الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَاصَّةً، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ الْخَاصَّ. فَبُهِتَ الْقَاضِي الزِّنْجَانِيُّ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ (. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: (فَإِنْ لَجَأَ إِلَيْهِ كَافِرٌ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، لِنَصِ الْآيَةِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ. وَأَمَّا الزَّانِي وَالْقَاتِلُ فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الْكَافِرُ بِالْقِتَالِ فَيُقْتَلُ بِنَصِ الْقُرْآنِ (. قُلْتُ: وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ قَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ وَأَصْحَابِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُحِلَّتْ لَهُ مَكَّةُ وَهِيَ دَارُ حَرْبٍ وَكُفْرٍ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُرِيقَ دِمَاءَ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِهَا فِي السَّاعَةِ الَّتِي أُحِلَّ فِيهَا الْقِتَالُ. فَثَبَتَ وَصَحَّ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَاغِي عَلَى الْإِمَامِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَالْكَافِرُ يُقْتَلُ إِذَا قَاتَلَ بِكُلِ حَالٍ، وَالْبَاغِي إِذَا قَاتَلَ يُقَاتِلُ بِنِيَّةِ الدَّفْعِ. وَلَا يُتْبَعُ مُدَبَّرٌ وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ. عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْبَاغِينَ فِي " الْحُجُرَاتِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
" فَإِنِ انْتَهَوْا " أَيْ عَنْ قِتَالِكُمْ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ، وَيَرْحَمُ كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اجْتَرَمَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ "[الأنفال: 38]. وسيأتي.
* * *
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ
(193)
فيه مسألتان: الأولى - قوله تعالى: " وَقاتِلُوهُمْ " أَمْرٌ بِالْقِتَالِ لِكُلِّ مُشْرِكٍ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، عَلَى مَنْ رَآهَا نَاسِخَةً. وَمَنْ رَآهَا غَيْرَ نَاسِخَةٍ قَالَ: الْمَعْنَى قَاتِلُوا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: " فَإِنْ قاتَلُوكُمْ " وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ أَمْرٌ بِقِتَالٍ مُطْلَقٍ لَا بِشَرْطٍ أَنْ يَبْدَأَ الْكُفَّارَ. دَلِيلٌ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ "، وَقَالَ عليه السلام:(أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إله إِلَّا اللَّهُ). فَدَلَّتِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْقِتَالِ هُوَ
الْكُفْرُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ " أَيْ كُفْرٌ، فَجَعَلَ الْغَايَةَ عَدَمَ الْكُفْرِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمُ: الْفِتْنَةُ هُنَاكَ الشِّرْكُ وَمَا تَابَعَهُ مِنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ. وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ: الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ، مَأْخُوذٌ مِنْ فَتَنْتُ الْفِضَّةَ إِذَا أَدْخَلْتُهَا فِي النَّارِ لِتَمَيُّزِ رَدِيئِهَا مِنْ جَيِّدِهَا. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَحَامِلِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنِ انْتَهَوْا " أَيْ عَنِ الْكُفْرِ، إِمَّا بِالْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلُ، أَوْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي " بَرَاءَةٌ " وإلا قوتلوا وهم الظالمون عُدْوَانَ إِلَّا عَلَيْهِمْ. وَسُمِّيَ مَا يُصْنَعُ بِالظَّالِمِينَ عُدْوَانًا مِنْ حَيْثُ هُوَ جَزَاءٌ عُدْوَانٌ، إِذِ الظُّلْمُ يَتَضَمَّنُ الْعُدْوَانَ، فَسُمِّيَ جَزَاءُ الْعُدْوَانِ عُدْوَانًا، كقوله:" وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ". [الشورى: 40]. وَالظَّالِمُونَ هُمْ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ: مَنْ بَدَأَ بِقِتَالٍ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْآخَرِ: مَنْ بَقِيَ عَلَى كفر وفتنة. (1).
* * *
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
* * *
بينت الآيات السابقة بعض أحكام القتال، وفي هاتين الآيتين بيان لبعض آخر، وقد تبين مما سبق أن المشركين إن أنتهكوا حرمة البيت الحرام، وقاتلوا عند المسجد الحرام، واعتدوا على المسلمين فيه، فإنه لَا يصح أن يحول بينهم وبين رد الاعتداء حرمة ذلك البيت الكريم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعله حرما آمنًا، فمن اعتدى من المشركين بالقتال فيه فقد ازدوج اعتداؤه، ابتدأ بالاعتداء، واعتدى على أهل الحق، واعتدى على حرمة البيت، وكان من الواجب أن يرد كل هذا الاعتداء، ليشفي الله قلوب قوم مؤمنين، ولأن إلقاء السلم لمن حمل السيف تمكين للباطل من
(1) انتهى كلام القرطبي من الجامع لأحكام القرآن.
الحق يجعل المبطل يمترى الظلم، فيكرر الاعتداء في البيت الحرام، إذ يراه أنهز للفرصة، وأنكى للمسلمين، إدْ يُقَتلون ولا يُقاتِلون.
ومثل حرمة القتال هي البيت الحرام القتال في الشهر الحرام؛ فإن الله سبحانه قد حرم القتال فيه؛ ولكن إن اعتدى المشركون فقاتلوا فيه لَا يلقى إليهم المسلمون السلم لينالوا منهم؛ وهذا ما تعرضت له الآية الأولى من هاتين الآيتين:
(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشهْرِ الْحَرَامِ): الباء هنا للمقابلة، أي الشهر الحرام من جانبكم مقابل بالشهر الحرام من جانبهم؛ فإن تقيدوا بالحرمة فيه ولم يثيروا حربًا ولم يعتدوا، التزمتم حرمته، ولم تقاتلوهم فيه، ولو كان قتالهم في ذاته عدلا، بعد أن فتنوا الناس عن دينهم؛ وإن انتهكوا حرمة الشهر الحرام، ونابذوكم فيه وقاتلوكم فلا تكفوا عن قتالهم، ولا تقبضوا أيديكم عنهم احترامًا له؛ بل ابسطوا عليهم أيديكمْ، وخذوهم إلى الحق من نواصيهم؛ لأنه إذا كان الشهر الحرام واجب الصيانة فنفوس المؤمنين ألزم صيانة وأحق بها، وإذا تعارضت الحقوق والواجبات قدم ألزمها، وأحفظها لدين الله وإعلاء كلمته؛ ولا شك أن ترك المشركين يكلَبون في المؤمنين ويشتدون عليهم، أشد ضررًا من القتال في الشهر الحرام الذي انتهكوا حرمته، وقد أخرجوا من قلوبهم كل حريجة دينية وخلقية وإنسانية.
و" أل " في كلمة (الشَّهْرُ) هي التي يسميها علماء اللغة: أل الجنسية، والشهر هنا مفرد في معنى الجمع؛ لأن الشهر الحرام ليس واحدًا، بل هي أربعة أشهر: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، والتعبير بالمفرد وإرادة الجمع فيه إشارة إلى المعنى المشترك في هذه الأشهر الأربعة، وهو تحريم القتال ابتداء فيها، احترامًا لها، ولبث روح الأمن والطمأنينة بين الناس؛ لأن المعنى الجامع لها جعلها وحدة قائمة بذاتها، وكأنها معنى واحد تعددت صوره؛ فالتعبير عن الجمع بلفظ هو في أصل ذاته للمفرد، مشيرًا إلى الوحدة المشتركة الجامعة بين الأفراد، مبينًا أن الحكم قد نيط بالمعنى الجامع بينها، ولا يتصل بالصفات الشخصية المميزة لآحادها.
وقد ذكرت عدد الأشهر الحرمٍ آية أخرى هي قوله تعالى في سورة التوبة:
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ. . .).
فهذه الآية تصرح بأنها أربعة وليست واحدًا، ثم بينت السنة هذه الأشهر الأربعة من أشهر السنة كلها؛ فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع:" ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا؛ منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذوالقعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان "(1).
وقد اتفق العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ بقتال في الشهر الحرام، فلم يبتدئ فيه بغزو، ولكن إذا قوتل فيه لم يكن يمتنع عن القتال؛ وكذلك إذا ابتدأ القتال قبل الشهر الحرام، واستمر القتال إلى أن حل الشهر، لم يكن ينقطع عن القتال حتى يأمن الرجعة؛ فقد روي عن جابر بن عبد الله أنه قال:" لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ "(2).
ولقد استعد النبي صلى الله عليه وسلم للقتال في الشهر الحرام مرتين، إحداهما عام الحديبية عندما ذهب معتمرًا هو وصحبه ومنعوه من البيت الحرام، حتى هم بقتالهم إن بدأوه بالقتال، ولكنه صالحهم على الدخول من قابل؛ والثانية عندما عاد إلى قضاء عمرته؛ فلقد كان على استعداد لأن يقاتل المشركين إن قاتلوه على ألا يبدأهم، وكان ذلك في ذي القعدة في العامين.
ولقد ابتدأ القتال في العام الثامن مع هوازن وحنين في الأشهر الحلال، ولكن استمر القتال حتى دخل ذو القعدة الشهر الحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم يحاصرهم، وقد استمر
(1) البخاري: كتاب تفسير القرآن - باب إن عدة الشهور (4294)، ومسلم: كتاب القسامة (3179) عن أبي بكرة رضي الله عنه. وهو نفيع بن الحارث بن كلدة. ورواه أبو داود وابن ماجه وأحمد والدارمي.
(2)
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمْ يكنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو فِى الشَّهْرِ الْحَرَام إِلا أنْ يُغْزَى أو يغْزَوْا، فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ أقَامَ حَتَى يَنْسَلِخَ. [رواه أحمد في منده (14056)].
النبي صلى الله عليه وسلم في الحصار أيامًا ثم قفل راجعًا احترامًا للشهر الحرام؛ ولعل الأيام التي استمرها لينظم الرجوع ويأمن ظهره، وحتى لَا يأخذه في رجعته عدو الله وعدوه.
هذه حقائق مقررة ثابتة تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرم على نفسه ابتداء القتال في الشهر الحرام إلا أن يقاتَل فيقاتِل، ولقد تقرر التحريم بالقرآن الكريم في أكثر من آية، منها قوله تعالى في أول سورة المائدة، وهي من آخر القرآن نزولا:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ. . .).
ولكن مع ذلك اختلف الفقهاء، فقال بعضهم وهم الأكثرون: إن تحريم القتال في الشهر الحرام قد نسخ بقوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
، وقالوا إن معنى قوله تعالى:(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ. . .)، أي بمنع القتال فيها كما ذكر ابن جرير الطبري وقالوا: لقد قاتل النبي صلى الله عليه وسلم هوازن وحنينًا فيها، وما لأحد أن يحرم ما أحله رسول الله. ذلك قولهم ودليله.
وقال بعض آخر أقل عددًا من الأول: إن تحريم القتال فيها ابتداء من غير اعتداء من الأعداء فيها شريعة باقية؛ لأنه لم يوجد نص صريح يعارض نصوص التحريم، ولا يمكن إعماله إلا بالنسخ، ولأن تحريم هذه الأشهر ثبت بآيات من آخر آيات القرآن نزولا وهي سورة المائدة كما نوهنا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكد التحريم بذكر تلك الأشهر في خطبة الوداع التي سجل فيها شرع الله على عباد الله، وأشهد عليهم فيها أنه بلغهم رسالات ربه؛ وما كان قتال النبي صلى الله عليه وسلم لهوازن وحنين في الشهر الحرام ابتداء بل كان امتدادا، ولقد قطع القتال ولم يستمر فيه لما صارت الرجعة عن القتال لَا تعرض جنده لمضار تكون أشد من تحريم القتال في الشهر الحرام.
ولأجل هذا قال عطاء بن رباح حالفًا بالله: إنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها، وما نسخت.
ولعل الفقهاء الذين قرروا إباحة القتال في الأشهر الحرم، قدا استمدوا حكمهم مما ذكرنا متأثرين بأحوال زمنهم، فإنه بعد أن اتسع الفتح الإسلامي صار جند المسلمين في مذأبة من الأمم المعادية تنتهز الفرص من غير هوادة أو مهادنة، فإذا رأوا المسلمين قد أغمدوا القُضب في أجفانها انقضوا عليهم، وأتوهم من مأمنهم، بل لعلهم وجدوا أن الفتوحات الإسلامية التي تمت في عهد الصديق والفاروق، وامتدت في عهد ذي النورين، لم تغمد فيها السيوف في الأشهر الحرم، لأنها كانت حربا ممتدة مستمرة موصولة غير مقطوعة، فحسبوا أن تحريم القتال في الشهر الحرام قد نسخ؛ ولكنا إذا قيدنا التحريم بالابتداء وفي غير حال مباكرة الأعداء بالاعتداء، نجد النصوص سائرة مع عمل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من غير تضارب يسيغ النسخ، والله سبحانه أعلم بالصواب. ولماذا حرم الله سبحانه وتعالى القتال في الشهر الحرام؛ يظهر لي أن السبب في ذلك أمران جليلان:
أحدهما: تأمين السبل في الحج، ذهابا وجيئة؛ ولذلك كان أكثرها أشهر الحج، كما قال تعالى:(الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلومَاتٌ. . .)، فمنع القتل فيها تأمينا للسبل، ولأمن بيت الله الحرام، وأما رجب الذي بين جمادى وشعبان فقد كان شهر الاعتمار، فيه تؤدى العمرة المندوبة انفرادا، وعلى هذا يكون تحريم القتال في الشهرالحرام ليتحقق الأمن الكامل للبلد الحرام ولحرم الله الآمن إلى يوم القيامة، كما قال سبحانه:(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حرما آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ. . .).
ولعل الفقهاء الذين قالوا: إن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ لاحظوا هذا المعنى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى صارت الصحراء العربية بوبرها ومدرها كلها تحت سلطانه، وفي ظل الله، فصار الحجيج يصلون إلى البيت الحرام آمنين، ولو كان القتال دائر الرحى في غير البلاد العربية، فظنوا النسخ، لأن التحريم حينئذ يكون قد استوفى أغراضه والغاية منه؛ واستنبطوا مع ذلك من نصوص وحوادث ما يزكي ذلك وينميه، على نظر في ذلك.
وثاني الأمرين اللذين نظنهما حكمة التحريم: أن الإسلام يكره القتل والقتال، وهو في نظره أمر بغيض لَا يلجأ إليه إلا عند الاضطرار، وإن النفوس السليمة تقر ذلك، ولذلك قال سبحانه: (كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ
لَّكُمْ. . .)، فكان من حصر القتال في أضيق دائرة أن يتفق الفريقان على إلقاء السلاح أمدا معلوما في أثناء القتال لعل العقول تثوب إلى رشدها، والنفوس تهدأ حدَّتها، فيكون التفاهم والسلام وحقن الدماء. وإذا كان ثمة أشهر يحرم فيها، ويرتضي الفريق الآخر ذلك التحريم حقنا للدماء فيها، فإنها ستكون هدنة في أوار الحرب، ولعلها تكون نسيم السلام؛ ولقد لاحظ الناس بالتجارب المستمرة أنه ما كانت هدنة في حرب ضروس إلا فلَّت حدتها، وأُضْعفَت شرَّتهَا؛ والله عليم بذات الصدور.
(وَالْحُرُمَات قِصَاصٌ) تعالت كلمات الله؛ تلك حكمة بالغة، وكلمة جامعة لكل ما سبقها من معانٍ في القتال ومبينة لمقاصد الإسلام في علاقات المسلمين مع غيرهم، وعلاقة بعضهم ببعض في اجتماعهم، وهي قضية خلقية سليمة صحيحة تقبلها العقول السليمة، وتقرها الأخلاق القويمة.
والحرمات: جمع حرمة، كما أن الحجرات جمع حجرة؛ والظلمات جمع ظلمة، والحرمة الأمر الذي حرمه الله ومنع انتهاكه، والقصاص من معانيه المساواة، وتتبع آثار الجريمة بالعقوبة، ومعنى القصاص في الحرمات أن يعامل منتهك الحرمات بمثل ما فعل، وأن يكون العقاب من جنس العمل، وألا يقيد المعاقب بحرمة انتهكها الجاني، فإذا انتهك الجاني حرمة النفس بقتلها، لَا يتقيد المعاقب بحرمة نفسه، بل يقتص منها، لأنه إذا انتهك حرمة غيره بقتل أو اعتداء فقد أباح من حرماته مقابل ما انتهك. ومعنى قوله تعالى:(وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) في هذا المقام (1) أن ما انتهكوه من حرمة الأنفس بقتلها وفتنتها عن دينها، وحرمة البيت الحرام التي انتهكوها بإخراج أهله منه وصدهم عنه، وقتالهم فيه، وحرمة الشهر الحرام إذا انتهكوها، كل هذا
(1) يثير الفقهاء بحوثا في هذه القضية عند تطبيقها تطبيقا جزئيا، ويختلفون في حل ما يثيرونه بتطبيقها عليه: ومن هذه الأمور التي يثيرونها. أيسوغ للشخص أن يقتص لحقه بغير أمر الحاكم؟ لقد اتفقوا على أنه في الدماء لَا يسوغ ذلك قط؛ بل لابد من حكم الحاكم ليكون القصاص؛ أما في الأموال إذا اغتصبت أو أنكرت فهل يسوغ أخذها من غير حكم؟ بعض الفقهاء منع ذلك منعا مطلقا، ولكن أولئك ليسوا الأكثرين، وجمهور الفقهاء على أن الشخص إن ظفر بعين حقه أو بمال من جنسه أخذه، ويكاد يتعقد الإجماع على الأول، أما ما كان من الجنس فالأكثرون على الجواز ما دام لَا يعد سرقة؛ فعلى ذلك الحنفية والشافعية وأكثر المالكية، وأما إن ظفر بغير جنسه من مال مغتصبه، فقال بعضهم يسوغ، وبعضهم لا يسوغ، وهو المعقول حتى لَا تكون أمور الناس فوضى.
يعامل بالقصاص والمساواة والعدل؛ فما انتهكوه من حرمات في حق غيرهم. يقتص بمثله منهم ولا تحترم فيه حرمة لم يحترموا مثلها في غيرهم.
وذلك قانون شامل يعم ولا يخص؛ ينظم العلاقات الدولية، كما ينظم التعامل في المجتمع الإسلامي؛ فمن اعتدى على غيره في ماله، أو نفسه أو بعضه، أباح الحاكم من نفسه وماله ما أباحه لنفسه من نفس غيره وماله؛ والمعتدي على المسلمين من الدول يعامل بقدر اعتدائه، وبطريقة اعتدائه، وفي زمان اعتدائه ومكانه؛ فإن انتهك حرمة الزمان فليس له أن يستمسك بحرمتها، ومن انتهك حرمة المكان قتل فيه، ومن اعتدى بنوع من الاعتداء عوقب بمثله إلا أن يكون أمرًا لَا يحله شرع الله، ولا تحله الطبائع السليمة؛ كالمثلة، وقتل من لَا يقاتل أبدًا - على ما سنبين إن شاء الله تعالى.
وإن قضية (وَالْحُرمَات قِصَاصٌ) هي المعاملة العادلة التي تنظم الاجتماع الإنساني في دوله وآحاده؛ وليس من الفضيلة في شيء أن تغل يد الفضائل عن حرمات خصمها في الوقت الذي استباح المبطل كل الحرمات؛ وإن ذلك ليس له معنى إلا نصر الرذيلة على الفضيلة، وخضد شوكة الحق ليأكله الباطل؛ وإن التسامح في هذه الحال هو شر ذرائع الرذائل، والقوة والقصاص في هذه الحال هو حماية الفضيلة وفل شوكة الرذيلة. . وهكذا فضائل الإسلام دائما فضائل لها شوكة وقوة، ولا تعد التسامح الذي يمكن للباطل من أن يتغلب على الحق إلا الاستسلام والذلة.
(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) هذا تخصيص بعد تعميم، أو تفريع بعد ذكر القاعدة الكلية، بذكر بعض القواعد الجزئية بالإضافة إليها، أو الخاصة بالنسبة لها؛ لأن قوله تعالى:(وَالْحُرُمَات قِصَاصٌ) قضية عامة، كما بينا، تعم معاملة الدول ومعاملة الآحاد، وتنظم الاجتماع الإنساني وتنظيم الاجتماع في الأمة الواحدة؛ وهي قضية الفضيلة الإنسانية الموجبة التي تحمي نفسها من الرذيلة بالقصاص منها أيا كانت صورة الرذيلة، وأيا كان موضوعها.
أما قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فهي تبين العلاقة الدولية بين المسلمين وغيرهم؛ لأن الخطاب فيها للمسلمين مجتمعين كدولة واحدة لها نظم حاكمة، وسياسة قائمة، يبين هذا الخطاب ما يجب على دولتهم في معاملة غيرهم به في حرب أو سلم، وفي منازلة أو مهادنة، فذكر الله سبحانه أن تلك المعاملة هي المعاملة بالمثل.
ومعنى قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدوا عَلَيْه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) أن من يعتدي عليكم من أمم غيركم بانتهاك حرمة من حرمَات دولتكم أو إلحاق أذي بجماعتكم، بحرب يشنها عليكم، أو مصادرة لمتاجركم، أو ترصد في الطرق التي تسلكها قوافلكم أو سفنكم، فعاملوه بالمثل، وأنزلوا به مثل ما ينزله بكم؛ وإن انتهك. حرمة مكان فانتهكوا منه مثل ما انتهك من غير تحرج في ذلك ولا تأثم، فإن هذا ما تقضى به قوانين المساواة والمعاملة بالمثل.
وهنا يثير العلماء بحثا لفظيا: كيف يسمى المقابلة بالمثل اعتداء؛ إن الاعتداء هو الابتداء، أما العقوبة أو المقاومة فهي عدل وانتصار، لأن مقاومة الظلم هي عين العدل، فكيف تسمى اعتداء؛ وقد أجابوا عن ذلك بأن المشاكلة في الفعل التي تقتضيها المماثلة سوغت أن يسمى الفعل باسم نظيره، كما قال تعالى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مثْلُهَا. . .)، وإن ذلك لَا يمنع الحقيقة، لأنه وإن تشاكلتَ الأفعال والأوصاف المنبعثة من الفاعل مختلفة، فالفعل الأول اعتداء لأنه صدر عن ظالم، وكان ظلمًا، والثاني ليس في حقيقته اعتداء، لأنه انبعث عن عادل، وكان عدلا.
هذا مرمى ما قاله العلماء اعتراضًا وإيرادًا، وجوابًا وردا؛ وعندي أن تسمية مقاومة الاعتداء بمثله اعتداء، إذا كانت المقاومة حربا ونزالا، فيه إشارة إلى معنى إنساني جليل، وهو أن القتل في كل صوره وأحواله، ولو كان ردا لمثله، فيه اعتداء على النفس الإنسانية التي حرم الله قتلها بغير نفس أو فساد في الأرض، وأنه عمل خطير تقشعر من هوله الأبدان، ولا يصح الإقدام عليه إلا إذا اضطرت الفضيلة والأخلاق إليه؛ وإن الإقدام عليه يكون كالإقدام على الضرورات المحظورة في
ذاتها، يقدر بقدرها. فلا يسرف القاتل فى القتل؛ لأنه في أصله محظور ممنوع كأكل الميتة لَا يباح إلا للضرورة، ولا يصح للمقاتل باسم الإسلام أن يسرف في القتل ما ْأمكنه الانتصار بدونه؛ ولعل هذا المعنى الجليل هو الذي جعل عمر الفاروق الذي كان ينظر بنور الله يكره قتال خالد بن الوبيد، ويقول:" إن في سيفه لرهقًا " ويعجب بقتال عمرو بن العاص الذي فتح مصر بأقل ما يتصور من الدماء، ويقول " إن حربه رفيقة ".
وقوله سبحانه (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا علَيْهِْ بمثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(1) هو القاعدة العامة للقانون الدولي في الإسلام في السلم والحرَب معا؛ فمن لم يعتد على المسلمين، وترك دعوة الإسلام الحق تسير في مسارها، وتستقيم على منهاجها من غير محاجزة بين الناس وبينها، فالعلاقة به سلمية خالصة، كالشأن مع النجاشي ملك الحبشة؛ ومن اعتدى على المسلمين كانت العلاقة بينهم وبينه بقدر ذلك الاعتداء؛ سواء أكان الاعتداء في سلم أم لبس لبوس الحرب؛ وإذا عاهدهم أحد حفظوا عهودهم إلا أن ينكث معهم (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ. . .).
ولكن الخصم إذا لم يكن له خلق قد يقع في أمور تضر بالخلق القويم، كأن ينتهك الأعراض في الحرب، أو يقتل الذرية الضعاف، أو الشيوخ الذين لَا حول لهم ولا طول، فهل يعتدى بمثل اعتدائه، ويسلك الممسلمون مثل مسلكه؛ هذا ما بينته الجملة الآتية، وهو عدم الجواز.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهاتين الجملتين لكيلا يندفع المقاتلون المسلمون في القتال فيضعوا سيوفهم على أعناق من يستحقها ومن لايستحقها]. . وينزلوها في موضع البرء والسقم، فيقتلوا ويتجاوزا الحد؛ لأنه إذا اشتجرت السيوف، وكثرت الحتوف؛ قد تتجاوز موضعها،
(1) طبق الفقهاء هذه الفقرة من الآية الكريمة على حوادث جزئية، مما يجري بين الناس:
أ - منها هل يشترط في القصاص إذا كان قتلا أن يكونْ بالآلة التي قتل القاتل بها ولو كان عصا أو نارا؟ قال الشافعى إن القود يكون بالآلة تماما؛ لأن الممائلة توجب ذلك. وقال مالك مثل قوله إلا أن يؤدي ذلك إلى التعذيب. وقال الحنفية القود بالسيف دائما. .
ب - أنه من أتلف مالا لغيره قال أبو حنيفة وأصبحابه والمالكية: إن كان قيميا وجبت القيمة، وإن كان مثليا وجب المثل، والمثلى عند الحنفية المكيل والموزون والعددي المتقارب، واقتصر المالكية على المكيلات والموزونات، وقال الشافعية عليه دائما المثل ولا يعدل عن المثل إلا عند عدم وجوده، يستوفى في ذلك القيمي والمثلي. وقال بعض العلماء القيمة تجب دائما؛ لأنها وحدة التقدير وهي المماثلة في المعنى المتحققة دائما.
فتكون في غير العدل؛ وقد يسايرون خصومهم في أذاهم فيقتلون الذراري أو الشيوخ أو الضعاف أو الرهبان والعباد في الصوامع كما يفعل خصومهم، أو يحرقون الزرع ويقتلون الضرع كما يعيث غيرهم في الأرض فسادا؛ فأمر الله سبحانه بتقوى الله في الحرب بأن يراقبوه وحده، ويخافوه وحده، ويلاحظوا التقوى في قتالهم؛ فإنه ينبغي أن تكون هي الوصف الملازم لهم في حربهم وسلمهم؛ فإن حولتهم الحرب إلى أسود كواسر، فليعلموا أن القلوب الإنسانية الدينية التي تخشى الله ما زالت في إهابها، أو يجب أن تكون كذلك دائما.
ولقد نهى الإسلام عن قتل العسفاء وهم العمال الذين لَا يشتغلون بحرب، والذرية؛ كما نهى عن قتل الرهبان الملازمين لمعابدهم، ولقد قال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لَا ينصبون لكم الحرب. وقال أبو بكر في الرهبان لقائد الجيش: وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذروهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له. ولقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يقتل الذرية والضعاف فقال لبعض أصحابه: " الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا (1).
ولكن قد يقول قائل إن أعداء الإسلام إن قتلوا الذرية والضعاف والشيوخ الذين لَا يعينون في حرب فإن العدل معاملتهم بالمثل، وإن ذلك يكون أنكى بهم، والنكاية الشديدة قد تدفعهم إلى الخذلان، أو على الأقل تمنعهم من قتل من لا يقاتلون؛ ونقول إن الإسلام أمر بقتل من يقاتل فقط، (وَلا تَزِرُ وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى. . .)، وما كان الضعفاء ليقاتلوا، فما يسوغ في حكم أقوى أن يقتلوا؛ وإن تقوى الله في الحروب تقوى القلوب، والرأفة بعباد الله تدني نصر الله؛ ولذلك قال سبحانه في ختام الآية:(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقينَ) فاستشعروا التقوى في حربكم، وادرعوا بها في قتالكم، فلا تعتدوا في القتال، ولا تقاتلوا من لم يرفع سيفا، فإن الله مع المتقين بالنصر والتأييد دائمًا؛ والله ولي الصابرين.
(وَأَنفقُوا فِي سَبيلِ اللَّه) بين سبحانه مشروعية القتال عند الاعتداء، ورد الاعتداء بمثلة قدرا وزمَانا ومكَانا مع ملاحظة الدين وعدم الاسترسال في أمر يخالفه
(1) سبق تخريجه.
إن وقع من المشركين، أو المحاربين بشكل عام مثله؛ ولقد أخذ بعد ذلك يبين ما هو عدة الحرب، وقوة الجماعة الإسلامية، ورباط بنيانها، وهو المال، فأمر الأغنياء بإنفاق المال في سبيل الله أي في كل ما هو خير وبر، فإن كل خير وطاعة يعد سبيل الله سبحانه، وإنفاق المال على ذلك هو قوة الأمة في سلمها، وقوة السلم هي عدة الحرب؛ وإن من الإنفاق في سبيل الله الإنفاق في الحروب، وإعداد العتاد الحربي، ولكن ذلك وإن كان قوة الحرب المباشرة، لَا ينفي أن قوة الحروب تعتمد على قوة الوحدة في الأمة، وقوة الصلة بين ضعفائها وأقويائها، وأغنيائها وفقرائها، وذلك يكون بسد حاجة المعوزين، وإعطاء المحرومين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " أبغوني في ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم "(1).
(وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) التهلكة بضم اللام: مصدر بمعنى الهلاك، كما قال أبو عبيدة والزجاج، وادعى بعض علماء اللغة أنه لم يوجد مصدر على وزن " تفعلة " إلا هذا، ولكن روي عن سيبويه كلمتان أخريان هما تنصرة وتسترة، بمعنى نصر وستر. وقد جوز الزمخشري أن يكون أصلها " تهلكة " قلبت الكسرة ضمة، ككسرة الجوار قد تقلب ضمة فيقال:" الجُوار "، ومهما يكن فإن " التهلكة " إذا كانت بمعنى " الهلاك " في المال، فلابد أن يكون ئمة فرق دقيق اقتضى العدول من لفظ الهلاك إلى لفظ التهلكة كما هو الشأن في التخير من الألفاظ المترادفة في الكلام البليغ، ولو أن لنا أن نتلمس فرقا فهو أن نقول: إن التهلكة هلاك خاص، وهو الذي يباشر سببه من ينزلى به الهلاك، وربما لَا ينزل دفعة واحدة، بل يسرى شيئًا فشيئا، ولكن نتيجته تكون مؤكدة، أما لفظ الهلاك فهو يشمل ما ينزل دفعة واحدة وما لَا يكون للإنسان فيه إرادة وغيرهما.
والباء في قوله سبحانه (وَلا تُلْقُوا بِأيْديكُمْ) قيل زائدة في الإعراب لتقوية معنى الإلقاء المنهي عنه، فيقوى النهي؛ وقيل المعنى: لَا تلقوا أنفسكم مجذوبة
(1) عَنْ أبِي الدَّرْدَاء قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ فَإنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرونَ بِضُعَفَائِكمْ "[رواه الترمذي: الجهَاد - ما جاء في الاستفتاح بصعاليك المسلمين (1624) وأحمد: باقي مسند الأنصار (20738) وبنحوه رواه ابن جاه والنسائي]. ابغوني بهمزة الوصل والقطع بمعنى الطلب.
بأيديكم وإرادتكم إلى التهلكة. فلا تكون زائدة. وعلى أن الباء زائدة في الإعراب يكون المراد بالأيدي الأنفس، من قبيل إطلاق اسم الجزء وإرادة الكل، والمعنى: لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة. والمؤدى في التخريجين واحد.
والنهي عن الإلقاء في التهلكة بعد الأمر بالإنفاق وبعد شئون القتال، يعين المعنى بأنه فيما يتعلق بشئون الدفاع عن الدولة والذود عن حياضها، وحفظ كيانها، أو على الأقل يتجه نحو هذه الغاية أو ذلك المرمى أولا وبالذات؛ ولذلك فسر الأكثرون الإلقاء إلى التهلكة بأنه الكف عن القتال والتقاعد عنه فتكون الأمة نهبا للمغيرين بسبب ذلك، والكف عن الاستعداد للحرب بإعداد العدة وأخذ الأهبة كما قال تعالى:(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ. . .)، وبقبض الأغنياء أيديهم عن إعطاء حق الفقراء؛ فيكون بأس الأمة بينها شديدا، يسهل إغارة المغيرين عليها؛ ولذلك روى ابن عباس في تفسير هذه الآية وهو ترجمان القرآن ما نصه: لَا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا.
هذا هو معنى الآية على ما عليه الأكثرون وهو الذي يتفق مع السياق، ومع المروى في جملته؛ فقد روى البخاري في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في النفقة، وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم قال:" غزونا القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو فقال الناس: مه مه (1)! لَا إله إلا الله: يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب الأنصاري: " سبحان الله أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه، وأظهر دينه قلنا هلم نقيم في أموالنا، فأنزل الله عز وجل:
(1) بمعنى: اكفف.
(وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد.
ْوقد تضافرت الروايات بمثل ذلك مما يجعلنا نفهم أن الآية الكريمة تتجه إلى حماية الدولة والجماعة من أن تلقي بيدها إلى التهلكة، بترك الضعفاء فيها، وترك الجهاد دفاعا عنها، وعدم الاستعداد لأعدائها.
ولكن عموم الآية قد يشمل حال الآحاد إذا أقدموا على ما يضرهم من غير أي فائدة تعود على الجماعة من إقدامهم ولو كانت الفائدة معنوية أدبية، فإن ذلك يسير عليه النهي بمقتضى العموم، وليس منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق للظالمين، فإن ذلك فيه فائدة معنوية للأمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله "(1).
وقد اختلف العلماء فيمن أقدم على مهاجمة عدو كثير العدد وحده، فسوغه ناس (2) لما فيه فائدة للحماعة ولو معنوية، ومنعه آخر لأنه لم ير فيه أية فائدة للأمة، وفيه المضرة على من أقدم، فتنطبق عليه الآية.
والخلاصة أن الآية ينطبق النهي فيها على الأمة إن تركت أمر حمايتها من الآفات الاجتماعية في الداخل، وغارات الأعداء في الخارج حتى هلكت، وينطبق النهي على الآحاد إن أقدموا على ما يهلكهم من غير أي نفع مادي أو أدبي لأمتهم.
(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحبُّ الْمُحْسنينَ) الإحسان في لغة القرآن الكريم يطلق بإطلاقين، أحدهما: الإتقان والإجادة في العمل والقيام بالطاعات على وجهها، ومن ذلك قوله تعالى:(إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، وقوله تعالى:(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَه. . .). والثاني: التفضل على
(1)" أفضل الشهداء حمزة ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله " أي: فقتله السلطان أو أمر بقتله.
[دليل الفالحين باب 80 - وجوب طاعة ولي الأمر، ولسان الميزان - باب من اسمه حكيم (حكيم بن يزيد) عن جابر رضي عنه رفعه " أفْضَلُ الشهداء حَمْزَةُ ورجل قام إلى إمام جائر فنهاه فأمر بقتله "]. وقال الأزدي: حكيم متروك الحديث.
ورواه الحاكم في المستدرك عن علي موقوفا بلفظ: أفضل الخلق الرسل، وأفضل الخلق بعد الرسل الشهداء وأفضل الشهداء حمزة بن عبد الطلب.
(2)
ذكر الإمام محمد بن الحسن في كتابه السير الكبير أنه لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه؛ لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن قصد تجرئة للمسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنعه فلا يبعد جوازه، لأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه، وإن قصد إرهابا للعدو، وليعلم صلابة
المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه.
غيره بالعطاء والزيادة فيه؛ وعندي أن هذا في الجملة يعود إلى الأول لأن ذلك من قبيل إتقان العبادة، والإخلاص الكامل فيها.
وعلى ذلك نرى أن الإحسان هنا هو الإجادة والإتقان، وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بعد الأمر بالقتال أن يجيدوا كل أعمالهم كل الإجادة، وأن يحتاطوا في كل ما هو متصل بحياتهم الشمخصية وأحوالهم الاجتماعية، وشئون دولتهم وما يقيم أودها ويصلح أمرها؛ ففي الحرب جلاد وجهاد وفداء، وفي السلم إعداد واستعداد ومحبة وولاء، ومودة بينهم وإخاء؛ ليكونوا كما وصف الله الأسلاف (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهمْ. . .)، (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ. . .)، فإن لي يكونوا كذلك فقدوا عون الله ونصرته، بعد أن فقدوا عزة الإسلام وهدايته؛ لأن الله مع من يحسن، ولا يحب سواه؛ إذ قال:(إِنَّ اللَّهَ يُحبُّ الْمُحْسِنِينَ).
* * *
(الحج)
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ
وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
* * *
هاتان الآيتان متصلتان بما قبلهما أوثق الاتصال، وذلك بأن الآيات الكريمة من قوله تعالى:(لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ منْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. . .)، فيها تنظيم للجماعة الفاضلة؛ ببيان حق الفقير في مال الغني، وبيان المساواة العادلة في تطبيق القوانين الإسلامية، لَا فرق بين قوي وضعيف، ولا شريف ووضيع، وبيان أن العقوبة تكون على قدر الجريمة، وإن في ذلك حياة الجماعة حياة فاضلة عادلة (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ. . .)، وفيها تنظيم للأسرة بالتعاون بين آحادها؛ بأن يمد الغني الفقير بالهبات في الحياة، والوصايا بعد الوفاة، وفيها بيان لما يهذب النفس، ويقوى الروح فذكر الصيام، ثم فيه إشارة إلى الحج الذي يجمع في ثناياه بين إصلاح الآحاد في ذات أنفسهم، وإصلاح الجماعة وتنظيمها، وفي أحكامه تتلاقى ذرائع التنظيم الاجتماعي، والإصلاح النفسي؛ فهو في ذاته رحلة روحية يشارف المؤمن فيها المقام القدسي، إذ يحل في المكان الذي شرفه الله سبحانه بنسبته إليه، ووضع قواعده النبيون الصديقون، وفيه الصدقات وإمداد الفقراء؛ بل في بعض كفاراته الصوم؛ وفيه التنظيم الاجتماعي العام بالتعارف بين المسلمين في كل البقاع؛ فكان حقا أن يجيء الحج بعد الأحكام المنظمة، والعبادات المصلحة للنفس، المهذبة للروح؛ لأنه يجمعها في أحكامه.
ولكن الحج في إبان نزول القرآن كان متعذرًا أو متعسرًا؛ لأن المزار الأكبر وهو البيت الحرام، والمشعر الحرام، كان المشركون قد سيطروا عليه، والأصنام تحيط به من كل جانب، وهم يمنعون المسلمين منه، والعداوة بينهم وبين النبي وصحبه مستعرة؛ فكان لابد من القتال للوصول إليه، وأداء تلك الشريعة الإسلامية؛ لذلك جاء ذكر
القتال بين الإشارة إليه بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا. . .)، وبين بيان بعض أحكامه في قوله تعالى:
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).
ثم هناك ارتباط خاص بين أحكام القتال وأحكام الحج، لأن القتال جهاد لحماية الدولة في الخارج، والحج جهاد لتهذيب النفس وحماية الدولة الإسلامية في الداخل، بالجمع بين أقطارها، والتعارف العام بين شعوبها، ونشر المساواة العادلة بين آحادها؛ ولذلك لم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم عبادة تلي الجهاد في سبيل الله غير الحج لله.
ثم هناك مناسبة خاصة بين الآية الأولى وأحكام القتال، لأن فيها بمِان حكم من يمنعه عدو من الوصول إلى البيت الحرام، وقد حدث في العام السادس أن منع النبي صلى الله عليه وسلم من الوصول إلى البيت الحرام، وهمَّ بأن يمتشق السلاح ويقاتل حتى يصل إليه بقوة السلاح، ولكن كان الصلح على أن يرجع من عامه هذا، ثم عاد في العام السابع وأدى عمرة القضاء. فكانت هذه الآية ذات مناسبة خاصة تربطها بالقتال والجهاد في سبيل الله تعالى.
وهذه الآيات في بعض أحكام الحج؛ ولذلك نبين هذه الأحكام ولا نتعرض للتفريع واختلاف الفقهاء إلا بالقدر الذي يكون تفسيرا لكلماتها، أو يكون مستمدا من ظلالها أو قابسًا من نورها.
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الحج في أصل معناه اللغوي: القصد، وخصه الراغب الأصفهاني بالقصد للزيارة؛ ومن ذلك قول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يحجون بيت الزبرقان المعصفر
والعمرة في الأصل اللغوي تتلاقى مع مادة العمارة التي هي ضد الخراب ويراد بالعمرة في اللغة: الزيارة التي يقصد بها عمارة المكان، وعمارة القلوب بالود، وتلاقيها على صفاء المحبة والإخلاص.
هذا هو الأصل اللغوي لمعنى كلمتي الحج والعمرة؛ وقد صارت الكلمتان من الألفاظ الإسلامية التي خصها الشرع بمعان تتصل بأصل معناها اللغوي؛ فالحج في أصل معناه كما رأيت قصد المكان للزيارة، فصار في المعنى الإسلامي يطلق على قصد بيت الله الحرام وعرفات والمشعر الحرام للزيارة بشروط خاصة وأركان خاصة، جماعها المتفق عليه الذي لَا خلاف فيه بين أهل العلم ثلاثة: الإحرام، وهو بالنسبة للحج كتكبيرة الإحرام بالنسبة للصلاة، والوقوف بعرفة، وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الحج عرفة "(1) لأن له وقتًا معينا إذا فات الشخص فاته الحج في هذا العام؛ ووجب الحج من قابل، والطواف.
وقد اختلف في الوجوب فيما عدا هذه الثلاثة من السعي بين الصفا والمروة والوقوف بمزدلفة وغيرهما.
والعمرة قد رأيت أنها في أصل معناها للزيارة المقصود بها عمارة المكان بالأشخاص، وعمارة النفوس بالمودة والإخلاص، وقد خصها الإسلام بزيارة بيت الله الحرام، وتلاقي النفوس فيه على مودة ورحمة وإخاء، ولها أركان خاصة وشروط، وجماع أركانها المتفق عليها بين الفقهاء اثنان: الإحرام والطواف.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بإتمام الحج والعمرة لله؛ فنص بهذا على وجوب أن تكون هذه العبادة خالصة لله سبحانه وتعالى لَا يشرك المؤمن فيها مع الله سبحانه وتعالى أحدًا؛ وكذلك الشأن في كل عبادة، بل في كل عمل خير، يجب أن يتجه العبد فيه إلى الله سبحانه، لَا يقصد غير الله، ولا يريد بعمله إلا وجهه؛ لأن من كمال الإيمان أن يحب المؤمن الشيء لَا يحبه إلا لله، ومن كمال الإيمان أن يكون هوى المؤمن وغاياته ومقاصده تبعًا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولايقصد به إلا وجه الله سبحانه وتعالى.
(1) جزء من حديث رواه في المناسك الترمذي (814) والنسائي (2994) وأبو داود (1664) وابن ماجه (6 0 0 3) وأحمد في أول مسند الكوفيين (18023) والدارمي. كلهم عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه.
وكل عبادة لَا يقصد بها وجه الله لَا يثاب عليها صاحبها، بل إنها جديرة بالعقاب لَا بالثواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرر بأن ذلك شرك؛ وهو الذي يقول عنه العلماء إنه الشرك الخفي، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:" من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك "(1) وقد سماه العلماء شركا خفيا لأن صاحبه يخفيه ولا يبديه، ولأنه دقيق لَا يدركه إلا ذوو النفوس الطاهرة، والقلوب البارة التي تحاسب نفسها؛ ولأنه بلا ريب دون عبادة الأوثان، وإن كان من بابها؛ وقد وجدنا في عصرنا ناسًا يجاهرون بأنهم يتصدقون بالصدقة العظيمة يبتغون بها الجاه، أو ملق أصحاب الجاه، فبأي اسم يسمى عملهم؛ أيسمى شركا خفيا، أم يسمى شركا جليا؟ وهو على أي حال مروق من الدين، إذ قد اطرح فيه جانب رب العالمين.
وما المراد بالأمر بإتمام الحج والعمرة: أيراد بالأمر إقامتهما، وإيجادهما، أم يراد بالأمر إتمامهما لَا أصل إقامتهما بأن يراد الإتيان بهما تامين؟ فيكون الأمر منصبا على الإتمام، لَا على أصل الأداء؛ ويكون المعنى على الأولى: أقيموا الحج والعمرة أي أدوهما، كقوله تعالى:(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ. . .)، فليس الاتجاه إلى الإتمام بل إلى الإنشاء؛ والمعنى على الثاني ائتوا بهما تامين، أي كاملي الأركان قد استوفيت شروط كل منهما، خالصين لوجه الله سبحانه وتعالى لا تشوبهما شائبة من رياء.
هناك اتجاهان في هذا المقام؛ فبعض الفقهاء ومعهم بعض المفسرين، وسبقهم بعض التابعين والصحابة على أن المراد بالأمر الإنشاء والإتيان والإقامة، فمعنى أتموا الحج والعمرة ائتوا بهما؛ وعلى هذا المنهج علقمة والنخعي وسعيد بن جبير وعطاء، وطاوس، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعلى رضي الله عنهم؛ ولهذا قرروا أن العمرة واجبة كالحج، وهذا ما قرره الشافعي على أحد قوليه وسفيان الثوري.
(1) رواه أحمد: مسند الشاميين: حديث شداد بن أوس (16517).
والاتجاه الثاني هو أن المراد بالأمر الأمر بالإتمام؛ أي أنه إذا شرع فيهما أو في أحدهما عليه أن يتمه ويأتي به كاملا، وإذا لم يستطع إتمامه أو عدل عنه فعليه أن يعيده، وتكون الإعادة واجبة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في عمرة القضاء؛ وعلى ذلك الرأي لَا تكون العمرة واجبة لعدم قيام الدليل على وجوبها، وليس في هذه الآية الكريمة ما يفيد الوجوب فهي لَا تفيد وجوب حج ولا وجوب عمرة، بل تفيد وجوب الإتمام إن شرع في أحدهما، وقد ثبتت فرضية الحجِ بآية أخرى، وهي قوله تعالى:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. . .).
وعلى هذا الرأي جمهور الفقهاء وجمهور التابعين وكثرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فهي على هذا الاتجاه سنة. وقد تأيد استنباط هؤلاء من الآية الكريمة بأقوال للنبي صلى الله عليه وسلم قد صحت عنه، وثبتت نسبتها إليه؛ وفوق ذلك فإن أركان العمرة تدخل في ثنايا أركان الحج؛ ولذلك ورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة "(1).
والقول الجملي أن فرضية الحج مجمع عليها؛ وأما فرضية العمرة ففيها خلاف، وقد فرض الحج في العام التاسع من الهجرة على أرجح الروايات.
وقد ذكرنا أن أول أركان الحج الإحرام، وأنه من الحج كتكبيرة التحريم بالنسبة للصلاة، ينوى به الدخول في الحج، كما ينوى بها الدخول في الصلاة؛ وإذا تم الإحرام على وجهه صار الشخص حاجا، فيلبس غير المخيط، ولا يحلق رأسه، ولا يقصر شعره، ويحرم عليه الصيد، وتحرم عليه النساء، كما يحرم على المرأة الرجال. . وهكذا يستمر في تلك الشعيرة المباركة حتى يتحلل من الإحرام بالذبح والحلق، كما يخرج المصلي من الصلاة بالتسليم.
(1) رواه مسلم: كتاب الحج - حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2127) عن جابر بن عبد الله، ورواه أحمد في مسنده (13918)، والدارمي (1778)، والترمذي (854) والنسائي (1525) وأبو داود (1628) وابن ماجه (3065).
والإحرام له ميقات من الزمان والمكان، فهو بالنسبة للزمان يكون في أشهر الحج، كما تبين، وفي المكان يكون في مداخل الحرم المكي، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الأمكنة لأهل كل جهة ومن وراءهم ويجيء عن طريقهم، فجعل لأهل المدينة ومن وراءهم قرية ذي الحليفة، ولأهل الشام ومن وراءهم كأهل مصر قرية الجحفة التي تقرب من قرية رابغ، ولأهل نجد جبل قرن، ولأهل العراق ذات عرق (1).
فإذا نوى الحج أحد من هذه الأماكن صار مُحْرِمًا تحرم عليه محرمات الحج؛ إلا أنه قد يعرض له ما يرخص له قطع الإحرام أو التحلل من بعض ما حرم عليه؛ وذلك في ثلاثة أحوال، اثنتان فيهما معنى الاضطرار، وثالثة فيها اختيار؛ فالأوليان حال الإحصار، وحال المرض؛ والثالثة حال التمتع، وقد ابتدأ سبحانه بذكر الأولى فقال:(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).
مادة الحصر في اللغة تدل على التضييق، ومن ذلك قوله تعالى في شأن القتال:(واحصروهم) أي ضيقوا عليهم، ولذلك أطلقت على الحبس. وقال سبحانه:(. . . وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا)، أي محبسا.
هذا موضع اتفاق بين علماء اللغة، ولكن الخلاف بينهم في الفرق بين الإحصار، والحصر؛ فقد قال الكسائي وأبو عبيدة وكثيرون من علماء اللغة: الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة، أي ما يكون الحبس فيه من ذات الشخص لا من أمر خارج عنه، والحصر هو حصر العدو، وعلى هذا يقال أحصره المرض، وحصره العدو، وقال الفراء: هما بمعنى واحد؛ فيقال حصره المرض وأحصره، وحصره العدو وأحصره، وقال الراغب الأصفهاني: إن الإحصار أعم من الحصر،
(1) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " وَقَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأهْلِ الْمَدينَة ذَا الْحُلَيْفَة، وَلأهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ الْجُحْفَةَ، وَلأهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقِ، وَلأهْلِ نَجْد قَرْنًا، وَلأهْلِ الْيَمًنَ يَلَمْلَمَ ". أَخرجه النسائي - ميقات أهل العراق (2608) وفي الصحيحين من رواية عبد الله بن عباس قَالَ: " إِنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأهْلِ الْمَدينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْل الشَّامِ انجُحْفَةَ، وَلأهْلِ نَجد قَرنَ المَنَازلِ، وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنّ ممَّنْ ارَادَ الْحَجَّ وَالعُمْرَةَ، وَمَنًْ كَانَ دُونَ ذَلكَ فَمِنْ حَيْثُ أنْشَأ، حَتَّى أهْلُ مكَّةَ مِنْ مكَّةَ ". [البخاري - مهلّ أَهل مكة للحج والعمرة (1427)، ومسلم - مواقيت الحج والعمرة (2022)].
فهو يستعمل للحبس بالعدو وبالمرض ونحوه، وأما الحصر فيستعمل في المنع من ذات الشخص بالمرض ونحوه فقط.
ولقد قال أبو العباس المبرد والزجاج: إن كليهما يكون للحبس بعمل العدو، وبالمرض ونحوه؛ ولكنهما مع ذلك مختلفان في المعنى؛ فالحصر معناه الحبس، والإحصار معناه التعرض للحبس والضيق، بالعدو أو المرض؛ كما يقال حبسه بمعنى أدخله في المحبس، وأحبسه بمعنى عرضه للحبس، وقتله بمعنى أوقع به القتل، وأقتله بمعنى عرضه للقتل، وقبره بمعنى دفنه، وأقبره بمعنى عرضه للدفن. وعندي أن هذا هو الفرق الدقيق الذي يكون بين الحصر والإحصار، فالفرق بينهما في معنى الاستعمال الدقيق؛ لَا في موضع الاستعمال.
وقد فصلنا القول ذلك التفصيل في هذا اللفظ، وانتهينا إلى ما انتهينا إليه؛ لأن الفقهاء اختلفوا في الحكم، وبنوا اختلافهم على اختلاف اللغويين في معنى اللفظ؛ فالحنفية قرروا أن الإحصار بالمرض أو بالعدو يسيغ التحلل بذبح الهدي، على أن يقضي الحج والعمرة من بعد إن كان الإحرام بعمرة؛ والمالكية والشافعية قرروا أن الإحصار في الآية لَا يكون إلا من العدو؛ أما المريض فإنه يستمر على إحرامه حتى يبرأ من مرضه، ويذهب إلى البيت فيطوف به سبعًا، ويسعى بين الصفا والمروة، وبهذا يتحلل من عمرته أو حجه؛ وقريب من ذلك قال المالكية؛ فإنهم يرون أيضا أن المريض لَا يتحلل بالذبح، بل ينتظر حتى يبرأ من المرض، فإن برئ وكان في استطاعته أداء الحج بأن يدرك وقفة عرفات أتم الحج، وإن لم يدرك كان مخيرًا بين أن يستمر على إحرامه حتى يؤدي من قابل، وبين أن يذهب ويتحلل بالطواف والسعي بين الصفا والمروة؛ وقد أخذوا ذلك الحكم من الآية الكريمة، إذ فهموا أن الإحصار لَا يكون إلا للعدو؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما منع هو وأصحابه من أداء الحج تحللوا بالذبح (1) وأما المرض فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بذاته أباح التحلل
(1) قَالَ ابْنُ عَباس رضي الله عنهما: قَدْ أحْصِرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فحَلَقَ رَأْسَهُ وَجَامَعَ نِسَاءَهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ حَتَّى اعتمَرَ عَامًا قَابِلا. [رواه البخاري: الحج - إذا أحصر المعتمَر (1681)].
المطلق، بل يرخص للمريض في بعض ما يحرم على المحرم، ولذلك فدية سنبينها. و " الهدى ": اسم جنس جمعي، وهو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء أو الياء المشددة، والمفرد هدية، والمراد ما يذبح من نحو الشاة والبقر والإبل، أي ما يذبح من النعم؛ والمطلوب أيسره، ولذلك قال سبحانه:(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ) والأيسر هو الشاة ونحوها.
واستيسر بمعنى يسر وتيسر، لأن الاستيسار واليسر بمعنى واحد، كاستصعب وصعب بمعنى واحد؛ ولكن يجب أن يلاحظ أن السين والتاء في استيسر ما زالتا تشيران إلى المعنى الأصلي لهما وهو الطلب، وقوله تعالى:(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ) على هذا المعنى يكون حثا للمكلف على أن يطلب اليسير السهل الذي يؤدي من غير كلفة ومشقة، لَا العسير الصعب الذي لَا يؤدي إلا بمشقة وجهد.
وإن ذلك سير على مبدأ الإسلام العام الذي يطالب دائما بالسهل اليسير، لا بالصعب العسير؛ ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبرت عائشة رضي الله عنها:" ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما "(1). ولقد كان صلى الله عليه وسلم يحث على طلب الرفيق من الأمور والتكليف، ويقول في دينه " أوغل فيه برفق "(2)، وينهى عن التشدد وطلب الشاق، ويقول:" لن يشاد الدين أحد إلا غلبه "(3)، ويقول:" سددوا وقاربوا "(4).
(1) عَنْ عَائشةَ رضي الله عنها أنَّهَا قَالَتْ: " مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا ". [متفق عليه؛ رواه البخاري: المناقب (3296)، ومسلَم: الفَضالْلَ (4294)].
(2)
عن أَنَس بْن مَالِكِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ هَذَا الدينَ مَتِين فَأوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقِ ". [أخرجه أحمد في مسنده (12579)].
(3)
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النبِي صلى الله عليه وسلم قالَ: " إٍنَ الدينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَاد الدينَ أحَد إِلا غَلَبَهُ؛ فَسَددُوا وَقَارِبُوا وَأبْشرُوا وَاسْتَعِينُوا بالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَة وَشىْءِ مِنْ الدُّلْجَة! \ ". [رواه البخاري: الإيمان - الدين يسر (38) والنسائي (4948)، قلَت: يشادّ: يكلفَ نفسه من العبادةَ فوق طاقتها. السداد: التوسط في العمل من غير إفراط ولا تفريط. قاربوا: اقتربوا من السداد والصواب فى أداء الطاعات. الغدوة: الخروج أول النهار، والروحة: الخروج آخر النهار، والدلجة: السير أول الليل، قيل: سير الليل كله. يعني: اغتنموا أوقات نشاطكم مع تحري أفضل الأوقات للعبادة قدر المستطاع.
(4)
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النبِي صلى الله عليه وسلم قالَ: " إٍنَ الدينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَاد الدينَ أحَد إِلا غَلَبَهُ؛ فَسَددُوا وَقَارِبُوا وَأبْشرُوا وَاسْتَعِينُوا بالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَة وَشىْءِ مِنْ الدُّلْجَة! \ ". [رواه البخاري: الإيمان - الدين يسر (38) والنسائي (4948)، قلَت: يشادّ: يكلفَ نفسه من العبادةَ فوق طاقتها. السداد: التوسط في العمل من غير إفراط ولا تفريط. قاربوا: اقتربوا من السداد والصواب فى أداء الطاعات. الغدوة: الخروج أول النهار، والروحة: الخروج آخر النهار، والدلجة: السير أول الليل، قيل: سير الليل كله. يعني: اغتنموا أوقات نشاطكم مع تحري أفضل الأوقات للعبادة قدر المستطاع.
هذه قاعدة الإسلام: طلب اليسير من الأمور دائمًا، واجتناب العسير ما لم يكن تكليفا كالجهاد في سبيل الله.
(وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) حلق الرأس أو تقصيرها شعار الانتهاء من الإحرام، والتحلل من تلك الشعيرة المباركة، كما أن السلام مظهر الخروج من الصلاة، وانتهائها، أو قطعها عند الاضطرار إلى قطعها. وقد بين الله سبحانه أن المحرم عند الاضطرار بالإحصار، يكون له التحلل بذبح الهدى، وتحري اليسير دون العسير؛ ولكن لَا يتم التحلل ولا يسوغ الحلق أو تقصير الشعر الذي هو مظهره إلا بعد أن يبلغ الهدى مَحِلَّه، ويذبح عند بلوغه محله.
و" المَحِلّ ": اسم زمان الحلول أو مكانه؛ فهو يطلق على الزمان والمكان، فيقال: بلغ الدَّيْن محِلَّه إذا حل وقت وفائه، وبلغ الأجل الذي يستحق فيه الأداء؛ ويقال: بلغ الشخص محِلَّه إذا وصل إلى المكان الذي يحل فيه.
وما المراد بالمحل في الآية؟ أيراد به اسم الزمان، أم يراد به اسم المكان؟ لَا شك أن اللفظ يحتملهما، فيحتمل الزمان والمكان، وإن كان في المكان أظهر، وأقرب ورودًا للخاطر؛ ولذلك كان لابد من السنة لمعرفة المراد يقينا، أو أن يستبين ذلك من آيات أخر؛ وقد قال الحنفية: إن المَحِل هو اسم مكان يراد به البيت الحرام، وقد تبين ذلك بالقرآن، فقد قال تعالى:(ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، والقرآن يفسر بعضه بعضا؛ وعلى ذلك لَا يصح للمحصر أن يحلق ويتحلل، حتى يصل الهدي الذي يرسله إلى البيت العتيق ويذبح؛ وقد تأيد ذلك بآية أخرى، وهي قوله تعالى:(هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ. . .)، ففيها التصريح بأن الهدي في الكعبة. وقد قال الجمهور إن مَحِل الهدي للمحصر هو المكان الذي كان فيه الإحصار، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية؛ فإن المِسْور بن مَخْرَمة يروى:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما منع من البيت الحرام في تلك السنة وعقد الصلح قال لأصحابه: " قوموا فانحروا ثم احلقوا "، فوالله ما قام رجل منهم، حتى قال ذلك
ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فقالت له: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لَا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك؛ ففعل؛ فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا " (1).
فهذا يدل على أن محل الهدي للمحصر هو حيث الإحصار؛ وإنه إذا كان ممنوعا فإن الهدى قد يمنع أيضًا. وقد أجاب الحنفية عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحرم لَا في الحل، فهو كان في محله؛ لأنه أحصر في طرف الحديبية القريب من مكة وهو من الحرم.
ولا شك أن رأى جمهور الفقهاء يتفق مع السنة النبوية، وفيه تسهيل على المحصرين، والمناسب لحالهم هو التيسير لَا التصعيب. ولا شك أن ذبحهم في المكان الذي أحصروا فيه أيسر كلفة؛ والصدقة لَا يتعين مكانها في الضيق، ولكن النص الكريم (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْي مَحِلَّهُ) لَا ينطبق تمام الانطباق على رأي الجمهور، إذا فسرنا المحل بالمكان؛ لأن البلوغ يقتضي مسافة بين المكانين؛ ولا ينطبق ذلك على مكان الحصر، بل ينطبق على مكان يكون فيه بلوغ؛ وإذا فسرنا المحل بالزمان تأتَّى معنى البلوغ بأن ينتظر المحصر حتى يجيء وقت الهدى وهو يوم النحر، ويكون بالغًا محله أي بالغا زمانه؛ وحينئذ لَا يتقيد المحصر بالمكان، ولكن يتقيد في الذبح بالزمان، وان زال الإحصار قبل زمانه، وأمكن الوصول إلى الحج في إبانه، فقد زال موجب الذبح، وتعين إتمام الحج.
(1) جزء من حديث طويل رواه البخاري: كتاب الشروط (2529) وفي أوله: عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ، فَخُذُوا ذَاتَ اليَمِينِ. . . إلى أن قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا» ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا. . . الحديث - ورواه أحمد في مسنده عنهما (18166).
ولقدا ذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) خطاب عام لكل المكلفين في هذه الشعيرة، لَا فرق بين محصر وطليق، وذي عذر وغيره؛ فهو بيان لوقت التحلل من الإحرام بشكل عام، وبيان لمكان الذبح بشكل عام وهو الكعبة؛ وإن لذلك الكلام وجاهته واستقامته؛ وهو تخريج يعاضد رأي الجمهور، لأن الكلام يكون في مكان الذبح العام، لَا في الإحصار، ومكان الذبح في الإحصار علم من السنة الصحيحة في الحديبية.
وقبل أن نترك الكلام في المحصرين ينبغي أن نبين مذهب الحنفية وغيرهم في قضاء الحج أو العمرة إذا أحصروا، فقد قال مالك والشافعي: إذا تحلل بالهدى فليس عليه قضاء إلا أن يكون الإحصار في الحجة الأولى، لأن الذبح قد أحله من إحرامه فلا قضاء عليه.
ْوقال الحنفية: إن عليه عمرة وقضاء ما أحرم به من الحج، فإن كان محرمًا بحج نفلا كان عليه عمرة، وعليه قضاء حجه، لأن القاعدة عندهم أنه إذا شرع في نفل ولم يتمه وجب عليه أن يعيده، لقوله تعالى:(وَلا تبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ. . .).
وإذا كان محرما بعمرة قضاها عمرة؛ لما تقدم، ولقوله تعالى:(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعمْرَةَ لِلَّهِ) فإن ذلك النص بعمومه يشمل حال من يشرع في حج أو عمرة، ولم يتمهما اختيارا أو اضطرارا.
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) بعد أن بين سبحانه أن مظهر الانتهاء من الإحرام هو الحلق أو تقصير الشعر، وتبين مما تقدم أن الحلق غير جائز في مدة الإحرام، أخذ سبحانه يبين حكم ما إذا تعذر أو تعسر على الشخص أن يستمر من غير حلق بأن اضطر إليه لمرض في جسمه أو رأسه استوجب الحلق ليدفع الضرر به، أو كان برأسه هوام تؤذيه وتجعل غيره يتقزز منه، وقد يصير به الشخص مصدر أذى لغيره، أو عدوى، كما هو مؤذ لنفسه، ففي هذه الأحوال يحل له الحلق، ولا يحل له سواه، لأنه لَا يتحلل بذلك من الإحرام، بل يرخص له في بعض محرماته ليدفع الضر عن نفسه وغيره، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام؛ فالكلام في الآية السابقة في الانتهاء من الإحرام قبل أداء الأركان لعذر
قاهر، والكلام هنا في الترخيص من بعض المحرمات من غير إنهاء الإحرام دفعًا للأذى من غير قهر.
والكلام السابق كان في الأمور التي تمنع من الوصول إلى البيت الحرام؛ أما الكلام هنا فهو قد يقع قبل الوصول إلى البيت الحرام أو بعده.
والترخيص في الحلق له فدية، وهي صوم، أو صدقة، أو نسك. والفدية هي العوض عن شيء عظيم جليل نفيس؛ ولا شك أن محرمات الحج والعمرة أمور لها جلالها وخطرها؛ لأنها مهذبات الروح والقلب، فهي نفيسة جليلة، وعبر سبحانه بالفدية ولم يعبر بكفارة؛ لأنه لَا ذنب ولا اعتداء، حتى يكون التكفير من الإثم. والنسك جمع نسيكة وهي الذبيحة، وتكون من النَّعَم: الإبل والبقر والغنم، ويستيسر ولا يستصعب كما هو الشأن في أمور الإسلام.
ولم يبين القرآن عدد أيام الصيام، ولا عدد المساكين الذين يطعمهم، ولا مقدار ما يتصدق به، كما لم يبين أهذه الأنواع الثلاثة في مرتبة واحدة أيها اختار كان فيه غناء، ولو كان قادرًا على أعلاها.
وإن السنة بيان القرآن قد فسرت ذلك وبينته، فقد قال صلى الله عليه وسلم لكعب ابن عُجْرة وقد رأى الهوام تتساقط من رأسه:(لعلك آذاك هوامك) قال: نعم يا رسول الله قال: " احلق وصم ثلاثة أيام، أو تصدق بفَرْق على ستة مساكين، أو انسك شاة "(1).
وفى رواية أخرى أنه قال: (احلق وأهد هديا)، فقال: ما أجد هديا، قال: أفأطعم ستة مساكين)، فقال: ما أجد، فقال:" صم ثلاثة أيام "(2).
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري: الحج - قول الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى. . .) أالبقرة! (1686)، ومسلم - جواز الحلق للمحرم (2083) وقد رواه الأئمة بنحو من ذلك.
(2)
عن كعب بن عجرة الأنصاري أنه حدنه أنه كان أهل في ذي القعدة وأنه قمل رأسه فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوقد تحت قدر له فقال له: " كأنك تؤذيك هوام رأسك؟ " قال: أجل، فال: احلق وأهد هديا، فقال: ما أجد هديا قال: " فأطعم ستة مساكين " فقال ما أجد فقال: " صم ثلاثة أيام ". [التمهيد ج 2 ص 233].
والفرق المذكور في الرواية الأولى هو مكيال يسع ما وزنه من البر نحو ستة عشر رطلا.
والحديث بروايتيه قد بين ترتيب الأنواع الثلاثة، فهي ليست بدرجة واحدة؛ وبين مقدار الصيام ومقدار الصدقة، والله عليم خبير.
(فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) بعد أن بين سبحانه وتعالى طريق الإحلال عند الإحصار، وطريق الإحلال الجزئي من بعض الحرمات عند المرض أو الأذى، بين الإحلال حال الأمن، فقال:(فَإِذَا أَمِنتُمْ) أي إذا زال خوفكم من العدو وعندكم فرصة الحج من عامكم هذا. والحكم الذي سيتبين من بعد يشمل حال الأمن المستمر، ولا يقتصر على الأمن العارض بعد الإحصار فقط؛ لأن الحكم إذا كان ثابتا للأمن العارض بعد الخوف، فأولى أن يثبت للأمن المستمر الذي لا خوف معه؛ أو نقول إن كلمة (أَمِنتُمْ) المراد بها ثبوت حال الأمن سواء أكان عارضا بعد ضده أم كان حالا مستمرة؛ فإن الماضي يدل في كثير من أحواله على الإخبار عن الحالات المستمرة.
والتمتع أصل معناه الانتفاع الممتد المستمر؛ مأخوذ من المتوع بمعنى الامتداد والارتفاع؛ والمراد هنا معنى إسلامي، وهو الجمع بين العمرة والحج في عام واحد على أن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج؛ فمعنى قوله تعالى (فَمَن تمتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أي فمن أحرم بالعمرة منتفعا بعبادته ونسكه إلى أن أحرم بالحج، فلكي يتحلل في إبان التحلل يذبح هديا. . إلى آخره. وسمي ذلك الجمع تمتعا؛ لأن المحرم يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد، فيحرم بالعمرة ويستمر فيها، وتلك متعة روحية، ويجوز أن يتحلل منها ثم يحرم بالحج، وتلك متعة جسدية، ثم هو يعتمر ويحج في سفر واحد، وتلك متعة مادية، من أجل ذلك سمي هذا تمتعا.
ولكي ينجلى الحكم المستفاد من الآية نقول إن الإحرام ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 -
إفراد: وهو أن يفرد بالحج، ولا يجمع معه العمرة في أشهر الحج من عامه، وقد يكون الإفراد بالعمرة؛ وإذا أفرد الحج لَا يحرم بها في أشهر الحج ويحج من العام.
2 -
قِران: وهو أن يجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد، أو يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وقبل أن ينتهي من أعمالها يحرم بالحج.
3 -
تمتع: وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج وبعد أن ينتهي من أعمالها يحرم بالحج؛ وقد يتحلل بنسك إذا لم يكن قد ساق الهدي عند إحرامه. وقد اختلف الفقهاء في أيها أفضل وأكثر مثوبة، وأرجى لرضا الله سبحانه؟ فبعضهم قال: إنه الإفراد، وأولئك هم الأقلون، وبعضهم قال: القِران، وهؤلاء هم الأكثرون؛ وبعضهم قال: التمتع، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، وفي كل منها فضل، وأساس الخلاف هو حج النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنه كان إفرادا، ولعله اختار ذلك ليكون قدوة للناس في طلب اليسير، ولكيلا يفهم أحد أن القِران أو التمتع فرض لازم؛ وروى أنه كان قِرانًا؛ وروي أنه كان تمتعا؛ وقد نقل القرطبي الجمع بين الروايات المختلفة، فقال:" من أحسن ما قيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ بعمرة فقال من رآه: تمتع، ثم أهل بحجة ققال من رآه: أفرد، ثم قال: " لبيك بحجة وعمرةً "، فقال من سمعه: قَرن.
وقبل أن نترك هذا يجب أن نقرر أمرين:
أحدهما: إن كلمة التمتع قد تطلق بمعنى يشمل القِران والتمتع، وهو المراد في هذه الآية الكريمة، وبذلك يمكن التوفيق بين الروايات التي تقول إنه تمتع، والتي تقول إنه قرن؛ والراجح أنه قَرَن.
ثانيهما: إنه روى أن عمر رضي الله عنه قد نهى الناس عن التمتع والقِران، وقد روى ذلك البخاري (1) وغيره؛ ولعله لم يفعل ذلك تحريما لما اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم وجاء به القرآن؛ بل فعل من قبيل السياسة العامة؛ لأنه رأى الناس يزدحمون في موسم الحج ويمكثون أمدا طويلا لجمعهم بين العمرة والحج في أشهره، ثم يخلو البيت من الناس طول العام؛ فأمرهم - سياسة لَا دينا - أن يفردوا بالحج ليعتمروا في أثناء العام، ويكون للبيت الحرام أفئدة من الناس تهوي إليه طول العام؛ ولم يوافق عمر أحد على ما رأى. والله أعلم بالصواب.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التحلل من الإحرام للمتمتع والقارن، فقال:(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي يطلب اليسير من النعم وهو الشاة، (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ). هذه هي العبادة التي تحل محل النسك، وهي الصيام، فقاصم العبادة الروحية مقام العبادة المالية؛ لأن كلتيهما تلتقيي عند غاية واحدة، وهي تهذيب النفس وإصلاح المجتمع؛ ولقد جعل الله سبحانه الصيام على مرحلتين:
إحداهما: وهي الأقل - تكون في الحج، وهي ثلاثة أيام؛ وذلك لأن الحج مشقة؛ فلكي يكون سهلا في أدائه على ذوي الفقر جعل أقل الصيام فيه، فلا يجمع بين مشقة الصيام ومشقة الحج، وهو سفر فيه مشقة.
(1) روى الأئمة أن عثمان بن عفان رضي الله عنه نهى عن التمتع والقِران، ومن ذلك ما رواه البخاري: عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحكَم قَالَ: " شَهِدْتُ عُثْمَانَ، وَعَلِيًّا رضي الله عنهما وَعُثْمَانُ «يَنْهَى عَنِ المُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا» ، فَلَمَّا «رَأَى عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا، لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ» ، قَالَ:«مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ» [البخارى: الحج - التمتع والإقران والإفراد بالحج (1461)].
أما عمر فقد روى النسائي عَنْ ابْنِ عَباس قَالَ: (سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: وَاللهِ إِنًى لأنْهَاكُمْ عَن الْمُتْعَةِ وَإِنًهَا لَفِى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَقَدْ فَعَلَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. يَعْنِي الْعُمْرَةَ فِى الْحَجً ". قلت: يعني أنه لم يقصد بذلك النهي مخالفة الكتاب والسنة إلى غيرهما، وإنما أمر بالإفراد، وهو من أنواع الحج المعتبرة بالكتاب والسنة؛ لما رأى في ذلك مصلحة المسلمين. فهذا اجتهاد عمر وعثمان وعلي وكلهم مهديون راشدون رضي الله عنهم.
والمرحلة الثانية: وهي الأكثر، بعد العودة إلى أهله حيث يطمئن ويستقر، وتذهب مشقة السفر، فيصوم سبعة أيام.
وقد اتفق العلماء على أنه لَا يصوم السبعة الأيام قبل الانتهاء من الحج؛ ولكن اختلفوا أيجوز القيام بها بعد الانتهاء وقبل العودة؟ فقال فريق: إنه لَا يجوز إلا إذا رجع، مستمسكا بحرفية النص لَا يتجاوزها، وقال بعضهم: يجوز بمجرد الانتهاء من الحج أن يصوم؛ لأن التأخير إلى الرجوع إلى الأهل ترخيص وتسهيل، فمتي سهل عليه أن يصوم صام؛ ما دام ذلك بعد الحج.
ولقد قال سبحانه وتعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ليتقرر الحكم نصًا؛ وليتبين أن الذي يحل محل النسك هو العشرة الكاملة لَا بعضها؛ ولكي لَا ينسى الناس صوم السبعة الأيام إذا عادوا إلى أهلهم حاسبين أن حجهم قد تم، بل عليهم أن يفهموا أن الحج لم يتم حتى يصوموا.
(ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي أن التمتع بنوعيه من قِران يجمع فيه الحج والعمرة في إحرام، أو تمتع يجمع به بينهما في أشهر الحج، لمن لم يكن أهله مقيمين في مكة وما حولها؛ فإن أولئك يفردون ولا يجمعون؛ لأن العمرة في إمكانهم في طول العام، وهذا ما يقرره فقهاء الحنفية.
وقال الشافعية: إن أهل مكة وما حولها يقرنون ويتمتعون كغيرهم من أهل الآفاق، والإشارة في قوله:(ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إنما هي للنسك وما يقوم مقامه، وذلك لأن الإشارة لأقرب مذكور؛ أي أن هذا الإهداء يكون على أهل الآفاق، لَا على أهل البيت الحرام؛ لأنهم بوادٍ غير ذي زرع، كما ذكر إبراهيم عليه السلام في دعائه.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة التي كانت فيها الإشارة إلى أعمال الحج ونسكه وشعائره بالأمر بتقواه للإشارة إلى أن الاعتبار في أعمال الحج لَا يكون لما تعمله الجوارح، وما تقوم به من أفعال، إنما العبرة في ذلك إلى أثرها في القلوب، فإن أوجدت رحمة بالعباد، ورهبة
من الخلاق، وتقوى من الله، فقد أديت على وجهها إذ خلصتا النية، واستقامت الإرادة؛ وإن لم تؤد إلى تقوى الله والرحمة بعباده فقد خالطها رياء ولم تخلص النية، وحق العقاب؛ ولذا قال سبحانه:(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ليلقي في نفوس الناس الرهبة من عقابه حال رجاء ثوابه، والناس يصلحون بالثواب والعقاب، حتى إذا علت المدارك وقويت الروح كان الثواب رضا الرحمن؛ ولذا قال سبحانه بعد ثواب المؤمنين:(وَرِضوَانٌ منَ اللَّهِ. . .).
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) قد بين في الآية السابقة بعض أحكام الحج، وفي هذه الآية الكريمة يبين ميقاته، وما ينبغي للمؤمن في وقت حجه.
وقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلُومَاتٌ) أي وقت الحج أشهر معلومات، وإنما جعلت النسبة إلى الحج نفسه، لَا إلى وقته، فكأن الإسناد إليه - للإشارة إلى أن هذه الأشهر لأنها ميقات تلك العبادة المقدسة، تكتسب تقديسًا منها، وكأنها هي.
والأشهر المعلومات اتفق على أن منها شوالا وذا القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة؛ واختلف في العشرين الأخيرة أهي منها أم ليست منها؟ وعلى أنها ليست منها الأكثرون والصحاح من الروايات.
وإن هذه الأشهر سميت أشهر الحج؛ لأن أركانه تستوفى فيها، وتؤخذ الأهبة له فيها، ويحرم به فيها؛ ولكن قال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يصح الإحرام بالحج قبلها؛ وذلك رأي جمع من التابعين؛ ورأى الشافعي تابعًا لبعض الصحابة والتابعين أن الإحرام بالحج لَا يكون إلا في أشهره، كما أن نية الصيام لَا تكون إلا في رمضان، وكما أن نية الصلاة لَا تكون إلا وقت أدائها؛ وإن ذلك هو ما يشير إليه قوله تعالى (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) إذ جعلهن وعاء الفرض وظرفه.
ومعنى فرض الحج فيهن الإحرام به؛ فإذا أحرم بالحج نزه نفسه ولسانه عن كل قول يؤدي إلى نزاع؛ ولذا قال سبحانه: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ). وقد فسر بعض العلماء الرفث بما يكون بين الرجل والمرأة؛ والفسوق بالخروج عن
محظورات الحج، كلبس المخيط والحلق من غير رخصته، والصيد، وغير ذلك مما حظر الله سبحانه. والجدال هو المماراة.
وقد فسر بعض العلماء الرفث بأنه النطق بالفحش مما يكون بين الرجل والمرأة وغيره؛ والفسوق بالسباب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر "(1). والجدال: المماراة والمنازعة.
وعندي أن مرمى القول الكريم هو النهي عن كل قول يجعل اللسان غير نزه، وكل قول يؤدي إلى النزاع، والجدال يؤدي إلى الخصام؛ لأنهم اجتمعوا على مائدة الرحمن الروحية ليتعارفوا، وليتلاقوا، وليقوى اتحادهم، ويعتزوا بعزة الله، فيجب اجتناب كل ما يؤدي إلى النزاع والخصام.
(وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) وإذا كنتم قد تنزهتم في حجكم عن كل شر فاعلموا أنكم اجتمعتم لعمل الخير، فتنافسوا فيه، وتبادلوا النفع، وليتعرف الشرقي حال الغربي، واعملوا على ما يقوي جمعكم، ويزيل الضر عنكم، ويدفع عنكم كيد الكائدين؛ فإن الحج الذي يزكي نفوسكم لَا يثمر ثمرته، ولا ينتهي إلى غايته، إلا إذا اعتبرتموه المؤتمر الأكبر لدولتكم، والمجتمع الأعظم لممثلي أمتكم؛ وإن الوادي المقدس هو ناديكم الذي اجتمعتم فيه؛ واعلموا أن خيركم محسوب لكم (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) سبحانه، فيعرف المحسن والمسيء، وحسب المحسن فضلا أن يعرف الله فضله، وأن يكون عنده من الأخيار الأبرار، وأن يكون عمله مقدورًا من ربه، مذكوراً عنده؛ ثم إنه يجازي الإحسان إحسانا، وما عنده خير وأبقى.
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) التزود هنا معنوي نفسي، لَا مادي مالي؛ فالتزود: الإكثار من التقوى، وتهذيب النفس، وإشعار المؤمن بمودة المؤمن، وتوثيق العلاقة به، والتحاب على مائدة الرحمن، وتحت سلطان الديان. والدليل على أن الزاد معنوي لَا مادي قوله سبحانه من بعد معللا
(1) متفق عليه؛ رواه - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه البخاري: الإيمان - خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لَا يشعر (46) ومسلم: الإيمان - سباب المسلم (97)].
لطلبه، مثبتًا الحكمة من أمره:(فَإِن خَيْرَ الزادِ التَقْوَى) ففي الكلام استعارة، وهو تشبيه التقوى والمودة والمحبة والإخلاص الذي يملأ قلب الحاج بالزاد المادي؛ لأن الأول غذاء القلوب، كما أن هذا غذاء الأجسام.
ولقد قال بعض العلماء إن التزود مادي، وهو نهي للحجاج الذين لَا يتزودون في حجهم ويتكففون الناس، وقد كان يفعل ذلك أهل اليمن فنهوا عنه.
ولكن المعنى الواضح من الآية هو الأول؛ ولذلك أردفت الآية بالأمر بالتقوى أمرًا عاما فقال سبحانه: (وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) أي اتخذوا من عمل الخير واجتناب الشر، والقيام بالطاعات والامتناع عن المنهيات وقاية من غضبي، وخص ذوي الألباب بالنداء، وهم ذوو العقول المدركة الواعية للإشارة إلى أن من لَا يتقى الله ليس عنده لب يدرك، ولا قلب يعي، ولا إرادة تعمل على مقتضى العقل والحكمة. إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار، والله سبحانه وتعالى هو العليم الخبير.
* * *
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
* * *
هذه الآيات الكريمات في ذكر بقية مناسك الحج، وقد ابتدأت الآيات السابقة " فذكرت ابتداءه، وأشارت إلى انتهائه، وكيف يكون الانتهاء، وفي هذه الآية بيان أو بالأحرى إشارة إلى ركن الحج الركين الذي يفوت الحج بفواته، وهو الوقوف بعرفات. فهذه الآيات وما سبقها في موضوع واحد.
وقد انتهت الآية السابقة بأن الحاج عليه أن يتزود من المعاني الروحية؛ لأنها لب الحج ومعناه، وغايته ومرماه:(فَإِن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى). وقد ابتدئت هذه الآيات ببيان أن التزود الروحي لَا يتنافى مع بعض الأغراض المادية، إذا توافرت التقوى، وتسامت النفس وعلت قوة الروح، فإن المادة في هذه الحال تكون مطية الروح، وفي خدمة المبادئ الفاضلة؛ فليست التقوى في الإسلام هي التجرد النفسي، والانخلاع من دواعي الجسم أو تعذيب الجسم لتطهير الروح؛ إنما التقوى في الإسلام تقوية الروح لتسيطر على الجسم، وتقوية الجسم ليؤدي مقاصد الروح، ويصل إلى غاياتها ومراميها؛ ولذلك أردفت الآية الداعية إلى طلب الزاد الروحي من التقوى بالآية التي تنفي الإثم عن مطالب الجسد، ما دامت خاضعة لقوة الإرادة والعقل؛ لأن المادة