المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ولرفع منار الحق، وخفض الباطل، فإن كانت الأولى فقد ذهب - زهرة التفاسير - جـ ٢

[محمد أبو زهرة]

الفصل: ولرفع منار الحق، وخفض الباطل، فإن كانت الأولى فقد ذهب

ولرفع منار الحق، وخفض الباطل، فإن كانت الأولى فقد ذهب ثوابه بما أصاب من دنيا قصدها، وإن كانت الثانية فكل خطوة خطاها لها ثوابها، وكل مقام شهده له أجره، وإن ظفر بالشهادة فقد ظفر بغاية الغايات للمؤمن الصبور التقي الطاهر، والله سبحانه عليم بحال المقاتلين: اندفعوا في قتالهم إلى الاعتداء، أم ساروا على الطريق المستقيم، فلا اعتداء في قتال، فلم يقتلوا غير مقاتل، ولم يقاتلوا من لا يقاتل.

هذا هو الجهاد في الإسلام: دفاعًا عن الذمار، وطلبًا للحياة الكريمة في الوغى حيث يحمى الوطيس، ويكون الموت قد فغر فاه، وحيث المنايا تعددت طرائقها وإن المجاهد في الإسلام إنما يخط بسيفه نور الحق في وسط ظلمات الباطل، وإن الجهاد لسبيل لإعلاء كلمة الله، حيث يشتد الظلم، ويستغلظ الظالمون، ويريدون أن يلتهموا الأمم والجماعات، ويبيدوا خضراءها، فعندئذ يكون القتال في الإسلام، ومن يفر منه حذر الموت فإنما يفر من العزة إلى الذلة، ومن الحياة الكريمة إلى الموت؛ ولذلك قال علي بن أبي طالب:(الجهاد باب من أبواب الجنة) وعند الله النصر المبين.

* * *

ص: 868

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‌

(245)

* * *

بين الله سبحانه وتعالى أن الجهاد سبيل لحياة الأمم، والقعود عن الدفاع سبيل لفنائها، وبذهاب دولتها، وتقطع وحدتها، وفقد لكيانها المجتمع، وأمرها المؤتلف، وأنه لاسبيل لأن تعيد الجماعة قوتها، ودولتها إلا بالجهاد والاستعداد له، ففي الاستعداد للجهاد الحياة، وبالجهاد ترد الحياة، والجهاد في أدق معناه هو تعرض النفس للتلف ليبقى المجموع، فهو إيثار بالنفس، وبذل للمهج والأرواح، وتقدم للبأس من القادرين، بيد أن الجهاد لابد له من عدة وعتاد، وشِكَّة وسلاح؛ ولابد له من أن تكون الكلمة موحدة، والقوى مجتمعة بالتعاون بين الغني والفقير، فإذا كان

ص: 868

الجهاد بذلا للأنفس والمهج في سبيل حياة أعز فلابد فيه من بذل المال؛ فالجهاد بذل للنفس والنفيس معًا، ولذا أردف سبحانه الأمر بالقتال بعد ضرب الأمثال، بالأمر بالبذل والعطاء، فقال عز من قائل:

(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) القرض: أصل معناه اللغوي: القطع، ومنه المقراض، ثم أطلق على معنى المجاوزة؛ لأنها قطع للمكان؛ ومن ذلك قوله تعالى:(وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ. . .)، أي تتجاوزهم وتدعهم إلى أحد المكانين، ومنه انقرض القوم أي انقطعوا من الدنيا وتجاوزتهم.

وسمي إسلاف المال وبذله في سبيل الخير قرضًا لأنه يقتطع من المال المدخر، وينتقص منه، والمال نظير النفس فكأنه يقتطع من النفس، ولذلك كان الجواد شجاعًا عادة؛ لأن بذل النفيس كبذل النفس كلاهما ينبع من نفس واحدة فالجود والشجاعة صنوان أو أخوان لَا يولدان إلا من أب واحد، ولا يترعرعان إلا في منبت واحد وبيئة واحدة، والبخل والجبن أخوان منبتهما واحد، ومولدهما واحد؛ فالبخيل جبان في مجرى العادة، وقد دل على ذلك الاستقراء.

والقرض بعد هذا البيان هو إسلاف المال في السبيل الحسن لمعاونة صديق أو سد حاجة معوز أو حماية الدولة أو إغاثة ملهوف على أن يرد مثله من غير وكس ولا شطط؛ وقد يكون من جنسه مالًا بمال، وقد يكون العوض أزكى من المال وأنمى منه، وأنفع وأبقى، وذلك هو الإسلاف في سبيل الخير غير مبتغ جزاء ولاشكورًا إلا من خالق الناس مالك الملك ذي الجلال والإكرام.

والزمخشري يرى إطلاق القرض على بذل المال من غير رجاء لرد البدل في الدنيا إطلاقا مجازيا، كأنه يرى رحمه الله أن القرض في حقيقته اللغوية، إسلاف المال على أن يأخذ بدله، لأن ذلك هو الحقيقة التي آل إليها اللفظ بعد انتقاله من معنى القطع المجرد فيكون استعمال القرض في هذا الموضع من قبيل المجاز في نظر الزمخشري، فقد شبه هنا بذل المال في سبيل الخير ورجاء ما عند الله ورضوانه والثواب القيم في الآخرة، والتوفيق والبسط في الرزق في الدنيا؛ شبه هذا بمن يبذل المال ليرد عليه مثله، فعبر باللفظ الدال على المشبه به في معنى المشبه.

ص: 869

وعبارات كثيرين من المفسرين يستفاد منها أن كلمة القرض هنا مستعملة في معناها من غير مجاز؛ لأن معنى القرض ثابت؛ إذ إنه اقتطاع من مدخر المال، ورجاء البدل متحقق ثابت بشكل أوضح ممن يرجو بدل المال في الدنيا؛ لأن ما عند الله خير وأبقى؛ ولأن البركة في الرزق والبسطة فيه قد قدرها الله سبحانه وتعالى لمن يعطي سمحًا جوادًا من غير منٍّ ولا أذى.

والقرض الحسن المذكور في الآية الكريمة، هو القرض الذي يكون منبعثًا من نفس طيبة بالعطاء، قاصدة وجه الخير ورضا الله سبحانه وتعالى، ومتحرية موضع الإنفاق وزمانه، فالقرض الحسن في هذا المقام لابد لتحققه من أن يكون الباعث عليه خيرًا مقصودًا به وجه الله تعالى، فلا ينفق رئاء الناس، ولا ينفق ابتغاء جاه ولا مَلَقًا لذي جاه، كأولئك الذين يتصدقون بالصدقات العظيمة لإرضاء كبير مسيطر، لا يقصد الصدقة لذاتها ولا وجه الله فيها، ولا المعاونة لمستحقيها، وإنما يقصد إرضاء الكبير فقط؛ وإن ذلك هو الشرك الخفي؛ ولقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من تصدق يرائي فقد أشرك "(1).

ولابد لتحقق القرض الحسن أن يتحرى الشخص موضع الحاجة فيسد حاجة المعوزين، وينفق على المحتاجين، يؤثر أشدهم حاجة؛ فالأدنى منه، ما وسع فضل ماله؛ ثم ينفق في المصالح العامة لإقامة مشروعات اجتماعية أو عمرانية، والإنفاق للجهاد في سبيل الله هو المرتبة السامية العليا.

هذه معاني القرض الحسن في ذاتها ولبها؛ وما المراد به هنا؛ أيراد به المعنى العام الشامل، أم يراد به المعنى الخاص الذي يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها؟ إن الاتجاهات في هذا ثلاثة:

أولها: القرض الحسن هنا هو المعنى العام له، وهو كل إنفاق في سبيل الخير، سواء أكان الإنفاق لسد حاجات المحتاجين من الآحاد، أم كان للمصالح التي يعم

(1) سبق تخريجه من مسند الإمام أحمد رضي الله عنه.

ص: 870

نفعها، ويشمل خيرها، أم كان في الجهاد في سبيل الله، ووجهة هؤلاء في هذا العموم أن كل ذلك يضاعف الله في جزائه، وذلك قرينة العموم، والمقام لَا يمنعه؛ لأنه يدخل فيه الجهاد.

وثانيها: أن القرض الحسن ما ينفق في سبيل المصالح العامة من إنشاء جماعات للبر بكل ضروبه والإنفاق عليها، ومن بذل في سبيل إعداد الأمة إعدادًا حربيا؛ لأن كل ذلك تقوية للوحدة في الأمة، وهو من عدة القلوب، فالتعاون فيه قوة، بل هو عماد القوة.

وثالثها: أن المراد الإنفاق في الجهاد، بدليل توسط الآية بين الآيات الدالة على القتال المحرضة عليه؛ فهي تخص البذل في القتال، وهو في ذاته أقواها أثرًا، والمقام يؤيد إرادته.

وعندي أن السياق حقا يجعل القرض الحسن في هذا المقام متجهًا أولا وبالذات نحو البذل لإعداد العدة وأخذ الأهبة؛ ليتحقق على الوجه الأكمل قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قوَّةٍ. . .)، ولكن ذلك لَا يمنع الشمول، فإن الله سبحانه وتعالى يأتي بالعبارات السامية المحكمة الشاملة في معناها في مقام يستدعي ذكرها لوجود حال تدخل في العموم، فلما ذكر القتال ذكر معه وجوب البذل عامة كقاعدة شرعية وأصل من أصول الاجتماع الإسلامي الفاضل، ودخل في هذا العموم البذل في القتال على وجه الخصوص وخصوصيته جاءت من السياق القرآني السامي. ولقد حث المولى الكريم عباده المؤمنين على البذل والعطاء لمعاونة المحتاجين، وعلى الإنفاق في مصالح الاجتماع، والإنفاق في الحروب بشكل خاص، وقد جاء النص الكريم متضمنًا بعبارته وإشارته أبلغ ما يدل على التحريض على البذل، والدعوة إليه؛ وإنا نذكر قدرًا مما وصلت إليه مداركنا.

وأول ما يدل على المبالغة في الحث على البذل في الخير التعبير بقوله تعالى (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) فقد تضمن ذلك التعبير الحث على البذل من عدة وجوه:

ص: 871

منها التعبير بالاستفهام، فإنه للتنبيه وبعث الأذهان وحفز العقول على الالتفات، وبمقدار الوعي عند الاستماع تكون الإجابة وبمقدار الحث على الانتباه يكون الطلب.

ومنها: أنه جمع الإشارة والموصول في الاستفهام فقال (مَن ذَا الَّذِي) وفي ذلك بيان لعلو شأن من يبذل، فإنه لَا يستفهم (مَن ذَا الَّذِي) إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر، وكان موضع الاستفهام خطيرًا وعظيمًا وكان المخاطب له شأن جليل إلى درجة أن يشار إليه، ويتحدث عنه، فالإشارة كناية عن أنه يشار إليه في كل أمر جليل، والموصول كناية عن أنه يتحدث عنه عند ذكر كل أمر جليل.

ومن وجوه الحث على البذل في الجملة السامية: أن الله سبحانه وتعالى سماه قرضًا، لأن فيه إشارة إلى أنه سيرد لصاحبه، وأنه ليس مالاً يبذل من غير بدل يعود إليه، بل إن له بدلا أسمى منه، وعوضًا أجل وأعظم، واعتبره سبحانه قرضًا لله تعالى؛ وأي سمو تعلو إليه نفس الباذل عندما يحس بأن المقترض منه هو رب العالمين، الذي يملك كل شيء وهو خالق كل شيء؛ أي كلام يحرض على البذل أبلغ من أن يسمى فعله قرضًا لله المنعم بالوجود، والمالك لكل موجود؛ ثم إن القرض لله تعالى قرض مضمون الوفاء، مؤكد الأداء.

ومن وجوه الحث على البذل في التعبير السامي: أن سماه سبحانه قرضًا حسنًا، فهو حسن في باعثه، وفي عطائه، وفي نتيجته وثمرته.

وقد ذكر سبحانه بدل القرض فقال: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً).

وهذا هو الأمر الثاني الذي يدل على المبالغة في الحث على البذل والعطاء في سبيل الجهاد والنفع العام، فإذا كانت الجملة السابقة تدل على علو شأن الباذل الذي يعطي وعظم البذل في سبيل الخير والعطاء، وشرف ذلك العمل لأنه عطاء لله العلي القدير مالك كل شيء، إذا كانت الجملة السامية التي سبقت تدل على ذلك، فإن هذه الجملة الكريمة تحرض على العطاء من ناحية العوض الذي يعوض عنه، فإنه ليس بقدره، بل هو أضعافه.

ص: 872

والضِّعْف: مِثْلُ الشيء، وضعفاه أي مثلاه، وقد يراد من الضعف المثلان، وقد جاء في القاموس المحيط ما نصه:(ويقال لك ضعفه يريدون مثليه وثلاثة أمثاله؛ لأنه زيادة غير محصورة) وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: (الضعف من الألفاظ المتضايفة التي يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر كالنصف والزوج، وهو تركب قدرين متساويين، ويختص بالعدد فإذا قيل أضعفت الشيء وضعفته وضاعفته ضممت إليه مثله فصاعدًا، قال بعضهم: ضاعفت أبلغ من ضعفت).

ومن هذا يتبين أن (يضاعف) في الآية الكريمة معناها يرد إلى الباذل المعطي المقرض لله بدلا ما أعطى أمثالا كثيرة، فمعنى أضعافًا: أمثالا كثيرة. ولم يذكر سبحانه وتعالى العدد، وذلك يدل على الكثرة الكاثرة التي لَا حدَّ لها، ولا عدد يحصيها؛ وحسبك أن تعلم أن الذي يوفي بالقرض هو مالك السماوات والأرض.

وإذا علم الباذل أن ذلك جزاء عطائه وإنفاقه، فلابد بالغ أقصى غايات الجود، باذل كل موجود، وليس بذاهب ما يكون في سبيل الخير، ولا ضائع ما يكون في سبيل النفع العام.

وما هذا الجزاء؛ أهو في الدنيا أم في الآخرة؛ لَا شك أن ثمة جزاء في الآخرة وأن جزاءها هو الجزاء الأوفى، والغاية القصوى، والأمل المرجى لكل مؤمن؛ وإن فيها للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.

وإنه مع ذلك الجزاء الأوفى يوجد جزاء دنيوي، ومضاعفة لفعل الخير في هذه الحياة تبدو لكل من يفهم معاني الحياة، وإن هذا الجزاء الدنيوي هو العيش العزيز، والحياة الكريمة له ولقومه، ودفع الهلاك عن أمته؛ فإن بذل المال دفاعًا عن الحوزة هو الحياة، وهو أقصى غاية الوجود بعد بذل النفس؛ ولذا اعتبر من لم ينفق قد ألقى بنفسه في الهلكة، كما قال تعالى:(وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. . .).

ص: 873

وليس بذل المال للجهاد هو وحده الذي يكون فيه الجزاء الدنيوي ودفع الهلاك عن النفس، بل سد حاجة المعوزين وإعطاء المال للسائل والمحروم فيه عزة الأمة؛ لأنه لَا عزة لأمة لَا تدفع المتربة عن آحادها وتذل فقراءها؛ ولئن تململوا بحياتهم لكان التقاطع والتنابز، ومن وراء ذلك الخراب، وأن يكون بأس الأمة بينها شديدًا، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى.

هذا فوق أن البذل في سبيل الله والإنفاق في سبيل الخير والنفع العام والمصالح الإنسانية يلقي في النفس سعادة واطمئنانًا لَا يشعر بهما إلا الأبرار؛ وإن الله يبارك في رزق الذين ينفقون، فوق غنى النفس الذي تمتلئ به النفس؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم:" ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس "(1).

فالبذل والعطاء في سبيل الخير يدفع ضرًا، ويقي من شر، ويحمي الجماعة من الآفات، ويسعد النفس، ويبارك في رزق المعطي، ويكثر قوى الإنتاج في الأمة، فتقوى الأيدي كلها على العمل فيعم الخير، وتكثر الثمرة، ويكون الإنتاج الطيب الذي يعم ولا يخص، فمن أعطى قليلا يأخذ كثيرًا في نفسه وقومه وأهله وعشيرته.

وقد ذكر سبحانه أن الأرزاق كلها بيد الله، فعلى كل امرئ أن يعرف أن الغنى ليس بالعمل فقط، بل بتوفيق الله تعالى وتقديره وهو العزيز العليم؛ ولذا قال تعالى:(وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

وهذا هو الطريق الثالث الذي اشتملت عليه الآية الكريمة في الحث على البذل والعطاء في سبيل الخير، فقد بين بهذا سبحانه أنه تعالى القابض الذي يقتر الرزق على من يشاء، ويبسط الرزق لمن يشاء، فعلى الغني أن يستشعر في نفسه أنه كان يجوز أن يخلقه الله فقيرًا لَا يستطيع إعطاء، فعليه أن يشكر النعمة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى إياه، وإن شكرها أن يبذلها في سبيل النفع العام، ثم ليعلم أن

(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الرقاق - الغنى غنى النفس (5965)، ومسلم الزكاة (1741) عن أبي هريرة رضي الله عنهما.

ص: 874

المآل إليه سبحانه وتعالى؛ ولذا قال تعالى: (وَإِلَيْهِ ترْجَعُونَ) أي إليه وحده ترجعون فيحاسبكم سبحانه وقد جردتم من كل قوة قاهرة، وكل سلطان ظاهر، ولم يكن معكم إلا عمل صالح.

وهنا نشير إلى بعض المباحث اللفظية، وبعض المعاني الاجتماعية: أما المباحث اللفظية فهي معنى القبض والبسط، والسبب في تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى:(وَإِلَيْهِ ترْجَعونَ).

القبض معناه: جمع اليد على الشيء، ويقال حينئذ قَبَضتْه اليد، ويقال قبض عنه يده أي جمعها قبل تناوله، فلم يأخذه، وذلك يقال فيه إنه إمساك عنه، ويقال لإمساك اليد عن البذل قبض، ومن ذلك قوله تعالى:(وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ. . .)، أي يمتنعون عن الإنفاق؛ ولذلك أطلق القبض على المنع، والبسط على العطاء؛ قال الأصفهاني في قوله تعالى:(يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ): (أي يسلب تارة، ويعطي تارة أخرى، ويسلب قوما ويعطي قوما، ويجمع مرة ويفرق أخرى).

والبسط معناه النشر والتوسعة، وبسط الرزق التوسعة فيه، والبسطة في الجسم أن يكون مديد القامة بعيد ما بين المنكبين وذلك كناية عن القوة؛ والبسط المد، وقد يطلق ويراد به الصولة والقوة، كما يراد به الإعطاء، ومن الأول قوله تعالى:(وَيَبْسُطُوا إِلَيْكمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ. . . -)، ومن الثاني قوله تعالى:(بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ. . .).

وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: (وَإِليهِ تُرْجَعونَ) للدلالة على كمال سلطان الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وأنه لَا سلطان لأحد سواه، ولا مرجع إلا إليه؛ فالمعنى: إليه سبحانه وتعالى وحده ولا أحد غيره ترجعون، تعادون بالبعث في الآخرة، وترجعون إليه في الدنيا، فهو وحده فوق عباده يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويقبض ويبسط، ويفرق ويجمع، وكل ذلك بأسباب وضعها، وسنن أحكمها؛ فلا ينصر إلا من يعمل للنصر، ولا يخذل من أخذ الأهبة واستعد

ص: 875

للأ مر، ولا ينصر بعد أخذ الأسباب إلا أهل الحق (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40).

وقد يقول قائل: إن الحكمة الإلهية قد اقتضت أن يكون كل عمل له نتائجه وثمراته، فمن يعمل خيرًا يجد ثمرة عمله، ومن يَجِدُّ يَجِدُ نتائج جده، فالغنى والفقر ثمرتان للعمل والكسل، فمن عمل واتخذ الأسباب وسار فيها نال الثمرة، ومن كَسِل وأهمل ناله الفقر ولا يلومنَّ إلا نفسه، وقد تكرر في القرآن أن الله القابض الباسط، وأنه الرازق، وأنه يرزق من يشاء، فكيف يوفق القارئ بين ذلك السنن الحكيم، وبين ذلك القول الكريم؟

ونقول في الجواب عن ذلك: إن على كل مؤمن أن يعمل، وأن يجد ويجتهد، وعليه فوق ذلك أن يعلم أن الله هو الرازق، وأنه فوق كل شيء، وأنه القابض الباسط، وأنه الرزاق ذو القوة المتين، ولكل موضعه، وإن المستقرئ لشئون الناس وأعمالهم في الحياة ونتائجها ينتهي به الاستقراء إلى أن الرزق لَا يمكن أن يجيء ثمرة للعمل وحده، بل إنه يجيء مع العمل توفيق الله، ومصادفات قدرها العليم الخبير، اللطيف البصير، فاثنان يعملان عملا واحدًا، فيلقيان البذر بعد الحرث، ومع البذر السماد، والأرض طيبة منتجة، والري متحد الزمان في كليهما، ولكن زرع أحدهما قد يبتلى بآفة تستمكن منه فتبيده أو تكاد، ولا تصيب زرع الآخر إلا قليلا، فيكون في سعة والآخر قد قتر الله عليه في الرزق، وقد تكون الثمرات متحدة في النتائج والمقدار، ولكن أحدهما سارع بالبيع، فصادف غلاء، والثاني أخر في البيع فصادف كسادًا، وقد يبيع هذا لتاجر حسن الأداء مليء، والثاني يبيع لآخر مثله، ولكنه قبل الأداء يصاب في تجارته، وهكذا، فاتخاذ الأسباب أمر لابد منه، ولكن وراء الأسباب القدرة القاهرة التي هي فوق كل شيء، وهي قدرة الله تعالى، فاتحاد الأسباب لَا يستدعي اتحاد المصادفات ولا اتحاد الفرص؛ واتحاد الفرص المهنية لَا يوجب اتحاد الثمرات والنتائج، فقد تكون ثمة ملابسات لم تكن في الحسبان، وما كان يستطيع تقديرها إنسان، وإن تقدير الإنسان مهما يكن من قوة هو في دائرة القدرة الإنسانية، وهي محدودة الأفق، محدودة

ص: 876

الغاية، وإن كان له سلطان على الأعمال فليس له سلطان على النتائج والأحوال، ومن هنا كان الواجب على المؤمن أن يعمل ثم يفوض أمره إلى الله، ويقول:(وَأُفَوِّض أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).

(وَاللَّهُ يَقْبِضُ ويَبْصُطُ وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ) وإذا كان الرزق بيد الله فعلى الغني أن يعلم أن ما بيده فيض من الله تعالى القدير؛ وإذا كان فيضًا من الكريم الحليم فعليه أن يشكر لله بإنفاقه في الحلال دون الحرام، وفي إنفاقه على عيال الله، وهم الفقراء الذين اقتضت حكمته تعالى أن يحرمهم مما أعطاه، وفي سبيل النفع العام الذي يقيم دولة إسلامية فاضلة، بها يعتز دين الله، وبها تعلو كلمته، وبها يحق الله الحق ويبطل الباطل، وبها تعتز الفضيلة وتعلو الإنسانية، وعليه أن ينفق مال الله الذي أعطاه في سبيل نصرة دينه وإعلاء كلمته؛ ولقد سمى الله سبحانه وتعالى ذلك كله قرضا حسنا له، وهو سبحانه وتعالى الذي أعطى والذي وهب ورزق؛ سبحانك ربي تعاليت، وإنك كما قلت في كتابك المحكم:(فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)، ولقد قال رسولك الأمين:" الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله "(1).

لقد علم الأتقياء الأبرار في كل العصور أن الأسباب مهما تكن قوية محكمة فإن النتائج بيد الله تعالى، ولأن كل الكون في سلطان الله تعالى، كما قال سبحانه:(. . . إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34). ولهذا المعنى بذلوا في نصرة الله تعالى، فهذا أبو بكر في الجهاد يشطر ماله في ذلك، وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يجهز في زمان العسرة جيش تبوك من ماله إذ كان الناس في عسرة وجدب، حتى يروي ابن هشام أن عثمان رضي الله عنه أنفق ألف دينار غير الإبل والزاد والعدة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض "!.

(1) رواه - أبو يعلى، والبزار عن أنس، والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه. [جامع الأحاديث والمراسيل - من الجامع الصغير وزوائده - ج 4 ص 312].

ص: 877

وروى زيد بن أسلم أنه لما نزل قوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) جاء أنصاري اسمه أبو الدحداح فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله! إن الله يستقرضنا، وهو غني عن القرض؟! قال:" نعم يريد أن يدخلكم الجنة "، قال: فإني إن أقرضت ربي قرضًا يضمن لي ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟ قال: " نعم ". قال: ناولني يدك، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لَا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضًا لله تعالى! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعل إحداهما لله تعالى والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك " قال: فأشهدك يا رسول الله إني قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة، قال: إذن يجزيك الله به الجنة " (1).

هذا هو الإيمان حقا وصدقا، وهذا هو شكر النعمة، وهذه هي المعاونة الصادقة، وهذه هي القوة الروحية التي تشع النور على الوجود الإنساني؛ فهل للخلف أن يقتدوا بما كان يفعله السلف؛ وهل آن للمؤمنين أن يفدوا دينهم ودولتهم بأموالهم؛ وهل آن للمسلمين أن يعتبروا بالعبر وقد خلت من قبلهم المثلات، وأن يعلموا حق الله في أموالهم؟

لقد صار الهوى متبعًا، والشح مطاعًا، وتشنعت الفتن، وتحكمت الإحن، وغلبت على المسلمين الشقوة، وضربت عليهم الذلة، حتى إنه ليقتطع من جسم العالم الإسلامي قطعة هي منه بمنزلة الكبد من الجسم، والأعداء يسلطون على المشردين والمقيمين في الوادي المقدس الفقر والجوع، ويحاولون إخراجهم بالجوع والعرى من دينهم، والمسلمون يرون ويسمعون، وهم في غفلة لاهون! ألا فاقرضوا الله قرضًا حسنا يضاعف لكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

* * *

(1)" رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات ورجال أبي يعلى رجال الصحيح ". [مجمع الزوائد - ج 8 ص 404].

ص: 878

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

* * *

كانت الآيات السابقة في الحث على القتال دفاعًا عن النفس والحوزة، ورفعا لمنار الحق، وخفضا للباطل، ولتكون كلمة الله هي العليا، ولبيان أن الاستعداد للجهاد ورد الاعتداء يقتضي البذل والعطاء. وفي هذه الآيات يقص سبحانه وتعالى قَصصًا صادقًا في وقائعه، وصادقًا في حكايته للأمم التي تبتلى بالهزيمة كيف يتفرق أمرها وتذهب وحدتها، وكيف تفعل الهزيمة في قلوب الأكثرين منها، وبيان أن الطريق لجمعها قيادة حكيمة رشيدة، ونفر قليل أو فئة قليلة لم تذهب الهزيمة بنخوتها، ولم يضعف اليأس من بأسها وعزمها.

ص: 879

اختار الله سبحانه وتعالى لقصصه الذي جعله عبرة للمعتبرين بني إسرائيل، لأنهم اتصلوا بالعرب، ولأن النبوات المعروفة للعالم في عصر نزول القرآن كانت فيهم، ولأنهم يلتقون مع قريش في إبراهيم أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولأنه تتمثل فيهم الطبائع البشرية في عزتها وانتصارها، وفي هزيمتها وانكسارها وتتمثل فيهم الطبيعة البشرية في لجاجة القول والمغالبة به في حال الضعف والاستخذاء، ونقدهم كل شيء في تلك الحال، وبعدهم عن العمل إلى الخلاف في المقال، وتتمثل فيهم الطبائع البشرية للجماعات المغلوبة عندما يعمل على إنقاذها من لم تنل الهزيمة من قلوبهم، ومن لم يستول الخور على نفوسهم.

قص الله سبحانه وتعالى ذلك القصص، وقد قال سبحانه:(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ. . .). فالمقصود من قصص القرآن العبرة والاعتبار لَا سرد وقائع وإمتاع الناس بسردها وتفصيلها عبرة لأولي الألباب، ولذلك يقصد المولى الكريم إلى موضع العبرة فيجليه، وإلى مكان الاستبصار فيبينه وتلك أقوم السبل، التربية بالتاريخ، والتثقيف بأحوال السابقين.

إن الإنسان ابن الإنسان، فمن يريك صورة للماضي مع العبرة، فهو يريك نفسك مع العظة، والماضي دائمًا نور يضيء للمستقبل، فهو المصباح الذي يحمله من يبتغي الهداية ويرجوها.

وإن في تلك القصة التي ذكرها القرآن الكريم، المنزل من حكيم عليم، عبرة للناس أجمعين، وخصوصًا الأمم التي تبتلى بالهزيمة. وقبل أن نخوض في تفسير مفصل -، نتكلم بكلام مجمل في القصة.

ص: 880

هُزم بنو إسرائيل من بعد موسى هزيمة شديدة سبي فيها نساؤهم وذراريهم وأخرجوا من ديارهم، وكان ذلك قبل مبعث داود عليه السلام، كما يدل على ذلك اشتراك داود عليه السلام في المعركة التي أشارت إليها الآية الكريمة، وقد بعث الله سبحانه وتعالى فيهم نبيا وهم في هذه الهزيمة، ولم يذكر سبحانه مَنْ هذا النبي الكريم، فلا نحاول معرفة من هو، وإن بعث النبي وهم في هذه الهزيمة - وقد أراد سبحانه وتعالى أن يفيقوا من هذه الضربة دليلٌ على أن السبيل لإنقاذ الأمم من كبوتها وإنهاضها يكون بالرجوع إلى الدين؛ لأنه هو الذي يصهر القلوب ويملؤها بقوة الله، فتهون بجوارها قوة الناس، وقد كان الرجوع إلى الدين قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بنبي يرسل، وأما وقد ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد أصبح الرجوع إلى الدين بالرجوع إلى كلام الله تعالى الخالد وهو القرآن الكريم؛ لأنه صوت الوحي الدائم إلى يوم القيامة:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).

وبعد أن تعمر القلوب بالإيمان ويذهب عنها الخور بقوة اليقين، تتلاقى القلوب فيحاول الفضلاء أن يجمعوا الشمل تحت قيادة موحدة، وتحت إمرة قوية، وسلطان يصرف الأمور، ويدبر الشئون في السلم وفي الحرب؛ وذلك ما اتجهوا إليه:

ص: 881

(قَالُوا لِنَبِيٍّ لهُم ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا) فاختار الله سبحانه وتعالى ملكا لم يكن اختياره بالوراثة والسلالة، بل كان اصطفاؤه للمزايا التي تتفق مع الإمارة والسلطان، وهي قوة العقل وقوة الجسم، فاصطفى الله سبحانه وتعالى طالوت؛ لأنه زاده بسطة في العلم والجسم، وهما الصفتان اللازمتان للأمير، ولكن بني إسرائيل وقد أرهق نفوسهم الذل، وتعودوا المراء والجدل، وعجبوا كيف يختار طالوت، وهو ليس بذي فضل عليهم في النسب، وليس ذا مال وفير؛ فبين الله لهم أن الغاية من الإمارة هي بسط السلطان، والخروج من ذل الهزيمة إلى عزة الانتصار، وأمارة استحقاق طالوت لهذه الإمرة أن يحقق ذلك الانتصار، وأن تأتي إليهم شارة عزهم ومجدهم وهي التابوت.

ص: 881

حمل طالوت الملك راية الجند إلى ميدان الجهاد، وكذلك يكون المَلِك حقا؛ ولكنه قبل أن يتقدم للقاء عدوهم، أراد أن يختبر قوة إرادتهم وصدق عزيمتهم، وذلك بمعرفة مقدار استيلائهم على أنفسهم، فمن استولى على نفسه فهو معه في الجهاد، ومن لم يستطع جهاد نفسه، فهو عن لقاء العدو أعجز: قال لهم: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِب مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّه مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرفَةً بِيَدِهِ. . .) فإِنه منى، ولكن النتيجة ظهرت في هذا الامتحان مبينة أن القليل هم الذين استطاعوا أن يجاهدوا أنفسهم وينتصروا عليها (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهمْ. . .)، وهم الذين اجتاز بهم النهو، وترك الآخرين مخلفين مع نفوسهم التي لم يستطيعوا التغلب عليها.

أصبح جند طالوت قليلي العدد، وليس فيهم إلا مجاهد مجالد مصابر، ولكن اعتراهم شيء من رهبة الموقف، إذ رأوا عدوهم كثير العدد عظيم العُدَد يعتز بكثرته وعدته وسابق غلبته، فقالوا: لَا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، ولكن الصفوة من تلك الصفوة لم تعترها تلك الرهبة (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). فتقدم الجميع مستعينين بقوة الله (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِتْ أَقْدَامَنَا وَانصرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).

وبالإيمان القوي، والعزيمة الصادقة، والتفويض المطلق لرب القدرة والعزة، انتصرت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة (فَهَزَمُوهم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالوتَ. . .). وآل الأمر من بعد طالوت إلى داود ومعه عزة بني إسرائيل (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَه مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْفضهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).

هذه قبسة من قصص الذكر الحكيم في جهاد بني إسرائيل، وإن العبر فيه لكثيرة، فهي تشير إلى الشدة كيف تصهر النفوس فتجعلها تتجه نحو المعالي

ص: 882

فتطلبها، وكيف يكون الدين أساس العزة لمن غلبت عليهم الشقوة، وأنه لَا سلطان من غير إمرة يعمل تحت سلطانها البر، ويزجر بها الفاجر، وأن الأمير يجب أن يكون له من قوة العقل وقوة الجسم وسعة العلم وكمال التجربة ما يقود به الشعب إلى صالح الأمور، وأن أساس الانتصار السيطرة على النفس فلا يغلب خصمه من لا يغلب نفسه، ولا يقمع عدوه من لَا يقمع شهوته، وإنه بعد أخذ الأهبة يفوض المجاهد أمره إلى الله، ويتوكل عليه. بعد هذا نتجه إلى تتبع الآيات الكريمة آية آية، مستنبطين العبر من ثناياها كما تلوح العبر في مجموعها:

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قد ذكرنا ما في هذا التعبير من إثارة الاهتمام والتقرير، وتثبيت المعنى في نفس القارئ والسامع، وقد عبر هنا بالرؤية، وهي إما أن تكون بمعنى العلم كما ذكرنا من قبل، وهي تكون للعلم القلبي الذي يستيقن فيه الإنسان كما يستيقن بالعلم الحسي الذي يكون طريقه النظر والإبصار.

وإما أن يراد بالرؤية النظر أو البصر؛ وفي هذا تصوير للقصة المخبر عنها كأنها المرئية المحسوسة المشاهدة. والملأ هم الكبراء وأشراف القوم، كأنهم ممتلئون شرفًا. وقال الزجاج: سموا بذلك؛ لأنهم ممتلئون مما يحتاج إليه منهم، ويطلق الملأ ويراد به الجماعة، من قبيل إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل، لأن ذلك الجزء له مزيد فضل وشرف على بقية الأجزاء، وقد فسر الراغب في مفرداته الملأ بأنه " الجماعة يجتمعون على رأى فيملئون العيون رواء ومنظرا، والنفوس بهاء وجلالا.

وما المراد بالملأ هنا؛ أهم كبراء بني إسرائيل، أم القوم كلهم؛ أكثر المفسرين على أن المراد بنو إسرائيل وعلى هذا تكون " من " بيانية؛ فالمعنى أن بني إسرائيل جميعا اجتمعوا وقالوا في عصر من العصور لنبي لهم ابعث لنا ملكا. وإني أرى أن كلمة الملأ هنا المراد بها الكبراء وأهل الرأي منهم، فإن الدهماء دائمًا في شغل شاغل حتى ينبههم كبراؤهم، وذوو الرأي والشأن فيهم، وخصوصًا إذا كان الدهماء قد غلبت عليهم الشقوة والذلة، وكذلك يكونون دائمًا في حال الانهزام وتغلب الأجنبي على الأمة.

ص: 883

وقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ موسَى) بيان لزمان تلك الهزيمة، فذكر أنه من بعد موسى، ولم يبين الزمان بالتعيين، وذكر كونه من بعد موسى للإشارة إلى أن تلك الهزيمة كانت بعد أن أخرجهم موسى من ذل فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وبعد أن ظهر منهم الاستخذاء والضعف، بعد أن خرجوا من ربق الذل، حتى إن موسى عليه السلام لما دعاهم لأن يدخلوا الأرض المقدسة ظهر خورهم وضعفهم فتاهوا في الأرض أربعين سنة استردوا فيها بأسهم وذهب عنهم خور العزيمة، ثم بعد ذلك نزل بهم ما نزل؛ فقوله تعالى:(مِنْ بَعْدِ موسَى) فيه إشارة إلى تلك التجارب الشديدة التي كانت تنزل بهم، فهم ذلوا في مصر، ثم أعزهم الله بموسى فلم يقووا على حياة العزة وتكليفاتها من جهاد ونضال إلا بعد أن تعودوا حياة الشدة والبأس في الصحراء، ثم بعد هذه العزة دخلوا الأرض المقدسة، ثم أخرجوا منها بعد أن استناموا إلى الدعة والراحة؛ وفي هذه التجارب بيان لأطوار الأمم بأنها إن استنامت إلى الراحة واستمرأت الحياة الوادعة غلب على أمرها، ثم كان من وراء ذلك ذهاب سلطانها، حتى إذا أحست بمرارة الهزيمة، وذاقت وبال الراحة، استيقظت فيها القوي الكامنة، واستفاقت من سبات الغفلة وسكرة النعمة، فعملت على استرداد أمرها، ومقاومة عدوها.

وقوله تعالى: (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لهمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فيه بيان موضع القصة ومكان الالتفات، والاتجاه بالنظر والقلب؛ فالمعنى: ألم تنظر وتتفكر وتعتبر في أمر نبي إسرائيل عندما قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله؟ لقد وجدوا أنهم قد تفككت وحدتهم، وضاعت كلمتهم، وفقدوا كَوْنهم فاتجهوا إلى جمع الكلمة، ولم يجدوا السبيل إلا برياسة تلُمّ الشعث، وتجمع المتفرق، وكان بينهم نبي مبعوث، فعهدوا إليه أن يختار من بينهم ملكا، ليكون اختياره منزهًا عن الغرض، بعيدًا عن الهوى، لَا يقصد به إلا الخير، ولا يكون إلا في الخير، لَا خطأ فيه؛ لأنه نبي لَا ينطق عن الهوى، لقد قالوا لنبيهم: ابعث لنا ملكا. وأصل البعث الإثارة والإخراج، فمعنى (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا) يتضمن أنه يفحص

ص: 884

الجماعة بإثارة أحوال رجالها وتعرف خواصهم ومزاياهم وتخير أمثلهم، وإخراجه من بين صفوفهم ليكون ملكا عليهم، فلا يكون مفروضًا عليهم، بل يكون متخيرًا من بينهم بتخير من لَا يشك في تخيره، وهو نبي مبعوث.

وقد قالوا في طلبهم إن الغرض من طلبهم ملكا ينصب عليهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وهو إعلاء كلمة التوحيد، ورد عزتهم المسلوبة، وأرضهم المغصوبة.

وفى هذا الطلب منهم عبر وعظات:

أولها: أنهم أحسوا بالضياع، إذ أصبحوا لَا رياسة من بينهم تجمعهم.

وثانيها: أنهم آمنوا بأن القتال لَا يكون إلا تحت إمرة حازمة تسير بهم نحو الهدى والرشاد، وأنه لَا يصلح الناس فوضى لَا سراة لهم ولا رياسة فيهم.

وثالثها: أن القتال دفاعًا عن الحوزة، واستردادًا للحق المسلوب، والوطن المغصوب، قتال في سبيل الله. وقد طلبوا أن يكون الرئيس ملكا، لأن نظام الحكم الذي كان سائدًا إبَّان ذاك كان مَلكيا، والمذموم منه هو الظالم، والممدوح منه هو العادل، وليس ذلك دليلًا على أن النظام المطلوب في الشرائع السماوية هو الملكي على ما نعرفه وهو الوراثة بالسلالة؛ بل إن إجابة الله لطلبهم بهداية نبيهم لملك أي رئيس دولة قد اختاره الله، دليل على أن نظام الحكم هو ما يكون إجابة لداعي الشعب، وتكون فيه ملاءمة لحال الأمة وملابساتها وما يقترن بها. ولقد كانت حال بني إسرائيل لَا تسمح بأن يختاروا هم بأنفسهم رئيسًا للدولة؛ لأنهم كانوا مغلوبين على أمرهم لَا سلطان لهم، والاختيار يكون من ذوي السلطان، ولا يكون من مكره مغلوب على أمره، والملك الذي اختاره ليس ملكا بالمعنى الذي نعهده كما سنبين.

كانت حال بني إسرائيل في أشد الاضطراب، وقد انخلعت منهم الإرادات الحازمة، إلا من قلوب ربط الله عليها بالإيمان؛ ولذلك توقع نبيهم ألا يصبروا على القتال إذا حمي الوطيس واشتد البلاء، ولذلك حكى الله سبحانه ذلك الشعور الذي خالج قلب نبيهم، فقال تعالى:

ص: 885

(قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) توقع نبيهم إن كتب عليهم القتال ألا يقاتلوا فيجمعوا بين ذلة الهزيمة، والفرار يوم الزحف، والنكوص في مقام الإقدام وعصيان الله سبحانه وتعالى؛ فبين لهم العقبى إن كتب عليهم القتال أي فرض ولزم بإلزام الشارع، ثم جاءوا بعد ذلك ونكصوا على أعقابهم، وفي هذا القول من النبي الكريم تنبيه إلى أمرين:

أحدهما: أن يفكروا في أنفسهم وفي حالهم، وفي قوة أعدائهم، وفي عاقبة القتال، فإن رأوا في أنفسهم القدرة على اللقاء، في ميدان القتال مع أعدائهم مهما يتكاثف جمعهم، أصروا على طلب فرضية القتال، واختيار ملك يتولى قيادتهم، ويكون قطبًا تدور رحى الحرب به وبتدبيره.

ثانيهما: أخذهم الأهبة والاستعداد للقتال إن أصروا عليه، فإن فيه الفصل، وليس بالهزل؛ حتى لَا تكون عقبى القتال أسوأ مما هم عليه.

وهنا بحث لفظي نشير إليه، وهو قوله تعالى:(قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) فالاستفهام هنا للتنبيه إلى مخاطر القتال وحالهم من

الاضطراب، وتحلل الإرادة وتفكك العزائم، وأن حالهم هذه لَا يصلح لقتال، فعليهم أن يغيروها، فالمعنى: أتتوقعون إذا كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، فتبوءوا بإثم الهزيمة، وإثم الفرار، وإثم العصيان!.

و (عسى) معناها هنا توقع وقارب، فمعنى فهل عسيتم أي: فهل توقعتم إن كتب عليكم القتال ألا نقاتلوا؛ أي تومئ حالكم التي يبدو أنكم لَا تحاولون تغييرها، مع أن الاسنعداد للقنال يوجب تغبير الحال، وأنكم إذ توقعتم ذلك عالجتم حالكم.

و (عسى) لها استعمالان:

أحدهما: أن تكون بمعنى لعل، مثل قوله تعالى:(فَعَسَى اللَّه أَن يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ منْ عِندِهِ. . .). فالمعنى: لعل الله أن يأتي بالفتح أو أمر، ويكون ما بعدها اسمها، وما يليه خبرها.

ص: 886

وثانيهما: أن تكون في معنى الفعل توقع أو قارب، وما بعدها يكون في معنى الفاعل، ويصح أن يكون في مقامِ الاسم إعرابًا، وهي هنا بهذا المعنى، كما هي في قوله تعالى:(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَولَّيْتمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعوا أَرْحَامَكُمْ).

(قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) أجابوا نبيهم بأنهم قدروا حالهم، وعالجوا ضعف نفوسهم، وبينوا أن بواعث القتال قد توافرت، فحق علينا أن نقاتل؛ إننا قد أخرجنا من ديارنا باستيلاء العدو عليها، وأخرجنا من أبنائنا بسبيهم، وفصلهم عنا، وجعل قوتهم لأعدائنا وليست لنا، فساغ لنا القتال، بل وجب علينا؛ أي أننا في حال توجب القتال علينا، فما الذي يمنع منه؛ لقد توافر الباعث، وزال المانع فحق الجهاد، فإما فناء في طلب العزة، وإما بقاء في ظلها، بل إن حالنا شر أنواع الفناء؛ لأنه موت الأحياء!

وهنا بحث لفظي نشير إليه، وهو في موضعين:

أولهما: في قوله تعالى: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فالاستفهام هنا للنفي، والجار والمجرور " لنا " متعلق بفعل محذوف تقديره: ما سوغ لنا ألا نقاتل وقد أخرجنا من ديارنا! أي أنه لَا مسوغ قط لعدم القتال بعد خراب الديار وذهاب الأبناء إن المرء يدافع عن أرضه وعن ولده، وقد أخرجنا من الاثنين، فأرضنا ليست بيدنا، وأنفسنا ليست بأيدينا؛ إذ أخرجنا عن فلذات أكبادنا، وقُطِع عنا من هم قطع من نفوسنا.

الموضع الثاني - قوله تعالى: (وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا): الواو هنا واو الحال، ولكن ما حقيقة الإخراج؟ أهو الإخراج الحسي بطردهم من بلادهم، والفصل بينهم وبين أبنائهم، فطردوا الكبار من الديار، وأبقوا الصغار عبيدًا في الأرض وعسفاء فيها، أم المراد الخروج المعنوي بأن يكونوا في أرضهم وليس لهم من أمرها شيء، وأن يروا أولادهم وليس لهم من أمرهم شيء بأن يسبيهم عدوهم، أو يتخذهم قوة له بكل الوسائل المادية والنفسية؟.

ص: 887

تحتمل كلمة الإخراج المعنيين، فيحتمل أنهم أخرجوا الكبار، وأبقوا الصغار لينشئوهم عبيدًا لهم أو أدوات عمل؛ ويحتمل أنهم أبقوهم أذلاء قد ألصقوا بالأرض وليس بصاحب بيت من لَا يديره، ولا بصاحب البلد من لَا يكون له أمره؛ وأولادهم لَا سلطان لهم عليهم، فهم ليسوا لهم، بل لعدوهم.

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ) قال بنو إسرائيل الحق، وفعلوا الباطل، قالوا إنه لَا مسوغ للقعود عن القتال، لأنه منا جهاد عن النفس، والمال والولد، والأهل والديار؛ ولكنهم عندما اشتدت الشديدة والْتَقى الجمعان، تولى الكثير منهم، وصبر القليل؛ وذلك عندما اختبروا بالنهر كما بينا وهذا ما يذكره قوله تعالى:(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ)، أي فلما فرض عليهم وكانت القيادة الحكيمة القادرة، وانتظمت الصفوف، وتولوا عن القتال أي أعرضوا عنه؛ والتولي عن القتال والإعراض عنه يتضمن معنى الفرار في الزحف بأن يولوهم أدبارهم، وبألا يسلحوا نفوسهم بالصبر، والضبط، فلا يجعلوا لشهواتهم سلطانًا على إرادتهم، وبأن يتمردوا على القيادة، ولا يطيعوها في وقت لَا يجدي فيه إلا الطاعة المطلقة.

وإن بني إسرائيل بتوالي الهزائم عليهم، وسيطرة الشهوات على إرادتهم، وتفكك وحدتهم، كشأن كل الأمم المغلوبة على أمرها، قد تحقق في الكثيرين منهم كل أسباب الإعراض عن القتال، أو الفرار في الزحف، أو التمرد وقت الحاجة إلى الطاعة المطلقة، وتحكم الشهوة في أشد أوقات الحاجة إلى ضبط النفس والصبر؛ وإن هذه الحال كما قلنا تلازم الأمم المغلوبة على أمرها، حتى تتجه عزائم أهلها إلى التغيير من هذه الحال، أو يكون منهم فئة قادرة تتولى في أول الأمر لقاء العدو بنفسها، ثم يسري الخلق القوي شيئا فشيئًا في سائر الأمة، فتكون العزة بعد الذلة، ويبدلهم الله من بعد خوفهم أمنًا.

لقد صبر القليل من بني إسرائيل، وكانوا فئة الله الغالبة، وسرى دم الحياة في الأمة بانتصار تلك الفئة القليلة، فقادها من بعد ذلك نبي الله داود إلى مواطن النصر والظفر.

ص: 888