المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ولأن الصلاة لها تلك المنزلة لم تسقطها رخصة، ولا تجب - زهرة التفاسير - جـ ٢

[محمد أبو زهرة]

الفصل: ولأن الصلاة لها تلك المنزلة لم تسقطها رخصة، ولا تجب

ولأن الصلاة لها تلك المنزلة لم تسقطها رخصة، ولا تجب على فريق دون فريق، فلها عموم الوحدانية، ولها لزوم الشهادتين، فأكثر العبادات قد تسقط عن فريق دون فريق إلا الصلاة، فإنه لَا رخصة لسقوطها، ولذا وجبت في حال الأمن والخوف، وقال تعالى في حال الخوف:

* * *

ص: 842

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا

(239)

هذا بيان ما يجب من الصلاة حال الخوف، وهي أعم من حال الحرب، وأخص منها، فبينهما ما يسميه المناطقة عموم وخصوص من وجه، فإن حال الخوف قد تكون في حال الحرب، وقد تكون في غيرها كهجوم وحش مفترس؛ وحال الحرب ليست دائما حال خوف، فقد يكون فيها وقت يأمن على نفسه فيصلي آمنًا مؤديًا الأركان بالجوارح.

وإيجاب الصلاة في حال الخوف وحال الأمن يدل على أمرين أحدهما - أن الصلاة ركن لَا يقبل السقوط إلا في حال العجز التام حتى عن الصلاة بالإيماء، وقد نوهنا إلى ذلك من قبل، وبينا أنها اختصت من بين الفرائض العملية بذلك.

ثانيهما - أن الصلاة في لب معناها هي اتجاه القلب، وعمل الحركات مظهر ذلك الاتجاه القلبي، والنزوع الروحي السامي؛ فإذا حالت الأحوال دون القيام ببعض هذه الحركات من ركوع وسجود كاملين أغنت عنهما الإشارات إليهما، وهو ما يسمى الصلاة بالإيماء والمعنى متحقق في الحالين، ولكن لَا ينتقل المصلي من حال كمال الحركات إلى ما دونها إلا عند تعذر الإتيان بها كاملة في نحو خوف أو مرض.

وقد رخص الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في حال الخوف أن يصلوا رجالاً، أي راجلين مشاة على أقدامهم، أو وقوفًا في أماكنهم، وأن يصلوا ركبانًا أي راكبين.

وركبان جمع لراكب، وأما رجالا فهي كما يقول الزمخشري: جمع راجل كقيام جمع لقائم، أو جمع رجل يقال رَجُل رَجِل أي راجل، وتوجيه قول

ص: 842

الزمخشري أنه يقال رَجِل الإنسان يرجل إذا لم يكن معه ما يركبه ومشى على قدميه فهو رَجِلٌ ورَجُل بضم الجيم ورجلان ورجيل ورجْل بسكون الجيم، ويجمع في الأحوال كلها على رجال. وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه:(اشتق من الرجْل رَجِل وراجل للماشي بالرجل، ورَجُل. . ويقال رَجُل راجل أي قوي على المشي، جمعه رجال).

والخلاصة: أن الصلاة كما تؤدى بالحركات كاملة، تؤدى بالإشارة إليها بما يكون في وسع المكلف القيام به؛ وذلك لأن الصلاة كما قلنا في لب معناها؛ اتجاه قلبي إلى الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء.

وقد يقول قائل: إن الصلاة إذا كان ذلك لب معناها فلماذا كانت تلك الحركات؛ وألا يغني فيها الاتجاه القلبي، وحصر الذهن والنفس لله، وفي ذلك عمران القلب بذكر الله وامتلاء النفس بهيبته؛ قد يقول قائل ذلك، وقد قاله بعض المقلدين الفرنجة، واتبعوا من زعموا أن ذلك طريق الإصلاح الخلقي. وقد يكون ذلك القول مجديًا لو كان يمكن تحقق معناه من غير تلك الحركات، ومن غير هذه الأقوال التي تشتمل عليها الصلاة إن هذه الحركات معين لاستذكار القلب، وامتلاء الفكر بعظمة الله سبحانه وتعالى، والأقوال التي تقال في الصلاة هي لهذا الاستحضار؛ فـ (الله أكبر) التي تتكرر عند الانتقال من حال إلى حال هي في معناها لملء النفس بعظمة الله، والآيات التي تتلى هي حمد لله وثناء على الله سبحانه وتعالى وشعور بالربوبية وسلطان الله سبحانه مالك يوم الدين، ودعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، وتجنب طريق الضالين؛ والحركات هي مظاهر الطاعة والخضوع، والقيام بحق الربوبية. . وهكذا كل قول وفعل في الصلاة إنما هو لتوجيه القلب نحو الملكوت الأعلى، وذكر الله العلي القدير، اللطيف الخبير.

ولا يمكن استحضار القلب لذكر الله بغيرها؛ بل إنها تكون ثمرة ذلك الاستحضار؛ فإن القلب إذا شعر بعظمة الله نطق اللسان بها وتطامنت الرأس خضوعا، وخر الإنسان ساجدًا صاغرًا لله رب العالمين.

ص: 843

(فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي إذا زال الخوف، وأقبل الأمن، فأقيموا الصلاة مستوفية لكل الأركان، أي تأتون بحركاتها كاملة؛ وذلك في معنى قوله تعالى بعد بيان صلاة الخوف:(فَإِذَا اطْمَأنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كتَابًا مَّوْقُوتًا).

فالذكر المراد به هنا الصلاة الكاملة المستوفية الأركان، وعبر عنها بالذكر للإشارة إلى أن المغزى فيها هو ذكر الله تعالى، وإلى أن ذكر الله مطلوب أشد الطلب، وأن الصلاة بغيره لَا تسمى صلاة ولو كانت مستوفية الأركان الظاهرة؛ وبهذا يتبين أن هذه الحركات مهما تكن كاملة لَا يمكن أن تغني عن استحضار القلب لمعاني العبودية والخضوع الكامل لرب العالمين؛ ولذا يقول الصوفية: إن الصلاة بغير هذه المعاني الروحية لَا تكون صحيحة مهما تكن كاملة من حيث الأقوال والأفعال.

وقوله تعالى: (كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أشار فيه الزمخشري إلى تفسيرين، على أن النص الكريم يحتملهما:

أحدهما: أن المعنى أدوا الصلاة كاملة كما علمكم على لسان رسوله الكريم، وبأفعاله، بأن تأتوا بالركوع والسجود تامين، فالكاف معناها المشابهة بين ما يفعلون وما يطلب منهم فعله، وبين ما علمهم إياه رب العالمين بتبليغ النبي الأمين إذ قال:" صلوا كلما رأيتموني أصلي "(1).

وثانيهما: أن المعنى أدوا الصلاة شاكرين حامدين ذاكرين رب العالمين، ويكون ذكركم مقابلا بما أنعم الله به عليكم من تعليمكم شريعته التي يكون في اتباعها صلاح حالكم في الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا صلاح أنفسكم وأسركم ومجتمعكم، وفى الآخرة بالزلفى لرب العالمين، ويكون معنى الكاف على هذا هو المشابهة المقربة

(1) جزء من حديث أخرجه البخاري: الأذان - الأذان للمسافر (595)، ومسلم: المساجد (1080) غير أنه لم يذكر قوله صلى الله عليه وسلم: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، ورواه الدارمي بنحو من رواية البخاري: الصلاة - من أحق بالامامة (1225).

ص: 844

بين النعم التي أسبغها عليكم، والتكليفات العبادية التي كلفكم إياها، فيكون الشكر بالعبادة مشابها ومماثلا لنعمة التعليم التي علمنا الله إياها بتلك الشريعة المحكمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ وهذا معنى قول بعض العلماء: إن الكاف هنا للتعليل، وذلك مستقيم من حيث المؤدى وإن كانت مع ذلك لم تخرج عن معنى التشبيه والمماثلة.

ولعل التفسير الثاني الذي أشار إليه الزمخشري ووضحناه بعض التوضيح هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة التي تسبق آية الصلاة وتلحقها؛ لأن فيها إشارة إلى أن تعليم الله تعالى لنا ما عَلَّم من أحكام الشرع الشريف هو في ذاته نعمة تستحق الشكر لله وذكره سبحانه؛ فالصلاة وإن كانت باعثة على أحسن التعامل، هي كذلك شكر للمنعم على ما علَّم وأنعم وهدى.

وفى الآية الكريمة بعض إشارات لفظية نذكرها: ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في حال الخوف: (فَإِنْ خِفْتُمْ) معبرًا سبحانه بإن الدالة على التعليق في موضع الشك أو القلة، وفي حال الأمن قال:(فَإِذَا أَمِنتُمْ) معبرًا بإذا الدالة على التحقيق والكثرة؛ وفي ذلك إشارة إلى أن حال الأمن هي الكثرة، وهي الأمر المحقق الثابت، وأن حال الخوف هي القلة وهي ليست أمرًا مؤكدًا ثابتًا. وفي ذلك بيان لنعم الله على الإنسان أنه وهبه الأمن والدعة والاطمئنان، وما يكون من اضطراب وجزع وقلق فمن فعل الإنسان. فقد وهب الله الإنسان العقل، وجعله في أطوار نفسه يألف ويؤلف، فإذا غلبته شقوته فبدَّل من الأمن حربًا، ومن السلام خصاما، فقد تعدى حدود الله وتجاوز فطرته، والله من ورائهم محيط.

* * *

ص: 845

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

* * *

توسطت آيات الصلاة بين الآيات التي تبين ما للمعتدات وما عليهن، وذلك ليتوسط التهذيب النفسي التعامل الاجتماعي، وليستبين المؤمن أن التقوى أساس الصلات التي تربط آحاد الأسرة، وأن التقوى لازمة لتكون روح الاتصال، وميزان الاعتدال عند قيام الحياة الزوجية وعند انقطاعها.

وقد بينت الآيات السابقة ما للمطلقة من حقوف أوجبها العقد نفسه؛ فنصف المهو أو المتعة عند الطلاق قبل المسيس وقبل تسمية المهر أمران أوجبهما العقد نفسه؛ لأن العقد الصحيح يوجب مهرًا على أي صورة كان المهر.

وهاتان الآيتان اللتان سنتكلم في معناهما تبينان ما يجب ليكون الانتهاء من غير قطيعة، ولتكون المودة موصولة بعد انتهاء عقدة النكاح؛ والوجوب فيهما لا يشتق من ذات العقد، ولكنه يترتب على انتهاء العقد، وتوجبه الأخلاق الكريمة. والآية الأولى تبين ذلك النوع من الحقوق الذي يجب للمتوفى عنها زوجها، والثانية تبين مايجب للمطلقة على أنه أثر للطلاق نفسه، لَا على أنه من مقتضى عقد الزواج، كنصف المهر، أو المتعة السابقة.

ص: 846

(وَالَّذينَ يُتَوَفَوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجِ) والمعنى الجملي للآية الكريمة - فيما يظهر ويبدو بادي الرأي - أن الذين

ص: 846

يتوفون ويذرون أي يتركون أزواجًا، والمراد الزوجات؛ لأن كلمة الزوج تطلق على الذكر والأنثى - فرض الله وصية لهؤلاء الزوجات متاعًا أي انتفاعًا مستمرًا إلى نهاية الحول، أي حتى يحول الزمن ويجيء الوقت الذي مات زوجها فإيه (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) أي ينتفعن بالإقامة في مسكنهن الذي كن يسكن فيه في حياة أزواجهن من غير إخراج منه؛ ويصح أن يقال غير مُخْرَجَاتٍ منه، فيكون المصدر على معنى اسم المفعول؛ والمؤدى واحد.

وهنا بعض مباحث لفظية نشير إليها:

أولها: كلمة " وصية " فيها قراءتان مشهورتان؛ إحداهما بالفتح، والثانية بالضم؛ وعلى قراءة الفتح يكون تقدير القول: كتب الله وصيةً متاعًا إلى الحول غير إخراج. وعلى قراءة الضم يكون تقدير القول: عليهم وصيةٌ لأزواجهم حال كون هذه الوصية متاعًا إلى الحول غير إخراج، أو لأجل الانتفاع إلى الحول غير إخراج.

ثانيها: إنه عبر بحول بدل سنة؛ للدلالة على التحول حتى تعود الأيام التي كانت فيها الوفاة، ولو قيل إلى السنة مثلا لاحتمل أن ينتهي الانتفاع بالسكن بانتهاء السنة التي حصلت فيها الوفاة، ولو لم يحل الحول، فكان التعبير السامي بالحول نصًا في أن يمر عام كامل من وقت الوفاة.

ثالثها: قوله " غير إخراج " فالمعنى: غير مخرجات، أو يبقيَن في مسكنهن من غير إخراج من ورثة المتوفى لهن؛ والتعبير بالمصدر في هذا المقام هو الأصل، وهو المغزى والمرمى؛ لأن الوصية هي عدم الإخراج؛ فالوصية ألا يخرجن؛ ولذلك كان التعبير بالمصدر هو الأصل؛ وقوله " غير إخراج " صفة لمتاعا، ومتاعا بدل أو عطف بيان لكلمة " وصيةً " على قراءة النصب، وحال على قراءة الرفع، أو تمييز.

رابعها: إن الله سبحانه وتعالى عبر عن حق الانتفاع بالسكنى سنة بعد الوفاة بأنه وصية، وبأنه متاع؛ أما التعبير بأنه وصية، فلأنه حق يثبت بعد وفاة الزوج في ماله لَا على أنه ميراث، بل على أنه وصية أوجبها الله سبحانه وتعالى بموجب الفرقة بالوفاة؛ فهو يثبت من غير أن يكون له أثر في قدر ميراثها في تركة زوجها؛

ص: 847

وأما التعبير عنه بمتاع، فلأنه في مقابل ما للمطلقات من متاع في الآية الكريمة الآتية

ص: 848

(وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

(فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِن مِن مَّعْرُوف) بقاء المتوفى عنها زوجها سنة في مسكن الزوجية من غير نظر إلى مقدار ميراثها ومن غير تأثير في مقداره أيا كان ذلك المقدار هو حق للزوجة، وليس بواجب عليها؛ وكان حقًا لها من قبيل أنه متصل بحقوق الميت في تركته، فكان حق الزوجة من المقام في بيت الزوجية من المقام سنة بعد الوفاة هو من قبل حقوق المتوفى في ماله كالديون.

ولما كان ذلك حقًّا لها، وهو واجب على الورثة أن يوفروه، فليس واجبًا عليها، فلها أن تبقى ولها أن تخرج؛ ولذا قال تعالى:(فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جنَاحَ عَلَيْكمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ) أى فإن خرجن مختارات راضيات راغبات غير مخرجات، فلا إثم عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف، أي فيما فعلن من أمور تتعلق بانفسهن؛ أي أن البقاء في مسكن الزوجية وعدم البقاء أمر يتعلق بأنفسهن وهن أدرى بمصلحة أنفسهن، في ذلك؛ فإن وجدت مصلحتها وراحتها واطمئنانها وقرارها في أن تنتفع بحق البقاء سنة كاملة بعد وفاة زوجها فإنها تبقى، ويجب أن تمكن من ذلك، ولا يخرجها أحد؛ وإن رأت أن مصلحتها في أن تأوي إلى بيت ذويها، أو عرض لها أن تتزوج بعد انتهاء عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، فإن لها ذلك.

وقد قيد نفي الإثم عن الجماعة فيما يفعلن في أنفسهن بكلمة (من معروف)؛ وهو الأمر الذي تقره الشرائع، وتعرفه العقول ولا يستنكر من أحد؛ قيد نفي الإثم بذلك؛ للإشارة إلى أن الجماعة الإسلامية مسئولة عما يقع من آحادها مخالفًا للمعروف في الشرع والعقل، فمن يأثم فعلى الجماعة أن تعمل على إصلاحه، ولا ينتفى عنها الإثم حتى تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفسر بعض العلماء المعروف بأنه الزواج بعد انتهاء العدة، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام؛ والحق أن المعروف أعم من ذلك.

ص: 848

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بهذا للإشارة إلى ثلاثة أمور:

أولها: أن هذه الأمور التي شرعها الله في الأسرة إنما هي بحكمته، وفيها صلاح المجتمع، وإذا كان يسوغ أن تجبر المرأة على الخروج من منزل الزوجية بمجرد وفاة الزوج، فإن ذلك قد يؤدي إلى فساد كبير، وتهزيع للأخلاق؛ ولقد أعطاها الله سبحانه وتعالى ذلك الحق درءا لهذا الفساد ومنعًا له.

وثانيها: إن الله سبحانه وتعالى غالب على كل شيء، وله سبحانه وتعالى العزة في السماوات وفي الأرض، وأن الورثة إن استضعفوا شأن المرأة فمنعوها حقها فالله فوقهم قاهر غالب، وهو مجازيهم بعملهم، وهو ناصر الضعيف.

وثالثها: إشعار النفوس بتذكر الله رب العالمين عندما ينظمون علاقاتهم بعضهم مع بعض، وخصوصًا في شئون الأسرة.

تبين مما سبق أن موضوع هذه الآية الكريمة لَا صلة لها بمدة العدة بالنسبة للمتوفى عنها زوجها؛ لأن هذه الآية الكريمة بألفاظها ومعانيها لَا تلزم المرأة بالتربص والامتناع عن الأزواج مدة معينة كقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ. . .)، وكقوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَربَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. . .)، إنما تدل هذه الآية على ما للمتوفى عنها زوجها من حق البقاء في بيت الزوجية سنة بعد موت زوجها، وأن لها أن تبقى فيه، وأن تخرج منه على ما تراه مصلحتها ويكون فيه اطمئنانها وقرارها.

وعلى ذلك لَا تكون ثمة معارضة بأي نوع من أنواعِ المعارضة بين هذه الآية وقوله تعالى في عدة المتوفى عنها زوجها (وَالَّذِينَ يُتَوفَوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا. . .)، لأن هذه في بيان العدة، أما الآية التي نتكلم في معناها ففي بيان حق المرأة، لَا بيان الواجب عليها.

ص: 849

ْولكن فرض الكثيرون من المفسرين تعارضًا بين الآيتين، واعتبروا الآية الأولى ناسخة للآية الثانية، وادعوا أن جمهور السلف على ذلك الرأي، واعتمدوا في ذلك على روايات رويت عن عثمان بن عفان، وعبد الله بن عباس وغيرهما.

وقد خالف ذلك شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، فروى عن مجاهد أن هذه الآية - وهي التي نتكلم في معناها - آية محكمة لَا نسخ فيها، فقد قال مجاهد: العدة تثبت أربعة أشهر وعشرًا، ثم جعل الله لهن وصية سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى:(غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرجْنَ فَلا جُنَاح عَلَيْكُمْ).

ولقد روى البخاري مثل ذلك عن مجاهد أيضا، فقد أخرج البخاري عن ابن أبى نجيح عن مجاهد في قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا). قال: " كانت هذه العدة تعتدها عند أهل زوجها واجبًا، فأنزل الله تعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ)

قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت.

وبهذا التخريج وذلك السند الصحيح يثبت أن لَا تعارض قط بين الآيتين، وشرط النسخ التعارض ولم يوجد فلا نسخ، ولكن الجمهور من الفقهاء يعتمدون في النسخ على قوله صلى الله عليه وسلم:" إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ في الجاهلية تَرْمِي الْبَعْرَةَ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ "(1) ففي هذا الحديث تصريح بأن أربعة أشهر وعشر ليالٍ نسخت وجوب البقاء حولا، وهذا كلام حق، وهو لَا يخالف الآية التي نتكلم فيها، لأن الجاهلية كانت تجعل العدة سنة فجعلها الإسلام أربعة أشهر وعشرا، وهذه الآية لَا توجب عدة الجاهلية، فهي لَا تلزم المرأة بالامتناع عن الأزواج سنة كاملة، ولكنها تعطيها حق البقاء لسنة كاملة، فهي تبين ما لها من حق، ولا تذكر ما عليها من واجب اكتفاء بما ذكر في آيات العدة التي تعتدها.

(1) سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم.

ص: 850

وعلى هذا نقرر أن حكم هذه الآية باق لم ينسخ، وثابت مقرر بنص القرآن الكريم؛ وقد قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد وجه الحكم بعدم النسخ من قبله فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير، فقد جاء فيه ما نصه بعد بيان قول من حكم بالنسخ:

القول الثاني قول مجاهد: إن الله أنزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتين إحداهما ما تقدم وهو قوله تعالى (يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. . .)، والأخرى هذه الآية، فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين، فنقول إنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشرًا في تلك الآية المتقدمة، وأما إن اختارت السكنى في دار زوجها والأخذ من ماله وتركته فعدتها هي الحول، وتنزيل الآيتين على هذين التقديرين أولى حتى يكون كل واحد منهما معمولا به.

القول الثالث وهو قول أبي مسلم الأصفهاني: إن معنى الآية من يتوفى منكم ويذرون أزواجًا، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول، فإن خرجن من قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف، أي من نكاح صحيح؛ لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة؛ قال: والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول، فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب؛ وعلى هذا التقدير النسخ زائل؛ واحتج على قوله بوجوه: أحدها: أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان.

والثاني: أن يكون الناسخ متأخرًا عن المنسوخ في النزول، وإذا كان متأخرًا عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخرًا عنه في التلاوة أيضًا؛ لأن هذا الترتيب أحسن، فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة فهو وإن كان جائزًا في الجملة يعد من سوء الترتيب، وتنزيه كلام الله عنه واجب بقدر الإمكان، ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك في التلاوة كان الأولى ألا يحكم بكونها منسوخة بتلك.

ص: 851

الوجه الثالث: هو أنه ثبت في علم الأصول أنه متى وقع التردد بين النسخ وبين التخصيص كان التخصيص أولى، وها هنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد اندفع النسخ، فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل، وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر، لأنكم تقولون تقدير الآية فعليهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها فليوصوا وصية، وأنتم تضيفون الحكم إلى الله تعالى، وأبو مسلم يقول في تقدير الآية: والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم، فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج، وإذا كان لابد من إضمار فليس إضماركم أولى من إضماره، ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية، وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم، وإن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل. اهـ.

هذا كلام الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وهو يدل على أمرين: أحدهما: أن رأى أبي مسلم أن الوصية من الأزواج وليست من الشارع، وهذا الرأي لَا جديد فيه إلا جواز مثل هذا النوع من الوصايا، وأما قول مجاهد فالوصية من الله، وهي ملزمة للورثة، وليست ملزمة للزوجة، وهو الذي نختاره، ويتفق مع السياق.

الأمر الثاني: أن فخر الدين الرازي يميل ميلا واضحًا إلى منع النسخ، ولذلك نراه يبتدئ موجهًا الأقوال موضحًا التوجيه ثم ينتهي بعبارات واضحة كل الوضوح في أن التزام النسخ التزام له من غير دليل، وذلك حق لَا ريب فيه.

(وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) بيَّنت الآية السابقة حق المتوفى عنها زوجها من متاع أي انتفاع بالسكن بعد وفاته على ألا تخرج من بيت الزوجية، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى حق المطلقات.

والمتاع في أصل معناه ما ينتفع به، وهو المعنى في قوله تعالى:(وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) وقد بيَّنا ذلك فيما سبق من قول، وقد ذكرنا أيضًا من قبل أن المتاع انتفاع ممتد الوقت، وهو على هذا التوجيه قد يراد منه النفقة

ص: 852

أمدًا طال أو قصر؛ لأن النفقة - وهي الإدرار على الحي بما به حياته وبقاؤه انتفاع ممتد في الزمان، وقد يراد المتعة أي إعطاء شيء من نحو الثياب ينتفع به أمداً ممتدًا.

والمتاع في هذه الآية ما المراد به؟ أهو المتعة التي ذكرناها في قوله تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْروفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)؛ أم المراد الانتفاع بالنفقة في أثناء العدة؟

ذكر الفخر الرازي أن معنى كلمة متاع للمفسرين فيها قولان هنا:

أحدهما: إن المراد بالمتاع هو المتعة، وهو ما يعطيه المطلق للمطلقة لها من نصف المهر، أو كسوة أو نحو ذلك من كل عطاء غير ممنون لمطلقته ليكون التسريح بإحسان.

والقول الثاني: المراد به النفقة التي تكون للمطلقة في العدة.

وإن القول الأول قد خاض تحت ظله الفقهاء كل يريد أن يخرج الآية على مقتضى مذهبه، ومنهم من أطلق نصها وجعله على عمومه، فأبو ثور والشافعي في أحد قوليه قد أخذا بعموم الآية الكريمة، وقررا أن لكل مطلقة متعة واجبة، فإنها قد وثِّق الوجوب فيها بقوله تعالى:(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ولا يوجد تعبير يوثق الوجوب كقوله تعالى: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)؛ لأن الوجوب فيه قد تأكد بأنه من موجبات التقوى التي يتقى بها العذاب، وبالتعبير بعلى التي تفيد الإلزام، وبكلمة (حَقًّا) وهي مصدر حذف فعله، وهو يدل على تقرير الأمر وتثبيته.

ولقد اتبع هذان الإمامان في ذلك القول الزهري وسعيد بن جبير وغيرهما.

وقال مالك قريبًا من ذلك، وهو أن المتعة تكون واجبة لكل مطلقة إلا المطلقة المسمى لها مهر قبل الدخول بها؛ فقد جاء في المدونة في إرخاء الستور: جعل الله المتعة لكل مطلقة بهذه الآية ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها، فأخرجها من المتعة.

ص: 853

وفى قول آخر للشافعي: إن هذه الآية خاصة بغير المدخول بها التي لم يسم لها مهرًا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه في المتعة الواجبة؛ وقد قال الطبري في ذلك إن الآية الأولى، وهي:(وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ): فهم بعض الناس منها أن المتعة لمن لم يسم لها مهرًا ولم يدخل بها، من الإحسان غير الواجب وليست بواجبة، فجاءت هذه الآية صريحة في الوجوب.

وعلى ذلك الرأي تكون هذه الآية عامة في لفظها أريد بها الخصوص في معناها.

هذه هي التخريجات الفقهية على تفسير المتاع بأنه المتعة، وقد رأيت اضطراب أقوال الفقهاء بشأنها واختلافهم في معناها؛ وقد ادعى بعضهم أن هذه الآية منسوخة بالآية السابقة:(وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)[البقرة].

أما القول الثاني وهو تفسير المتاع بالنفقة فالذين قالوه أقل عددا، ولكنه أكثر اتساقًا، وأبعد عن كل معاني التأويل، وقد قال فيه الفخر الرازي: والقول الثاني بالمتاع النفقة، والنفقة قد تسمى متاعًا، وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى.

ونحن نوافق الرازي على أن ذلك التفسير أولى، لأنه أولا يندفع به التكرار، وتندفع به ثانيًا دعوى التخصيص ودعوى النسخ، ويندفع به الاضطراب الكثير في تحرير معنى الآية الكريمة السامية، وأخيرًا هو الذي يتسق مع ما كان للمتوفى عنها زوجها من متاع هو السكنى، وهي إحدى شعب النفقة، فوجبت حقًّا في مال المتوفى، ولم يجب الباقي لعدم وجود من يجب عليه، أما المطلقة فتجب لها النفقة كاملة بشعبها الثلاث السكنى والطعام والكسوة، والله سبحانه هو العليم بمراده، تعالى كلام الله علؤًا كبيرًا.

ص: 854

(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بهذه الجملة الكريمة السامية ختم الله سبحانه وتعالى الآيات المتعلقة بأَحكام الأسرة، وقد ابتدأ بيانها بقوله تعالى:(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221).

وإن ذلك الختام الكريم فيه تصوير لبيان الله سبحانه وتعالى لأحكام الأسرة وشدة عنايته بأمرها، وتوضيح الأسس الصالحة التي تقوم عليها، والعدالة والمودة والرحمة التي تربط بين آحادها، وكيف فصل سبحانه القول فيها تفصيلا لم يفصله في غيرها من شئون الدين، فلم يبين الصلاة والزكاة والحج كما بين الله سبحانه في كتابه الكريم أحكام الأسرة والروابط التي تربط بين آحادها؛ لأن الأسرة قوام المجتمع الإسلامي الفاضل، فإذا تزلزلت اضطرب ميزان الاجتماع، وتهدمت أركانه.

(كذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي مثل هذا البيان القوي الواضح العالي الذي يوجه النفوس نحو المودة الرابطة، والرحمة العاطفة، والعدالة المنصفة، يبين الله سبحانه وتعالى آياته المتلوة، وآياته النفسية، وآياته الكونية؛ أي أن الله سبحانه وتعالى يبين دائمًا آياته المذكورة مثل البيان الذي يبين به أحكام الأسرة؛ فهذا التشبيه لتصوير بيان الله دائما لآياته بهذه الصورة التي يقرأها القارئ لكتاب الله في آيات النكاح، والطلاق، وما يعقبه من التسريح بإحسان أو التسريح الجميل كما عبر القرآن الكريم.

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وفي هذه العبارة السامية إشارة إلى الغاية من بيان الله سبحانه وتعالى لحقائق الشرع وتوجيه النظر إلى النفس وإلى الكون، وتلك الغاية هي أن يعقل الناس أي يفكروا بعقولهم، ويبعدوا عنها أرجاس الجاهلية، ويحرروها من ربقة التقاليد القديمة التي كانوا يعبرون عنها بقولهم (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا. . .)، والتعبير بصيغة الرجاء، وهي (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) هو في معنى التعليل أي لتعقلوا؛ لأن الرجاء من الله سبحانه وتعالى لَا يكون على معناه الأصلي،

ص: 855

أو يقال إن ذلك البيان من شأنه أن يرجى أن يعقلوا ويتفكروا، فالتعبير بلفظ يدل على الرجاء للإشارة إلى هذا المعنى المحكم.

هذا وإن أحكام الأسرة كما جاءت في الآيات الكريمة باعثة على التأمل وإحكام النظر، والإيمان بأن هذه الشريعة من عند اللطيف الخبير، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.

* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

* * *

في الآيات السابقة قد بين سبحانه وتعالى أحكام الأسرة، والدعامة التي يقوم عليها بنيانها، والنظم التي تربط آحادها، وحقوق كل واحد فيها على سائرها؛ فبين حق الزوج، وحق الولد، وما ينبغي لتستمر المودة الرابطة حال بقاء الزوجية وعند انتهائها ليكون حبل الوداد موصولا دائمًا.

والأسرة هي بناء المجتمع الإنساني، واللبنات التي يشاد منها صرح مجتمع فاضل؛ فالمجتمع القوي الفاضل لَا يقوم إلا على دعائم من أسر قوية فاضلة، ففي الأسرة يتعلم الطفل مبادئ المجتمع المشترك المتحد المؤتلف، وفي الأسرة يسمو نزوعه المدني إلى الاجتماع والائتلاف، ويتجه اتجاهًا مستقيمًا نحو أسمى الغايات الاجتماعية، وهو أن يكون امرأ يألف ويؤلف؛ وإن الأساس الحقيقي للاجتماع أن يكون آحاده ممن يألفون ويؤلفون؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:" المؤمن مألفة، ولا خير فيمن لَا يألف ولا يؤلف "(1).

(1) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار (21773) عن سهل بن سعد الأنصاري، كما رواه عن أبي هريرة في مسنده (8831) بلفظ:" المؤمن مؤلف ".

ص: 856

وإن القادة والزعماء الذين يعدون أممهم للكفاح يبتدئون بالأسرة، فيحمونها ويقيمون دعائمها على أسس الخير وحب الاجتماع، والاستعداد للفداء في سبيله والنظم الاجتماعية التي جرب فيها محو الأسرة لتتربى الأمة على الكفاح - كنظام ليكورغ في أسبرطة - أدى إلى وجود شباب قد يكون قويًا في جسمه، ولكن لا يمكن أن يكون قويًا في خلقه وإيمانه بالفضيلة، والمثل العليا للمجتمع الفاضل الذي يحمي نفسه من ذرائع الانحلال في داخله، ويدرع بعدة القتال لحماية الحوزة ودفع الذل.

من أجل هذا كانت أحكام الأسرة بين أحكام الجهاد في القرآن؛ فقد سبق أحكام الأسرة كلام من الله تعالى في القتال وأعقبها دعوة وتحريض على الجهاد، وحث عليه بضرب الأمثال من الأمم السابقة، وكيف جاهدت في سبيل الحق، وانتصرت القلة مع إيمانها على الكثرة مع كفرها؛ وقد ابتدأ سبحانه وتعالى هذا بقوله تعالت كلماته:

ص: 857

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) الاستفهام هنا يؤدي في مغزاه معنى التقرير والتثبت؛ وذلك لأنه للإنكار والنفي، وقد دخل على منفي فنفَى النفي، وبذلك تقرر المعنى وثبت؛ لأن نفي النفي إثبات؛ فالمعنى قد رأيت ونظرت وعلمت، والخطاب عام لكل قارئ وسامع إلى يوم القيامة، والرؤية بمعنى العلم؛ فإن رأى تكون بمعنى علم وبمعنى أبصر، أو تكون دائما بمعنى أبصر، ولكن الإبصار قد يكون بالبصر، وقد يكون بالبصيرة فيكون علمًا؛ وقد تتضمن الرؤية معنى النظر وهو نظر بالبصيرة؛ ولأنها تضمنت معنى النظر قد تعدت بإلى، فقال تعالى:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ) وقد ذكر الراغب الأصفهاني في مفرداته: أن رأى إذا تضمنت معنى النظر، ولو كان النظر بالبصيرة، تتعدى بإلى.

والمعنى الإجمالي: لقد علمت أيها القارئ المتتبع لسق الله في الناس واجتماعهم الناطقة به آياته في نفوسهم وفي الآفاق، علم اليقين والجزم الناشئ عن

ص: 857

دليلْ منير - حال أولئك الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، ومن لم يعلم ذلك ينبغي أن يعلم؛ لأن البينات قائمة؛ والعلامة المعلمة واضحة فالاستفهام في الآية يقرر العلم، ويوجه الأنظار إلى وجوبه، ويحثها على الأخذ في أسبابه والالتفات إلى أماراته وأعلامه؛ فهو تقرير وتنبيه، وإثارة للمعجب من حال من فروا من الجهاد فلقوا الموت.

ومن هم أولئك الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت؟ قبل أن نخوض في الجواب عن ذلك نتكلم في أمرين لفظيين قد يهدي أحدهما إلى الحق في شأن أولئك الذين خرجوا من ديارهم.

الأمر الأول - كلمة " ألوف " فإن بعض العلماء فسرها بمعنى كثرة العدد، أي أنهم عدد كثير، ألوف مؤلفة، وكثرة كاثرة؛ فما كان خوفهم عن قلة، بل كان عن كثرة؛ أو ما كان الخوف عن سبب يسوغه، بل كان عن جبن يخذل.

وبعض العلماء قال: إن معنى " ألوف " مؤتلفون مجتمعون؛ فألوف على هذا جمع آلف، كقعود جمع قاعد، وركوب جمع راكب، ونحو ذلك؛ والمعنى على ذلك أنهم قبل خروجهم من ديارهم، وتفرقهم في الأرض كانوا مؤتلفين مجتمعين توحدهم كلمة جامعة، ووحدة رابطة، ففرقهم الخوف على الحياة أيا كانت صورها ولو كانت حياة الذل والانكسار، وإنه ليعقبها الشقوة والانهيار.

الأمر الثاني - كلمة " حذر الموت " تنبئ عن الباعث على فرارهم، وهو حرصهم المطلق على الحياة على أي صورة كانت تلك الحياة، كما وصف سبحانه وتعالى اليهود فقال سبحانه:(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ. . .)، أي مهما يكن نوع هذه الحياة، ثم خوفهم المطلق من الموت، أيا كانت أسبابه، ومهما تكن نهاية الفرار منه، وإن ذلك الخوف كان قبل أن تتحقق أسبابه فلم يكن الموت قد نزل ضربة لازب لَا مناص منه إلا بالخروج من الديار؛ بل إن الذي دفعهم هو الحذر من الموت، وليس الحذر إلا توقيًا للأسباب واحتراسًا وابتعادًا قبل أن تظهر الأسباب قوية ملزمة موجبة، وعلى ذلك يكون الحذر من الموت أدق

ص: 858

في بيان جبنهم من الخوف، إذ الخوف يكون وقد ظهرت موجباته، وتعددت الأمارات؛ أما الحذر فإنه توق مانع قبل وجود الأسباب وإن بدت ولاحت بعض أمور احتمالية لوجود هذه الأسباب.

ولقد كانت نتيجة خروج أولئك الحذرين من الموت أن استقبلهم الموت المقدور، فقال لهم الله موتوا؛ وأمر الله سبحانه وتعالى هنا أمر تكويني؛ أي أنه سبحانه وتعالى أماتهم، وإن أمر الله التكويني هو بإيجاد ما ساقه على أنه أمره (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكونُ).

فإذا كان أولئك قد فروا من الموت فليلقاهم الموت، وكيف يفرون من أمر وهو واقع لَا محالة طال الأمد أو قصر، وهو واحد مهما تعددت أسبابه، والموت في شرف خير من الحياة في خسة، والموت في عزة خير من الحياة في ذلة!.

بعد هذا نجيب عن السؤال: من هم هؤلاء الذين فروا من الموت فلقيهم من حيث لَا يقدرون، ثم أحياهم من ذلك رب العالمين؛ وهل هذه الحياة كانت في الدنيا؟

قد وردت في ذلك أخبار وروايات لم تثبت بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي بيَّن الكتاب للناس، ولا عن أحد من أصحابه الذين تلقوا ذلك البيان.

ومن تلك الروايات أنهم قوم من بني إسرائيل خرجوا هاربين من الوباء فنزلوا واديًا، فأماتهم الله ثم أحياهم اعتبارًا وإجابة لدعاء نبي من أنبيائهم.

وفى رواية أخرى أنهم قوم من بني إسرائيل فروا من الجهاد مع نبيهم، فأماتهم الله ليعلمهم أنه لَا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم ليجاهدوا.

ورواية ثالثة تقول: إن أولئك القوم كانوا من بني إسرائيل، حرضهم ملك من ملوكهم على الجهاد فخرجوا حذر الموت، فأماتهم الله سبحانه ثم أحياهم.

وفى كل رواية من تلك الروايات تفصيلات لَا حاجة إلى ذكرها، ولقد نقل القرطبي في أحكام القرآن بعد ذكر هذه الروايات ما نصه: قال ابن عطية: وهذا

ص: 859

القصص كله ليِّن الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إخبارًا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ليروا هم وكل من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لَا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا اغترار مغتر؛ وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمر المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وهذا قول الطبري، وهو ظاهر وصف الآية (1).

هذه كلمة نقلها القرطبي، وقد اختار من قبله شيخ مفسري الأثر ابن جرير ذلك، وقد ارتضى ألا يتعرض لأولئك الأقوام من هم؟ إذ لو كان في ذكرهم فائدة لذكرهم القرآن، أو لذكرتهم السنة النبوية.

وإن المفسرين السابقين قد نهجوا على أساس أن الموت حقيقي حسي، وأن أولئك قد ماتوا حسًا وأحياهم الله سبحانه وتعالى حسًا، وإن ذلك بلا ريب يكون فيه مع إعلامهم بأن الموت لَا مناص منه، بيان لقدرة الله الخارقة للعادات، المتحكمة في السنن الكونية، فلا تخضع لهذا السنن، لأن الله منشئها.

ولقد جاء من بعد أولئك المفسرين السابقين الأستاذ الشيخ محمد عبده، فرأى أن الموت معنوي، والحياة حسية، فرأى رضي الله عنه أن الموت هو موت الأمم، والحياة هي حياتها، وموت الأمم بتفرق كلمتها وذهاب وحدتها، وضرب الذلة عليها؛ وأن حياتها هي اجتماع كلمتها، ونيل عزتها، وتولى أمرها بنفسها، وخروجها من ديارها أن يتحكم فيها عدوها، فإنها تكون غريبة في أرضها ما دام لا أمر لها فيها، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، ولنترك الكلمة له كما رواها تلميذه السيد رشيد رضا رحمه الله تعالى، فقد قال:

" أطلق القرآن القول في هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ولم يعين عددهم ولا أمتهم ولا بلدهم، ولو علم لنا خيرًا في التعيين والتفصيل لتفضل علينا بذلك في كتابه المبين، فلنأخذ القرآن على ما هو عليه، لَا ندخل فيه شيئًا من الروايات.

(1) أحكام القرآن للقرطبي جـ 3 ص 231.

ص: 860

الإسرائيلية التي ذكروها، وهي صارفة عن العبرة، ولا مزيد كمال فيها. المتبادر من السياق أن أولئك القوم خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لَا من قلتهم، فقد كانوا ألوفا أي كثيرين، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء، فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت، وما هو إلا سبب الموت. . ولما خرجوا فارين (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا) أي أماتهم بإمكان العدو منهم؛ فالأمر أمر التكوين، لَا أمر التشريع؛ أي قضت سنته في خلقه بأن يموتوا بما أوتوه من سبب الموت؛ وهو تمكين العدو المحارب من أقفائهم بالفرار، ففتك بهم وقتل أكثرهم؛ ولم يصرح سبحانه بأنهم ماتوا، لأن أمر التكوين مشيئة الله سبحانه. . (ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) إنما يكون الإحياء بعد الموت؛ والكلام في القوم لَا في أفراد. . . فمعنى موت أولئك القوم أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم، وأزال استقلال أمتهم، حتى صارت لَا تعد أمة، بأن تفرق شملها، وذهبت جامعتها، فكان من بقي خاضعين للغالبين، ضائعين فيهم مدغمين في غمارهم لَا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم؛ ومعنى حياتهم هو عودة الاستقلال إليهم؛ ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديبًا لهم، ومطهرًا لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة. أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، حتى عادت لهم وحدتهم قوية، فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال. فهذا معنى حياة الأمم وموتها " (1).

وهذا نظر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ونراه نظر إلى مرمى الآية الكريمة، وهو يتجه إلى أن الموت والحياة هو موت الأمم وحياتها؛ وموت الأمة ليس بموت آحادها، إنما هو بذهاب الجامعة التي تربطها، واندغامها في غيرها، حتى لا يصبح لها كيان قائم بذاته؛ وحياتها هي عودة هذه الوحدة الجامعة، والعزة المسيطرة والكيان المستقل.

(1) تفسير المنار ج 2 ص 451.

ص: 861

وبعد هذا العرض الذي سقناه بيانًا لآراء العلماء أجد في نفسي ميلًا لأن أعتبر الحياة التي منحهم الله سبحانه وتعالى ليست تلك الحياة المادية في الدنيا بإعادة الروح إلى العظام واللحم؛ وإن كان ذلك في قدرة الله سبحانه وتعالى؛ ولو كانت الآية في مقام إثبات البعث والنشور لقررنا ذلك وقلنا إن الآية لَا تحتمل سواه، ولكن المقام هنا هو مقام الحث على القتال والتحريض عليه وسوق القصص الدالة على وجوبه، ليكون حفاظا للأمم، وسياجًا لوجودها، فيكون الإحياء بمعنى غير إعادة الروح إلى الجسد في هذه الدنيا، وعلى ذلك لَا مناص لي من أن أختار أحد أمرين:

أولهما: أن نقول إن الحياة هي حياة الأمم برد عزتها بعد أن فقدتها، والموت هو موت الأمم بذهاب جامعتها على النحو الذي بينه الأستاذ الإمام؛ فالحياة والموت هنا معنويان، والقرآن الكريم قد أطلق الحياة والموت على الأمور المعنوية، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ. . .)، وقال تعالى:(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا. . .).

وإنا إذا اخترنا ذلك المنهاج الذي نهجه الأستاذ الشيخ محمد عبده، فإننا نقرر أن الله سبحانه قد ذكر لنا في آية آخرى في بني إسرائيل أنهم تفرقوا في الصحراء تائهين عندما عجزوا عن دخول الأرض المقدسة مع موسى فذهبت وحدتهم، حتى إذا رد إليهم بأسهم وقويت نفوسهم بالحياة البدوية جمعهم الله فأحياهم وجعلهم جماعة تقاتل في ظل النبيين. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في سورة المائدة فقد قال تعالى في مجاوبة بني إسرائيل لموسى عندما دعاهم إلى القتال ليدخلوا الأرض المقدسة:(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25).

ص: 862

فهؤلاء الذين تاهوا في الأرض قد ماتت وحدتهم، وقد أحياهم الله سبحانه من بعد بجمع كلمتهم في عهد الملوك والنبيين. وإنه ليزكي ذلك النظر أن الآيات من بعد ذلك في قتال بني إسرائيل مع ملوكهم وأنبيائهم، وانتصارهم وهم فئة قليلة مع داود عليه السلام على أعدائهم وقد كانوا كثيرين.

الأمر الثاني: الذي تحتمله الآية الكريمة في معنى الحياة والممات: أن يكون المراد الموت الحقيقي بموت أكثرهم، وتشتت باقيهم؛ وذلك لأن حذر الموت جعل عدوهم يعمل سيفه في رقابهم حتى أباد خضراءهم، واجتث شأفتهم، والحياة من بعد ذلك هي الحياة الآخرة، وما يجري بعدها من حساب وعقاب، فهم قد أذاقهم الله سبحانه وتعالى بها مغبة الجبن في الدنيا، وسيحاسبهم على ما كان منهم في الآخرة، فهم بهذا قد خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وقد يقول قائل: إن التعبير بالماضي والحياة في الآخرة أمر مستقبل غيب الله سبحانه زمانه، وأكد وجوده، فنقول: إن التعبير بالماضي للدلالة على تأكيد أن الوقوع في المستقبل منهاج قرآني كما في قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجلُوهُ. . .)، فـ (أتي) هنا بمعنى سيأتي، بقرينة " فلا تستعجلوه " ومثل قوله تعالى في أهوال يوم القيامة:(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).

هذان هما الأمران، ولعل أولهما أبين وأوضح، ونحن إليه أميل. وقد يقول قائل: لماذا تستبعد الإحياء الجسمي في الدنيا؟ أهو مستحيل؟ وجوابنا عن ذلك: إنه ليس بمستحيل، ولكنه خارق للعادة، والله سبحانه وتعالى يسير أمور الناس على مقتضى ما سنه في الكون حتى تقتضي حكمته خرق ذلك النظام ليكون حجة على رسالة رسول، وليس في الآية ما يدل على ذلك، كما أنه لم يسق الآية لبيان البعث حتى يكون خرق سنن الله التي سنها في الكون لبيان قرب البعث وقدرة الله عليه؛ إنما الأمر في الجهاد، ويناسب ذلك أحد المعنيين اللذين ذكرناهما، والأول في هذا المقام أنسب، وهو على النحو الذي وضحناه يكون تمهيدًا لبيان قصص بني إسرائيل في قتالهم.

ص: 863

(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) بعد بيان حال الذين فروا من الجهاد، وآثروا الدعة والراحة فلم يأخذوا الأهبة للقاء عدوهم الذي يتربص بهم الدوائر، وينتهز أية فرصة لينقض عليهم؛ بعد بيان حال هؤلاء وأنهم يفرون من الموت في شرف إلى الموت في خسة، ومن الموت العزيز الكريم، إلى الموت الذليل الذي يدفع إليه الطبع اللئيم؛ بعد هذا كله أشار سبحانه إلى فضله تعالى على الناس أجمعين؛ وإن الإشارة إلى فضل الله تعالى في هذا المقام تنبيه للعقول الغافلة، وإيقاظ للأفكار الراقدة إلى عظيم نعمته تعالى على الناس في أنفسهم وفي اجتماعهم؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى أنشا النفوس الإنسانية، وأودعها الإلف والائتلاف، وبذلك يتكون الاجتماع، ويعاون كل امرئ الآخرين، وبفضل التعاون تقوم الأمة، ويشتد ساعدها، ولقد أوح الله سبحانه وتعالى مع تلك النعمة المؤلفة الرابطة قوة أخرى في الإنسان، وهي القدرة على الدفاع عن النفس، ومغالبة الذين يصاولونه، ويريدون به الأذى، من أعداء مغيرين، أو حيوان مفترس؛ فبهذه القوة الخلقية التي أودعت نفسه، وبتلك القوة الجسمية المكافحة يصاول أعداءه، ويحمي أولياءه، ومن مزيد فضله على الناسِ أن أباح الدفاع عن النفس، والقتل في سبيل ذلك، كما قال تعالى:(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

ومن فضل الله على الناس أن مكن للمظلوم من ظالمه، وللمعتدى عليه من المعتدي إذا أخذ المظلوم في أسباب دفع الظلم واستعد، ولم يمكن الظالم من رقبته؛ فإن مات في سبيل ذلك مات شهيدًا، وجعل الله سبحانه وتعالى له في الآخرة نعيمًا مقيمًا، وثوابًا دائمًا، واعتبره أفضل الأحياء؛ كما قال تعالى:(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

واعتبر سبحانه وتعالى الجهاد في الدفاع عن الحوزة والديار ما دام عادلًا، جهادًا في سبيله سبحانه وتعالى.

ص: 864

كل هذا من فضل الله على الناس (وَلَكِنَّ أَكْثرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) لا يشكرون هذه النعم ويقومون بحقها عليهم، فإن شكر النعم أن يحس المنعم عليه بفضل المنعم، ويحمده ويثني عليه، ويقوم بحق الإنعام بأن يجعل ما أنعم الله به عليه لخيره وخير الناس، ويستعمله فيما أحله سبحانه.

وأكثر الناس قد كفروا هذه النعم؛ فمنهم من أشرك مع المنعم سبحانه غيره من أحجار وأوثان وشمس وبقر ونار، فطمس الله على بصيرتهم؛ ومنهم من كفر بما أودع الله نفسه من قوة، فاستخذى واستكان، ورضي بالمكان الدون، والمنزل الهون؛ ومنهم من تقاعس في الدفاع عن حوزته ودياره وهو على ذلك قادر حتى أبيح الحمى وهدمت الديار؛ ومنهم من فر من لقاء الأعداء، حتى آل إلى الموت الخسيس، وقد جهل نعمة الله على الناس، وسننه فيهم وهي أنه لَا ينجي من الموت إلا الإقدام على الموت مدرعًا بكل وسائل القتال والدفاع؛ وأن من يطلب الموت ينال الحياة، ومن يفر من الموت الشريف يطلبه الموت الذليل تلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

هذا موضع قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) في مقام بيان عاقبة الذين يتركون الجهاد ويفرون حذر الموت، وهو يدل على أن أولئك الفارين لم يقوموا بحق المنعم الذي أنعم عليهم؛ إذ لم يطيعوه بأخذ الأهبة والاستعداد، ولم يعتمدوا عليه سبحانه بعد أن يأخذوا بالأسباب، وكفروا بأنعم الله عليهم ولم يقوموا بحقها فعطلوا قواهم ورضوا بالفرار والعار، وعندهم القدرة على الدفاع مستعينين بالله سبحانه.

وقد قال تعالى في وصف ذاته الكريمة (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناسِ) أي لصاحب فضل دائمًا، أي أن الفضل على الناس بلازم ذاته الكريمة، فهو المتفضل سبحانه وتعالى دائمًا؛ تفضل بالإيجاد، وتفضل بإيداع القوي، وتفضل بسن السق الكونية والشرائع الهادية، والإرشاد القويم؛ وتفضل بأن أقام الأمور على الحق والقسط، وأن الخير يدفع الشر، وأهل الحق يدفعون الباطل وأنصاره، وأن

ص: 865

المعتدى عليه يدفع اعتداء المعتدي وفي كل ذلك صلاح الأرض (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).

ص: 866

(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هذه الآية الكريمة استئناف مترتب فيه الأمر الملزم بالقتال على القصة المشار إليها آنفًا، فإنه إذا كان الخروج من الديار حذر الموت يؤدي لَا محالة إلى الموت، فإنه من الواجب القتال في سبيل الله تعالى ورد الاعتداء، وإذا كان الموت في القتال محتملا أو راجحًا، فالموت في الفرار والخروج من الديار حذر الموت مؤكد لَا محالة، ولو خير العاقل بين موت احتمالي وفيه الفخار، وموت مؤكد وفيه العار، لاختار بلا ريب القتال.

وإن القتال في سبيل الله هو الحياة الكاملة؛ فإن قتل في ذلك فقد رزق الشهادة، وهي رزق يتنافس فيه المؤمنون، ويطلبه المتقون، وسبيل الله هي سبيل الحق، فبهل قتال لأجل الدين والدفاع عنه فهو قتال في سبيل الله، وكل قتال في سبيل الجماعة هو قتال في سبيل الله ما دام القتال عادلا، وقتال المرء دون عرضه هو قتال في سبيل الله، وقتاله دون ماله هو في سبيل الله سبحانه (1)، فكل قتال لدفع الظلم وإعلاء منار الحق هو من القتال في سبيل الله سبحانه، ولقد قال الإمام مالك رضي الله عنه:(سبل الله كثيرة) وكل طريق للوصول إلى الحق أو حمايته أو الدفاع عنه هي من سبل الله سبحانه وتعالى.

والخطاب في الآية الكريمة: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) للمسلمين أجمعين في كل الأجيال وفي كل العصور، ولم يقل في هذه الآية كما قال في غيرها:(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا. . .)، مع أن أصل القتال في الإسلام لدفع الاعتداء فقط، لم يقل سبحانه وتعالى ذلك إلا للأشارة إلى أمرين:

(1) عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» قال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. لأسنن الترمذي: كتاب الديات - من قتل دون ماله فهو شهيد (1341)].

ص: 866

أولهما: وجوب الاستعداد الدائم للقتال فإن حب الغلب في فطرة الإنسان، وتوقع الاعتداء مع ذلك أمر لابد منه كما قال تعالى:(وَأَعدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة ومِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكمْ. . .)، ولا شيء يمنع الاعتداء أكثر من الاستعداد لدفع الاعتداء، فلو كان للحَمَل نابٌ ما عَدَت عليه الذئاب؛ ولو كان للظبي ظفر وناب ما افترسته أوابد الوحوش.

ثانيهما: القتال في سبيل نصرة الحق ودفع الظلم ومعاونة المظلومين ضد الظالمين؛ وذلك حق على كل مسلم وإن لم يكن الاعتداء واقعًا عليه؛ فالقتال لدفع الظلم وإقامة الحق قتالا عادلا وهو قتال في سبيل الله سبحانه، ولو لم يقع الاعتداء على شخص القاتل؛ لأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كنتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .).

ولقد بارك النبي صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وقد كان عهدًا بين المتحالفين أن ينصروا المظلوم على الظالم (1).

ولقد عطف الله سبحانه وتعالى على الأمر بالقتال قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فهو أمر منه سبحانه بأن يتذكروا دائمًا أن الله سبحانه وتعالى سميع لكل أقوالهم التي ينطقون بها سواء أكانت تلك الأقوال تدل على رغبة في الجهاد وطلب للاستشهاد، أم كانت هذه الأقوال مخذلة معوقة للمجاهدين الأبرار من مثل قول:(لَوْ كانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتلْنَا مَا هُنَا. . .)، ومثل قول:

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ. . .)، وإنه سيجازي كل واحد بقوله، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر.

وكما أمرنا أن نتذكر دائما أنه سميع لنشعر برقابته على أقوالنا، أمرنا بأن نتذكر بأنه عليم بخواطرنا وبالدوافع التي تدفعنا إلى القتال، فهو يعلم الوساوس التي تلقى في النفس ضعفًا يظهر على الشفاه، وتعلنه الأفعال، ويعلم البواعث التي تدفع إلى القتال أهي فخار ورغبة في دنيا يصيبها، أم لتكون كلمة الله هي العليا،

(1) راجع في ذلك: فتح الباري (1230) - لَا حِلف في الاسلام.

ص: 867