المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقد أخطأ بعض المفسرين المحدثين، فذكر أنه يحتمل أن المراد - زهرة التفاسير - جـ ٢

[محمد أبو زهرة]

الفصل: وقد أخطأ بعض المفسرين المحدثين، فذكر أنه يحتمل أن المراد

وقد أخطأ بعض المفسرين المحدثين، فذكر أنه يحتمل أن المراد من (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) أن التابوت كان في شكل صندوق تحمله تماثيل كانوا يسمونها الملائكة من حيث إنها صورة ملائكة في خيالهم. إن ذلك خطأ مبين، وإن ذكر في التوراة الحاضرة! لأن القرآن الكريم الذي حارب الوثنية وذرائعها لَا يتفق مع منطقه أن تسمى التماثيل ملائكة، ولو كان في ذلك مجاراة لتعبيراتهم، ولا يصح أن يفسر القرآن بما لَا يتفق مع منطقه ويخالف اتجاهاته ومراميه.

(اٍنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ) ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه العبارة السامية، لبيان أن عليهم أن يخضعوا لإمرة طالوت بعد أن تبين لهم اختيار الله له، واصطفاؤه؛ والمعنى: إن في عناية الله سبحانه وتعالى بكم، من إعادته التابوت شارة عزكم - لآية لكم وعلامة توجب عليكم أن تخضعوا، ولا تتململوا، ولا تتمردوا إن كنتم مؤمنين. أي إن كان شأنكم أن تؤمنوا بالحق، وتذعنوا إذا علمتموه.

وهذا التخريج على اعتبار أن هذه الجملة السامية من كلام بني إسرائيل لهم، فهي تبين وجوب الطاعة عليهم بعد هذه البينات.

ويحتمل أن الخطاب في هذه الجملة السامية للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون المعنى: إن ذلك القصص الحكيم، وتلك العظات البالغة لآية، أي لأمارة تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدعوكم إليه، وأنه يتحدث عن ربه؛ لأنه وهو النبي الأُميّ الذي لم يقرأ كتابًا، ولم يجلس إلى معلم ولم يلقن أي علم من أي طريق قد ساق إليكم تلك الأخبار الصادقة، فهي آية من آيات نبوته إن كان من شأنكم الإذعان للحق إن بدت آياته وظهرت بيناته.

* * *

ص: 898

(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ

(249)

تولى طالوت إمرة بني إسرائيل، وقيادة جيوشهم، وتقدم بهم للانتصاف ممن أرهقوهم وأذلوهم، فخرج بهم من هدوء الاستخذاء والاستكانة إلى ميدان الجهاد. و " فصَل " معناها انفصل، وقد قال في ذلك الزمخشري: (فصل عن موضع كذا إذا انفصل عنه وجاوزه،

ص: 898

وأصله فصل نفسه، ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي " انفصل "، وقيل فصل عن البلد فصولا، ويجوز أن يكون فصله فصلا، وفصل فصولا، كوقف وصد، ونحوهما، والمعنى انفصل عن بلده) ويستفاد من هذا النقل أن فصل تستعمل لازمة ومتعدية عند بعض اللغويين، وعند الأكثرين هي متعدية أجريت مجرى اللازم لكثرة حذف المفعول.

ولما خرج طالوت بجند بني إسرائيل قال لهم (إن الله مبتليكم) أي مختبركم " بنهر " وهو بالفتح والسكون لغتان فيه، والنهر: المجرى الواسع الذي يجري فيه الماء، مأخوذ من نهر الأرض بمعنى شقها شقًا واسعًا.

وما نوع الابتلاء؟ أهو ابتلاء لمعرفة مقدار طاعة جنده، لأنهم بايعوه وما أرادوا، وقبلوا ملكه وما كادوا يفعلون، فأراد قبل أن يخوض غمار الحرب أن يعرف من أذعن ورضي فيقاتل به؛ لأنه يكون كنفسه، ومن كان في قلبه ذرة من التمرد أو عدم الإذعان القلبي، فإنه ليس له به حاجة. والنصرة في الجيش باتحاد القلوب والقوة المعنوية، وحسن الطاعة للقيادة، فجند قليل متحدة أهواؤهم ينتصرون بعون الله. على ذلك جمهور المفسرين.

ويصح أن يكون المراد بابتلاء الله لهم أنهم يفصل بينهم وبين أعدائهم نهر، وقد وصلوا إليه مجهدين من العطش والتعب، فخشي أنهم إن مكثوا حوله، وملئوا مزاداتهم وبطونهم واستراحوا واستجموا، أحس بهم أعداؤهم، فاجتازوا النهر إليهم، وأبعدوهم عنه، فأراد طالوت أن يأخذ عدوه بالجولة الأولى المفاجئة، فيجتاز النهر قبل أن يحسوا به، وإن اجتازوه صار النهر في قبضتهم يشربون منه ما شاءوا من غير حاجة إلى التزود، وكانوا هم على الماء، وعدوهم أسفل منه.

هذا احتمال قريب لَا ينافيه نسق القرآن الكريم، ويتحقق فيه مَعنى الابتلاء الشديد؛ لأن كونهم بجوار الماء بعد جهد وعطش، ولا يأخذون منه إلا غرفات تذهب بالعطش من غير شبع وتزود منه، هذا بلا شك ابتلاء من الله، ويتحقق فيه أيضًا معنى الاختبار للطاعة، وهو يتفق مع الخطط الحربية؛ لأن الفجاءة في الحروب

ص: 899

سلاح يقتل ويفرق الجمع، ثم فيه اختبار لعزائمهم وقوة إرادتهم فوق اختبار طاعتهم.

(فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أي فمن شرب منه متزودًا مستجمًا حوله مستبردًا بمائه مستمتعًا به مستنيما إلى الراحة بجواره (فَلَيْسَ مِنِّي) أي فليس في قيادتي، بل هو خارِج على طاعتي، وليس معنا في هذا الجهاد المتعب في أوله، والمثمر في آخره؛ (ومن لَّمْ يَطْعَمْهُ) أي لم يذقه (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غرْفَةً بِيَدِهِ) أي أنه لم يذق من ماء النهر إلا بقدر اغترافه بيده ما يبل عطشه، وينقع غلته، ويدفع حاجته العاجلة من الماء أي فمن لم ينل من ماء النهر إلا بهذا القدر (فَإِنَّهُ مِنِي) أي معي في جندي، وهو في سلطان قيادتي، وله معي غب النصرة وفخار الانتصار.

والاغتراف هو الأخذ من الشيء باليد، والغرفة مقدار الماء الذي يغترف باليد.

وهنا بحث لفظي نبه إليه الزمخشري، وهو تقديم جواب الشرط على الاستثناء من الشرط، فقد قال:(وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّه مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً) وكان التأليف المعهود للناس أن يقال: (ومن لم يطعمه إلا من اغترف غرفة بيده فإنه مني) ولكن النص السامي جاء بتقديم الجواب على مستثنى الشرط لحكمة بليغة، وهي المسارعة إلى الحكم بالاتصال؛ وإثبات أن أساس الصلة التي تربطهم ألا ينالوا من الماء، ثم رخص لهم في الغرفة بيد لنقع الغلة، وذلك ليقللوا ما كان في طاقتهم التقليل؛ لأنهم إن استرسلوا في أخذ الماء لَا يقفوا عند القليل، بل ينالوا منه الكثير.

(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهمْ) لم تكن نتيجة ذلك الامتحان الذي اختبرت فيه حكمتهم، وطاعتهم، وعزيمتهم تتفق مع رغبتهم في العزة بدل الذلة، فلم ينظروا إلى المآل بدل الحال، لم يصبروا على التعب الوقتي بالعطش ليفاجئوا عدوهم في عقر داره، وما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، ولم يطيعوا قائدهم الحكيم، والطاعة أساس الجندية؛ ولم يستحصدوا بعزائمهم فلا يستنيموا إلى الراحة قبل وقتها.

ص: 900

ولذا قال تعالى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلًا مِّنْهمْ) أي فشربوا منه وكرعوا واستراحوا حوله واستجموا قبل أن يجيء وقت الاستجمام، إلا قليلا منهم ربط الله على قلوبهم؛ وبذلك لم يطيعوا ولم يصبروا، ولم يجمعوا عزمهم متحملين التعب العاجل، في نظير النصر والظفر الآجل.

ولقد قرأ أُبي والأعمش " إلا قليلٌ " ومن المعروف أن المستثنى بعد الكلام التام الموجب يكون المستثنى منه منصوبًا، فما وجه الرفع هنا؟ قالوا: إن معنى " فشربوا " أنهم ليسوا منه؛ لأنه تبين الارتباط اللازم بين الشرب، وكونهم ليسوا منه، فقد قال تعالى:" (فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) فالمعنى إذن؛ فليسوا منه إلا قليل منهم "؛ فقراءة الرفع إيماء بليغ بمقتضى المنهاج العربي إلى تضمن فشربوا معنى فليسوا منه المصرح بها سابقًا. ولقد قال في ذلك الزمخشري: " قرأ أُبي والأعمش إلا قليل بالرفع، وهذا مع ميلهم إلى المعنى، وإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى فشربوا منه: فلم يطيعوه، حمل عليه، كأنه قيل فلم يطيعوه إلا قليل منهم ".

وإن لذلك فائدة بلاغية هي أنه كما قلنا إيماء إلى النتيجة المقررة للشرب، وكأنه تصريح بها، وهي أنهم ليسوا منه وقد انقطعت الصلة بينهم وبينه، فصاروا في ضفة من النهر مستريحين مستنيمين إلى هوى النفس، وطالوت ومن معه قد صاروا في الضفة الأخرى، قد فاجئوا العدو وحالوا بينه وبين الماء؛ ولذا قال سبحانه من بعد:(فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ) اجتاز طالوت النهر مع الذين صبروا على العطش والتعب، ولم ينالوا من الماء إلا ما يدفع العطش المميت؛ ولقد عبر سبحانه عن أولئك الصابرين الطائعين المدركين بقوله تعالى:(وَالَّذِينَ آمَنوا مَعَهُ) للإشارة إلى أن الإيمان بالله والإذعان له سبحانه هو السبب في طلبهم العزة، وتحملهم المشاق في سبيلها، والصبر على المتاعب لنيلها، والطاعة لمن اصطفاه الله وليا لأمرهم، ومدبرا لشئونهم، وقائدًا لهم في ميدان العزة والكرامة.

ص: 901

والضمير في قوله تعالى: (قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجنُودِهِ) يحتمل أن يعود على بعض الذين اجتازوا النهر، ويحتمل أن يعود على الذين استناموا للراحة ولم يجتازوا النهر.

وعلى الأول يكون المعنى: إن الذين اجتازوا النهر، وهم الطائعون الصابرون المعتزمون كانوا فريقين: فريق هاله العدو وكثرته، فاعتراهم الخوف، وقالوا: لَا طاقة لنا اليوم بجالوت (وهو قائد جيش العدو) وجنوده؛ وفريق آخر لم تأخذ فؤاده الكثيرة ولم يذهب قلبه شعاعا، وهم الذين قال سبحانه وتعالى عنهم:(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ). وكأنه على هذا التخريج يكون بنو إسرائيل مراتب ثلاثًا: أولاها وأدناها: أولئك الذين ارتضوا بالعصيان وخالفوا أمر قائدهم؛ والثانية: أولئك الذين اجتازوا النهر وأطاعوا، ولكن هالتهم الكثرة الكاثرة، وحسبوها الكارثة؛ والمرتبة العليا هم أولئك الذين آمنوا بلقاء الله تعالى، وفضلوا الباقية على الفانية، وباعوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى.

وعلى أن الضمير في " قالوا " يعود على الذين لم يجتازوا النهر، يكون المعنى: إن الذين استناموا للراحة، وآثروا العصيان تقاولوا فيما بينهم وقالوا لَا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، أي أننا في حاجة إلى الراحة اليوم وإذا نلنا حظنا من الاستجمام والماء فقد يكون اللقاء. وأما الفريق الذين اجتازوا النهر، فقد وجدوا أنفسهم قلة قليلة أمام جموع كثيرة، وقد تخلف من إخوانهم الأكثرون، وقعدوا في الضفة الأخرى مخالفين، ولكنهم مطمئنون إلى نصر الله وتأييدهم وقد آمنوا بالآخرة فطلبوا الموت لينالوا الحياة، كما قال الصدِّيق خليفة رسول الله:(اطلب الموت توهب لك الحياة) وقالوا: (كم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ).

ومعنى لَا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده: لَا قدرة لنا اليوم على ملاقاة جالوت وجنوده، ولو بتحمل أقصى المشقة؛ إذ الطاقة معناها أقصى ما يبذل من مشقة لحمل الأمر، وإذ انتفى ذلك فمعناه أن الأمر مستحيل بالنسبة لقُدَرهم، وهذا

ص: 902

هو ما يصوره الضعف والاستخذاء، واستمراء الذلة والضعة والهوان. ولأن القائلين لذلك القول فيهم هذه الصفات، نرجح أن الضمير يعود على الذين لم يجتازوا النهر ورضوا بالمقام مع العصيان.

فهذا قول الذين عصوا وذلوا، أما قول الآخرين فقد حكاه الله تعالى بقوله:(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) الظن هنا بمعنى العلم القطعي الجازم؛ لأن شأن المؤمن أن يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر إيمانًا قاطعًا جازمًا لَا شك فيه، وإنما عبر عن العلم اليقيني في هذا المقام بلفظ الظن لسببين:

أحدهما: أن اليوم الآخر مغيب غير محسوس.

وثانيهما: أن الظن يتضمن معنى الرجاء، ورجاء لقاء الله سبحانه وتعالى راضيًا عن فعل العبد يدفعه إلى العمل والجهاد في سبيله، وبيع النفس في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى.

ووصف أولئك الثابتين الصابرين الذين أرادوا العزة فافتدوها بأنفسهم وأعظموا الفداء بأنهم الذين يظنون أنهم ملاقو الله، بيان للباعث القوي الدافع للرضا بالفداء، والصبر على البلاء، وذلك لأن الإيمان بلقاء الله يجعل المرء يستهين بكل ما ينزل به في الدنيا، لأنه مهما يكن مقداره، تعب ضئيل في مقابل نعيم مقيم يوم القيامة، ولأنه مهما يكن ما يلقاه من عنت في الدنيا لَا يعد شيئًا مذكورًا في نظير لقاء الله تعالى راضيًا عنه، متقبلا لأعماله، فذلك الرضوان دونه الدنيا كلها بحذافيرها.

وإذا كان المؤمن بلقاء الله المستشعر لعظمته يستهين بكل ما في الدنيا ومن فيها، فهو مستهين بعدوه مهما تكن كثرته؛ ولذلك قالوا:(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) الفئة: الجماعة المتعاونة المتساندة التي يفيءَ بعضها إلى بعض، ويظاهر بعضها بعضًا، والمعنى كم من مرات كثيرة غلبت جماعة متعاضدة قليلة العدد جماعة كثيرة العدد، لقوة إيمانهم بالله وبحقهم.

ص: 903

وفى هذا إشارة إلى أن من أسباب النصر ألا يؤخذ الخصم بقوة خصمه بأكثر من أن يستعد له ويأخذ الأهبة للقائه؛ أما إن هاله أمره فإنه لَا محالة مغلوب؛ لأن القوة المعنوية ذخيرة فوق العدة والسلاح، ولا تكون القوة المعنوية لقوم يرهبون لقاء عدو الله وعدوهم، بعد أن اتخذوا الأهبة، واختار الله سبحانه وتعالى لهم القيادة الرشيدة، ذات الرأي السديد؛ والمنهج الحميد.

(وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ختم الله سبحانه وتعالى الآيات التي تفيد الاستعداد للقتال بتهيئة النفوس، واتخاذ سلاح المفاجأة أول سلاح يرفع ضد الأعداء - ببيان سلاح آخر هو أمضى الأسلحة التي تغالب الزمان، وتناضل الحدثان، وهو الصبر، فقال سبحانه:(وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين) أي أن على الذين يتقدمون للجهاد في سبيل الله أن يدرعوا بالصبر، ويجعلوه أخص صفاتهم، ويستمسكوا به؛ فإن الله سبحانه وتعالى مع الصابرين. والمصاحبة الكريمة التي أفاض الله بها على الصابرين فقال:(وَاللَّه مَعَ الصَّابِرِين) هي مصاحبة النصرة والتأييد والتوفيق. فالله جل جلاله، وعظمت قدرته، مع الصابرين، ومن كان الله معه فهو منصور، فإنه هو نعم المولى ونعم النصير.

* * *

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

* * *

ص: 904

اجتاز المؤمنون الصابرون النهر، وجمعوا عزائمهم في عزيمة واحدة، وقدروا النصر مع قلتهم وكثرة عدوهم، لأن الإيمان بالحق وحده عدة هي أقوى عدد الجهاد، وبهذه النفوس المؤمنة المتوثبة المفوضة أمورها لرب العالمين، تقدموا للقاء الأعداء، ولم يغرهم بالله الغرور ولم يفرضوا أن قوة البدن والسلاح والشعور بالحق وحدها كافية للنصر بل لابد من تأييد الله، ولذا قال سبحانه في وصفهم في ميدان القتال:

ص: 905

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أي أنهم خرجوا إلى الأرض الفضاء المتسعة التي تتلاقى فيها القوي المناضلة، فـ " برزوا " معناها خرجوا إلى البراز، أي الفضاء المتسع المترامي الأطراف، وكان بروزهم وظهورهم لقويٍّ جبار غالب، ومعه جند مدرب تعوَّد الانتصار في الماضي، وأذاق بني إسرائيل من الذل أكؤسا، ذلك هو جالوت وجنوده.

وذكره بالاسم ومعه جنوده للإشعار بأن المؤمنين لاقوا جماعة موحدة منظمة، لها فوق كثرة العدو والعدد قوة النظام وتوحيد القيادة وقوة الانتصار في الماضي والغلب عليهم. ولكن التعبير يشعر مع ذلك بأمر آخر قد يكون من أسباب الضعف مع هذه القوة وهو أنهم جند لشخص واحد، يعملون لغايته بمصلحته وسلطانه، بل شهواته ورغباته، فهم لَا يعملون لأنفسهم وجماعتهم، بل يعملون لملكهم، وكأنهم مع دربتهم وقوتهم وغلبهم مسخرون لإرادة شخص وهواه، وذلك من أسباب ضعف الإرادات، وعدم الصبر عند الشدائد، وهكذا حكم الواحد المستبد، يحمل في داخله دائما عوامل ضعفه مهما يكن فيه من توحيد وتنظيم للقوى وجمع للقيادة، وذلك يكون إذا كان حكم الفرد صالحا، ولم يكن فسادًا غاشمًا وطغيانًا آثمًا.

عندما التقى المؤمنون الصابرون من بني إسرائيل بعدوهم، هالهم أمره، وهالهم أمر قائده، ولكنهم كانوا مستولين على قلوبهم، مؤمنين بالنصر أن أخلصوا

ص: 905

في أمرهم، وشروا أنفسهم لربهم؛ ولذلك اتجهوا إليه بعد أن أخذوا الأهبة، فدعوه ضارعين بثلاث عبارات مفوضة تفيد إدراك أسباب النصر:

أما الدعاة الأول فهو: (قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) يقال أفرغ الإناء: صب ما فيه من ماء، وأفرغ الدلو على نفسه: صب ما فيه من ماء على نفسه، فمعنى أفرغ علينا: أفض علينا صبرًا يعمنا في ظاهر جمعنا، وفي خاصة نفوسنا. فالتعبير بـ " أفرغ علينا صبرا " فيه استعارة تمثيلية شبه فيه حالهم والله سبحانه وتعالى يفيض عليهم بالصبر يظهر في جماعتهم مجتمعة وفي الأفراد منفردين بحال الماء يفرغ على الجسم فيعبه كله، يعم ظاهره ويتسرب إلى باطنه، فيلقي في القلوب بردًا وسلامًا، وهدوءًا واطمئنانًا.

وصدروا الدعاء بالنداء " ربنا " أي خالقنا ومنشئنا ومربينا ومميتنا، وفي ذلك إشعار بأنهم دعوا مجيبا، وضرعوا إلى قادر غالب، وإلى منشئ موجد، فهو قادر على أن يأويهم بالصبر، ويغنيهم به عن نقص العدد.

وابتدءوا بالدعاء بالصبر؛ لأن الصبر هو عدة القتال الأولى، وهو ذخيرة المؤمنين وبه ضبط النفس فلا تفزع، وبه يجتمع قلب الشجاع فلا يجزع. والانتصار في القتال بصبر ساعة، والصبر عند اللقاء الأول هو الذي تتبدد به قوى العدو مهما تكاثرت؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنما الصبر عند الصدمة الأولى "(1).

والدعاء الثاني الذي ضرعوا إلى ربهم فيه قولهم: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)، وهذا كناية عن أن يمنحهم سبحانه وتعالى الثبات في الزحف وعدم الفرار في النزال، فمعنى:(وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)، أي ثبتنا، ومكنا من عدونا، ولا تمكن عدونا منا، ولا تجعل للفرار سبيلا إلى قلوبنا، فالتعبير بقوله:(وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)، تعبير بالجزء وإرادة الكل؛ لأن الأقدام هي التي يكون بها الفرار، فتثبيتها إبعاد للفرار بثبات أداته وعدم تحركها إلا إلى الأمام، وأن الثبات مظهر الصبر، وذريعة النصر بل مظهر القوة،

(1) رواه البخاري: (1203): الجنائز - زيارة القبور، ومسلم (1534): الجنائز - الصبر عند الصدمة الأولي.

ص: 906

وعنده تتحطم قوى العدو، وتتفرق كلمته إذا لم يكن محاربًا في سبيل حق، بل كان يقيم الظلم ويؤيد الباطل.

والدعاء الثالث، وهو قولهم:(وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وإن إجابة هذا الدعاء هو تحقيق لثمرة الصبر والثبات، وكان الدعاء بتحقيقه للإشارة إلى أن الأمور كلها بيد الله، وإن أولئك المؤمنين الصابرين الثابتين كانوا يأخذون بالأسباب، ثم يفوضون الأمور إلى الله مسبب الأسباب معتقدين أنه مهما يتحقق السبب ولا تكون المعونة الإلهية، والتوفيق الرباني، والتأييد من القوي الجبار - فلن يكون الانتصار، وأن الجيش القوي مهما يكن عنده من صبر وثبات يجب أن يؤمن بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم القوي الغالب على كل شيء. وقد رأينا في العصور الحديثة قادة عظاما يأخذون بالأسباب ثم ينهزمون، مع أن تحت سلطانهم جنودًا مدربين طائعين صابرين ولكنهم لم يقولوا: المستقبل بيد الله، بل قالوا: المستقبل بأيدينا، فكف الله أيديهم عن الناس، وكانوا عبرة المعتبرين.

ص: 907

(فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ) الفاء هنا للسببية، أي أنه بسبب قوة عزائمهم، وحسن صبرهم واتجاههم إلى ربهم ضارعين أن يلهمهم الصبر عند اللقاء، والثبات عند الزحف، والنصر في النهاية لأنه المالك لكل شيء، بسبب كل هذا هزموهم بإذن الله، أي بتوفيقه سبحانه وإرادته وهدايته، وإمداده سبحانه بعونه بعد اتخاذهم الأسباب كلها.

وأصل الهزم معناه الكسر، وكثر استعماله في كسر الأعداء، وتشتيت شملهم، وذلك لأن العدو في هجومه يشبه الصخرة المنقضة في تجمعه وصلابته وحدة صدمته، فإذا رد على أعقابه تكون حاله كالتكسر بعد الاجتماع والتقطع بعد الاتصال.

(وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) في هذا التعبير السامي، بيان لسبب من أسباب الانتصار الدنيوي بعد أن وهبهم الانتصار اللدني، ذلك أن طاغيتهم قد قتل، وهو الذي كان يفرض أهواءه وشهواته عليهم فيجعل

ص: 907

منهم جندًا طائعين له يسيرون مع رغبته في السلطان والقهر والغلب بالحق وبالباطل، وكذلك الشأن دائما في أهل الباطل يجتمعون على رجل ويسيرون وراءه، فليست لهم إرادة غير إرادته، ولا روح جماعية تجعل لهم كيانا قائما بذاته، مظهره قائدهم، بل يكون الطاغية هو المسلط عليهم، يملي إرادته على أحدهم، ولا إرادة لأحد وراء إرادته، فإذا قتل ذلك الطاغية أو قضى على سلطانه تفرق الجمع وذهبت الوحدة الرابطة، وعملت السيوف في أقفيتهم.

وكذلك كان أمر أعداء الله، جمعهم جالوت تحت إمرته، وفرض عليهم إرادته بحكم القهر، أو بالاستهواء، أو التبعية الشخصية، فمكَّن الله أولياءه منه، حتى إذا قتل تفرق الجمع وولى الأدبار، ولا يكون الأمر كذلك إذا كانت الجماعة تحس بالوحدة الجامعة التي تربط آحادها، وقائدها مظهر توحد الإرادة وجمع الكلمة، وليس موجد هذه الوحدة لتسخر لإرادته؛ فإنه في هذه الحال إذا ذهب القائد، قام مقامه من يماثله أو على الأقل يقاربه؛ لأن الجماعة لها إرادة موحدة، وليست خاضعة لإرادة مسلطة وهي الموجدة لقائدها، وليس قائدها هو الموجد لإرادته، والإرادة التي أقامته تقيم غيره مقامه إذا خلا مكانه.

كان القاتل لجالوت رأس العدو هو داود، وقد رشحته قوته الجسمية، وإحكامه للقتال وعلمه وحكمته لأن يتولى الملك من بعد طالوت والملك الذي تولاه ليس هو الملك الوراثي الذي يئول فيه السلطان إلى أحد من أسرة الملك السابق بالوراثة القانونية؛ لأن داود لم يكن من أسرة طالوت، وما رشحته للملك وراثة قانونية، بل رشحه للملك انتخاب طبيعي، وإرادة إلاهية آتته الحكم والنبوة، فليس الملك الذي آل لداود هو الملك الوراثي، بل السلطان الحكَمُ ذلك الانتخاب.

وقد ذكر سبحانه العناصر التي ترشح للسلطان وحكم الناس، فكانت قوة الجسم، والحكمة والعلم؛ ولذا قال سبحانه بعد ذكر قتله لجالوت:(وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها والتدبير المحكم على وفق العلم، فالحكمة تقتضي صفتين ذاتيتين في الشخص: عقلا مدركًا نافذًا

ص: 908

بصيرًا يرى بواطن الأمور ويتغلغل في أعماقها، وإرادة محكمة تجعل العمل يتلاقى مع الفكر الصحيح والإدراك السليم، فلا يكون سلطان يعارض دواعي العقل، وأحكام الفكر السليم، فليس بحكيم من يبادر بالحكم على الأشياء من غير دراسة عميقة مستقصية وليس بحكيم من يكون عمله على غير ما تقتضيه قواعد الفكر المسمَقيم.

ولقد ذكر سبحانه أنه علَّم داود مما يشاء أي علَّمه علمًا كثيرًا واسعًا مما شاء أن يعلمه. فقوله تعالى: (مِمَّا يَشَاءُ) يشير إلى سعة العلم، وأنه كثير متشعب لَا تحده إلا مشيئة الله وإرادته.

فعلَّمه سبحانه سياسة الملك، وأحوال الناس، ومنازع النفوس، وأحوال البلدان وما تنتجه من خيرات، وغير ذلك، وكان تعليم الله سبحانه وتعالى له بالنبوة التي أفاضها سبحانه وتعالى عليه، والتجارب التي ساقها الله إليه، والذخيرة التي بين يديها من أحوال الحاكمين السابقين، والهداة المرشدين، وما أوتيه من علم التوراة، والأخبار الصحاح عن النبيين السابقين، وفي كل ذلك هداية وإرشاد إلى أقوم مناهج الحكم الصحيح.

تلك هي عناصر الحكم الصالح، لابد أن يكون الحاكم قويا في جسمه، بحيث لَا يخذل جسمه إرادته، فكثيرا ما يكون ضعف الإرادة من ضعف الجسم، وضعف التدبير من تخاذل القوى البدنية عن الاحتمال، ولكن قد تكون الإرادة القوية والعزيمة الماضية في جسم ضعيف، وفي هذه الحال قد يستغني عن ذلك العنصر إن لم يوجد شخص تتوافر فيه قوة النفس وقوة الجسم معًا، فالاعتبار الأول لقوة النفس، وقوة الجسم خادمة لقوة النفس وليست مقصودة لذاتها.

والعنصر الثاني هو الحكمة: وهي كما رأيت جعل العمل يسير مع العقل فلا تتحكم الأهواء والشهوات، وآفة الحكم الصالح هوى الحاكم، فإن غلبت رغبته عقله غلب الفساد حكمه، فليختبر كل حاكم نفسه، فإن رأى أهواءه هي المسيطرة فليعلم أن الشر قد استحكم، وأنه أولى به ثم أولى أن يعتزل وإن وجد عقله هو المسيطر فليعلم أن الله أجرى عليه التوفيق.

ص: 909

والعنصر الثالث الإحاطة التامة بمصالح الناس وأحوالهم: فإن الحكم عمل للمصلحة، وليس سيطرة وتحكما، ومن ظنه سيطرة وتحكما فهو ممن طمس الله بصيرته، وغلبت عليه شهوته، ثم غلبت عليه شقوته.

إن فرق ما بين الحكم الصالح وغير الصالح دقيق في معناه، وإن كان الأثر كبيرًا في مبناه، فالحكم الصالح أساسه أن يكون الحكم لمصلحة المحكوم وإجابة لرغبته، والحكم غير الصالح أساسه أن يكون الحكم تحكما في المحكوم، فمن تحكم في الرعية ولو باسم مصلحتها، فقد سلك سبيل الفساد، لأن التحكم ينبعث من الرغبة في السيطرة، ولو لبس لبوس المصلحة. والسيطرة تسلط، والتسلط في ذاته فساد يؤدي لَا محالة إلى فساد، ويؤدي إلى موت الإرادات في الجماعة، وفي ذلك إضعاف لقوتها.

وأما الحكم المنبعث من إرادة الجماعة الذي يقودها لمصلحتها، فهو يؤدي إلى الصلاح لَا محالة، وإن تعثر في أخطاء أحيانا، لأنه من الخطأ يتعلم الناس الصواب، ومن الخط المعوج يعرف الخط المستقيم.

(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) بين الله سبحانه وتعالى قصة بني إسرائيل، وهي قصة يتجلى فيها استخذاء الضعفاء، إن خافوا الموت، وجهلوا أن البقاء على الذل هو حقيقة الفناء، ثم بين كيف تتحفز بعض العزائم لرفع نير الظلم وكف يد الظالم، ثم بين كيف يقوم في المغلوب عليهم نزاع بين دعاة التردد والهزيمة ودعاة الإقدام، وكيف تخضع النفوس لخواطر الرغبة في العزة والإقدام على التغيير، وإن الله لَا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ثم بين حال الجيوش القوية في وجوب توحد قيادتها تحت سلطان قائد قوى عالم مفكر مجرب، وكيف تضعف العزائم عند الذين ألفوا الذل فيستنيمون إلى الراحة الذليلة، بدل الشدة العزيزة، ثم بين سبحانه كيف تغلب فئة قليلة مسلحة بالإيمان القوي والتصميم على طلب العزة، مستعينة بالصبر، معتمدة على الله جلت قدرته.

ص: 910

بيَّن سبحانه كل ذلك في عبارة جلية، أو إشارة واضحة، ثم بين سبحانه أن سنة الله في خلقه أن يدفع الخيرُ والشرُ، وأن تكون المدافعة بينهما مستمرة، حتى لا تفسد الأرض، فإنه إن غلب الشر كان الخراب والدمار.

إن الله سبحانه قد قدَّر أن يبتلى الناس من يوم أن هبط آدم وحواء إلى الأرض، فقد ابتلاهم بإبليس وإخوانه، فكان النزاع بين الخير والشر والحق والباطل، والظلم والعدل، والله دائمًا يسخر للحق أنصارًا يعملون لنصرته، ويتخذون الأسباب والأهبة، ثم يؤيدهم بنصره وتوفيقه فإن الأرض لَا تخلو من قائم للحجة ظاهرًا مشهورًا، أو مستورًا مغمورًا، حتى لَا تذهب بينات الله كما قال عليٌّ رضي الله عنه.

ولذا قال سبحانه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) أي لولا دفع الله سبحانه بعض الناس الأشرار ببعض الناس الأخيار لفسدت الأرض، لأنهم إن تركوا من غير أن يدافعوا عمَّ الفساد وعمَّ الدمار. وإن دفع الشر بالخير يكون في داخل الأمم وبين الآحاد، وبين الأمم بعضها مع بعض، فالأمة الواحدة يكون من آحادها الأخيار والأشرار، ويدفع الله بعمل الأخيار وبال عمل الأشرار.

ودفع ذلك يكون بطرق مختلفة:

منها: أن يكون الشر في خفاء، والخير في جلاء، فيكون انزواء الشر دفعًا له وفى ظهور الخير دعوة إليه، وحثا عليه.

ومنها: أن يقل عدد الأشرار الظاهرين ويكثر عدد الأخيار البارزين فيدفع الله سبحانه بتلك الكثرة الظاهرة شر تلك القلة الفاجرة.

ومنها: أن عمل الأبرار في الأمة يصلح الله به ما أفسده الأشرار مهما يكن عدد هؤلاء، ففي بعض الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يدفع العذاب - أي الدنيوي - بمن يصلي من أمتي عمن لَا يصلي وبمن يزكي عمن لَا يزكي، وبمن يصوم عمن لَا يصوم، وبمن يحج عمن لَا يحج وبمن يجاهد عمن لَا يجاهد، ولو اجتمعوا

ص: 911

على ترك هذه الفرائض ما أنظرهم الله طرفة عين ثم تلا اقوله تعالى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)(1).

وأما دفع الله بعض الناس الأشرار ببعض الناس الأخيار في الأمم بعضها مع بعض فإن ذلك بجهاد الأمم التي تعمل للحق للأمم التي يناصر أكثرها الباطل، أو تسكت عن ظلم حكامها لغيرهم من الأمم. ولقد روي أن ابن عباس قال في تفسير قوله تعالى:(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ): " لولا دفع الله العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد ".

وفى الجملة أنه لابد للحق من قوة تدفع الباطل، وأن الله قد أمد الأخيار بقوته، ليدفعوا الشر ويكفكفوا من حدته.

وفى العبارة السامية إشارة إلى أن تلك المغالبة هي في طبيعة البشر بمقتضى خليقتهم وفطرتهم، إذ قال سبحانه:(وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) فهو سبحانه قد حكم بأن دفعه للناس أجمعين، ثم أردف القول بالبدل بقوله:(بَعْضَهُم بِبَعضٍ) وفي ذلك إشارة إلى أن تلك المدافعة بين الناس مستمرة، وأنها ليست في جيل دون جيل، ولا زمان دون زمان، ولا يتعين أن يكون قوم بأعيانهم للشر، وآخرون للخير، فقد يكون بعض الناس فيه خير في بعض نواحيه، فيدفع شر غيره في هذه الناحية، ويكون في الآخر ما يدفع به شرا في بعض نواحي الأول، وقد يكون بعض الأقوام في جانب الحق ينصرونه لغايات في نفوسهم، وإن لم يكونوا فضلاء في عامة أحوالهم، فالشر يدفع بالبر والفاجر، وينصر الحق بالأخيار والأشرار، ولذا لم يقل سبحانه وتعالى: ولولا دفع الله الأشرار بالأخيار، بل قال سبحانه:(بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) ليعم تلك الأحوال، وذلك من فضل الله على عباده؛ ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته:(وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).

(1) راجع الدر المنثور للسيوطي ج 1 ص 764، كما ذكره القرطبي: سورة البقرة (251).

ص: 912

وقد دل ذلك الختام الكريم على ثلاثة أمور:

أولها: أن ذلك التنظيم الحكيم هو من فضل الله ورحمته، وإنعامه على خلقه، وليس ذلك بواجب عليه سبحانه؛ وذلك لأنه خلق الناس، وخلق معهم عقولا يعرفون بها خيرهم وشرهم، فإن ساروا في طريق الخير والفلاح فلهم ما قصدوا إليه، وإن ساروا في طريق الشر والفساد فإلى الهاوية يسيرون، وعليهم وبال أمرهم، وعاقبة عملهم إنما هو من فضله، وقد دل على ذلك الاستدراك بقوله تعالى:(وَلَكِن اللَّهَ ذُو فَضْلٍ) وصف ذلك بأنه فضل من رب العالمين خالق الناس أجمعين.

الأمر الثاني: فضل الله سبحانه وتعالى الكثير، ووصفه سبحانه بأنه ذو فضل، وقد دل على كثرة الفضل التنكير في قوله تعالى:(ذُو فَضْلٍ) أى ذو فضل كثير، لَا يدرك الناس قدره، ولا يعرف كنهه، ولا يحد بمقدار حتى يعرف ويعين بالتعريف.

الأمر الثالث: أن النعمة التي أنعم الله بها على خلقه من دفع الفساد يَنْعَم بها المؤمنون والمشركون، والأشرار والأبرار، لأن الفساد إذا عم لَا يسلم منه أحد، والخير إذا تحقق عم الجميع، وقد دل على هذا المعنى قوله تعالى:(عَلَى الْعَالَمينَ) فلم يقل على المؤمنين أو المتقين، بل عم الخير على الناس أجمعين للإشارة إلي ذلك المعنى الجليل.

هذه قصة بني إسرائيل الذين غلبوا على أمرهم ثم بدلوا من الذلة عزة، وهي قصة تكشف عن سنن الاجتماع والحروب، وأمثل طرق الحكم.

فمن سنن الله في الجماعات التي أشارت إليها الآيات أن الجماعة إن غلبت على أمرها، وسامها الغالب الخسف والهوان تحفزت قوى آحاد منها للحياة، فطلبوها عزيزة كريمة، فإذا طالبوا اتجهوا إلى قيادة تجمع أمرهم، وتنظم شئونهم، ثم ساروا تحت لواء تلك القيادة، وقد تصارعت عوامل الضعف مع دوافع العزة، فإن كان الصبر كان معه النصر وإن ضاقوا بأمرهم كان الخذلان، وضربت عليهم الذلة إلى يوم القيامة.

ص: 913

ومن سنن الله في الحر وبـ التي استبانت من القصة أن النصر يكون عند اتحاد العزائم وتلاقي القلوب، وأخذ الأهبة، والصبر والثبات، وأن النصر ليس بكثرة العدد، وإنما هو بالعزيمة الماضية والثبات والصبر، والمعونة من الله العلي القدير، وأن الحق في ذاته قوة إن آمن به صاحبه، وأراده عزيزًا كريمًا غير ذليل.

ولقد سن سبحانه في هذا القصص الطريق لاختيار الحكام، فبين أن الحاكم لا يُختار لنسب رفيع، ولا يختار لمال وغير، ولكن يختار لقدرته على القيام بأعباء الحكم من قوة في نفسه، وقدرة على الاستيلاء على أهوائه وشهواته، وعلم غزير بشئون الاجتماع وأحوال الناس، ومن تجارب هادية إلى الحق في الأمور، وإخلاص ينير الطريق والبصائر، وليس الحكم عطاء يُعطى، ولكنه ابتلاء وأعباء.

وإن الحاكم الذي تجتمع القلوب حوله هو حكم الجماعة، والحاكم مظهرها، وأن قُتِلَ الحاكم أو مات أقامت الجماعة مثله، أو خيرًا منه، أما الحاكم المتسلط المتجبر فإنه جامع للناس على رغباته، فإن قُتِلَ أو مات تفرق الجمع - وولى الأدبار. وهذه إشارات إلى العبر في ذلك القصص الحكيم.

ص: 914

(تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) بعد ذكر تلك القصة المرشدة الهادية لكل مستبصر معتبر، بين الله سبحانه أن هذه الآيات المتلوة هي من عند الله، وهي تتلى بالحق الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنها تتلى على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهي معجزته وآية رسالته، وإنما ذلك بعد هذه القصة لما فيها من الدلائل الواضحة البينة التي تثبت رسالة النبي الكريم؛ لأن ذلك القصص الصادق جاء على لسان أمي لَا يقرأ ولا يكتب، لم يجلس إلى معلم، ولم يأته علم لَا بطريق كتاب يقرؤه؛ لأنه ليس بقارئ، ولا بطريق معلم يعلمه، ولا بتلقين من أي جهة كان التلقين، إذ كان صلى الله عليه وسلم من أمة أمية ليس فيها علم مدون في كتب، ولا علماء يتدارسون، ولم يكن جو علمي ينال منه الأريب بالخلطة والاتصال، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم في حياته ذا نجعة وأسفار، بل لم ينتقل من مكة إلا مرتين كانت أولاهما وهو غلام، وكانت الثانية وهو يقارب الخامسة والعشرين.

ص: 914

فإذا كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم كذلك والقصص جاء على ذلك النحو من الأحكام والإرشاد والتعليم وبيان سنن الاجتماع والحكم الأمثل والقيادة الرشيدة مع صدقه في ذاته، فهو دليل على أنه من عند الله.

والإشارة في قوله تعالى: (تَلْكَ آيَاتُ اللَّه) إلى الآيات المتلوة من قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. . .)، إلى آخر القصة وكانت الإشارة للبعيد، لما في ذلك من معنى الاستقصاء للآيات من أولها إلى آخرها ولعلو شأنها، وكمال معانيها والوفاء في مقاصدها. وإضافة الآيات إلى الله لأنها جزء من القرآن وكله من عند الله، فالإضافة لتقرير هذا المعنى وتوكيده، وتنبيه الأذهان دائما إليه ليعطوه حقه من الفهم والتدبير والاسترشاد به، والاعتبار بما اشتمل عليه من مواعظ وقصص وعبر.

وقوله تعالى: (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) يفيد أمرين:

أولهما: أن القرآن كان يتلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويتلقاه بالروح الأمين. وإسناد التلاوة إلى الله العلي القدير مع أن الذي كان يلقي القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل - للإشارة إلى أن تلاوة جبريل هي تلاوة الله فهو رسوله الأمين إلى رسله المكرمين.

الأمر الثاني: أن ما في القرآن حق دائما، أي أمر ثابت لَا يقبل التغيير فليس لأحد أن يقول إن القرآن صالح لزمان دون زمان، لأنه الحق الثابت المستقر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فعلى العقول أن تتفهمه وتتدبره ثم تخضع لأحكامه المستقرة الثابتة من غير محاولة للتغيير أو التبديل.

والتلاوة هي القراءة المتتابعة المفسرة الواضحة التي تتصل فيها المعاني وتتسابق فيها الألفاظ بحيث يكون الأداء ممثلا للمعنى مصورا له. وقد قال الراغب في مفرداته إن مادة " تلا " أصلها بمعنى تبع متابعة ليس بينها ما ليس منها، وذلك يكون تارة بالجسم، وتارة بالاقتداء في الحكم ومصدره تَلْوٌ وَتُلُوٌّ، وتارة بالقراءة وتدبر المعنى، ومصدره تلاوة. . ثم قال:

ص: 915

" والتلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وهي أخص من القراءة فكل تلاوة قراءة وليس كل قراءة تلاوة ".

فالتلاوة خاصة بقراءة كلام الله سبحانه وتعالى بمقتضى التخصيص القرآني.

وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

وإن ذلك كالنتيجة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يتلو عليه آياته بالحق والصدق، فإن تلك الآيات برهان النبوة ومعجزة الرسالة، وقد أكد الله سبحانه وتعالى رسالة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بثلاثة مؤكدات:

أولها: " إن "، فإنها في أصل معناها للتأكيد، وهو يصحبها في دلالتها دائمًا.

وثانيها: " اللام " في قوله تعالى (لَمِنَ).

وثالثها: " الجملة الاسمية "، وإدخاله صلى الله عليه وسلم في عداد المرسلين.

وإن قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) يدل على أمر آخر، وهو أن إرسال رسول من قبل رب العالمين أمر مقرر ثابت معروف عند أهل العلم فلم تكن رسالة محمد وهو من البشر بدعًا، ولا أمرًا غير مألوف أو معروف فلا يماري في أصل الرسالة إلا جهول، أو جحود.

وإن القرآن وحده حقا هو الدلالة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض.

* * *

ص: 916

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

* * *

في الآيات السابقة ذكر الله سبحانه وتعالى اصطراع الحق مع الباطل، وانتصار الحق في المال؛ لأن غلبة الباطل فيها فساد الأرض (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ. . .)، وذكر في ختام الآيات السابقة أن النبي صلى الله عليه وسلم من المرسلين الذين بعثوا لينصروا الحق، وليعم نور الله في الآفاق.

وفى هذه الآيات التالية يبين سبحانه أن الرسل، وإن كانوا جميعًا مبعوثين من رب العالمين، ليسوا في درجة واحدة، وأن بعثهم ينصر الحق ولا يمحو الباطل، ويرفع منار الهدى، ولا يزيل الضلال، ولكنه يكون ضلالا بعد البينات، ولا يكون ضلالا عن جهالة، فلا يعذر فيه الضال؛ ولذلك كان القتال بعد الأنبياء بين المهتدين والضالين، وتلك إرادة الله، وقد ابتلى الخير بالشر، والمهتدين بالضالين (وَلِيمَحِّصَ اللًهُ الًذِينَ آمَنُوا. . .).

ص: 917

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَفحلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) الإشارة هنا إلى جماعة الرسل الحاضرة في ذهن التالي للقرآن الكريم، المستقرة في وعيه بما ختمت به الآيات

ص: 917

السابقة، وهو قوله تعالى:(وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). والإشارة باللفظ الدال على البعيد، لبيان علو منزلتهم أجمعين، وأنهم المصطفون الاخيار، وأنهم مهما تتفاوت منازلهم في رسالاتهم، هم جميعًا ليسوا كسائر الناس، فلهم شرف البعث والرسالة والاصطفاء.

والتفضيل مشتق من الفضل وهو الزيادة؛ فمعنى (فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) هو كقوله تعالى: (وَلَقَدْ فَضلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ. . .)، أي جعلنا لبعضهم زيادة في بعض النواحي على البعض الآخر. والفضل هنا إضافي وليس بذاتي؛ أي أن هذا ليس من ذات الرسل، إنما هو بما يختص الله بعضهم من معجزات مغايرة لمعجزات الآخرين. ثم التفضيل إضافي لأنه يكون في ناحية من النواحي، وقد يكون هناك ناحية أخرى فَضَل بها المفضول غيره، فموسى فَضَل على عيسى بأنه كلمه الله، وعيسى فُضل على موسى بأنه أحيا الموتى؛ فالتفضيل إذن إضافي في موضوعه، وفي نوعه، وفي نواحيه.

وإن تفسير التفضيل على ذلك النحو فيه توفيق بين الآيات الكريمات المثبتة للتفضيل بين الرسل وبين ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن التخيير بين الأنبياء.

فقد روى الأئمة الثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم -قال " " لا تخيروا بين الأنبياء " (1) " ولا تفضلوا بين أنبياء الله " (2) وفوق ذلك فإن النهي عن أن يجري على ألسنة الناس تفضيل نبي بذاته على نبي آخر فتكون المشادة والملاحاة. وروى في الصحيحين عن أبي هريرة قال: " استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال اليهودي؛ والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي وقال: أيْ خبيث! وعلى محمد صلى الله عليه وسلم؟! فاشتكى المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:" لا تفضِّلوني على الأنبياء "(3).

(1) متفق عليه؛ رواه البخاري (5 0 64): الديات - إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب، ومسلم (4378): الفضائل - من فضائل موسى عليه السلام، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري: أحاديث الأنبياء (3162)، ومسلم: الفضائل (4376).

(3)

راجع السابق، وبهذا اللفظ رواه البخاري (2235): الخصومات - ما يكون في الإشخاص والخصومة، عَنْ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 918

والنهي عن التفضيل منعا للمماراة لَا ينفي حقيقة التفضيل المقررة، كما أن النهي عن سب الأوثان لَا يثبت أنها واجبة الاحترام، إذ النهي لسد الذريعة، فلا يمنع ثبوت الحقيقة.

وإن هذه الآية الكريمة سيقت لبيان فضل بعض النبيين على بعض لكيلا يندفع بعض الناس إلى الجحود، فيقولوا: إننا نتبع النبي موسى أو عيسى دون محمد، وما داموا جميعًا أنبياء فأيهم نتبع يكون في اتباعه النجاة؛ فبين سبحانه أنه فضل بعض الرسل على بعض في الشريعة والزمان، فجعل محمدًا شريعته عامة ناسخة لما عداها، ورسالته للناس كافة، وهو خاتم النبيين، وذلك من فضل الله؛ كما أن من فضله أنه كلم موسى تكليمًا، ومن فضله أن جعل عيسى يحي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخبر الناس بما في بيوتهم، فليس لأحد أن يرفض شريعة محمد لأنه اختار شريعة عيسى، إذ إن من فضل الله الذي اختص به محمداً صلى الله عليه وسلم أن جعل شريعته ناسخة لغيرها؛ لأنها آخر الشرائع، ولان محمدًا خاتم النبيين، ورسالته عامة شاملة للناس كافة، وكانت رحمة للعاملين.

(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) في هذه الجملة السامية من الآية الكريمة بيان لبعض وجوه التفضيل التي اختص الله سبحانه وتعالى بها بعض النبيين، وهي في الحقيقة وجوه للتفضيل لا تتصل بأشخاصهم، بل تتصل برسالاتهم، وما تؤيده هذه المعجزات من شرائع، ومن تخاطبهم من أقوام تكون تلك المعجزات مناسبة لهم.

وفى هذه الجمل ذكر الله نبيين من أولي العزم من الرسل، وأشار إلى ثالث:

فأما الأول فهو موسى؛ قد أشير إليه بما يشبه النص بقوله: (مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ) فإن ذلك هو موسى عليه السلام، فقد قال سبحانه وتعالى في شأن موسى عليه السلام:(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، وقال سبحانه:(يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي. . .)، وقال تعالى:(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا).

ص: 919

فهذه الآيات الكريمات تدل على أن الله سبحانه وتعالى قد اختص موسى عليه السلام بكلامه، وهو إحدى طرق اتصال رب العالمين بالمبعوث من خلقه، فقد قال تعالى:(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يرْسِلَ رَسولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)، وكلام الله سبحانه وتعالى مع موسى كان من النوع الثاني، وهو الكلام من وراء حجاب.

وكان خطاب الله سبحانه وتعالى بتكليمه من وراء حجاب مناسبًا لأقوام موسى، لأنهم قد غلبت عليهم المادية، وغلب عليهم الجحود وإنكار الألوهية لرب السماوات والأرض، حتى لقد قالوا:(أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. . .)، فكان المناسب لمثل هؤلاء الأقوام أن يكون كلام الله للمبعوث إليهم مباشرة ولا يكون وحيًا يوحى، ولا برسول من الملائكة يرسله إليه، فما كان ذلك تشريفًا فقط لموسى، بل كان مع ذلك التشريف مقصد يتفق مع حكمة الله سبحانه وتعالى، وهو العلي الحكيم.

وليس معنى ذلك الاختصاص أن الله سبحانه وتعالى قد رفع الله به موسى عليه السلام على كل الرسل، بل إن الله سبحانه رفع بعض الأنبياء درجات، وإن لم يكن لهم ذلك الاختصاص؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي يختص برحمته واصطفائه من يشاء، ولذلك قال سبحانه وتعالى بعد ذكر تكليم الله لبعض رسله (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) فقرن هذه بكلام موسى لتدل على أن التكليم وإن كان شرفا عظيما لَا يقتضي أن يكون الملك فوق الأنبياء منزلة، بل إن بعض من لم يكلمه الله رفعه الله درجات.

والدرجات جمع درجة، وهي المنزلة الرفعية السامية، وفي التعبير بالجمع إشارة إلى علو المنزلة، وكبر التفاوت بينه وبين غيره ممن لم يؤت ما آتاه الله، وما نيط به من تكليف هو عين التشريف.

وإن الله سبحانه قد ذكر أنه رفع مقام بعض النبيين؛ فقد ذكر عن إدريس عليه السلام أنه رفعه مكانا عليا، فقال سبحانه:(وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا)،

ص: 920

ولكن الرفع إلى مكان على غير الرفع درجات؛ لأن الرفع درجات يدل على التفاوت بينه وبين غيره كما قال تعالى في حقوق الرجال والنساء: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. . .)، أما الرفع إلى مكان علِيٍّ فلا يدل على هذا التفاوت.

وإن ذلك الارتفاع درجات عن النبيين كان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ذو الدرجات الرفيعة؛ لمعجزته الباقية إلى يوم القيامة، ولشريعته الخالدة، ولعموم رسالته، ولأن أمته الآخذة بشرعه المتبعة له حقا وصدقا خير أمة أخرجت للناس.

ولقد قال الزمخشري في ذلك المقام ما نصه: " الظاهر أنه أراد محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة. . ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتي الأنبياء؛ لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. وفي هذا الإبهام - (أي أنه لم يذكر اسم محمد) من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لَا يخفى؛ لما فيه من الشهادة على أنه العَلَم الذي لَا يشتبه، والمتميز الذي لَا يلتبس، ويقال للرجل من فعل هذا؟ فيقال أحدكم أو بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به، وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيرا والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخم أمره ".

وإن القرآن الكريم قد جاء فيه ما يدل على رفعة محمد صلى الله عليه وسلم درجات بشريعته، فقد كانت شريعته رحمة للعالمين كما قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا. . .)، ورفعه سبحانه بمعجزته الكبرى وهي القرآن، فقد قال فيه سبحانه:(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِل إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم. . .) ولقد قال صلى الله عليه وسلم: " بُعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة "(1).

(1) رواه أحمد في مسنده (13745). ورواه البخاري (419) ومسلم (810).

ص: 921

بعد أن أشار سبحانه إلى علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر ما اختص به عيسى عليه السلام من فضل فقال:(وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وكان ذكر فضل النبي صلى الله عليه وسلم بين فضل النبيين قبله للمسارعة إلى أنه مهما يكن ما اختص كل واحد منهما من معجزات ترفعه فمقامه ليس أعلى من مقام النبي صلى الله عليه وسلم، بل للنبي فوق ذلك درجات.

ذكر الله سبحانه ما اختص به عيسى من فضل (وَآتَيْنَا) أي أعطينا (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) أي المعجزات المبينة لصدق رسالته، من إحياء للموتى، وإبراء للأكمه والأبرص، وتصوير للطين كهيئة الطير، ثم يصير طيرًا بإذن الله، وإخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وغير ذلك مما يدل على علو روحي، وأنه مؤيد من رب العالمين، وقال سبحانه في فضله أيضا:(وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) والقدس أصل معناه الطهارة، وهو يطلق على الطهارة المعنوية، وروح القدس الذي أيد الله به عيسى عليه السلام هو جبريل الأمين، وهو في عبارات الإسلام وفي لغة القرآن يطلق عليه؛ فقد قال تعالى:(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ. . .)، أي أن القرآن الكريم نزل به الروح القدس الأمين، ولذا قال سبحانه في آية أخرى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ). وقد قيل إن روح القدس هو الإنجيل؛ وذلك لَا يختلف في الجملة عن سابقه، إذ إن جبريل هو الذي نزل بالإنجيل والتأييد بروح المقدس حينئذ يكون مقصورا على نزول الإنجيل، ولكن إطلاق العبارة في التأييد يشمل نزول جبريل بالإنجيل وتأييده بغير ذلك، فتفسير روح القدس بالإنجيل تفسير يؤدي إلى تأييد جزئي، أما تفسيره بجبريل الأمين فهو تفسير يؤدي إلى تأييد أوسع شمولا.

ولماذا خص سيدنا عيسى عليه السلام بأنه مؤيد بالروح القدس وهو جبريل، مع أن أكثر النبيين كانوا مؤيدين بنزول الشرائع من الله عليهم عن طريق جبريل؟ والجواب عن ذلك أن السيد المسيح عليه السلام لم يكن محاربا لخصومه، بل عاش حياته كلها بين خصومه وأعدائه الذين يتربصون به الدوائر، من رومان ووثنيين

ص: 922

ويهود ماديين، ولم يؤذن له في القتال، حتى يتولى حماية نفسه بسيفه وسيوف أنصار الحق معه، كالشأن بالنسبة لموسى وداود وسليمان، ومحمد - صلى الله عليهم وسلم -، فكان يتولى حمايته رب العالمين بملائكته الأطهار والأمين جبريل يعاونه، ولعله هو الذي أنقذه من بني إسرائيل وقد بسطوا أيديهم لقتله، وأغروا به الرومان ليقتلوه، فرفعه الله سبحانه وتعالى إليه.

(وَلَوْ شَاءَ اللَّه مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ) أرسل الله سبحانه وتعالى رسله، وخص كل رسول بمعجزات قاطعة من شأنها أن تهدي إلى الصراط المستقيم إن استقامت الفطرة، ولم تنحرف العقول، ولم يطمس على القلوب؛ ولكن الدليل وحده لَا يهدي، بل لابد من نفوس متقبلة، واتجاه لطلب الحق اتجاها مستقيما، ولذلك لم يكن الناس متفقين في تلقي ما جاء به الرسل بل كان منهم من غلبت عليه شقوته، فحارب الحق وحارب النبيين معه، ومنهم من آمن واهتدى، فكانت المغالبة بين الحق والباطل، والهداية والضلالة، وكان الاقتتال بين أنصار الحق، وأنصار الباطل، وبين الضالين والمهتدين؛ لَا يترك الضالون الحق يسير في مجراه، ويصل في القلوب إلى منتهاه، بل يقاومونه، وينزلون الأذى بأهله.

وهنا يتساءل العقل البشرى: لماذا لم يكن الناس جميعا على شرع سواء؛ ولماذا لم يكن الناس جميعا على الهداية؛ فبين سبحانه وتعالى أن تلك مشيئته، وهذا هو التكوين الذي كون الخلق عليه، ولذا قال سبحانه وتعالى:(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم)، أي لو شاء ألا يقتتل الذين جاءوا من بعد الرسل ما اقتتلوا، فالمفعول للفعل شاء محذوف دل عليه جواب الشرط؛ والمعنى أن الذين جاءوا من بعد الرسل بعد أن بين لهم الرسل المحجة الواضحة البيضاء التي لَا يضل فيها سالك، قد اقتتلوا حولها ما بين مؤيد لها، ومعاند كافر بها، ولو شاء الله سبحانه ألا يكون في كل نفس استعداد للطاعة، واستعداد للعصيان، ونزوع إلى الشر، واتجاه إلى الخير، كما قال تعالى في تكوين الإنسان:(وَهَدَيْنَاة النَّجْدَيْنِ).

ص: 923

أي خلقناه وفي نفسه استعداد للسير في نجد الخير، واستعداد للسير في نجد الشر، وكما قال تعالى:(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8).

وإذا كانت النفوس كذلك، فمنهم من يغلب عليه الخير فيطلب الحق ويهتدي به، ومنهم من يغلب عليه الشر فيعرض عن الخير فيطلب الحق ويهتدي به، ومنهم من يغلب عليه الشر فيعرض عن الخير وينأى بجانبه، فالأولون يؤمنون بما جاء به الرسل، والآخرون يكفرون بالحق الذي جاءوا به، ولذا قال سبحانه بعد ذلك:(وَلَكِنِ اخْتَلَفوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ) أي اختلفوا في النفوس والعقول والمدارك، واستقامة الفطرة وانحرافها؛ فترتب على ذلك أن كان منهم من آمن لانَ قلبه يتجه إلى الحق اتجاها مستقيما، ومنهم من كفر لأن قلبه عميَ عن إدراك الحق، واستولت عليه النزعات المردية، فاتخذ إلهه هواه.

وهنا إشارات بيانية من أسرار إعجاز القرآن، فلنذكر بعضها مما أدركته مداركنا:

- ومن هذه الإشارات البيانية الرائعة، أن الله سبحانه وتعالى ذكر المسبب قبل أن يذكر السبب، لأن الاختلاف في الإيمان هو سبب الاقتتال، فذكر الله سبحانه وتعالى أولاً الاقتتال الذي هو النتيجة لهذا الاختلاف، للإشارة إلى بيان أسوأ أحوال الاختلاف، ليبين للناس ما يتعرض له الدعاة إلى الحق من تعرضهم للقتل والقتال، وللإشارة إلى أنه سبحانه وتعالى قادر على إزالة الاقتتال في ذاته حتى مع وجود أسبابه؛ فالله سبحانه وتعالى لَا يتقيد بالأسباب والمسببات، لأنه سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات، وهو الرابط بين الأشياء ونتائجها، وليقرن سبحانه وتعالى أسوأ النتائج بخير المقدمات، فيتبين الناس مقدار ضلال العقل البشرى إن انحرف عن فطرته.

- ومن الإشارات البيانية قوله تعالى: (مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ)، ففي ذلك بيان مقدار ما في حيز الإنسان من حب المنازعة، وما استقر في ثنايا الإنسان من تنازع بين الخير والشر في أنفس الآحاد وأنفس الجماعات؛ لأن ذلك الاقتتال بعد

ص: 924

أن جاءتهم البينات أي الأدلة الواضحة المعلنة للحق الكاشفة له، فليس اقتتالهم عن جهالة، بل هو بعد أن تبين الحق ووضحت معالمه؛ وذلك لأن الهوى يعمي، والأعمى لَا يبصر ولو كانت الشمس مشرقة.

- الإشارة الثالثة: الاستدراك في قوله تعالى: (وَلَكِنِ اخْتَلَفوا) فإن هذا الاستدراك يشير إلى أمرين:

أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يزيل القتال؛ لأنه سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفي المنازع، منهم من يتقبل الحق ويصغي فؤاده إليه، ومنهم من يعرضون عنه (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ ورسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ منْهم مُّعْرِضونَ).

الأمر الثاني الذي دل عليه هذا الاستدراك: أن مجيء البينات المعلنة الكاشفة كانت توجب أن يكونوا جميعًا مجيبين، ولكنهم كانوا مختلفين، فالناس ليسوا سواء.

(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) الاقتتال خالد إلى يوم القيامة، لأن الله سبحانه وتعالى قال لآدم وزوجه وإبليس:(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. . .)، وقد كان القتال السابق بسبب الإيمان. والكفر أو بسبب إجابة بعض الناس للأنبياء وجحود الآخرين لرسالات الرسل بعد أن قامت عليها البينات، وثبتت دعوة الحق بالأدلة؛ وهنا يبين بشكل عام أن الله سبحانه لو شاء لمنع الاقتال سواء أكان الاختلاف على غرض من الأغراض، فإن المغالبة في طبيعة الإنسان؛ ذلك أن في الإنسان بطبعه حبًّا للعلو، والمنازع مختلفة، والقوى متباينة، والفرص قد تواتي فريقا، وتناوي فريقا، وإذا اتحدت القوى والفرص فقد يحدث موانع لهذا لا تحدث لذاك، وبهذا يعلو فريق على فريق، فيكون النزاع، ويكون الغلاب ويكون الاصطراع، ويسري ذلك التعالي في كل شيء في السلطان وفي التجارة، وفي الاقتصاد، بل في الذاهب الاجتماعية.

وإذا وجد ذلك الصراع فسيكون من ورائه - إن اشتد - القتال، ولو شاء الله لجعل بني آدم على طبيعة الملائكة لَا يتنازعون، ولا يتقاتلون، ولكن الله الذي خلق

ص: 925