليس ثلاث مرات، ولكي يكون ثلالا يجب أن يكون ثلاث مرات.

وذلك لأن اقتران الطلاق بكلمة ثلاث لَا يجعله ثلاث مرات، بل إنه مرة واحدة، ولو وصفه بالمائة، كمن يقول أحلف بالله ثلاثًا، فهو يمين واحدة، وكمن يقول قرأت هذه السورة ثلاث مرات، وقد قرأها مرة واحدة، فهو كاذب.

إن كلمة المرة توجب أن يكون الطلاق في حال واحدة، ولسبب واحد، وفي مجلس واحد، ولغاية واحدة، مرة واحدة ولا يخرجه عن كونه مرة واحدة، تعدد الألفاظ في المجلس، أو لأجل السبب، أو لهذه الغاية؛ ولهذا قرر كثيرون من العلماء منهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وطائفة من شيوخ قرطبة، منهم ابن زنباغ، ومحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام، وإصبغ بن الحباب، أنه يقع واحدة، وكل أولئك قد اختاروا رأي ابن عباس.

وقد روي عن بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، وقاله من بعدهم بعض التابعين، ثم تتابع العلماء يقولونه.

وقد روى طاووس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه:(إن الناس قد استعجلوا في أمر لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم) فأمضاه.

هذا تفسير قوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَان)، وهذا ما فهمه منه بعض العلماء تابعين لبعض الصحابة والتابعين، ولكن الأَئمة الأربعة يرون أن الطلاق المقترن بالعدد لفظًا أو إشارة يكون ثلاثًا أو اثنين على حسب ما اقترن به، وقد قال العلماء

ص: 773

إنه قد اتفق عليه أئمة الفتوى، وكأن غيره من الأقوال من شواذ الفتيا الذي لَا يلتفت إليه وقد استندوا إلى الأخذ بفتوى عمر، وادعوا أن الإجماع قد انعقد عليه، ومن المؤكد أن طائفة كبيرة من الصحابة كانت على ذلك الرأي، وما كان لمثلهم أن يقولوا ما يخالف ظاهر القرآن من غير سند من حديث صح عندهم، والآية الكريمة تبين ما ينبغي، ولا تبين بطلان سواه، وأنه لَا يقع إلا ذلك النوع من الطلاق (1).

(فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الإمساك بالمعروف هو العشرة الحسنة، والمعاملة الرفيقة بأهله؛ فالمعروف هو الخلق الفاضل الذي تعرفه العقول السليمة، وتدركه الفطر المستقيمة، وتعالج به النفوس، وتطمئن به القلوب والتسريح إرسال الشيء وتفريقه؛ ولذلك يقال سرح الشعر، أي فصله وفرقه ليخلص بعضه من بعضه، ويقال سرَّح الماشية، أرسلها وفرقها في المرعى.

ولا شك أن لفظ التسريح بإحسان يتضمن مع ما يشتمل من معنى التفريق والإرسال، معنى الرفق في التفريق، فلا يفرق بعنف، وحرج للنفوس، وخدش للمروءة، ولمكارم الأخلاق، بل يفرق في رفق وعطف، من غير حرمان، بل بإعطاء من غير منع، كما قال تعالى في هذا المقام:(وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. . .)، فالإحسان في هذا المقام، بمعنى الرفق والعطف والتسامح المادي والمعنوي، فهو من أحسن إليه، بمعنى أسدى إليه خيرًا، أو أدى معروفًا، أو أعطى عطاء.

(1) قال المصنف رحمه الله: الأقوال بالنسبة للطلاق بلفظ الثلاث ثلاثة:

أولها: قول الأئمة الأربعة أنه يقع الثلاثة، وقد اعتمد ذلك الرأي على قول عمر ومن معه من الصحابة.

وثانيها: قول بعض الشيعة إن الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث لَا يقع به شيء؛ لأنه بدعة، فهو جاء على خلاف المنهاج الذي سنة القرآن، وسنه النبي صلى الله عليه وسلم للطلاق، والطلاق إنما ثبت في الحدود الشرعية التي جدها الشارع، وما جاء على خلاف ما حده فهو باطل مهما يكن العدد.

القول الئالث: إن الطلاق الثلات بلفظ الثلاث لَا يقع إلا طلقة واحدة، وهذا رأى بعض الشيعة، ورأى ابن تيمية وابن القيم وبعض الظاهرية وغيرهم؛ لأن الطلاق الموصوف بالثلاثة لَا يكون إلا مرة واحدة بنص الآية، وما دام مرة واحدة فهو يقع واحدة. وقد اختار القانون المصري ذلك الرأي في القانون رقم 25 لسنة 1929) راجع في هذا الموضوع كتاب " الأحوال الشخصية " وكتاب " ابن تيمية، للمؤلف).

ص: 774

ووقت الإمساك أو التسريح في هذا المقام، مقام ذكر الطلاق ومراته، هو ما بعد المطلقة الأولى أو الثانية، أي أنه بعد إحدى هاتين الطلقتين، إما إمساك بمعروف، بمعنى رجعة على نية البقاء والإصلاح، واطراح أسباب النزاع والخلاف، والأخذ بالرفق والحسنى، والعيشة الهنيئة الكريمة، وإما تسريح بإحسان، بمعنى تركها حتى تنتهي عدتها، ويغني الله كل واحد عن الآخر من سعته.

فكأن هذه الجملة السامية تشير إلى ما ينبغي أن يكون في فترة الروية والتفكير، وهي الأجل الفروض الذي تتربصه المرأة بعد طلاقها، بأن يفكر في ماضي أمره، ويقدر عاقبة حاله إن أمضى الطلاق، فإن رأى أن الحسنى في الإبقاء أبقاها على نية الإصلاح من شأنه، والتقويم من معوجه، والأخذ بالرفق، وإن رأى أن الخير في التفريق فرق غير مجافٍ ولا مشاق ولا مضار، كما قال تعالى:(وَسَرِّحُوهنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا).

وعلى هذا يكون الإمساك بمعروف والتسريح بالإحسان موضعه في هذا المقام هو في وقت النظر والتروية، وإن كان الإمساك بالمعروف مطلوبا دائما.

ولقد قال بعض العلماء: إن المراد من التسريح بالإحسان هو المطلقة الثالثة؛ أي بعد الطلقتين الأوليين يتروى في الأمر فيمسك بالمعروف أو يطلق المطلقة الثالثة.

وعندي أن ذلك التخريج بعيد لوجهين:

أولهما: أن التسريح يكفي فيه بعد الطلقتين أن يسكت من غير مراجعة حتى تنتهي عدتها، ولأن الترديد بين الإمساك بالمعروف، والتسريح بالإحسان لَا يكون إلا في وقت يجوز فيه الأمران، والأنسب في ذلك ما بعد الطلاق، وهو المراجعة أو تركها، وليس المناسب في ذلك هو إرداف الطلاق بالطلاق، إن ذلك لَا يكون فيه تسريح بإحسان، بل فيه تضييق على نفسه وظلم لها، إذ قطع السبيل، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا. وفوق ذلك فيه مجافاة ومبالغة فيها بإيقاع طلاق ثان من غير حاجة إليه.

ص: 775

ثانيهما: قوله تعالى بعد ذلك: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. . .)، فإن هذه المطلقة الثالثة، ولو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لكانت هذه رابعة، ولم يقل ذلك أحد.

(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) إذا كان الفراق بين الزوجين يجب أن يكون مصحوبا بالإحسان والرفق، وألا ينسوا الفضل بينهم، فلا يصح أن يأخذ شيئًا مما آتاها من مال؛ لأن ذلك يكون مجافاة لا إحسانا؛ ولأن ذلك يكون ظلمًا لَا عدل فيه؛ ولقد قال سبحانه وتعالى:(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20).

وقال تعالى: (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ)، وإن أخذ شيء حرام بلا ريب عند الفرقة، وإن الحرمة سببها ألا يجمع على المرأة أمرين كلاهما مؤذ لها؛ أولها الفراق الذي لَا تريده، وثانيهما استرداد ما وهب. وقد يقول قائل: إذا طابت نفسها بذلك فلماذا لَا يأخذ؟ فنقول: إذا كان طيب نفسها من غير نشوز منها، والبغضُ منه هو الذي رغب في الطلاق وأراده، فإن ذلك مكارم أخلاق منها، وفساد نفس منه، ومثل ذلك لَا يكون حلالا؛ وليس من ذلك قوله تعالى:(فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا)، لأن هذه الآية موضوعها حال قيام الزوجية، كما أنه ليس منه قوله تعالى:(وَأَن تَعْفوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. . .)، لأن تلك الآية موضوعها الطلاق قبل الدخول الذي يسقط نصف المهر، فإنهما لم تقم بينهما عشرة زوجية، فسوغ العفو منها إذا لم تكن قد قبضت شيئًا، أو قبضت دون نصف المهر؛ وسوغ العفو منه إن كانت قد قبضت أكثر من النصف؛ ولذلك لم يكن في ذلك أخذ لما أعطى عند عفوها، بل إسقاط لما يجب، وعساه يكون في عسرة، وعسى أن يكون ذلك سبب الفراق ولم يكن منه أخذ، ولكن كان منها إسقاط، فلا ظلم ولا بهتان.

ص: 776

ولم يسوغ الشارع الحكيم الأخذ إلا إذا خافا ألا يقيما حدود الله، ففي هذه الحال يحل الأخذ. وحدود الله سبحانه وتعالى ما أوجبه من حقوق للرجل على زوجته، ولها عليه، وهي مقاصد الزواج؛ فإن لم يتحقق من الزواج مقاصده، ولم تقم الأسرة الهنيئة التي تربط بين آحادها المودة الواصلة بين الزوجين فأخذ المال جائز.

وتلك الحال التي يخافان ألا يقيما حدود الله، وواجباته، وحقوق كل منهما على صاحبه، تتحقق بسببين:

أحدهما - أن تكون المرأة ناشزا عاصية أو كارهة، كتلك المرأة التي ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول:" والله ما أعتب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام؛ لَا أطيقه بغضا! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته؟ " - وهي المهر الذي أمهرها - قالت: نعم. فأمره أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد (1)؛ ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بطريق الخلع، ويقال إنه كان أول خلع في الإسلام.

وأحيانا تكون المرأة كارهة ولا تبدي بغضها بهذه الصراحة، ولكنها تثير الشغب في البيت لأتفه سبب، وتعصي زوجها، وتقوم بالكفر في الإسلام، ولا تتورع عنه، وهذا ما كرهت امرأة ثابت بن قيس التي جاءت الرواية بأمرها.

ثانيهما - أن يكون بالمرأة عيب مستحكم ولا يمكن معه القيام بالحقوق الزوجية، فإن أخذ المال في هذه الحال يكون سائغًا، وإن لم يكن نشوز ولا عصيان؛ ولذلك سوغ الحنابلة والمالكية أن يطلب الرجل من القاضي التفريق على أن يأخذ ما أعطى أو بعض ما أعطى، وإن لم يعتبر التفريق خلعًا.

وإن هذين السببين كلا منهما يدل على أن أخذ المال جائز إذا كان سبب الفراق من جانبها، أو سبب عدم القيام بحدود الله وتحقق العدالة من جانبها؛ ولكن الآية الكريمة مطلقة لَا تقيد في جواز الأخذ بكون النشوز من جانبها أو من جانبه، بل

(1) هذا لفظ ابن ماجه: الطلاق (2046)، ورواه البخاري: الطلاق (4867)، والنسائي (3409).

ص: 777

يقول سبحانه في الاستثناء (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) وذلك كما يكون عندما يكون النشوز من جانبها، يكون عندما يكون من جانبه.

وإن ذلك العموم قد يبدو بادي الرأي، ولكن المتأمل البصير في عبارات الجملة الكريمة يستنبط من إشاراتها أن جواز الأخذ مقصور على الحال التي يكون النشوز من جانبها أو سببه من جانبها، أو على الأقل كان الجانب الأكبر منه يتصل بها؛ وذلك لأنه عبر عن حال جواز الأخذ بألا يخافا ألا يقيما حدود الله وحال الخوف الذي يكون من جانبهما معًا لَا من جانبها وحدها تكون في الحال التي يكون السبب من جانبها؛ وذلك لأنه مفروض أن الخوف الذي يكون هو الخوف الذي يكون سببه لا ظلم فيه؛ وذلك في غالب الأحيان لَا يتحقق إلا إذا كان السبب من جانب المرأة؛ لأنه إن كان من جانب الرجل فهو ظلم؛ إذ يملك أن يطلق، ولا يقال إنه إذا خاف أن يظلم يجوز أن يأخذ المال؛ لأن أخذ المال في ذاته ظلم إذا كان البغض من جانبه؛ لأنه يكون داخلا في قوله تعالى:(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتموهنَّ. . .)، وخوف الظلم لَا يبرر ظلمًا آخر، وخصوصًا إذا كان ثمة مندوحة عنه، ويكون داخلا في قوله تعالى:(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا. . .)، وفوق ذلك فإن النسق القرآني قد جعل للرجل حالين، وهي حال الطلاق الذي لَا يحل فيه الأخذ، وحال جواز الأخذ، وكلاهما لَا يجوز إلا إذا تعذر قيام الحياة الزوجية على أسس الإصلاح والصلاح، وقد جعل الطلاق إذا كانت النفرة من جانبه، فكان السياق يوجب أن يكون الافتداء إذا كانت الفرقة من قبلها؛ فهذه حال وتلك حال؛ ولذا قال أهل البصرة من النحويين: إن الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) استثناء منقطع بمعنى لكن؛ لأن مابعد إلا غير داخل في عموم ما قبلها، بل هو حال مغايرة له.

وأخيرًا إن قوله تعالى عن إعطاء المال بأنها تفتدي نفسها، أي تخلص نفسها بفداء تقدمه، دليل على أن خوف عدم القيام بحدود الله هو من جانبها، أو على الأقل هو من جانبها أظهر.

ص: 778

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الجناح معناه الإثم، من جنح بمعنى مال. والافتداء معناه تخليص النفس بمال يبذل لتخليصها، ودفع الأذى عنها، وأصله من الفدى والفداء بمعنى حفظ الإنسان نفسه عن النائبة بما يبذله.

والخطاب في الآية إما أن يكون لجماعة المؤمنين من حيث إنهم متعاونون فيما بينهم، بحيث وجدوا الشر بين الزوجين، وإما أن يكون خطابًا لجماعة الأزواج الذين كان بينهم وبين نسائهم ما يخشى معه ألا يقيم كلاهما حدود الله التي رسمها للحياة الزوجية، فالخطاب لإباحة الأخذ والفداء.

وعندي أن جعل الخطاب لجماعة المؤمنين أولى بالاعتبار، فإن على من يعرف ما بين الزوجين أن يتدخل بالنصح والإرشاد وبيان حكم الله، ولذلك كان الخطاب عاما لجماعة المؤمنين بقوله (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حدُودَ اللَّهِ) ونفي إثم الأخذ خاصا بالزوجين، ولذا قال (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ولقد فهم بعض العلماء من التابعين من كون الخطاب موجهًا إلى جماعة المؤمنين أن الخلع الذي هو التفريق بين الزوجين في نظير مال تفدي نفسها به، ولا يكون إلا بأمر ولي الأمر أو القاضي الذي يقيمه ولي الأمر لذلك، وقد فهم هذا الفهم الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، وكان يسير على ذلك الرأي زياد بن أبيه في حكمه، وقد كان مقبول الولاية من عمر وعلى، وكلاهما مكانته في الفقه مكانته.

وإن قصر الخلع على السلطان على هذا المذهب لَا نحسبه صوابًا، ولكن نرى أن الأولى أن يقال: إن الخلع كما يجوز بتراضي الزوجين إذا خافا ألا يقيما حدود الله، كذلك يجوز بأمر القاضي إذا تبين له بعد تحكيم الحكمين أنهما لَا يقيمان حدود الله بسبب نفرة المرأة من الحياة الزوجية، وذلك ما نص عليه في مذهب مالك رضي الله عنه، فقد جاء أن الأمر إذا فسد بين الزوجين، ولم تعلم له أسباب ظاهرة حكم الحكمان، فإن تبين أن العشرة بينهما غير ممكنة، فرقا بينهما، وجاز أن يكون التفريق خلعًا إذا كانت الإساءة من جانب المرأة.

ص: 779

ومن صريح الآية يتبين أن الخلع لَا يكون إلا إذا خافا ألا يقيما حدود الله؛ ومن سياق الآيات وتناسقها، وإشارة الآية الكريمة وصريح الحديث النبوي يفهم أن الخلع يكون حيث تكون النفرة من جانب الزوجة؛ ولذلك قال ابن رشد في بيان المقصد من شرعية الخلع:(الفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابل ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك (1) المرأة، جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل) ولهذا قال الظاهرية إن الخلع لَا يكون إلا إذا كان النشوز من جانبها؛ لأنه إذا كان النشوز من جانبه يكون النهي عن أخذ المال لوقوعه في عموم قوله تعالى:(وَلا تمْسِكوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا. . .)، وقرروا أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطى، ولكن الحنفية والمالكية والشافعية سوغوا الخلع في كل الأحوال، وبأي قدر من المال، وإن كرهوا الخلع إذا كان النشوز من قبله، وكرهوا أخذ أكثر مما أعطى.

هذا وللفقهاء خلاف طويل في شأن الخلع، نتركه لكتب الفقه (2).

(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بعد بيان أحكام الطلاق وعدده وأحواله، قال سبحانه (تلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) والإشارة إلى ما تقدم من الأحكام، والإشارة للبعيد لبيان علو قدرها، وعظم منزلتها، وجلال ما فيها من مصالح ظاهرة بينة لذوي الألباب؛ وسمى تلك الأحكام حدود الله للإشارة إلى أنها فاصلة بين الحق والباطل والظلم والعدل، والمصلحة والمضرة؛ وإضافتها إليه سبحانه وهو العليم الخبير البصير إشارة إلى أنه لاينبغي أن

(1) والفرك: البغض يكون بين الزوجين.

(2)

قال المصنف رحمه الله: لَا مانع مِن أن نشير هنا إلى أن الخلاف في موضعين: أولهما: في وصفه الفقهي. فالحنابلة والشافعي في أحد قوليه وهو أرجحهما قالوا: إنه فسخ لَا يحتسب من عدد الطلقات، والحنفية والمالكية قالوا: إنه طلاق يحتسب من عدد الطلقات، ولكنه طلاق بائن، وروي عن سعيد بن المسيب أنه طلاق، ولكن عند المراجعة يرد ما أخذ.

ثانيهما: في سببه وطريقه ومقدار المال، فقال بعضهم: إنه لَا يجوز إلا من السلطان، وكلام المالكية يفهم منه أنه يجوز من السلطان بعد تحكيم الحكمين، وجمهور الفقهاء على أنه لَا يقع إلا بتراضي الزوجين، وقال الظاهرية: إنه لَا يكون إلا إذا كان النشوز من قبلها، ولا يقع إذا كان النشوز من قبله، وقال بعض الحنابلة إنه إن كان النشوز من قبله لَا يثبت المال ويقع الطلاق، ويئبت الخلع عند الجمهور في الحالين وبأي مقدار، ولكن يحرم ديانة لَا قضاء أن يأخذ أكثر مما أعطى. وعندي أن رأي الظاهرية أوضح الآراء.

ص: 780

يتطرق الريب إليها، وأن من يخالفها يعاند الله ويحاربه، ويتجنب الصالح، ويتبع الطالح، ويترك النافع إلى مافيه الضرر في الدنيا والآخرة.

وإذا كانت تلك الأحكام حدودًا فلا يصح تجاوزها وتركها، وإلا كان معتديًا على حرمات الله، متهجمًا على شرع الله؛ ولذا قال سبحانه:(فَلا تَعْتَدوهَا) فالفاء هي فاء السببية التي تبين أن ما قبلها سبب لما بعدها؛ أي أنه إذا كانت تلك الأحكام حدود الله (فَلا تَعْتَدُوهَا) فلا تتجاوزوها إلى الشقة الحرام، وإلا كان الردى وسوء العقبى وفساد المال؛ لأن تلك الحدود عدل الله القائم إلى يوم القيامة، وهي عدله في الأسرة التي هي عماد المجتمع، وبها قام بنيانه، فإذا قامت على الظلم انهار المجتمع من دعائمه.

ولقد ذيل الله سبحانه الآية الكريمة بقضية عامة هي في عنق التاركين لأحكام الله إلى يوم القيامة، فقال تعالى:(وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) من يترك أحكام الله سبحانه وتعالى التي شرعها في قرآنه، وبينها على لسان نبيه الكريم، فإنه بسبب تركه لها ظالم لنفسه، وظالم لجماعته، وظالم في الحكم بين الناس.

وقد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم على من يترك شرع الله بالظلم، فقد ربط بفاء السببية بين التعدي لحدود الله والحكم بالظلم، وتكرار الربط بالسببية للتوكيد، وعبر بالإشارة مع وجود ما يغني عنها لتأكيد معنى السببية، أي أن السبب في ظلمهم تحملهم لتلك المخالفة والمعاندة لحدود الله ولله، وأردف ذلك بقوله " هم " وهو للتأكيد؛ ثم عبر بالجملة الاسمية للإشارة إلى أن الظلم شأن من شئونهم ووصف ملازم لهم ما داموا تاركين لحدوده؛ ثم كان القصر، أي قصر الظلم عليهم، وهو قصر حقيقي.

ولماذا كان ذلك التأكيد الشديد؛ كان لسببين:

أولهما: أن الإنسان مغرور دائمًا، ومحكوم نفسيا بأمور زمنية، تسيطر عليه الأحوال التي تلابسه، وقد يكون فيها الظلم والضرر، ويتوهمهما العدل والمصلحة،

ص: 781

ويتوهم أن لَا مصلحة في شرع الله ويحاول إخضاع حدود الله لزمانه، أو يتركها، كشأن الناس في الربا والطلاق وتعدد الزوجات والحدود وغير ذلك، فبين الله سبحانه وتعالى أنهم ظالمون لأنفسهم إن تركوا شرع الله إلى أهوائهم، بل يجب أن تكون أهواؤهم خاضعة لحكم الله، كما قال صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به "(1).

ثانيهما: المقام الذي سيق فيه ذلك النص الكريم، وهو ما يتعلق بالأسرة، فإن الظلم فيها أقبح الظلم.

وفقنا الله سبحانه لأنَّ ندرك شرع الله، ونؤمن بأنه الحق الذي لَا حق سواه، وفيه المصلحة التي يقوم عليها بناء اجتماعي فاضل. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

* * *

(فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

* * *

في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى طريقة إيقاع الطلاق، وأنه يكون على دفعات لَا دفعة واحدة، حتى لَا يضيق الرجل على نفسه، ولا يغلق بابا قد فتحه الله سبحانه وتعالى له؛ ولعل الله سبحانه وتعالى يحدث من بعد ذلك أمرا (وَمَن يَتَقِ اللَّهَ يَجْعَل لهُ مَخْرَجًا). وبين سبحانه الطلاق الذي يكون للرجل فيه أن يستأنف حياة زوجية؛ ثم بين سبحانه وتعالى الحكم إذا كان الطلاق

(1) سبق تخريجه.

ص: 782

بافتداء المرأة نفسها من الرجل على براءة من صداقها أو بمال تدفعه، أو بإسقاط حقوق مالية نشأت عن الزواج؛ أو نشأت حال قيام الحياة الزوجية.

وفى هذه الآية الكريمة يبين سبحانه الطلاق الذي لَا يمكن بعده استئناف الحياة بل تحرم عليه مؤقتا، وهو الطلاق المكمل للثلاث، فقال تعالى:(فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) أي أنه إن طلقها بعد الطلقتين اللتين سوغ الله سبحانه وتعالى له الرجعة بعد كل منهما في أثناء العدة، أو عقد زواج بعد انتهائها، إن طلقها بعد هاتين الطلقتين فلا تحل له من بعد طلاقه حتى تنكح زوجًا غيره؛ فمعنى " تنكح ": تتزوج بعقد شرعي صحيح.

ففي هذه الجملة السامية بيان لانتهاء الحِلِّ بالطلاق الثالث، وإثبات الحرمة ووقوعه، كما أن فيها بيان انتهاء ذلك التحريم، فهي قد حدَّت المبدأ والغاية؛ فمبدأ التحريم من المطلقة الثالثة، وينتهي التحريم بعد تزوج شخص آخر، والدخول بها، ثم تطليقها من بعد ذلك.

والنكاح المراد في الآية هو الزواج وظاهر الآية أن الزواج ثم الطلاق من بعده يحلها للزوج الأول من غير حاجة إلى الدخول، وبذلك أخذ سعيد بن المسيب؛ ولكن جمهور الفقهاء والتابعين من قبلهم ثم الصحابة أجمعين قد قرروا أنه لابد من الدخول الحقيقي لكي تحل له، وذلك لنص الحديث المخصص لظاهر الآية؛ فقد ورد في البخاري ومسلم، ومسند الإمام أحمد، ومسند الشافعي من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني، فبتَّ طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوب؛ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال:" أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لَا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك "(1) وواضح أن معنى ذوق العسيلة أن يفضي إليها ويدخل بها.

(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الشهادات - شهادة المختبئ (2445)، ومسلم: النكاح - لَا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح (2587) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 783

وقد تعددت روايات الحديث بهذا المعنى، فكان حديثا مستفيضا مشهورا، وهو يخصص عموم القرآن الكريم، بل هو في الحق تفسير لظاهره، وليس بعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لكتاب الله تفسير، وعلى هذا انعقد الإجماع قبل سعيد بن المسيب، وانعقد الإجماع بعده، فقوله من شواذ الفتيا التي لَا يلتفت إليها.

(فَإِن طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) أي فإن طلق الزوج الثاني، فلا جناح على المرأة وزوجها الأول أن يتراجعا، أي لَا إثم عليهما في أن يستأنفا حياة زوجية جديدة، فالضمير في " عليهما " يعود إلى المرأة والزوج الأول؛ لأن العلاقة بينهما هي مساق الآية الأول، فقد بينت الآية التحريم بالمطلقة الثالثة، وأنه ينتهي بالزواج من الثاني والتطليق منه، ثم صرحت هذه الجملة السامية بابتداء الحل بعد انتهائه، وهو أنه يبتدئ بالطلاق من الثاني وزوال بقايا النكاح الثاني وآثاره بانتهاء العدة؛ فهذه الجملة الكريمة توضيح لابتداء الحل، كما كانت الأولى فيها بيان لابتداء التحريم وإشارة إلى انتهائه.

وعلى هذا سار أكثر المفسرين، وكلامهم واضح بين، ولكن اختار الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه أن يكون الضمير في " عليهما " في قوله تعالى:(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا) يعود على الزوج الثاني والمرأة لَا على الزوج الأول فهي كقوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا. . .).

فهي تدل على معنى جديد، لم يتضمنه معنى الجملة التي سبقتها، وهو بيان أن الزواج الثاني يكون ككل أنواع الزواج، وله كل أحكامها وحدودها، فلا يكون زواجا مؤقتا، ولا لغرض مؤقت، إنما يعقد للبقاء والدوام ويقصد فيه معنى الزواج كاملا غير منقوص، وقد يتوهم بعض الناس أن الزوج الأول أحق بها، فدفع ذلك بأن المراجعة في العدة حق ثابت للمطلق الثاني، وهو أولى بمقتضى الحكم العام الذي جاء به النص الذي نوهنا عنه، وهو قوله تعالى:(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدهنَّ. . .).

ص: 784

وقد يعترض معترض على ذلك الرأي فيقول: إنه لايوجد على ذلك التخريج ما يفيد حلها للأول، فنقول في رد ذلك الاعتراض: إن الحل بالزواج ثم الطلاق بعد الدخول وانتهاء العدة فهم من انتهاء التحريم بقوله تعالى: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) فالتحريم مؤقت بتوقيت زمني غير معلوم ينتهي بالزواج الثاني، وزوال سائر أسباب التحريم الأخرى.

ومهما يكن من الأمر، فإن السياق يسير على مقتضى رأي الجمهور؛ لأن السياق كله متعلق بشأن المرأة مع زوجها الأول، والكلام في الزوج الثاني جاء لتتميم الكلام في الزواج الأول وإنهائه، ومدى ذلك الإنهاء؛ ويزكي ذلك أن الله سبحانه وتعالى عبر عن عودة الزواج بقوله:(أَن يَتَرَاجَعَا) وهذا يفيد أن ذلك بعقد جديد، ولو كان المراد الرجعة ما عبر بصيغة المشاركة؛ لأنه ينفرد بها الزوج إن كان الثاني.

وحلها للزوج الأول منوط بأمر ديني مقرر ثابت، وهو أن يكونا قد انتفعا من ذلك الدرس القاسي، وهو الفرقة المحرمة بينهما، وتجربتها عشرة غيره، وتجربته لرؤيتها عشيرة لسواه؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى في بيان إنهاء التحريم:(إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) فنفي الإثم في العودة إلى الزوج الأول مربوط دينيًا وقلبيًا بقصدهما إلى العشرة الحسنة وإرادتهما لها، وظنهما القدرة عليها، وزوال النفرة التي كانت توجب الشقاق والنزاع، وتؤدي إلى الطلاق وتكراره المرة بعد الأخرى.

وقد فهم بعض العلماء أن المراد بالظن هنا هو العلم واليقين؛ فالمراد إن تيقنا أنهما سيقيمان حدود الله، فليس للرجل والمرأة، وقد فرق بينهما تفريقا بمحرِّم بالطلاق الثلاث المتكرر، أن يستأنفا حياة زوجية بعد زوال التحريم إلا إذا علما على وجه الجزم واليقين أنهما سيقيمان في هذا الزواج الجديد حدود الله بإعطاء كل واحد منهما ما للآخر من حق، ويقوم بما عليه من واجب، لتكون المودة بينهما في ظل من الرحمن الرحيم.

هذا نظر بعض العلماء في تفسيرهم الظن باليقين؛ ولكن الزمخشري لم يرتض ذلك النظر، ولم ير أنه يتفق مع الذوق البياني لمن يذوق كتاب الله؛ ذلك بأن

ص: 785

إقامة حدود الله أمر يتعلق بالمستقبل، والمستقبل مغيب مستور غير معلوم، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة أن يجزم في أمر يتعلق بالمستقبل بأنه سيكون على ما يبغي وما يريد، ولو كان يتعلق بقلبه ونيته، فالله سبحانه مقلب القلوب، وهو وحده علام الغيوب، بل إن أقصى ما يستطيعه الزوجان في مثل هذا المقام أن يعتزما العشرة الحسنة، ويطرحا أسباب الخلاف التي كانت منها الفرقة الجافية، والتي هي أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى، وهما مع ذلك يظنان أن في قدرتهما تنفيذ ما أرادا، واجتناب ما كان منهما قبل تلك التجربة الشديدة.

وإنه لواضح كل الوضوح من أن الرجل إذا طلق امرأته مرة بعد مرة، حتى أتم الثلاث، يكون هو وهي في حاجة إلى علاج؛ إذ إن العشرة بينهما صارت غير صالحة للبقاء، وأنهما إن يتفرقا نهائيا يغن الله كلا من سعته؛ فهو وهي يسيران في خطين متقاطعين، لَا يلتقيان إلا يصطدمان، فيطلقها، ثم يراجعها أو يعقد عليها، حتى إذا التقيا تنابذا للمرة الثانية وتدابرا، فيطلقها ثم يراجعها أو يعقد عليها، حتى إذا استأنفا حياتهما الزوجية تكررت منهما المأساة؛ إن ذلك هو الكفر في الإسلام، وإن ذلك هو الظلم الذي يجب اجتثاثه من أصله، وذلك بمنعهما من استئناف الحياة الزوجية فقد أثبتت التجربة المريرة أن الزوجية بينهما غير صالحة للبقاء، إما لعيب فيه أو لعيب فيها أو لعيب فيهما، وذلك هو غالب الأحوال؛ لأن أحدهما لو كان خالصا من العيوب التي تتعلق بالحياة الزوجية لصبر على الثاني، ولأصلح بصبره حاله، ولسارت السفينة في جو هادئ لَا يؤدي إلى الفصم والقطع.

وبعد تلك الفرقة المحرِّمة قد يحدث أن تتزوج زوجًا آخر، وتعاشره معاشرة الأزواج على قصد أن تدوم العشرة بينهما، ولكن بعد مدة طالت أو قصرت ينتهي هذا الزواج وتزول آثاره، إما بموت الزوج وانتهاء عدة الوفاة، وأو بتطليقه وانتهاء عدة الطلاق، فيبدو لزوجها الأول أن يستأنف حياة زوجية وتبادله هذه الرغبة؛ عندئذ يُنهي رب العالمين التحريم الذي أوجده الطلاق المكمل للثلاث، لأنه عسى أن يكون الزمان والتجربة، وعشرة غيره قد صقلت نفوسهما وأصلحت قلوبهما، ولطفت من حدة النفور منهما.

ص: 786

وترى من هذا أن الزواج الذي ينهي التحريم هو الزواج غير المؤقت الذي لا يقصد به مجرد التحليل للأول، بل الزواج الدائم المستمر، أو الذي يكون على نية الدوام والاستمرار؛ لأن الشارع الكريم جعل نهاية التحريم هو هذا الزواج والدخول فيه ثم الطلاق؛ لتكون تلك التجربة الشديدة المريرة، ولتصقل النفوس الرعناء المتمردة؛ فإذا لم يكن العقد زواجا قصد به البقاء والدوام، ما كانت تلك التجربة، وما كان ذلك الغرض المقصود من الشارع الحكيم.

ولكن الناس ضيقوا على أمرهم ما وسع الله، ثم أخذوا يفكون ما قيدوا أنفسهم به؛ فطلقوا لأدنى ملابسة، وطلقوا الطلقات الثلاث إما في مجلس واحد أو بلفظ واحد، أو في دفعات متقاربة، وقطعوا على أنفسهم الطريق ولم يفهموا قول الله تعالى:(لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)، ثم بعد أن سدوا طريق الحلال، وأخذوا يتحايلون لفتحه بمفاتيح من الحرام، فأوجدوا ما سمى في عرف الناس والفقهاء " زواج المحلل " أي الزواج الذي لَا يقصد به عاقده العشرة الزوجية الدائمة، إنما يقصد به مجرد إحلالها للأول؛ فهو في الواقع يتحايل على الأحكام الشرعية ليهدمها، لقد جعل الشارع نهاية التحريم أن تنكح زوجا آخر زواجا شرعيا صحيحا يقصد به دوام العشرة، ثم تجيء الفرقة عارضة لتكون تلك التجربة التي تهذب النفوس، وتضبط الإرادة، وتمنع الأهواء من الاندفاع؛ ولكن يجيء الناس فيهدمون مقصد الشارع ويمنعون التهذيب الذي أراده، فيكون ذلك العقد الذي ما قصد به الدوام ولا تتحقق به تجربة، وإن كانت تسقط به المروءة، وتنحرف النفس عن الجادة، ويتحايلون على أوامر الله بذلك ليسقطوها، ويخدعوا الله (وَمَا يَخْدَعونَ إِلَّا أَنفُسَهمْ وَمَا يَشْعُرونَ).

ولقد ابتدأ ظهور ذلك النوع من الخداع الديني في صدر الإسلام؛ ولذلك نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وشدد في النهي، وتضافرت بذلك الأخبار عنه وعن الصحابة، وسماه استهزاء بكتاب الله، ونقتبس من تلك الآثار النبوية قبسة تضيء للناس في عصرنا، حتى لَا يضلوا، فيضيقوا على أنفسهم واسعا، ثم يجتهدوا في فتح باب الإثم إذ ضيقوا الحلال، ومن ذلك:

ص: 787

(أ) - أنه روي عن بن عباس أنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال صلى الله عليه وسلم: " لا، إلا نكاح رغبة لَا نكاح دَلِسَة، ولا مستهزئ بكتاب الله عز وجل لم يذق العسيلة "(1).

(ب) - وروى الإمام أحمد والنسائي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم بالتيس المستعار؛ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له "(2).

(جـ) - وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الربا وموكله وكاتبه وشاهده، والمحلل والمحلل له "(3).

وهكذا تعددت الروايات والإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -في هذا المعنى.

وبهذا الهدى أخذ أصحابه رضي الله عنهم، ولم يعرف مخالف بينهم في أن هذا النوع من العقود حرام؛ ولذلك قال الفاروق رضي الله عنه:(لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما) فاعتبر عمل الأول زنى؛ كذلك الثاني إن عقد بناء عليه، ودخل بها يكون زانيا يستحق كلاهما عليه الرجم.

ولقد جاء رجل إلى عبد الله بن عمر يسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فيتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه، هل تحل له؟ قال:" لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

ولقد روى البيهقي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما.

وهكذا استفاضت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتحريم نكاح التحليل واعتباره خداعا للشرع. ولقد سئل ابن عباس رضي الله عنه، عن رجل

(1) رواه الطبراني، وراجع جامع الأحاديث والمراسيل - الإكمال من الجامع الكبير (26275) ج 8 ص 291.

(2)

رواه ابن ماجه: كتاب النكاح - باب المحلل والمحلل له (1926) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.

(3)

رواه أحمد في مسند العشرة (634).

ص: 788

طلق امرأته ثلاثا ثم ندم، فقال: هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلها؟ فقال: من يخادع الله يخدعه.

ولقد اتفق المسلمون على أن نكاح التحليل حرام إن قصد العاقد به التحليل " لتضافر الأخبار بلعن النبي صلى الله عليه وسلم له، ولأنه يخادع الشرع الشريف، ويتحايل لإسقاط أحكامه؛ ولأنه ما قصد بالعقد زواج رغبة وبقاء، بل قصد التحليل، فهو عقد مؤقت، وهو منهي عنه، ولأن الباعث على العقد ليس أمرًا أحله الشارع، إنما هو نقيض أمره، وكل أمر على خلاف أمر الشارع فهو رد على صاحبه، والعبرة في الأمور الشرعية ببواعثها ونياتها، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " (1) فمن نوى أن يخدع الشرع بفعله فعليه إثم نيته، ومن نوى بعقده ما أحله الله سبحانه وتعالى فله نيته.

ومع اتفاق فقهاء المسلمين على أن نكاح التحليل حرام لصريح النصوص، إلا أنهم قد اختلفوا في بطلانه، وفي تحليلها للمطلق الأول بمقتضى ذلك العقد، ذلك أن بعض الفقهاء يرون أن النهي عن عقد لَا يمنع صحته، فالصحة والحل ليسا متلازمين تلازما لَا يقبل الافتراق، فالنهي عن البيع وقت الجمعة لَا يقتضي بطلانه والنهي عن الزواج مع تأكد الظلم إن تزوج لَا يمنع صحته إن تزوج مع هذه الحال، وهكذا.

وبتطبيق هذه النظرية عند أولئك الفقهاء على نكاح التحليل نراهم يقررون أنه حرام، ولكنه إن وقع فهو صحيح، ويترتب عليه حلها للأول مع إثم الاثنين أو الثلاثة.

وأما الذين قالوا إن النهي عن عقد يقتضي بطلانه، فقد قرروا أن عقد التحليل إن ثبت أنه للتحليل فهو حرام، وغير صحيح، ولا يترتب عليه حل للأول.

وإنا نبين موضع الخلاف بإجمال، فنقول: إن عقد التحليل له حالان:

(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: بدء الوحي (1) بهذا اللفظ.

ص: 789

إحداهم ألا تظهر نية التحليل في أثناء العقد، بل تختفي في أنفس الثلاثة الزوج الثاني، والأول، والمرأة، فلا ينطق واحد منهم في العقد بهذه النية، ولكنها في أطواء نفوسهم جميعا؛ وفي هذه الحال قال مالك وأحمد: إن العقد غير صحيح، ولا تحل للأول؛ لأن الأحكام بالنيات، والبواعث والغايات تناط بها الأحكام، وما كان النكاح نكاح رغبة، بل هو نكاح دلسة كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تحايل في شرع الله، فلا يقر عليه المتحايل، والله لَا يقر أمرًا جاء على خلاف ما أمر، وهو داخل في عموم نهيه.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنه في هذه الحال ينعقد العقد صحيحا مع تحقق الإثم، ويترتب عليه حلها للأول بعد الدخول والطلاق وانتهاء العدة؛ لأن الأحكام تناط بظواهر الألفاظ، والنيات علمها عند الله، وهو الذي يؤاخذ عليها.

والشافعي قد أثر عنه قولان: أحدهما وهو القديم كمذهب مالك وأحمد، وثانيهما وهو الجديد، كمذهب أبي حنيفة وفقهاء العراق.

الحال الثانية: أن يصرح بالتحليل في العقد، فيعقد العقد على شرطه، وهذا قال فيه الشافعي: إنه كنكاح المتعة فهو باطل؛ لأنه نكاح مؤقت؛ ومالك وأحمد على أصلهما وهو بطلانه وعدم حلها للأول بمقتضاه؛ والشافعي يوافقهما كما رأينا، وإن كان الأساس مختلفا؛ فالشافعي أبطله لأنه مؤقت كنكاح المتعة، ومالك وأحمد أبطلاه لذلك، ولأن الباعث عليه حرام، وما كان باعثه حراما فهو حرام.

هذه أقوال الأئمة الثلاثة، وقد وافقهم أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة، من حيث إنه عقد فاسد لَا يحلها للأول؛ وقال أبو حنيفة وزفر: يصح العقد ويحلها للأول؛ لأن اشتراط إحلالها للأول شرط فاسد، فهو يلغى ولا يكون لازما، ويصح العقد، ويحلها للأول بعد استيفاء شروط الحل.

وقال محمد من أصحاب أبي حنيفة: إن عقد الثاني صحيح مع هذا الشرط؛ لأن الشرط يلغى، ولكن هذا العقد لَا يحلها للأول، أما صحة العقد فلأن الشرط ملغى لَا يلتفت إليه، ولكن لأنه قد اشترط حلها للأول قد استعجل أمرا أخره الله

ص: 790

تعالى، وهو بذلك قد ارتكب محرما، وكان مستعجلا أمرًا قبل أوانه، فلا يصل إلى غايته، كمن قتل مورثه مستعجلا ميراثه فإنه لَا يرث لأنه استعجل أمرا قبل أوانه فعوقب بحرمانه.

هذه خلاصة أقوال الفقهاء في نكاح المحلل، وهو أقبح عقود الزواج، وترى منها أن جميع الفقهاء يرون أنه حرام، وأنه خداع لله سبحانه وتعالى، وأنه تحايل على إبطال أحكام الله، وتفويت لمقاصد الشارع الحكيم، وأن جمهور الفقهاء يرون أنه عقد فاسد لَا تحل به للأول؛ وإذا كان ذلك شأن عقد المحلل فليتق الله الناس في أنفسهم وأخلاقهم ومروءاتهم، وليجنبوا أنفسهم ألفاظ الطلاق ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولا يضيقوا على أنفسهم ما أفسح الله لهم؛ وليحفظوا على أنفسهم أعراضهم ومروآتهم فلا يضطروا إلى ذلك العقد الذي هو إثم في إثم؛ وجرم في جرم، وتعريض الحرمات للانتهاك.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ذيل الله سبحانه وتعالى أحكام الطلاق وعَدَده، ودفعاته، وما يترتب عليه بهذه الجملة السامية؛ ومعناها أن تلك الحقوق والواجبات التي بينها سبحانه وتعالى في الطلاق من أن الزوج أحق بزوجته بعد الأولى والثانية، ومن أن النساء لَا يسوغ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، ومن أن الطلاق ثلاث، بعدها تحرم عليه حتى تتزوج زوجا آخر، ومن أنه لَا يحل له أن يأخذ منها شيئا إلا أن يكون فداء لنفسها خشية نشوزها. كل هذه الأحكام، هي الحدود التي أقامها سبحانه فارقًا بين العدل والظلم، والحق والباطل، والخطأ والصواب، وهي التي تقوم عليها معالم الأسرة الإسلامية؛ وقد بينها لقوم من شأنهم أن يعلموا الأمور على وجوهها ويدركوها على حقيقتها، ومن لم يلتزمها فقد ضل ضلالا مبينا.

وإن ذلك التذييل الكريم يستفاد منه ثلاثة أمور:

أولها: بيان أن الأحكام الخاصة بالطلاق هي حدود حدها الشارع، من يتجاوزها فقد تجاوز ما له إلى ما ليس له، وترك الحلال إلى الحرام، وترك الحق إلى

ص: 791

الباطل؛ وفي ذلك حث على الطاعة، وتحريض على التزام ما أمر الله سبحانه وتعالى.

ثانيها: الإشارة إلى أن هذه الأحكام هي المصلحة الحق، وأن الناس إن تجاوزوها فقد تركوا الخير إلى الشر والنفع إلى الضرر.

الأمر الثالث: حث الناس على تعرف حكم الشارع وغاياته؛ فإن مقاصد الشارع لَا يعرفها على وجهها إلا الذين من شأنهم أن يعلموا، ويصلوا إلى لب الحقائق، ومرامي الأحكام الشرعية القاصية والدانية، والله بكل شيء محيط.

* * *

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

* * *

بين الله سبحانه وتعالى نظام الطلاق في الإسلام، فذكر عدده، وأن الرجل أولى بزوجه، له ردها من غير عقد ما دامت في العدة، إذا كان ذلك بعد المطلقة الأولى أو الثانية؛ ثم بين متى يسوغ أن تفتدي المرأة نفسها بمال تقدمه، وبين التحريم الذي يعقب المطلقة الثالثة، ومتى ينتهي ذلك التحريم؛ وفي الجملة بين نظام الطلاق

ص: 792

الذي يجعله في دائرة المعقول، وعند الحاجة إليه، وبين معه طريق تفادى نتائجه من الفصم، متى كانت ثمة ندحة، أو متى كان هناك أمل في استئناف حياة زوجية سعيدة، يعالج فيها كل واحد من الزوجين نفسه، ويجعلها ملائمة لنفس صاحبه، ويصلح من حاله وحال من معه، متى كان ذلك في دائرة الإمكان.

بعد بيان ذلك النظام المحكم الوثيق الأركان، أخذ سبحانه وتعالى يبين ما يجب على الرجال إذا كانت الفرقة، وقد انشعبت القلوب، ولم يكن سبيل للالتئام، أو كان ثمة سبيل موصل إليه، أي أن الآيات السابقة في بيان نظام الطلاق، وهاتين الآيتين في بيان ما ينبغي اتباعه في معالجة نتائجه، ليكون العدل والحق، ولا يكون الجور. والباطل، أو الشطط والتهور. وقد قال سبحانه عز من قائل:

ص: 793

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

الأجل هنا: العدة، ويصح أن يطلق على آخرها، فإن كلمة أجل تطلق على المدة كلها، كما تطلق على الزمن الذي تنتهي إليه، فيقال: أجل الدين هو شهران، ويقال: أجل الدين هو نهاية شهر كذا، وكلا التفسيرين يصح أن يكون مرادًا هنا، والأقرب أن يراد به انتهاء المدة.

وبلوغ الأجل المراد به هنا قرب انتهاء العدة، ومشارفة ذلك الانتهاء، وذلك لأن الإمساك بالمعروف، وهو المراجعة لَا يمكن أن يتحقق إلا إذا فسرنا بلوغ الأجل بقرب انتهائه، إذ لَا معنى للإمساك بمعروف بعد انتهاء الأجل، فإن المراجعة لَا تكون بعد انقضاء العدة.

ولقد قال الراغب الأصفهاني في معنى البلوغ ما نصه:

(البلوغ والبلاغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى، مكانًا كان أو زمانًا، أو أمرًا من الأمور المقدرة، وربما يعبر به عن المشارفة عليه، وإن لم ينته إليه؛ فمن الانتهاء (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعينَ سَنَةً. . .)، وقوله عز وجل:

ص: 793

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) وأما قوله عز وجل: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ. . .)، فللمشارفة، فإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجل لَا يصح للزوج مراجعتها وإمساكها له).

ص: 793

وإن استعمال البلوغ بمعنى مشارفة الانتهاء مثاله في المكان أن تقول: بلغت المدينة. إذا وصلت إليها، وصرت على مقربة منها بحيث صرت تشرف عليها، وتبدو لك مطالعها.

ومعنى الجملة السامية: إذا شارفت العدة الانتهاء، وقاربت العلاقة على الانقطاع التام وجب على الرجل أن يتدبر في أمره، فينظر في ماضيه معها وحاضره، وما يرجوه في المستقبل ويترقبه؛ فإن رجح لديه أن البقاء أولى من القطع، وأن ما كان سببًا لكلمة الطلاق لَا يصلح أن يكون سببًا لقطع العلاقة قطعًا باتًّا، وأن يتفرقا، وأنه إن أعاد الحياة أقام العدل معها، ولم يكن فيها ما يدفعه إلى الظلم، ولا في طباعه ما يدفع إلى الأذى؛ إن كان ذلك كذلك فليمسكها بمعروف، أي فليرجعها إليه معتزمًا إمساكها والبقاء معها بالمعروف، أي بالتزام الأمر المعقول الذي تعرفه العقول وتقره، ويرضاه الناس، ويزكيه الحق سبحانه وتعالى.

وإن رجح لديه بعد أن ينظر في غابر أمره وحاضره أنه لَا يرجو في المستقبل خيرًا، وتأكد لديه ذلك، أو كان قريبًا منه، أو غلب الظن بذلك، فليسرحها (1) بمعروف أي فليمض الطلاق، ويخل بينه وبينها بمعروف، أي بالأخلاق الحسنة من غير مشاحة ولا معاندة ولا إيذاء، فإن ذلك هو الذي يعرفه العقلاء، ويؤمن به الأتقياء؛ ولقد كان الصالحون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم لا يذكرون نساءهم اللائي يطلقونهن بسوء قط. سئل بعض التابعين: لِمَ طلقت زوجك؟ فقال: إن العاقل لَا يذكر ما بينه وبين أهله.

وإن التسريح بالمعروف يتقاضى أن يؤدي لها كل حقوقها من مال كان عليه، وألا يذكرها إلا بخير، وأن يعاونها إن كانت في حاجة إلى معونته؛ حتى لقد قرر

(1) قال المصنف رحمه الله تعالى: حقق الراغب الأصفهاني معنى التسريح، فقال: " السرح شجرة لها ثمرة، الواحدة سرحة، وسرحت الإبل أصله أن ترعيه السرح ثم جعل لكل إرسال في الرعي. قال تعالى:(وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)، والتسريح الطلاق نحو قوله تعالى:(. . . أو تَسْرِيح بِإِحْسَان. . .)، وقوله:(. . . وَسَرِّحُوهُن سَرَاحًا جَمِيلًا -)، مستعار من تسريح الإبل، كالطلاق مستعار من إطلاق الإبل.

ص: 794

الفقهاء أنه تستحب المتعة لكل مطلقة؛ وقد ادعى بعض الفقهاء وجوبها، عملا بقوله تعالى:(وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْروفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقينَ).

وفى الجملة إن التسريح بالمعروف يتقاضى الامتناع عن كل أذى، ومد يد المعونة إن تعينت إليه؛ وهذا هو التسريح الجميل المذكور في قوله تعالى:(وَسَرِّحوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا).

(وَلا تمْسِكوهنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) وإذا كان الإمساك بالمعروف، أو التسريح بالإحسان هو المطلوب، فإن الإمساك الذي يترتب عليه الضرر لا يسوغ وقد يسأل سائل: إن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالإمساك بالمعروف، أو التسريح بالإحسان، وإن ذلك يفهم منه ضمنا النهي عن الإمساك ضرارًا وإيذاء؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى قد خير المؤمن بين أمرين لَا ثالث لهما، فكان ذلك نهيا عن الثالث والرابع، وهو الإمساك ضرارًا، والتسريح مع الإيذاء.

والجواب عن ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد خص الإمساك ضرارًا بالنهي بعد أن فهم النهي عنه وعن غيره ضمنًا، ليبين للمؤمن أنه لَا يحل له أن يراجع إلا إذا كان قد اعتزم العدل وأراده، ولم يجد معوقًا له عن إقامته، بل وجد أنه يستطيع أن يتعاون مع أهله عليه، وأن التنفير من الطلاق والنهي عن القطيعة لَا يسوغان له أن يرضى بإعادة العشرة مع توقع الضرار والأذى، واستمرار الحياة المعتكرة بالشر والحدة والأذى، فإنه إذا كانت القطيعة والفراق أمرين غير مرغوب فيهما، ويتنافيان مع المودة التي يدعو إليها الإسلام؛ فإن الضرار بين الزوجين أمر منهي عنه، وإن المودة هي المطلوبة، فإن تعذر قيامها، أو غلب على الظن عدم قيامها، فلا يسوغ استئناف الحياة الزوجية مع النفرة المستحكمة، والأذى والنشوز؛ فإن ذلك هو الكفر في الإسلام؛ لأنه كفر في العشرة، وعداوة في موطن المودة، ومكايدة في موضع المسالمة.

وقد فهم بعض العلماء أن المراد من الضرار هو الإضرار، فإن ذلك هو الذي يصلح سببًا من جانب الذي يملك الرجعة وحده وهو الزوج؛ أما الزوجة فإنها

ص: 795

لا تملك الرجعة فلا يتصور ضرر من جانبها يكون مقصودًا عند الرجعة، والضرار يوجب عملا مشتركا من الجانبين، والاشتراك غير متصور؛ فالضرار يكون بمعنى الضرر؛ وإن ذلك الفهم صحيح في جملته؛ ولكن لِمَ عبر عن الضرر بالضرار، وعدل عن اللفظ الأصلي الموضوع له إلى لفظ آخر؟

والجواب عن ذلك هو أن الرجل عند الإمساك الذي يؤدي إلى الضرار - وهو مبادلة الضرر التي تنشأ عن المعاندة والمكايدة - له حالان:

إحداهما: أن يقصد إلى الضرر والأذى بالرجعة، بأن يمسكها مكايدة وعناتًا ومبالغة في الظلم لتكون كالمعلقة؛ وذلك كما كان يقع من بعض الناس في عصر التنزيل، إذ يرجعون أزواجهم قبل انتهاء العدة، ثم يطلقونهن لتطول العدة، وليبالغوا في الأذى، وذلك أمر منهي عنه، لَا حاجة إلى النص عليه، ومعنى الضرار فيه خفي، لأن الضرر فيه واقع على جانب واحد، ومن جانب واحد، أو هو على الأقل واضح في أحد الجانبين، وليس واضحًا في الآخر.

ثانيهما: هو أن يكون المطلق قاصدًا الرجعة الحق، ولكنه لم يعتزم العدل، ولم يتوقعه، ولم ير أن أسباب الطلاق قد زالت، بل أراد العودة مع قيام أسباب النفرة؛ فإن ذلك يكون كقاصد الضرار، وإن لم يعلنه وإن لم يشعر؛ لأنه سيكون بينهما لَا محالة وسيقع؛ ويكون حينئذٍ الضرار على أصل معناه، ويكون مقصودًا من فاعل الرجعة، أو في حكم المقصود.

وقد بين سبحانه وتعالى أنه سيترتب على الرجعة مع قيام الأسباب التي أوجبت الطلاق والتي اعتبرت ضرارًا - أمران:

أحدهما: أن يعتدي في الحياة الزوجية فيظلم، بل إن إقدامه مع توقع الكيد والأذى اعتداء؛ ولذا قال سبحانه وتعالى:(لِتَعْتَدُوا) فاللام هنا هي التي تسمى لام العاقبة، فهي تبين أن ثمرة الرجعة التي لَا يتوقع فيها العدل هو الاعتداء، بل إن ذات الرجعة في هذه الحال من الاعتداء والظلم.

ص: 796

الأمر الثاني: الذي يترتب على الرجعة ضرارًا، هو أنه يظلم نفسه، فكما أنه يترتب على ذلك الضرار اعتداء على غيره يكون فعله ظلما لنفسه؛ ولذا قال سبحانه:(وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي أن من يرجع مطلقته إضرارًا أو ضرارا فقد ظلم نفسه ظلمًا مؤكدًا، وإذا كان قد أراد ظلمها فمن المؤكد أنه قد ناله حظ عظيم من الظلم قبل أن ينالها؛ وذلك لأنه عصى ربه فاستحق عذابه، ولأنه جعل البيت الذي هو مثابة الراحة والقرار مكان نكد واضطراب يستبدل فيه بالمودة البغضاء؛ ولأنه لَا يعيد إلى حظيرة الزوجية زوجًا ودودا، بل عدوا شديدا، وأشد الأعداء من كان منك قريبا، وقد يكون كالثعبان بين جنبيك؛ وأي ظلم للنفس فوق هذا الظلم.

(وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) بعد أن نهى سبحانه وتعالى عن أن تتخذ الرجعة ضرارا، أو يقدم الرجل عليها وهو يعلم أو يظن أنه لن يكون إمساك بمعروف؛ أعقب ذلك بنهي آخر هو توكيد للنهي الأول، فقال:(وَلا تَتَّخِذوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) وذلك لأن الله سبحانه وتعالى رسم في آياته حدودًا ونظمًا تتقرر بها الحياة الزوجية، فشرع الرجعة لتدارك ما فاته وقت الغضب، ولرجاء أن يستقيم الأمر، وتقام الحياة الزوجية بالمعروف، بعد أن تهددتها القطيعة، وقاربت على الانفصال، فمن اتخذ الرجعة للضرار، أو وهو غير مستيقن صلاح الحال أو يرجو ذلك، فهو كمن يستهزئ بأحكام الله، وآياته سبحانه؛ لأنه ينفذ الأوامر في غير موضعها، ويكذب على نفسه وعلى دينه وعلى ربه، فهو يعمل عمل من يريد الصلاح ولا يريده، وعمل من يقيم الحياة الزوجية الصحيحة ولا يقيمها، ثم هو في أعماله يشبه اللاعب الهازئ، بل إنه لاعب هازئ في موضع الجد، يطلق لأتفه الأسباب، ويرجعها من غير أن ينوي الصلاح والعشرة بالمعروف، فيطلق ثانيًا عابثًا، ثم يرجعها عابثا، ثم يطلق، فيكون التحريم بسبب العبث والمجون.

ص: 797

ويصح أن يراد بالآيات الآيات التكوينية، لَا الآيات القرآنية الحكمية المتلوة؛ وذلك لأن من آيات الله في الكون أن جعل الزوج سكنًا تربطها به المودة، فقال:(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً. . .)، فمن طلق عابثا وراجع عابثا، وجعل الحياة الزوجية اضطرابا وضرارا وعداوة بدل المودة، فقد استهزأ بآيات الله الكونية، فحرم نفسه من نعمتها؛ ولذا قال سبحانه بعد هذا النهي:(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّه عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ). فقد أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يتذكروا دائمًا نعمة الله تعالى عليهم، وأن يتذكروا ما في الكتاب وما جاءت به السنة من أحكام وعظات.

أما النعمة التي يجب تذكرها فهي نعمة الزوجية خاصة، ونعمه سبحانه وتعالى عامة، ونعمة الزوجية تتجلى في أن يكون للشخص أليف في الحياة يقطع معه بيداءها، ويتحمل معه لأواءها؛ ويكون بيت الزوجية فيها كواحة في وسط صحراء الحياة، وروضة يأوي إليها بعد المشاق وبعد الكد واللغوب، فمن عبث بهذه النعمة فقد ظلم نفسه، ونسي أنعم الله سبحانه وتعالى عليه، ثم حق عليه أن يتذكرها؛ ومن كمال نعم الله أن ذكره بها في مقام نسيانه لها.

والتذكير الثاني هو بما أنزل الله من الكتاب والحكمة؛ والكتاب هو القرآن الكريم، والحكمة هي السنة النبوية كما فسرها الشافعي رضي الله عنه، وهو تفسير حكيم نقبله؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، فلابد أن تكون الحكمة غير الكتاب؛ ولا شيء نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الكتاب غير ما اشتملت عليه السنة من أحكام؛ فما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5).

والحكمة معناها العلم النافع الذي يتجه إلى ناحية العمل الذي به تنضبط النفس، وذلك يتلاقى مع السنة النبوية، فكانت جديرة بهذه التسمية؛ لأنها تفصل الأحكام العملية الجزئية، وترشد إلى تنفيذ ما اشتمل عليه القرآن الكريم من قواعد كلية، ونظم جامعة.

ص: 798

والتذكير بالكتاب والسنة هو تذكير بأمرين يجب أن يكونا في ذاكرة كل مؤمن، فهو تذكير زاجر، ولذا قال سبحانه وتعالى:(يَعِظُكُم) فالوعظ تذكير فيه زجر وتخويف؛ ولذلك قال الخليل بن أحمد في تعريف الوعظ: (. . . هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب ". والضمير في (يَعظُكُم) يعود على المذكور من الكتاب والسنة، وجعل الضمير واحدًا؛ لأنهما في مؤَداهما وغايتهما شيء واحد؛ وِإن السنة ليست إلا تابعة للكتاب، منه أخذت قوتها وسلطانها، إذ قال تعالى:(ومَا آتَماكمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكمْ عَنْهُ فَانتَهُوا. . .).

وقد قال تعالى في ختام الآية: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ) بعد أن بيَّن سبحانه العواقب الوخيمة لمن يعبث بالحياة الزوجية، ويجعلها مضَارة وعداوة، لَا مودة فيها ولا خير، وذكَّر بنعمة الله عليه في أحكامه وشرعية الزواج، وبيَّن مغبة العبث بالأحكام، بعد هذا كله حذَّر وأنذر، فأمر بتقوى الله سبحانه وتعالى بأن يجعل بينه وبين غضب الله سبحانه وتعالى وعذابه وقاية، وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه؛ وإن تربية معاني التقوى في النفس تجعلها تدرك الخير والشر، وتمنعها من أن يتأشب إدراكها نوازع من الهوى والعبث؛ لأن التقوى تربي المهابة من الله والخوف منه، وتجعلها تذكِّر عقابه.

ثم وصل سبحانه بالتهِديد إلى أقصى الغاية ببيان علمه الكامل بكل شيء فقال: (وَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ بكُلِّ شيْءٍ عَليمٌ) فإنه سبحانه يعلم ما تخفي الصدور، وما تطويه النيات، وما تكنة السرائر، ثم إن التذكير بعلم الله فوق أنه إنذار أيّ إنذار، فيه بيان أن المصلحة فيما يشرع من أحكام، وما يبين من نظم، لأنه على قدر العلم يكون الإحكام، وعلى قدر الإحاطة يكون الإتقان، فهذا التنزيل فيه حث على الطاعة، كما أن فيه إنذارًا بالمخالفة؛ والله سبحانه الهادي إلى سواء السبيل.

* * *

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ (232)

بعد أن بين سبحانه العواقب الوبيلة التي تترتب على الإمساك ضرارًا، وما فيه من ظلم للرجل والمرأة معًا، أخذ يبين حكمه سبحانه في ظلم آخر

يقع بالنساء وعاقبته وبيلة للمجتمع، فقال سبحانه:(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ).

ص: 799

بلوغ الأجل هنا هو بلوغ أقصى العدة، فالبلوغ هنا غير البلوغ في الآية السابقة، إذ الأول كان للمقارنة والمشارفة، وهنا للانتهاء والسياق هو الذي عيَّن معنى البلوغ في الأول كما بينا، وهو الذي عيَّن معنى البلوغ الثاني، إذ إن العقد المعبر عنه بقوله تعالى:(أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) يدل على أن المراد هو انتهاء العدة؛ إذ لا يتصور النكاح وهو العقد الذي يكون من طرفين إلا بعد انتهاء العدة؛ ولذا قال الشافعي رضي الله عنه في هذه الآية والتي سبقتها: (دل سياق الكلامين على اختلاف البلوغين).

والعَضْل معناه هنا المنع الظالم، وأصله بمعنى الحبس والتضييق مع الألم، ومنه: عضلت الدجاجة إذا تعلقت بها بيضتها فلم تخرج منها، وعضل المرأة يمنعها من الزواج من غير مبرر فيه حبس لها وتضييق عليها، وإرهاق لنفسها ولحسها.

وإن النساء اللائي يطلقن يتعرضن لظلم المطلقين، فيحاول المطلقون أن يرهقوهن من أمرهنَّ عسرًا، بأن يمنع كل مطلق من طلقها من أن تتزوج من غيره، خصوصًا إذا كان صاحب سطوة باغية، أو كان ذا جبروت طاغية؛ وتلك نزعة جاهلية، لَا يقرها عرف ولا شرع ولا عقل، ويتعرض أولئك المطلقات لظلم ذويهن، فقد يردن العودة إلى أزواجهن، ويتراضين معهم على ذلك، ولكن يقف الولي محاجزًا، حاسبًا أن ذلك مهانة له ولها، كما فعل بعض الناس في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد ترتضي المطلقة رجلا زوجا لها، عِفا في عرضه، تقيًا في دينه فيملأ نفسها؛ ولكن لَا يرتضيه أولياؤها لأمر لَا ينقص من قدره، كفقر أو نحوه، فيمنعونها من ذلك الزواج!

ص: 800

في كل هذه الصور يكون عضل المرأة، وحبسها والتضييق عليها في ذات نفسها؛ فنهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك في قوله تعالى:(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهن فَلا تَعْضلُوهُن أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُن).

وقد قال بعض العلماء: إن الخطاب للمطلقين ليمتنعوا عن تلك العنجهية الجاهلية؛ وقال بعضهم الخطاب للأولياء لكيلا يحولوا بين النساء وبين الزواج ممن يردن من غير سبب ومبرر، سواء أكان الزوج الذي ارتضته هو المطلق السابق أم كان غيره.

ونحن نرى أن الخطاب عام لكل المؤمنين ممن يقع في دائرتهم ذلك، فهو يعم المطلقين، ويعم الأولياء، ويعم غيرهم ممن يتصلون بهم، ويعم أولياء الأمر الذين بيدهم الهيمنة على الأمور، والتعميم بهذا الشكل يدل على التكافل بين آحاد الأمة، ووجوب التعاون بينهم في منع كل ظلم، وخصوصًا ما يقع على الضعفاء، وما يمس الحرية الشخصية في أدق ما تتجه إليه، ولا شيء يهم المرأة أكثر من اختيار زوجها، ولا عقد أمس بالوجدان من عقد الزواج، ولا اتفاق أكبر خطرًا في الحياة من ذلك الاتفاق؛ فالظلم فيه خطير بمقدار ماله من خطر وشأن.

غير أن المرأة ليست لها الحرية المطلقة في اختيار من تشاء من الأزواج، بل إن رضاها مقيد بالمعقول والمشروع؛ ولذا قيد التراضي بقوله:(إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ) أي بالأمر الذي تسير عليه العقول، ويجري به العرف، ويقره العقل، ولم يكن ثمة سبب للاعتراض، فليس من المعقول أن يطلق اختيارها ويحترم إذا اختارت لمجرد الهوى العارض، سواء أكان كفئا لها أم لم يكن كفئا؛ ولذلك سوغ أبو حنيفة للولي أن يعترض إن تزوجت بغير كفء، فهو قد أطلق حريتها، ولكن إن أساءت الاختيار كان للولي الاعتراض، وغير أبي حنيفة أشركوا الولي معها في الاختيار حتى لَا تضل، ولكن نهاهم القرآن عن أن يمتنعوا من غير سبب معقول، وإلا كان ذلك عضلًا، ولها أن ترفع الأمر إلى القاضي صاحب الشأن ليرفع ظلم الأولياء.

ص: 801

وهنا نكتة بلاغية نشير إليها؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى عبر عن الذين يختارهم النساء ويمنعن عنهم ظلمًا بالأزواج مع أن الزواج لم يتم، للإشارة إلى الحقيقة المقررة الثابتة، وهو أن من يقع اختيارها عليه، ويتراضيان عليه بالمعروف، ولم يكن الزواج بينهما فيه ما يشينها أو يشين أسرتها هو الذي ينبغي أن يكون ازدواجها به، وهو في حكم الفطرة زوجها، وعلى الأولياء ألا يعاندوا حكم الفطرة، بل عليهم أن ينفذوه ويقروه، ولا يصح لأحد أن يعارضه.

(ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ) ذلك القول الحكيم، والأمر الكريم يذكِّر الله به تذكيرًا يرق معه قلب المؤمن وتخشع نفسه، ويوجل قلبه إذا كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ ذلك لأن الإيمان بالله، والإحساس بعظمته وكبريائه، يمنع الظالم من أن يظلم، ولا يظلم الظالم إلا وهو في غفلة عن الله، ولو أحس بأن الله محاسبه، وأنه يأخذ الظالم بظلمه، وأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، ما استمر في ظلمه، ولا استرسل في غيه، ولكنه يكون حال ظلمه في غفوة عن الإيمان، ونسيان للواحد الديان وهو القاهر فوق كل شيء.

والإيمان باليوم الآخر من شأنه أن يحس معه المؤمن بالحساب والعقاب الذي يرتقبه، ومن شأنه أن يجعل المؤمن يستهين بالدنيا وما فيها، ويعلم أنها ظل زائل، وعرض حائل، وأن الآخرة هي الباقية وإذا كان كذلك قلل من الرغبات، وإذا قلت الرغبات ضعفت الدوافع إلى الظلم، وخمدت نوازع الشر.

(ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ذلكم أيها المؤمنون أجمعون من غير تخصيص طائفة بالخطاب، وهو ما شرعه الله سبحانه من أحكام خاصة بسلطان الأزواج والأولياء، أزكى وأطهر، والزكاة النماء، أما أنه أزكى وأنمى؛ فلأن قيام الأسرة على العدل والمودة والتراحم يؤيد في عدد الأمة فيكثر النسل؛ ويزيد من قوتها؛ لأن الجماعات القوية هي التي تقوم على أسرة قوية، ولا شيء يقوي الأسرة أكثر من المودة والعدل والرحمة؛ وأما أنه أطهر فلأن المرأة إذا عوملت معاملة كريمة بالحق والعدل وأطلقت حريتها في دائرة المعروف المعقول

ص: 802

ولم تظلم في رغباتها العادلة، أدى ذلك إلى الطهر والعفاف؛ فإن احترام النفس صون وعفاف، وامتهانها نقيض ذلك؛ لأن النفس إذا أكرهت جمحت، وإذا جمحت لم ترتبط برباط من الحكمة والصون والعفاف، بل إنها إذا جمحت عميت، فلا تدرك خيرًا ولا شرًّا. ولقد روى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:(إن للقلوب شهوات، وإقبالا وإدبارًا، فأتوها من قبل شهواتها وإقبالها، فإن القلب إذا أكره عمى) ولا عفة ولا طهر عند عماية القلوب.

ولقد قال سبحانه: (ذَلِكُمْ) بضمير الجمع، وغيَّر النسق؛ للإشارة إلى أن حماية المرأة من الهوان ومنع التضييق عليها في اختيار زوجها، إن كان الاختيار في دائرة المعقول - حق على الجميع، وفائدته للجميع.

ولقد ذيل سبحانه الآية الكريمة بقوله: (وَاللَّه يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) للإشارة إلى أن شرع الله تعالى فيه النفع الدائم، والمصلحة الحقيقية، والنتائج المرضية؛ لأنه شرع من يعلم كل شيء ولا يجهل شيئا، وليس للناس أن يتمردوا عليه، أو يخالفوه، أو يهونوا مخالفته في أنفسهم بدعوى أنهم يرونه في الظاهر مخالفًا للظاهر من مصلحتهم؛ فإن ما يدركونه مصلحة ليس بمصلحة في ذاته إذا جاء نص الشرع القاطع على خلافه؛ لأن علم الإنسان قاصر، وعلم الله وحده هو الكامل؛ فلنتبع شرع الله، ولا نُحكِّم الهوى في نصوص الكتاب، ولنَحْثُ التراب في وجوه الذين يحاولون مخالفة النصوص الصريحة القاطعة بدعوى أن المصلحة في خلافها؛ لأنه لَا توجد مصلحة قاطعة تخالف نصًا قاطعًا؛ إنما هي أوهام، وعقول خاضعة لأزمان محكومة بالشر المتكاثف، حتى حجب النور؛ ولنقل لهم إن شرع الله هو المصلحة:(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

* * *

ص: 803