المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإقتصاد في السنة خير من الإجتهاد في البدعة - سلسلة الآثار الصحيحة أو الصحيح المسند من أقوال الصحابة والتابعين - جـ ١

[الداني آل زهوي]

الفصل: ‌الإقتصاد في السنة خير من الإجتهاد في البدعة

"الكبرى"(3/ 453/ 5899) والترمذي (2725) وزهير بن حرب في "العلم"(رقم: 100) وأبو جعفر المصيصي لوين في "جزئه"(رقم: 22) وابن حبان (14/ 345/ 6433) والطيالسي (780) والبيهقي (3/ 231) والطبراني في "الكبير"(2/ رقم: 1951) والمعافى بن عمران في "الزهد"(رقم: 132) وأبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان"(299).

من طريق: شريك بن عبد الله، عن سماك، عن جابر بن سمرة به.

قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب، وقد رواه زهير عن سماك أيضًا".

قال الشيخ الألباني رحمه الله في "الصحيحة"(1/ 2/ 648/ رقم: 330): "شريك فيه ضعف من قبل حفظه، لكن متابعة زهير إياه تقويه، وهو زهير بن معاوية بن حُديج، وهو ثقة من رجال الشيخين".

فقه الأثر:

قال العلامة الألباني رحمه الله:

"وفي الحديث تنبيه على أدب من آداب المجالس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، طالما أهمله الناس اليوم -حتى أهل العلم- وهو أن الرجل إذا دخل المجلس يجلس فيه حتى ينتهي به المجلس، ولو عند عتبة الباب، فإذا وجد مثله فعليه أن يجلس فيه، ولا يترقَّب أن يقوم له بعض أهل المجلس من مجلسه؛ كما يفعل بعض المتكبرين من الرؤساء والمتعجرفين من المتمشيخين" اهـ.

* * *

4 -

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "‌

‌الإقتصادُ في السُّنّةِ خيرٌ من الإجتهاد في البدعة

".

أثر صحيح. أخرجه: الحاكم في "المستدرك"(1/ 103) وأحمد في "الزهد"(رقم: 869 - ط. دار الكتاب العربي) والدارمي في "مسنده" أو "سننه"(1/ 83/ 217 - ط. دار الكتاب العربي) أو (1/ 223/296 - ط. حسين سليم أسد) واللالكائي (1/ 61، 99/ 13، 14، 114) والمروزي في "السنة"(رقم: 90 - ط. العاصمة) وابن بطة في "الإبانة"(1/ رقم: 161، 201، 246، 247)

ص: 14

وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام وأهله"(3/ 70/ 429، 430 - ط. العلوم والحكم) أو (2/ 344، 345/ 437، 438 - ط. الغرباء الأثرية) والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/ 383/ 391) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 1179/ 2334) -معلقًا-.

من طريق الأعمش، عن عمارة بن عمير ومالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود به.

وإسناده صحيح.

وله طريق أخرى عند الطبراني في "الكبير"(10/ رقم: 10488) فيها ضعف، بسبب محمد بن بشير الكندي، وانظر "مجمع الزوائد"(1/ 173).

وله طرق أخرى عند المروزي في "السنة"(91) وابن بطة في "الإبانة"(1/ رقم: 178، 179) وأبو جعفر الطوسي في "الأمالي"(رقم: 484).

ورُوي الأثر عن أبي الدرداء وأُبي بن كعب.

والأثر صحّحه المحدث الألباني في "صلاة التراويح "(ص 6 - ط. المكتب الإسلامي).

وأثر أبي الدرداء؛ أخرجه ابن نصر المروزي في "السنة"(رقم: 102) وابن بطة (232) واللالكائي (115) وغيرهم، وهو صحيح أيضًا.

* * *

5 -

عن حمزة بن صهيب؛ أن صهيبًا كان يكنى أبا يحيى، ويقول: إنه من العرب، ويطعم الطعام الكثير، فقال له عمر: "يا صهيب؛ مالك تكنى أبا يحيى وليس لك ولد؟ وتقول: إنك من العرب، وتطعم الطعام الكثير؛ وذلك سرف في المال؟!

فقال صهيب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا يحيى.

وأما قولك في النسب؛ فأنا رجلٌ من النمر بن قاسط، من أهل الموصل، ولكني سُبيتُ غلامًا صغيرًا، قد غفلتُ أهلي وقومي.

وأما قولك في الطعام؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "خياركم من أطعمَ

ص: 15

الطعامَ وردَّ السلام"؛ فذلك الذي يحملني على أن أُطعِمَ الطعام".

أثر حسن. أخرجه: أحمد في "المسند"(6/ 16) أو رقم: (34032 - قرطبة) وابن ماجه -مختصرًا- (3738) والطبراني في "المعجم الكبير"(8/ رقم: 7310) ولوين في "جزئه"(رقم: 63) وابن سعد في "الطبقات"(3/ 170 - 171) والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 340) وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 153).

من طريق: عبد الرحمن بن مهدي، عن زهير، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن حمزة بن صهيب به.

قال الشيخ الألباني في "الصحيحة"(1/ 1/ 110): "وإسناده حسن، وهو وإن كان فيه زهير؛ وهو ابن محمد التميمي الخراساني، فإنه من رواية غير الشاميين عنه، وهي مستقيمة. لكن حمزة لم يوثقه غير ابن حبان، وما روى عنه إلا اثنان، لكنه تابعي، فيمكن تحسين حديثه" اهـ.

وقال الحافظ أبو نعيم في "الحلية": "رواه يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن صهيب نحوه".

ثم ساقه من رواية محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى به.

وخالفه سعيد بن يحيى الأموي؛ فرواه عن أبيه، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه به.

أخرجه الحاكم (3/ 398) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(1/ 218/ 285).

وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(8/ رقم: 7297) والتيمي في "سير السلف الصالحين"(2/ 455 - 456). من طريق: ربيعة بن عثمان، عن زيد بن أسلم، عن أبيه به.

وضعَّف إسناده الشيخ الألباني.

وأخرجه أحمد (6/ 333) من طريق: بهز، عن حماد بن سلمة، عن زيد بن أسلم؛ أن عمر بن الخطاب قال لصهيب

فذكره.

ص: 16

رهو منقطع بين زيد بن أسلم وعمر بن الخطاب.

قال الشيخ الألباني: "وبالجملة" فالحديث قوي بهذه الطرق، وقد ذكر نحوه ابن حجر في "الفتح" (4/ 413) اهـ. "الصحيحة" (رقم: 44).

من فوائد الحديث:

[الكلام تحت هذا العنوان للعلامة الألباني رحمه الله].

"وفي هذا الحديث فوائد:

الأولى: مشروعية الإكتناء لمن لم يكن له ولد؛ بل قد صحّ في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كنى طفلة صغيرة حينما كساها ثوبًا جميلًا، فقال لها:"هذا سنا يا أم خالد! هذا سنا يا أم خالد".

وقد هجر المسلمون -لا سيما الأعاجم منهم- هذه السنة العربية الإسلامية، فقلّما تجد من يكتني منهم، ولو كان له طائفة من الأولاد، فكيف من لا ولد له؟! وأقاموا مقام هذه السنة ألقابًا مبتدعة؛ مثل: الأفندي، والبيك، والباشا، ثم السيد، أو الأستاذ، ونحو ذلك مما يدخل بعضه أو كله في باب التزكية المنهي عنها في أحاديث كثيرة؛ فليتنبه لهذا.

الثانية: فضل إطعام الطعام، وهو من العادات الجميلة التي امتاز بها العرب على غيرهم من الأمم، ثم جاء الإسلام وفد ذلك أيما توكيد؛ كما في هذا الحديث الشريف، بينما لا تعرف ذلك أوروبا، ولا تستذوقه، اللهم! إلا من دان بالإسلام منها؛ كالألبان ونحوهم.

وإن مما يؤسف له أن قومنا بدؤوا يتأثرون بأوروبا في طريقة حياتنا -ما وافق الإسلام منها وما خالف- فأخذوا لا يهتمون بالضيافة، ولا يلقون لها بالًا؛ اللهم! إلا ما كان منها في المناسبات الرسمية، ولسنا نريد هذا، بل إذا جاءنا أي صديق مسلم؛ وجب علينا أن نفتح له دورنا، وأن نعرض عليه ضيافتنا؛ فذلك حقٌّ له علينا ثلاثة أيام؛ كما جاء في الأحاديث الصحيحة.

وإن من العجائب التي يسمعها المسلم في هذا العصر الإعتزار بالعربية لمن لا يقدرها قدرها الصحيح، إذ لا نجد في كثير من دعاتها اللفظيّين من تتمثّل فيه

ص: 17

الأخلاق العربية؛ كالكرم، والغيرة، والعزة، وغيرها من الأخلاق الكريمة التي هي من مقوّمات الأمم.

ورحم الله من قال:

وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت

فإن همُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا" اهـ.

* * *

6 -

قال الإمام البخاري رحمه الله: "حدثنا مسدد، قال: حدثنا حماد، عن أيوب وعبد الحميد صاحب الزيادي وعاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث، قال: "خطبنا ابن عباس في يوم رَزْغٍ، فلما بلغ المؤذن:(حيَّ على الصلاة)؛ فأمره أن يناديَ: الصلاة فى الرحال، فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقال: فعل هذا من هو خير منه، وإنها عزمة".

أخرجه: البخاري (616، 668، 901) ومسلم (699) وأبو داود (1066) وابن ماجه (939) ولوين في "جزئه"(رقم: 76).

من طريق: عبد الحميد به.

فقه الأثر:

هذا الأثر أخرجه الامام أبو عبد الله البخاري في "صحيحه" -كتاب الأذان (10) - باب: الكلام في الأذان. ثم قال: "وتكلم سليمان بن صُرَد في أذانه".

هكذا ذكره معلقًا.

"وقد وصله أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب "الصلاة" له، وأخرجه البخاري في "التاريخ" عنه -وإسناده صحيح- ولفظه: "أنه كان يؤذن في العسكر فيأمر غلامه بالحاجة في أذانه" اهـ. كلام الحافظ ابن حجر.

قلت: والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 192).

أما الكلام في الأذان والإقامة؛ فقد قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في "فتح الباري" (3/ 490 - 491 - ط. ابن الجوزي":

"واختلف العلماء في الكلام في الأذان والإقامة على ثلاثة أقوال:

ص: 18

أحدها: أنه لا بأس به فيهما، وهو قول الحسن والأوزاعي.

والثاني: يكره فيهما؛ وهو قول ابن سيرين والشعبي والنخعي وأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي، ورواية عن أحمد.

وكلهم جعل كراهة الكلام في الإقامة أشد.

وعلى هذا؛ فلو تكلم لمصلحة، كرد السلام وتشميت العاطس، فقال الثوري وبعض أصحابنا: لا يكره.

والمنصوص عن أحمد في رواية علي بن سعد أنه يكره، وهو قول مالك وأبي حنيفة.

وقال أصحاب الشافعي: لا يكره، وتركه أولى.

وكذلك الكلام لمصلحة، فإن كان لغير مصلحة كُرِهَ.

وقال إسحاق: إن كان لمصلحة غير دنيويّة؛ كرد السلام، والأمر بالمعروف، فلا يكره، وإلا كره، وعليه حمل ما فعله سليمان بن صرد.

ووافق ابن بطة من أصحابنا قول إسحاق، إن كان لمصلحة.

ورخّص في الكلام في الأذان عطاء وعروة.

والقول الثالث: يكره في الإقامة دون الأذان؛ وهو المشهور عن أحمد، والذي نقله عنه عامة أصحابه، واستدل بفعل سليمان بن صرد.

وقال الأوزاعي: يرد السلام في الأذان، ولا يرده في الإقامة.

وقال الزهري: إذا تكلم في إقامته يعيد.

والفرق بينهما؛ أن مبنى الإقامة على الحدر والإسراع، فالكلام ينافي ذلك.

ثم قال: وحاصل الكلام في الأذان شبيه بكلام الخاطب في خطبته. والمشهور عن أحمد أنه لا يكره الكلام للخاطب، وإنما يكره للسامع" اهـ.

قوله: "في يوم رزغ" .. بالزاي وبالغين المعجمة؛ هو: الوحل.

أما أمره المؤذن أن يقول: "الصلاة في الرحال"؛ فقد اختُلف فيه متى يقوله؛ قال الحافظ في "الفتح"(2/ 117): "بوب عليه ابن خزيمة وتبعه ابن حبان ثم المحب الطبري حذف "حي على الصلاة يوم المطر"، وكأنه نظر إلى

ص: 19

المعنى، لأن حيَّ على الصلاة، والصلاة في الرحال، وصلوا في بيوتكم؛ يناقض ذلك.

وعند الشافعية وجه: أن يقول ذلك بعد الأذان، وآخر: أنه يقوله بعد الحيعلتين، والذي يقتضيه الحديث ما تقدم".

وقال النووي في "المنهاج" -شرح صحيح مسلم- (5/ 207): "يجوز بعد الأذان وفي أثنائه لثبوت السنة فيهما، لكن قوله بعده أحسن؛ ليبقى نظم الأذان على وضعه" اهـ.

وقوله: "فإنها عزمة" أي: ضد الرخصة.

* * *

7 -

عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "إن الفتنةَ وكلت بثلاث: بالحادّ النحرير الذي لا يرتفع له شيءٌ إلا قمعه بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليها، وبالسيد، فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيد فتجتثه حتى تَبْلُوَ ما عنده".

صحيح. أخرجه أحمد في "الزهد"(2/ 136 - ط. النهضة) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(15/ 17 - 18 - ط. الهند) أو (7/ 450/ 37124 - ط. العلمية) ونعيم بن حماد في "الفتن"(رقم: 352) وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 274) وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(رقم: 28).

من طريق: الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة به.

فقه الأثر:

في الأثر تحذير من الخطباء الذين يوطفون خطبهم لإشعال الفتن، أو الدعوة إليها، ومن هؤلاء الخطباء الحركيين الحزبيين الذين يدعون إلى الخروج على الحكام، أو يهيجون الشباب المسلم بالكلام في خطبهم حول الحكام وسياستهم، دون أن يوجّهوا الشباب الى العلم والحض عليه، والأولى بهم أن يعلموا الناس دينهم، وأن يحذروهم عن الشرك والبدع المتفشيان في الأمة، والله أعلم.

ص: 20

8 -

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "من سرَّهُ أن يلقى الله غدًا مُسْلِمًا فليحافظ على هؤلاء الصلواتِ حيثُ ينادى بهنَّ، فإن الله شَرَعَ لنبيّكُم صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صلَّيتُم في بيوتكم كما يصلِّي هدا المُتَخَلِّفُ في بيته لتركتُم سُنَّةَ نبيكم، ولو تركتُم سُنَّةَ نبيكم لَضَلَلْتُمْ.

وما من رجلِ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثم يَعْمِدُ الى مسجد من هذه المساجد إلا كَتَبَ الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعُهُ بها درجة، ويحطُّ عنه بها سيئة.

ولقد رأيتُنَا وما يتخلَّفُ عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجلُ يؤتى به يُهَادَي بين الرجلين حتى يقامَ في الصف".

أخرجه: مسلم (654) وأبو داود (550) والنسائي في "الكبرى"(1/ 297/ 922).

ووقع في رواية أبي داود: " .. ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم .. " بدل "لضللتم". وهي رواية ضعيفة كما قال الشيخ الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(1/ 127/ 232).

فقه الأثر:

- بيان عظم قدر الصلاة ومنزلتها في الإسلام.

- المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، ووجوب حضورها في الجماعة لمن تجب في حقه الجماعة.

- بيان خطورة التخلف عن صلاة الجماعة، وأن التخلف عنها من صفات المنافقين، والعياذ بالله تعالى.

- بيان عظم الأجر في المسير إلى المسجد.

- يهادى بين الرجلين: أي يممثعي مستندًا بعضدين على رجلين.

- فيه بيان حرص الصحابة رضي الله عنهم على سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهديه، وعدم التهاون بتركها.

ص: 21

9 -

قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: حدثنا أبو نعيم، كال: حدثنا حنش بن الحاوث، عن أبيه [الحارث بن لقيط]، قال:"كان الرجلُ مِنَّا تُنتِجُ فرسه؛ فينحرها، فيقول: أنا أعيشُ حتى أركبَ هذه؟! فجاءنا كتاب عمر: أن أصلحوا ما رزقكم الله؛ فإن في الأمر تنفُّسًا".

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(رقم: 478) - باب (222) - اصطناع المال، ووكيع في "الزهد" (رقم: 470) وهناد في "الزهد"(رقم: 1289).

وصححه الشيخ الألباني في "الصحيحة! "(1/ القسم الأول/ 38 - 39/ تحت الحديث رقم: 9).

وانظر "فضل الله الصمد شرح الأدب المفرد" للجيلاني (1/ 563).

* * *

10 -

وقال البخاري: حدثنا أبو حفص بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عمرو بن وهب الطائفي، قال: حدثنا غطيف بن أبي سفيان، أن نافع بن عاصم أخبره، أنه سمع عبدَ الله بن عمرو كال لابن أخٍ له خرج من الوهط:"أيعملُ عُمّالُكَ؟ قال: لا أدري! قال: أما لو كنتَ ثَقفِيًّا لعلمتَ ما يعملُ عمالكَ. ثم التفتَ إلينا، فقال: إن الرجلَ إذا عَمِلَ مع عماله في داره -وقال أبو عاصم مرة: في ماله- كان عاملًا من عُمّال الله عز وجل".

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(448)، وقال الشيخ الألباني رحمه الله في "الصحيحة" (1/ 1/ 39/ رقم: 9): "وسنده حسن إن شاء الله".

فقه الأثر:

- الوهط: موضع بالطائف، وهي أرض عظيمة كانت لعمرو بن العاص.

- فيه: الحث على العمل، وأن يشارك عماله في أعمالهم.

ص: 22

11 -

عن السائب بن يزيد قال: "كنتُ قائمًا في المسجد، فحصبني رجلٌ، فنظرتُ فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهاذين، فجئته بهما، قال: من أنتما -أو: من أين أنتما-؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"!.

أخرجه البخاري في "صحيحه"(رقم: 470) - 8 - كتاب الصلاة، (83) باب رفع الصوت في المسجد.

فقه الأثر:

قوله: "فحصبني"؛ أي: رماني بالحصباء.

قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري"(2/ 565 - 566 - ط. ابن الجوزي): "وفيه أن التنبيه في المسجد بالحصب بالحصى جائز .. ".

قال الحافظ ابن رجب (2/ 565): "إنما فرَّق عمر بين أهل المدينة وغيرها في هذا؛ لأن أهل المدينة لا يخفى عليهم حرمة مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه، بخلاف من لم يكن من أهلها؛ فإنه قد يخفى عليه مثل هذا القدر من احترام المسجد، فعفى عنه بجهله".

أما حكم رفع الصوت في المسجد؛ فقال عنه ابن رجب (2/ 567): "ورفع

الأصوات في المسجد على وجهين:

أحدهما: أن يكون بذكر الله وقراءة القرآن والمواعظ وتعليم العلم وتعلّمه، فما كان من ذلك لحاجة عموم أهل المسجد إليه، مثل الأذان والإقامة وقراءة الإمام في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فهذا كله حسن مأمور به.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب علا صوتُه واشتد غضبُه؛ كأنه منذر جيش، يقول:"صبَّحكم ومسَّاكم"، وكان إذا قرأ في الصلاة بالناس تُسمع قراءته خارج المسجد، وكان بلال يؤذن بين يديه ويقيمُ في يوم الجمعة في المسجد.

وقد كره بعض علماء المالكية في مسجد المدينة خاصة لمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيد في رفع صوته في الخطب والمواعظ على حاجة إسماع الحاضرين، تأدبًا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حاضر يسمع ذلك، فيلزم التأدب معه، كما لو كان حيًا.

وما لا حاجة إلى الجهر فيه؛ فإن كان فيه أذًى لغيره ممن يشتغل بالطاعات

ص: 23

- كمن يصلي لنفسه ويجهر بقراءته، حتى يُغلّط من يقرأ إلى جانبه أن يصلي؛ فإنه منهي عنه.

وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة على أصحابه وهم يصلُّون في المسجد ويجهرون بالقراءة، فقال:"كلكم يناجي ربه، فلا بجهر بعضكم على بعض بالقرآن". وفي رواية: "فلا يُؤْذِ بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة". خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد.

وكذلك رفع الصوت بالعلم زائدًا على الحاجة مكروه عند أكثر العلماء، وقد سبق ذكره مستوفًى في أوائل "كتاب العلم" في باب: رفع الصوت بالعلم.

الوجه الثاني: رفع الصوت بالإختصام ونحوه من أمور الدنيا؛ فهذا هو الذي نهى عنه عمر وغيره من الصحابة.

ويشبهه: إنشاد الضالة في المسجد، وفي "صحيح مسلم" عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهته والزجر عنه، من رواية أبي هريرة وبريدة.

وأشد منه كراهة: رفع الصوت بالخصام بالباطل في أمور الدين؛ فإن الله ذمّ الجدال في الله بغير علم، ولا جدال بالباطل، فإذا وقع ذلك في المسجد ورُفعت الأصوات به تضاعف قبحه وتحريمه، وقد كَرِهَ مالكٌ رفعَ الصوت في المسجد بالعلم وغيره. ورخَّصَ أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة -من أصحاب مالك - في رفع الصوت في المسجد بالعلم والخصومة، وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس؛ لأنه مجمعهم ولا بد لهم منه" اهـ.

* * *

12 -

قال الحميدي: ذكر الشافعيُّ يومًا حديثًا؛ فقال له رجل: أتقول به يا أبا عبد الله؟ فاضطرب وقال: "يا هذا! أرأيتني نصرانيًا؟! أرأيتني خارجًا من كنيسة؟! أرأيتَ في وسطي زنارًا؟! أروي حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أقول به"!!

أثر صحيح. أخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي"(1/ 174) وأبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان"(1/ 183) وفي "حلية الأولياء"(9/ 106) من طرق؛ عن الحميدي به.

ص: 24

وأورده السيوطي في "مفتاح الجنة في الإعتصام بالسنة"(ص 16/ رقم: 6 - ط. بدر البدر). وأخرج نحوه الهروي في "ذم الكلام"(2/ 262/ 330) عن أحمد بن نصر من قوله.

فقه الأثر:

في هذا الأثر الجميل ردٌّ واضح على المقلّدة الذين يققدون إمامًا معينًا أو مذهبًا معينًا؛ وإذا أتاهم الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعرضوا عنه، وقالوا: نحن على مذهب الشافعي! أو على مذهب أبي حنيفة!! وهكذا.

فها هو الإمام الشافعي يضطرب ويستغرب ويستنكر من الرجل الذي سأله: هل تأخذ بالحديث الذي ترويه؟

وانظر يا أخا الإسلام كيف كان رد الإمام الشافعي؛ فقد شبه الذي يدع حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يأخذ به بالنصراني والذمي الكافر، والعياذ بالله تعالى.

وهذا مصداق قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

وقد استوعب المحدث الإمام محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم في وجوب اتباع الحديث الصحيح والسنة النبوية، وعدم الاعتماد والأخذ بأقوالهم إذا خالفت السنة، وأن الأصل هو: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

استوعب هذه النقول في مقدمة كتابه الماتع "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" فارجع إليه، هُدِيتَ للحقّ.

* * *

13 -

عن طاروق بن شهاب، قال: قالت اليهود لعمر بن الخطاب: إنكم تقرؤون آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيدًا.

ص: 25

قال عمر: "وأي آية"؟

قالوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

قال عمر: (والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، والساعة التي نزلت فيها؛ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، في يوم جمعة".

أخرجه البخاري (45، 4407، 4606، 7268) ومسلم (3017) والنسائي في "الكبرى"(6/ 332 - 333/ 11137) وفي "المجتبى"(رقم: 3002، 5012) والترمذي (3043).

فقه الأثر:

فيه: "أن الاعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابين من قبلنا، وإنما تكون بالشرع والإتباع.

فهذه الآية تضمنت إكمال الدين وإتمام النعمة، أنزلها الله في يوم شَرَعَهُ عيدًا لهذه الأمة من وجهين:

أحدهما: أنه يوم عيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة.

والثاني: أنه يوم عيد أهل الموسم، وهو يوم مجمعهم الأكبر وموقفهم الأعظم. وقد قيل: إنه يوم الحج الأكبر.

وقد جاء تسميتُه عيدًا في حديث مرفوع خرّجه أهل السنن، من حديث عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق؛ عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب". اهـ[فتح الباري/ لابن رجب (1/ 159 - 158)].

وفي الآية فوائد عظيمة، منها:

ما قاله العلامة محمد سلطان المعصومي رحمه الله:

"فطرق الدين والعبادات الصحيحة إنما هي ما بيّنه الذي خَلَقَ الخَلْقَ على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فمن زاد على هذا أو نقص فقد خالف الحكيم الخلّاق

ص: 26

العليم؛ بتركيبه الأدوية من عند نفسه، فربما صار دواؤه داءً، وعبادته معصية، وهو لا يشعر؛ لأن الدين قد كمل تمام الكمال، فمن زاد شيئًا فيه نقد ظنّ الدين ناقصًا، وهو يكمله باستحسان عقله الفاسد، وخياله الكاسد".

وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: "فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟! إن كان من الدين في اعتقادهم، فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم؛ وهذا فيه ردٌّ للقرآن.

وإن لم يكن من الدين؛ فأي فائدة في الإشتغال بما ليس من الدين؟!

وهذه حجة قاهرة، ودليل عظيم، لا يمكن لصاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدًا، فاجعَل هذه الآية الشريفة أول ما تصل به وجوه أهل الرأي، وترغم به آنافهم، وتَدْحَضُ به حججهم" اهـ. نقلًا من كتاب "البدعة وأثرها السيّئ في الأمة" (ص 27 - 28) للشيخ الفاضل: سليم بن عيد الهلالي وفقه الله تعالى.

وفي مضمون الآية المذكورة؛ قال إمام دار الهجرة: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فما لم يكن يومئذٍ دينًا لا يكون اليوم دينًا".

وسيأتي تخريج هذا الأثر وشرحه في هذه السلسلة إن شاء الله تعالى.

* * *

14 -

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يزال الناس بخير ما أتاهم العِلْمُ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم، فإذا جاء العلمُ من قِبَلِ أَصَاغِرِهِمْ هَلَكُوا".

أثر صحيح. أخرجه: عبد الله بن المبارك في "الزهد"(رقم: 815) وعبد الرزاق في "مصنفه"(11/ 249، 257/ 20446، 20483) والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(2/ 155/ 776 - ط ابن الجوزي) وفي "نصيحة أهل الحديث"(رقم: 6) والهروي في "ذم الكلام"(5/ 77/ 1412) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 616، 1057/ 617، 1058، 1060)

ص: 27

والطبراني في "المعجم الكبير"(9/ رقم: 8589، 8590) وفي "المعجم الأوسط"(7/ 311/ 7590 - الحرمين) وابن عدي في مقدمة كتابه "الكامل"(1/ 164 - الفكر) أو (1/ 260، 261) وابن الأعرابي في "معجمه"(رقم: 926) واللالكائي في "شرح الأصول"(رقم 101) وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 49).

من طرق؛ عن أبي إسحاق السبيعي، عن سعيد بن وهب، عن عبد الله به.

وإسناده صحيح؛ وإن كان فيه أبو إسحاق السبيعي، فقد رواه عنه جمع من الثقات؛ منهم سفيان الثوري، وهو من أثبت الناس فيه كما في "تهذيب الكمال" للحافظ المزي (22/ 109).

وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(9/ رقم: 8591، 8592) من طريقين؛ عن شعبة وزيد بن حبان، عن زيد بن وهب، عن أبي إسحاق به.

قال الطبراني: "هكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق، عن زيد بن وهب. وتابعه زيد بن حبان: اهـ.

تنبيه: وهم محقق "مجمع البحرين" للهيثمي (1/ 210) -ط. الرشد- في اعتبار سعيد بن وهب، أنه الثوري الهمداني الكرفي، ثم نقل قول الحافظ عنه أنه "مقبول".

والصواب: أن سعيد بن وهب الذي في الإسناد هو: الهمداني الخيواني الكوفي والد عبد الرحمن بن سعيد بن وهب، المترجم قبل السابق، وهو ثقة، وهو الذي يروي عن عبد الله بن مسعود، أما السابق فلا رواية له عنه، والله أعلم.

فقه الأثر:

هذا أثر عظيم عزيز، فيه أصل عظيم من أصول العلم؛ وهو وجوب أخذ العلم عن الأكابر، وقد وردت الآثار الكثيرة في ذلك.

والمقصود بالأصاغر هنا: "أهل البدع، أو: من لا علم عنده.

ويحتمل أن يُراد بهم: من لا قَدْرٌ له ولا حال، ولا يكون ذلك إلا بنبذ الدين والمروءة، فأما من التزمهما فلا بد أن يسمو أمره ويعظم قدره". ["الحوادث والبدع" للطرطوشي (ص 80 - ط. ابن الجوزي)].

ص: 28

وقال ابن قتيبة في شرح هذا الأثر: "يريد: لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ، ولم يكن علماؤهم الأَحْداث، لأن الشيخ قد زالت عنه مُتْعَةُ الشباب، وحِدَّتُه، وعجلتُه، وسفهه، واستصحب التجربة والخبرة، فلا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزته الشيطان استزلال الحدَث، ومع السن الوقار والجلالة والهَيْبَة، والحدَثُ قد تدخل عليه هذه الأمور التي أمِنَتْ على الشيخ، فإذا دخلت عليه وأفتى؛ هلك وأهلك".

أخرجه عنه الخطيب البغدادي في "نصيحة أهل الحديث"(رقم: 7) بإسناد حسن.

قلت: ورحم اللهُ ابنَ قتيبة كأنه يحكي واقعنا وما نعايشه في هذا الزمان، من تولي الأحداث والشباب، والإعراض عن العلماء الكبار الثقات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وانظر للمزيد من الفائدة مقدمة العلامة الفقيه عبد المحسن العبَّاد -حفظه الله- لكتاب "مدارك النظر" ففيه حكاية عن هذا الواقع، والله المستعان.

وقد روى الفسوي في "المعرفة والتاريخ"(1/ 670) والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(2/ 324/ 1039) عن مالك قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة، فقال: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أدَخَلَت عليك مصيبة؟

فقال: لا؛ ولكن استُفتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم".

قال الخطيب البغدادي: "ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المُفْتِينَ، فمن كان يَصلُحُ للفتوى أَقَرَّهُ عليها، ومن لم يكن من أهلها منَعَهُ منها، وتقدَم إليه بأن لا تعرض لها، وأوعده بالعقوبة إن لم ينتهِ عنها".

قلت: كيف لو رأى ربيعة ومالك والبغدادي حال زماننا؛ وقد انتصب للفتوى فيه أهل البدع والجهل، ومن لا يحسنون السُّنّة، إنما يدينون بالبدعة؟!

كيف لو رأوا الشباب اليوم يترك ويعرض عن علماء الأمة الثقات الأكابر، ويركن إلى الأغمار الأصاغر، فيأخذ منهم الفتوى في مسائل عظيمة، يجسر العلماء الكبار عن الكلام فيها، فيأتي هؤلاء المرتزقة فيتكلمون ويفتون؛ فيكفّرون الأمة، ويتهمون من لم يوافقهم بالإرجاء! وبالتّجهُّم!! هذه التُّهمَ يتّهمون بها

ص: 29

العلماء الكبار المحدِّثين؛ الذين قضوا عمرهم في الدفاع عن السنة ونشرها وتنقيتها من كل شائبة، يتهمون العلماء الذين أصّلُوا قواعد الدين والمنهج! فلا حول ولا قوة إلا بالله.

* * *

15 -

عن سعد بن أبي وقاص في قول الله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية [يوسف: 3]؛ قال: "أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم فتلاهُ عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسول الله؛ لو قصَصْتَ علينا! فأنزل الله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} الآية [يوسف: 1 - 2] فتلاهُ عليهم زمانًا. قالوا: يا رسول الله؛ لو حدَّثْتَنَا! فأنزل الله: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} الآية [الزمر: 23]، كل ذلك يؤمرون بالقرآن.

زاد خلّاد -[أحد رجال الإسناد]-: وزادني فيه غيره: قالوا: يا رسول الله؛ لو ذكّرتنا! فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16].

أثر حسن. أخرجه البزار كما في "البحر الزخار"(رقم: 1152، 1153) وابن أبي حاتم في "تفسيره"(7/ 2099 - 1300/ 1323، 11325) وابن جرير الطبري في " تفسيره"(12/ 90 - مختصرًا) أو رقم (18776 - شاكر) وابن حبان في "صحيحه"(14/ 92/ 6209) والحاكم (2/ 345) والواحدي في "أسباب النزول"(ص: 269 - ط. الحميدان) وإسحاق بن راهويه كما في "المطالب العالية"(رقم: 3634 ط. العاصمة) وأبو يعلى في "مسنده"(2/ 87 - 88/ 740).

من طرق؛ عن خلاد الصفار، عن عمرو بن قيس الملائي، عن عمرو بن مرة، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد به.

وليس عند بعضهم الزيادة الأخيرة.

وهذا إسناد حسن؛ كما قال البوصيري في "الإتحاف"، والحافظ في "المطالب".

ص: 30

وحسنه أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(17/ 40)، وصححه العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي في "الصحيح المسند من أسباب النزول"(ص 88).

فقه الأثر:

هذا أثر عظيم؛ يبيُّن أن الدين قائم على الشرع والوحي المنزّل، لا على الأهواء والآراء، ولا على ما تستحسنه العقول، وتحبه النفوس وتميل إليه.

وقد روى أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 203) بإسناده، عن رجل من أشجع، قال:"سمع الناسُ بالمدائن أن سلمان (الفارسي) في المسجد، فأتوه؛ فجعلوا يثوبون إليه حئى اجتمع إليه نحو من ألف. قال: فقام، فجعل يقول: اجلسوا، اجلسوا .. فلما جلسوا؛ فتح سورة يوسف يقرؤها، فجعلوا يتصدّعون ويذهبون، حتى بقي منهم في نحو من مائة! فغضب وقال: "الزخرف من القول أردتم! ثم قرأت كتاب الله عليكم ذهبتم! ".

قال الشيخ المفضال عبد المالك الرمضاني الجزائري -وفقه الله- في كتابه الماتع "مدارك النظر في السياسة"(ص 141):

"قلتُ: لعلّ اختيار سلمان رضي الله عنه لسورة يوسف دون غيرها؛ لما فيها من معاني القناعة بقصص كتاب الله دون ما تصبو إليه النفوس من حكايات وأحاجي، وهو قول الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم حين سُئل قصصًا غير قصص القرآن، فتلى عليهم ما أنزل الله عليه من هذه السورة، وكذلك فعل عمر رضي الله عنه حين رأى من أقبل على كتاب فيه عجائب الأولين، فرضي الله عنهم جميعًا؛ ما أشدّ حرصهم على الهدي النبوي" اهـ.

* * *

16 -

عن سليمان بن قيس اليشكري، قال: قلتُ لجابر بن عبد الله: يكون علينا الإمام الجائر الظالم؛ أقاتل معه أهل الضلالة؟ قال: "نعم؛ عليه ما حُمّل وعليكم ما حُمِّلْتُم".

أثر صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (12/ 449 - 450/

ص: 31

15225) أو (6/ 512/ 33367 - ط. العلمية) وحنبل في "جزئه - التاسع من فوائد ابن السماك"(رقم: 77) - واللفظ له.

من طريق: حماد بن زيد، عن الجعد أبي عثمان، عن سليمان بن قيس به.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه مسلم (1846) والآجري في "الشريعة"(1/ 160 - 161/ 73) عن وائل الحضرمي، قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتَ إن قامت علينا أمراء، فسألونا حقهم، ومنعونا حقنا، فما تأمرنا"؟ فأعرض عنه، ثم سأله الثانية أو في الثالثة؛ فجذبه الأشعث بن قيس، وقال:"اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمّلوا وعليكم ما حُمّلتم".

* * *

17 -

عن الأسود بن يزيد، قال:"ما رأيتُ أحدًا ممّن كان بالكوفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آمر بصوم عاشوراء من عليّ عليه السلام وأبي موسى الأشعري".

أخرجه: ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 312/ رقم: 9361، 9362 - العلمية) والطيالسي في "مسنده"(رقم: 1212) وعبد الرزاق في "مصنفه"(4/ رقم: 7836) والبيهقي في "سننه الكبرى"(4/ 286) وأبو القاسم البغوي في "الجعديات حديث علي بن الجعد"(2/ 230/ 2536 - ط. الخانجي المصرية) أو (رقم: 2524 - ط. الكتب العلمية) أو (رقم: 2618 - الطبعة الكويتية) -[وفي الطبعتين الأخيرتين عنوان الكتاب: مسند ابن الجعد!!]- وأبو ذر الهروي في "جزء من فوائد حديثه"(رقم: 11 - ط. الرشد بالرياض) وابن عبد البر في "التمهيد"(22/ 150) وأبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه"- كما في "اللفظ المكرم بفضل عاشوراء المحرم" ضمن "مجموع فيه رسائل الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي"/ ص 74 - ط. ابن حزم) - ولوين في "جزئه"(رقم: 42)،

من طرق كثيرة؛ عن أبي إسحاق، عن الأسود به.

ص: 32

وإسناد الأثر صحيح؛ كما قال الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية"(رقم: 1077 - ط. العاصمة).

* * *

18 -

عن مجاهد رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] قال: "العلمَ والفقهَ".

أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(2/ 531/ 2823) والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/ 132، 133/ 105، 106، 107) والآجري في "أخلاق العلماء"(رقم: 1) وابن جرير الطبري في "تفسيره"(3/ 90) والبيهقي في "المدخل"(رقم: 270).

من طرق؛ عن ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد به.

وهذا إسناد ضعيف لأجل ليث بن أبي سُليم؛ "صدوق اختلط جدًا" كما في "التقريب".

لكن يشهد له ما أخرجه الآجري في "أخلاق العلماء"(رقم: 2) والبيهقي في "المدخل"(رقم: 271) وابن أبي حاتم (7/ 2119/ 11452) والطبري (7/ 178).

من طريق: شبابة، أنبأنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:{آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22]، قال:"الفقه والعقل والعلم".

وهذا إسناد صحيح، والله تعالى أعلم.

* * *

19 -

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في تفسير قول الله عز وجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، قال:"أولوا الفقه والخير".

أثر حسن. أخرجه ابن أبي شيبة فى "مصنفه"(6/ 421/ 325231 - العلمية) وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 988/ 5533) وابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 94) والآجري في "أخلاق العلماء"(رقم: 5) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 768/ 1419) والبيهقي في "المدخل"(268).

ص: 33

من طريق: عبد الله بن عقيل، عن جابر به.

وعبد الله بن عقيل بن أبي طالب؛ "صدوق في حديثه لين، ويقال: تغير بأخرة! [تقريب].

قلت: ومثله حديثه حسن إن شاء الله تعالى.

وأخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 126/ 91) والبيهقى في "المدخل"(268) من طريق: محمد بن حميد، ثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر به.

وهذا إسناد ضعيف؛ لكنه حسن بما قبله.

وانظر الأثر الذي بعده.

وصحّ عن عطاء مثل هذا التفسير عند ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 147) والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(رقم: 101)، وانظر "سنن الدارمي"(1/ 297/ 225).

* * *

20 -

عن مجاهد في قول الله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، قال:"الفقهاء والعلماء".

أثر صحيح. أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 94) والآجري فى "أخلاق العلماء"(رقم: 6) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم: (1/ 768/ 1418) والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (1/ 128، 129/ 96، 97، 98) وسعيد بن منصور في "سننه" (4/ 1290/ 656 - ط. الصميعي) والهروي في "ذم الكلام" (2/ 151 - 152/ 228، 229) وابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 989/ 5535) وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 293 - 294).

من طرق؛ عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد به.

وليث تقدم أنه ضعيف، لكنه توبع؛ تابعه الأعمش عن مجاهد به، أخرجه الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/ 127، 128/ 93، 94) وابن جرير الطبري (5/ 149) وسعيد بن منصور في "سننه"(4/ 1287/ 653 - الصميعي) وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 292) وأبو خيثمة في "العلم"(رقم: 62).

ص: 34

والأعمش مدلس، لا سيما عن مجاهد.

فتصحيح إسناده -كما فعل محقق كتاب "الفقيه والمتفقه" ط. دار ابن الجوزي- بعيد جدًا.

وتابعه ابن أبي نجيح، عن مجاهد به، أخرجه: عبد الرزاق في "تفسيره"(1/ 166) وابن جرير في "تفسيره"(8/ 501/ 9272 - شاكر) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(12/ 213/ 05) وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 293). وإسناده صحيح.

وأخرجه الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/ 128/ 95) من طريق: تليد، عن منصور، عن مجاهد به.

وتليد بن سليمان؛ ضعيف.

خلاصة الكلام: أن الأثر صحيح، فلله الحمد والمنة.

* * *

21 -

عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "علمٌ لا يُقال به ككنزٍ لا ينفق منه".

أخرجه: ابن أبى شيبة في "مصنفه"(13/ 334/ 16514) وأبو خيثمة في "العلم"(رقم: 12) والدارمي في "مسنده"(1/ 461/ 574).

من طريق: أبي معاوية، عن الأعمش، عن صالح بن خباب، عن حصين بن عقبة، عن سلمان به.

قال الشيخ الألباني في تحقيقه لكتاب "العلم": "إسناد هذا الأثر جيد".

* * *

22 -

عن زيد بن أرقم قال: "أول من صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ علي" - وفي لفظ: "أول من أسلم علي".

أخرجه: أحمد في "المسند"(4/ 368، 370) وفي "الفضائل"(1000، 1004) وابن أبي شيبة في "المغازي"(رقم: 61) والترمذي (3735) والنسائي في

ص: 35

"خصائص علي بن أبي طالب"(رقم: 2، 3، 4، 5) والطيالسي في "مسنده"(رقم: 678) والطبري في "تاريخه"(2/ 211 - 212) وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 21 - ط. صادر) والطبراني في "الأوائل"(رقم: 53) وفي "الكبير"(5/ رقم: 50502) و (11/ رقم: 12151) وابن أبي عاصم في "الأوائل"(ص 46) والحاكم في "المستدرك"(3/ 136) والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 206) وابن عبد البر في "الإستيعاب"(3/ 32) والخوارزمي فى "المناقب"(رقم: 22).

من طريق: شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم به.

وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الشيخين، سوى أبي حمزة، واسمه: طلحة بن يزيد، وهو من رجال البخاري.

* * *

23 -

عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، قال:"أن يُطَاعَ فلا يُعصى، وأن يُذكرَ فلا يُنسى، وأن يُشكرَ فلا يُكْفَر".

أخرجه: الحاكم في "المستدرك"(2/ 294) وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 772/ 3908) وابن جرير الطبري في "تفسيره"(7/ 65/ 7526 - شاكر) وابن الجوزي في "نواسخ القرآن"(رقم: 93 - ط. المكتبة العصرية) وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ"(رقم: 475) والنحاس في "الناسخ والمنسوخ"(ص 84 - 85) والطبراني في "المعجم الكبير"(8/ رقم: 8501، 8502).

من طريق: زُبيد اليامي، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود موقوفًا.

قال الهيثمي في "المجمع"(6/ 326): "رواه الطبراني بإسنادين؛ رجال أحدهما رجال الصحيح، والآخر ضعيف".

وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره"(1/ 505): "إسناده صحيح موقوف".

تنبيه: عزا الحافظ ابن كثير الأثر للحاكم، وقال: "كذا رواه الحاكم من حديث مسعر، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود مرفوعًا.

ص: 36

قال الشيخ المحدث أحمد محمد شاكر رحمه الله في "عمدة التفاسير"(2/ 14 - 15): "إن الرواية عند الحاكم موقوفة، وكذلك ثبتت في مخطوطة مختصره للذهبي، إلا أن يكون الحاكم رواه في موضع آخر مرفوعًا؛ ولا أظنه" اهـ.

* * *

24 -

قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله: حدثني أحمد بن يعقوب، حدثنا اسحاق بن سعيد، قال: سمعتُ أبي يحدّث عن عبد الله بن عمر، قال:"إن من وَرْطَاتِ الأمور التي لا مخرج لمن أَوْقَعَ نفسَه فيها؛ سفكَ الدّم الحرام بغير حِلّه".

أخرجه البخاري في "صحيحه"(رقم: 6863).

فقه الأثر:

في الأثر دلالة واضحة على عظم سفك الدم الحرام، ذلك أن القاتل إذا قتل أو سفك دمًا حرامًا لا يحل له قتله؛ فقد ورّط نفسه؛ "فإن زوال الدنيا أعظم عند الله من قتل رجل مسلم" كما صحّ بذلك الحديث.

واعلم؛ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الذابح إذا أراد أن يذبح ذبيحته، بأن يحد شفرته كي يريحَ ذبيحته رفقًا بهذا الحيوان الذي أحل الله ذبحه وأكله، فكيف بالإنسان وهو أكرم من الحيوان بكثير وقد قال الله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية.

وقد وردت الأحاديث الكثيرة التي تحرم التعرض للمسلم بالأذى فضلًا عن تحريم قتله وسفك دمه؛ فماذا عسى أن يقول هؤلاء الذين يبيحون لأنفسهم قتل المسلمين والأبرياء والمستأمنين، من الجماعات التي تدّعي الإسلام، والتي تقاتل باسم الإسلام، والتي تزعم أنها تريد تحكيم شريعة الله! فها هي شريعة الله تحرم قتل المؤمن، وها هم يقتلون المسلمين والأبرياء، فهم أول من نقض حكم الله، وحكّموا أهواءهم، وفاقد الشيء لا يعطيه، فهل عسى سيتبصّر الشباب المسلم؟!

* * *

25 -

عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: "اجتنبوا الخمرَ فإنها أم الخبائث، إنه كان رجلٌ ممن خلا قبلكم تعبَّدَ، فعلِقَتْهُ امرأةٌ

ص: 37

غويّة، فأرسلت إليه جاريتها، فقالت له: إنا ندعوك للشهادة؛ فانطلق مع جاريتها، فطفقت كُلّما دخل بابًا أغلقته دونه، حتى أفضى الى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمرٍ، فقالت: اني واللهِ ما دَعَوْتُكَ للشهادة؛ ولكن دعوتك لتقع عليَّ، أو تشربَ من هذه الخمرة كأسًا، أو تقتُلَ هذا الغلام!

قال: فاسقني من هذا الخمر كأسًا، فسَقَتْهُ كأسًا، قال: زيدوني، فلم يَرِمْ حتى وقع عليها، وقتل النفس. فاجتنبوا الخمر؛ فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن تُخرج أحدهما صاحبَهُ".

أثر صحيح. أخرجه النسائي في "المجتبى"(8/ 315) أو رقم (5682، 5683 - المعرفة"، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن النسائي" (رقم: 5236 - المكتب الإسلامي).

فقه الأثر:

فيه بيان (ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر من ترك الصلوات، ومن قتل النفس التي حرّم الله، ومن وقوع على المحارم) كما بوّب بذلك الحافظ النسائي رحمه الله.

* * *

26 -

عن عبد الرحمن بن يونس، قال:"شهدتُ جنازة عبد الرحمن بن سَمُرة وخرج زيادٌ يمشي بين يدي السرير، فجعل رجالٌ من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ويقولون: رُوَيْدًا رُوَيْدًا بارك الله فيكم، فكانوا يدِبُّون دبيبًا، حتى إذا كنا ببعض طريق المِرْبَد لحقنا أبو بكرةَ على بغلة، فلما رأى الذي يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى اليهم بالسَّوْطِ، وقال: خلُّوا؛ فالولّذي كرم وجه أبي القاسم صلى الله عليه وسلم؛ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنكادُ نرمُلُ بها رَمَلًا؛ فانبسط القوم".

أثر صحيح. أخرجه النسائي في "المجتبى"(السنن الصغرى) - (4/ 42 - 43) أو رقم (1911 - المعرفة) وأخرجه أبو داود (3182، 3183) بنحوه

ص: 38

مختصرًا، وأحمد (5/ 36 - 38) والطيالسي في "مسنده"(883) والبيهقي (4/ 22) والحاكم (1/ 355).

وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن النسائي"(رقم: 1804).

فقه الأثر:

قال القرطبي في "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة"(1/ 92 - 93 - ط. المكتبة العصرية) -نقلًا عن ابن عبد البر-: "والذي عليه جماعة أهل العلم في ذلك الإسراع فوق السجية قليلًا، والعجلة أحب إليهم من الإبطاء، ويُكره الإسراع الذي يشق على ضعفة من يتبعها.

وقال إبراهيم النخعي: انشطوا بها قليلًا، ولا تدبّوا دبيب اليهود والنصارى".

وقال العلامة ابن قيم الجوزية في "زاد المعاد"(1/ 517 - الرسالة): "وكان يأمر بالإسراع بها، حتى إن كانوا ليرملون بها رملًا، وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة؛ فبدعة مكروهة مخالفة للسنة، ومتضمنة للتشبه بأهل الكتاب؛ اليهود، وكان أبو بكرة يرفع السوط على من يفعل ذلك، ويقول: لقد رأيتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمُلُ رملًا".

وانظر "الأمر بالاتباع" للسيوطي (ص 251) و"أحكام الجنائز" للعلامة الألباني (ص 314 - المعارف).

* * *

27 -

عن الأعمش، قال: سمعتُ سالمًا قال: سمعتُ أم الدرداء تقول: دخل أبو الدرداء وهو مُغضَبٌ، فقلتُ: ما أغضبكَ؟

فقال: "والله ما أعرف من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا أنهم يُصلُّونَ جميعًا".

أخرجه البخاري (650) وأحمد في "مسنده"(5/ 195) و (6/ 443) أو رقم (21790، 27607، 27608 - قرطبة) وفى "الزهد"(2/ 60 - ط. دار النهضة) وابن وضاح في "البدع والنهي عنها"(رقم: 196) وابن بطة في "الإبانة"(725). من طرق؛ عن الأعمش به.

ص: 39

فقه الأثر:

قال الحافظ في "الفتح"(2/ 162): قوله: "يصلّون جميعًا": أي: مجتمعين، ومراد أبي الدرداء: أن أعمال المذكورين حصل في جميعها النقص والتغيير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبي لأن حال الناس في زمن النبوة كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما، وكان ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء؛ فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان؟!

وفي هذا الحديث جواز الغضب عند تغير شيء من أمور الدين، وإنكار المنكر بإظهار الغضب إذا لم يستطع أكثر منه، والقسم على الخبر لتأكيده في نفس السامع".

* * *

28 -

قال الزهري: دخلتُ على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلتُ ما يبكيك؟!

فقال: "لا أعرف شيئًا مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعَتُ".

أخرجه البخاري (530)، وأخرجه برقم (529) وأحمد في "المسند"(3/ 100 - 101، 270) والترمذي (2447) وابن المبارك في "الزهد"(1512) وابن وضاح في "البدع والنهي عنها"(193) والضياء في "المختارة"(رقم: 1723، 1724) وأبو يعلى في "مسنده"(6/ 74 - 75/ 3330) وابن بطة في "الإبانة"(رقم: 718).

من طرق؛ عن أنس به.

فقه الأثر:

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري"(3/ 56 - ط ابن الجوزي): "إنما كان يبكي أنس بن مالك في تضييع الصلاة إضاعة مواقيتها" اهـ.

ذلك أن الحجاج كان يؤخر الصلاة عن وقتها؛ فكان يصلي الظهر والعصر مع غروب الشمس!

ص: 40

ففي الأثر تعظيم قدر الصلاة، وشأن الإعتناء بها، وإقامتها في وقتها المأمور به، وعدم تأخيرها عن وقتها، أو الجمع بين الصلاتين إلا من عذر أو حاجة.

وفيه: جواز البكاء عند رؤية المحدثات والمخالفات، وهذا يدلّك على شدّة حرص أصحاب النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على أمر الدين، والله أعلم.

* * *

29 -

عن حسان بن عطية، قال:"ما أحدث قومٌ بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدُها إليهم إلى يوم القيامة".

أخرجه: الدارمي في "مسنده"(1/ 231/ 99 - حسين سليم) وابن وضاح في "البدع والنهي عنها"(رقم: 90) وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 73) ويعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ"(3/ 386) واللالكائي في "شرح أصول الإعتقاد"(1/ 104/ 129) وابن بطة في "الإبانة"(1/ 351/ 328) والهروي في "ذم الكلام"(4/ 151/ 927) وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(12/ 440 - ط دار الفكر).

من طرق؛ عن الأوزاعي، عن حسان به.

* * *

30 -

كتب عديُّ بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز يستشيره في القدرية، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز:

"أما بعد؛ أوصيكَ بتقوى الله، والإقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتَرْكِ ما أَحدَثَ المحدِثونَ بعدما جرت به سُنّته، وكفوا مؤنته. فعليك بلزوم السنة، فإنها لك -بإذن الله- عِصْمَة.

ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها، أو عبرة فيها؛ فإن السنة إنما سنَّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارضَ لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم؛ فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافدٍ كفوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى،

ص: 41

وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم اليه، ولئن قلتم: إنما حدث بعدهم؛ ما أحدثه الا من اتبع غير سبيلهم وركب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلّموا فبه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مُقَصِّرِ، وما فوقه من محسر، وقد قصرَ قوم دونهم فَجَفُوا، وطمع عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم.

كتبتَ تسأل عن الإقرار بالقدر؛ فعلى الخبير -بإذن الله- وقعتَ؛ ما أعلم ما أحَدْثَ الناسُ من مُحْدَثَةِ، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرًا ولا أثبتُ أمرًا من الإقرار بالقدر.

لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء؛ بتكلّمون به في كلامهم وفي شعرهم، يُعَزُّون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يَزِدْهُ الإسلام بعدُ الا شدّة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون، فتكلّموا به في حيانه وبعد وفاته، يقينًا وتسليمًا لربهم، وتضعيفًا لأنفسهم؛ أن يكون شيء لم يُحِط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمضِ فيه قَدَرُه، وإنه مع ذلك في مُحْكَم كتابه؛ منه اقتبسوه، ومنه تعلّموه، ولئن قلتم: لم أنزل الله آية كذا؟ ولمَ قال كذا؟ لقد قرأوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك: كله بكتاب وقَدرٍ، وكتبت الشقاوة، وما يُقْدَرُ يكن، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرًا ولا نفعًا، ثم ركبوا بعد ذلك ورهبوا".

أخرجه أبو داود (4612) وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 338) وابن بطة في "الإبانة"(رقم: 163) واللالكائي في "شرح أصول الإعتقاد"(رقم: 16) وابن وضاح في "البدع والنهي عنها"(رقم: 74) والفريابي في "القدر"(رقم: 445) والآجري في "الشريعة"(1/ 443 - 446/ 570، 571). من طرق صحيحة.

والأثر صححه الشيخ الألباني رحمه الله في "صحيح سنن أبي داود" بقوله: "صحيح مقطوع". قلت: وهو موصول عند بقية من خرّجه.

ص: 42

فقه الأثر:

قوله: "أوصيك بتقوى الله .. إلخ".

قال شرف الحق العظيم آبادي صاحب "عون المعبود"(12/ 201 - وما بعدها- ط. دار إحياء التراث العربي):

"والحاصل أنه أوصاه بأمور أربعة: أن يتقيَ الله تعالى، وأن يقتصد -أي: يتوسط بين الإفراط والتفريط- في أمر الله -أي: فيما أمره الله تعالى- لا في يد على ذلك ولا ينقص منه، وأن يستقيم فيما أمره الله تعالى؛ لا يرغب عنه إلى اليمين ولا إلى اليسار، وأن يتبع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وطريقه، وأن يترك ما ابتدعه المبتدعون".

وقوله: "كفوا مؤنته"؛ قال العظيم آبادي: "أي: أغناهم الله تعالى عن أن يحملوا على ظهورهم ثقل الإحداث والإبتداع، فإنه تعالى قد أكمل لعباده دينهم، وأتمَّ عليهم نعمته، ورَضِيَ لهم الإسلام دينًا؛ فلم يترك إليهم حاجة للعباد في أن يُحْدِثوا لهم في دينهم -أي: يزيدوا عليه شيئًا، أو ينقصوا منه شيئًا، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "شر الأمور محدثاتها".

- قوله: "فارضَ لنفسك ما رضي فيه القوم"؛ "أي: الطريقة التى رضي بها السلف الصالحون- أي: النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه".

- قوله: "من محسر": أي: مكتشف، من حَسَرَ الشيء إذا كشفه.

- وقوله: "كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر .. إلخ".

قال العظيم آبادي: "يقول: إن الإقرار بالقدر هو أبين أثرًا وأثبت أمرًا في علمي من كل ما أحدثه الناس من محدثة وابتدعوه من بدعة لا أعلم شيئًا مما أحدثوه وابتدعوه أبين أثرًا وأثبت أمرًا منه؛ أي: من الإقرار بالقدر، وإنما سمي الإقرار بالقدر محدثًا وبدعة لغة، نظرًا إلى تأليفه وتدوينه، فإن تأليفه وتدوينه محدث وبِدْعَة لغة بلا ريب. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدونه ولا أحد من أصحابه. ولم يسمه محدثًا وبدعة باعتبار نفسه وذاته، فإنه باعتبار نفسه وذاته سنة ثابتة ليس ببدعة أصلًا كما صرّح به فيما بعد" اهـ.

وفي هذا الأثر بيان ذم البدعة وما أحدَثه المبتدعون، كيف لا؛ والمبتدع كما يقول الشاطبي في "الإعتصام" (1/ 62 - ط. الشيخ مشهور): "المبتدع معاند

ص: 43

للشرع، ومشاقّ له، لأن الشارع قد عيّن لمطالب العبد طرقًا خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، وأن الشرَّ في تعدّيها إلى غيرها؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فالمبتدع رادٌّ لهذا كله؛ فإنه يزعم أن ثمَّ طرقًا أُخر، وليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعيّن، وأن الشارع يعلم ونحن أيضًا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع! وهذا إن كان مقصودًا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين! اهـ.

* * *

31 -

عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، قال:"قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصّل؛ وقد سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطولين"؟

قال: قلت: وما طولى الطولين؟

قال: "الأعراف".

أخرجه البخاري (764) وأبو داود (812) والنسائي (2/ 170).

فقه الأثر:

هذا الأثر مما تكلّم الحفاظ في إسناده لاختلاف رواته فيه؛ كما تراه مفصّلًا في شرح الحافظ ابن رجب رحمه الله على "صحيح البخاري"(4/ 426 - وما بعدها).

كما أن الشرّاح والفقهاء اختلفوا في فقهه؛ وأنا ألخص كلامهم بما يلي:

قال الحافظ ابن رجب: "ذهب أكثر العلماء إلى استحباب تقصير الصلاة في المغرب. روى مالك في "الموطأ" بإسناده عن الصّنابحي، أنه قدم المدينة في خلافة أبي بكر الصديق، فصلى وراء أبى بكر الصدّيق المغربَ، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليَينِ بأم القرآن وسورة من قصار المفصل

وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري؛ أن يقرأ في صلاة المغرب بقصار المفضل ذكره الترمذي تعليقًا، وخرجه وكيع.

ص: 44

وروى وكيع في كتابه، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: سمعت عمر يقرأ في المغرب في الركعة الأولى بالتين والزيتون، وفي الثانية {أَلَمْ تَرَ} و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} .

وعن الربيع، عن الحسن؛ أنه كان يقرى فى المغرب {إِذَا زُلْزِلَتِ}

والعاديات، لا يدعهما

وخرّج أبو داود في "سننه"[815] عن ابن مسعود؛ أنه كان يقرأ في المغرب {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1)} .

وعن هشام بن عروة؛ أن أباه كان يقرأ في المغرب بنحو ما تقرؤون، والعاديات ونحوها من السور.

وهذا ما يُعَلَّلُ به حديثه عن مروان، عن زيد بن ثابت، كما تقدم.

وذكر الترمذي: أن العمل عند أهل العلم على القراءة في المغرب بقصار المفضل، وهذا يشعر بحكاية الإجماع عليه".

ثم ذكر الأحاديث والآثار التي تدل على القراءة بقصار المفصل. ثم قال:

"وأشار أبو داود إلى نسخ القراءة بالأعراف، واستدلّ له بعمل عروة بن الزبير بخلافه، وهو رواية".

ثم قال: "فإن قرأ في المغرب بهذه السور الطوال نفي كراهته قولان:

أحدهما: يكره؛ وهو قول مالك.

والثاني: لا يكره، بل يُستحَبُّ؛ وهو قول الشافعي؛ لصحة الحديث بذلك. حكى ذلك الترمذي في "جامعه"، وكذلك نص أحمد على أنه لا بأس به.

ولكن إن كان ذلك يشق على المأمومين فإنه يكره أن يشقَّ عليهم كما سبق ذكره". اهـ.

قلت: وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالمطول وبالقصار.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(2/ 290 - 291): "وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يطيل القراءة في المغرب؛ إما لبيان

ص: 45

الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين. وليس في حديث جبير بن مطعم (1) دليل على أن ذلك تكرر منه، وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج به على زيد؛ لكن لم يُرِدْ زيد فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث أم الفضل (2) إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات لكونه كان في حال شدة مرضه؛ وهو مظنة التخفيف، وهو يردُّ على أبي داود ادعاء نسخ التطويل، لأنه روى عقب حديث زيد بن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار، قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد، ولم يبين وجه الدلالة.

وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر عمل بخلافه حمله على أنه اطلع على ناسخه. ولا يخفى بُعدُ هذا الحمل، وكيف تصح دعوى النسخ وأم الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات.

قال ابن خزيمة في "صحيحه": هذا من الإختلاف المباح؛ فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إمامًا استحب له أن يخفف في القراءة كما تقدم" اهـ.

* * *

32 -

عن نافع: "أن ابن عمر رضي الله عنه -ما كان إذا رأى رجلًا لا يرفع يدبه إذا ركع وإذا رفع؛ رماه بالحصى".

أخرجه البخاري في "جزء رفع اليدين"(رقم: 15 - جلاء العينين) والحميدي في "مسنده"(2/ 277 - 278/ 615) وأحمد في "مسائل ابنه عبد الله"

(1) وهو ما رواه البخاري عنه؛ أنه قال: "سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرا في المغرب بالطور".

(2)

وهو ما أخرجه البخاري أيضًا عن ابن عباس، أن أم الفضل سمعته يقرأ {والمرسلات عرفًا} فقالت:"يا بني، والله لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب".

ص: 46

(ص 70) وابن عبد البر في "التمهيد"(5/ 56) والدارقطني (1/ 289) والحاكم في "معرفة علوم الحديث"(ص 218) وابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد"(ص 83، 88) والسهمي في "تاريخ جرجان"(ص 433).

من طرق؛ عن الوليد بن مسلم، قال؛ سمعتُ زيد بن واقد، عن نافع به.

والوليد بن مسلم مدلس؛ لكنه صرّح بالتحديث هنا.

فقه الأثر:

فيه أن السنة هي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه، كما تراه مفصلًا في كتاب الإمام البخاري "جزء رفع اليدين".

وقال الإمام الشافعي: "لا يحل لأحد سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين في افتتاح الصلاة وعند الركوع والرفع من الركوع؛ أن يترك الإقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم". انظر "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (2/ 100) ترجمة أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني.

وانظر لتمام الفاثدة "القول المبين في أخطاء المصلين"(ص 100 - 105) للشيخ الفاضل مشهور بن حسن آل سلمان وفقه الله.

* * *

33 -

عن سهل بن سعد، قال:"كان النَّاسُ يؤمرونَ أن يضعَ الرَّجُل يَدَهُ اليُمْنَى على ذِرَاعِهِ اليُسْرَى في الصَّلاةِ".

قال أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

أخرجه البخاري (745) ومالك في "الموطأ"(1/ 159/ 47) - 9 - كتاب قصر الصلاة في السفر، (15) باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة. وأحمد في "المسند"(5/ 336) أو رقم (22956 - قرطبة).

من طريق: أبي حازم، عن سهل به.

فقه الأثر:

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "الفتح"(2/ 262): "هذا حكمه الرفع؛ لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم".

ص: 47

قلت: وهذا واضح وبيّن، يبيّنه قول أبي حازم:"لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم"، ومعنى ينمي: يُرْفَعُ ويُسْنَدُ.

وفيه: أن السُّنَّةَ هي: وضع اليد اليمنى على ذراع اليسرى في الصلاة.

ويؤيّد هذا ما رواه ابن عباس رضي الله عنه -ما، أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال:"إنا معشر الأنبياء أُمرنا أن نؤخّرَ سحورنا ونُعَجِّلَ فِطرَنَا، وأن نمسِكَ بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا". أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(رقم: 1767).

ومنه حديث وائل بن حجر، أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة فكبر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى .. " أخرجه مسلم (401) وغيره.

والآثار في ذلك كثيرة جدًا عن الصحابة والتابعين، لعلنا نخرج بعضها في هذه السلسلة إن شاء الله تعالى.

قال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله في "جامعه"(2/ 33): "العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم على هذا؛ يَرَوْنَ أن يضعَ الرجلُ يمينَه على شماله في الصلاة".

وقال ابن عبد البر -كما في "الفتح"(2/ 263) -:

"لم يأتِ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحكِ ابن المنذر وغيره عن مالك غيره، وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة .. ". وانظر "التمهيد"(5/ 59 - الطبعة المرتبة - دار الفاروق) أو (20/ 74 - المغربية).

قال أبو عبد الله -غفر الله له-: وبهذا تعلم ما عليه بعض المالكيين (المنتسبين إلى المذهب المالكي) وبخاصة في الشمال الإفريقي من مخالفتهم للسنة النبوية، بل ولإمام مذههم الامام مالك رحمه الله، عندما يسدلون أيديهم في الصلاة، فقد تبيَّن لك أيها السُّنيّ أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قُدْوَتنا جميعًا نحن معاشر المسلمين - أنه قبض يديه في الصلاة، بل وأن الإمام

ص: 48

مالك روى هذا الأثر العظيم في "موطئه"، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!

أين يضع المصلّي يديه في الصلاة؟

السنة أن يضعَ المصلّي يده اليمنى على اليسرى على صدره.

والدليل على ذلك حديث وائل بن حجر المتقدم، لكن ليس عند مسلم ذكر الصدر، وإنما هي عند أبي داود وابن خزيمة، وتفصيل هذا المبحث في "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة الألباني (ص 88 - ط. المعارف) و"لا جديد في أحكام الصلاة" للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد -حفظه الله ودفع عنه كل سوء- (ص 17 - وما بعدها).

وانظر "فتح الغفور في وضع اليدين على الصدور" للعلامة السندي رحمه الله.

* * *

34 -

عن أبي غالب البصري حزوّر، فال: كنتُ بالشام، فبعث المهلّب سبعين رأسًا من الخوارج، فنُصِبُوا على درج دمشق، وكنتُ على ظهر بيتٍ لي، فمرَّ أبو أمامة، فنزلتُ فاتبعتُه، فلما وقف عليهم دمعت عيناه، وقال: سبحان الله! ما يصنع الشيطان ببني آدم! -قالها ثلاثًا-، كلاب جهنم، كلاب جهنم، شرُّ قتلى تحت ظل السماء -ثلاث مرات- خير قتلى من قتلوه، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه.

ثم التفت إليَّ فقال: يا أبا غالب! إنك بأرض هم بها كثير، فأعاذك الله منهم.

قلت: رأيتك بكيتَ حين رأيتهم؟!

قال: بكيتُ رحمة حين رأيتُهم؛ كانوا من أهل الإسلام، هل تقرأ سورة آل عمران؟

قلتُ: نعم. فقرأ: {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} حتى بلغ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} [آل عمران: 7]. وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغٌ فزِيغَ بهم.

ص: 49

ثم قرأ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إلى قوله: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 105 - 107].

قلتُ: هم هؤلاء يا أبا أمامة؟

قال: نعم.

قلت: من قِبَلِكَ تقول، أو شيء سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم؟

قال: إني إذن لجريءٌ؛ بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا مرة، ولا مرتين .. حتى عدّ سبعًا.

ثم قال: "إن بني إسرائيل تفرّقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة تزيد عليها فرقة؛ كلها في النار إلا السواد الأعظم.

قلت: يا أبا أمامة؛ ألا ترى ما يفعلون؟

قال: {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [سورة النور: 54].

أثر حسن. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(15/ 307 - 308/ 19738) وأحمد (253/ 5، 256) أو رقم (22283، 22308 - قرطبة) والترمذي (3000) وابن ماجه (176) والحميدي في "مسنده"(2/ 404/ 908) وعبد الرزاق في "مصنفه"(10/ 152/ رقم: 18663) والطيالسي (1136) وابن أبي حاتم في "تفسيره"(2/ 594/ 3180) - وسقط ذكر أبي غالب عنده من الإسناد- و (5/ 1429/ 8150) -مختصرًا جدًا- والطبراني في "المعجم الكبير"(15/ رقم: 8033 - 8036، 8049، 8056) والآجري في "الشريعة"(1/ 154 - 156/ 62، 63، 64) والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 188) واللالكائي في "شرح أصول الإعتقاد"(رقم: 151، 152) والطحاوي في مشكل الآثار" (6/ 338 - 339/ 2519) وابن أبي عاصم فى "السنة" (رقم: 68) وابن نصر المروزي في "السنة" (رقم: 56 - ط. العاصمة) -ووقع عنده: أبو أسامة بدل أبي أمامة-.

من طرق؛ عن أبي غالب به.

وهذا إسناد حسن.

ص: 50

أبو غالب البصري؛ ضعيف يعتبر به في الشواهد والمتابعات. وخبره هذا مشهور عنه.

وقد توبع؛ تابعه صفوان بن سُليم عند أحمد في "المسند"(5/ 269) أو رقم (22251 - قرطبة) وابنه عبد الله في "السنة"(رقم: 1546) بإسناد صحيح.

كما تابعه سيار الأموي عند أحمد (5/ 250).

وقال الخليلي في "الإرشاد"(2/ 468): "وروى عن أبي غالب حديث الخوارج أكثر من بضع وسبعين نفرًا من أهل الكوفة وأهل البصرة .. ".

وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله. في "المشكاة"(رقم: 3554).

* * *

35 -

عن عمرو بن قرة، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال: سألتُ أبي {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)} [الكهف: 103]؛ هم الحرورية؟ قال: "لا؛ هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذّبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى كفروا بالجنة، وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه". وكان سعدٌ يسمّيهم الفاسقين.

أخرجه البخاري (4728).

وأخرجه النسائي في "الكبرى"(2/ 26 - 27/ 333) - تفسير النسائى- وعبد الرزاق في "تفسيره"(2/ 413) والحاكم في "المستدرك"(2/ 370) وابن جرير في "تفسيره"(16/ 32 - 33) وابن أبي حاتم في "تفسيره"، ولفظه:"قلت لأبي: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف: 104]؛ أهم الحرورية؟ قال: "لا؛ أولئك أصحاب الصوامع، ولكن الحرورية الذين قال الله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] ".

فقه الأثر:

قال الشاطبي رحمه الله في "الإعتصام"(1/ 90 - وما بعدها - ط. الشيخ مشهور) أو (1/ 84 - وما بعدها - ط. ابن عفان):

"ففي هذه الروايات عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن قوله تعالى:

ص: 51

{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] الآية؛ يشمل أهل البدعة، لأن أهل حروراء اجتمعت فيهم هذه الأوصاف التي هي نقضُ عهد الله، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض.

فالأول: لأنهم خرجوا عن طريق الحق بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم تأوَّلوا فيه التأويلات الفاسدة، وكذا فعل المبتدعة، وهو بابهم الذي دخلوا منه.

والثاني: لأنهم تصرّفوا في أحكام القرآن والسنة هذا التصرف.

فأهل حروراء وغيرهم من الخوارج قطعوا قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 1 [الأنعام: 57] عن قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وغيرها، وكذا فعل سائر المبتدعة ..

ثم قال: والثالث: لأن الحرورية جرّدوا السيوف على عباد الله، وهو غاية الفساد في الأرض، وذلك في كثير من أهل البدع شائع، وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العدواة والبغضاء بين أهل الإسلام.

وهذه الأوصاف الثلاثة تقتضيها الفُرقة التي نبّه عليها الكتاب والسنة" اهـ.

* * *

36 -

عن عمرو بن مهاجر، قال: بلغ عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن غيلان القدري يقول في القدر. قال: فبعث إليه فحجبه أيامًا ثم أدخله عليه، فقال:"يا غيلان! ما هذا الذي بلغني عنك"؟!

قال عمرو بن مهاجر: فأشرتُ اليه أن لَّا يقول شيئًا.

قال: فقال: نعم يا أمير المؤمنين؛ إن الله عز وجل يقول: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان: 1 - 3].

قال عمر. "اقرأ من آخر السورة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)} [الإنسان: 30 - 31].

ص: 52

ثم قال: ما تقول يا غيلان"؟

قال: أقول: قد كنتُ أعمى فبصّرتني، وأصم فأسمعتني، وضالًا فهديتني. فقال عمر:"اللهم إن كان عبدك غيلان صادقًا، وإلا فاصْلُبه".

قال: فأمسك عن الكلام في القدر. فولّاه عمر دار الضرب بدمشق، فلما ماث عمر وأفضت الخلافة إلى هشام؛ تكلّم في القدر، فبعث إليه هشام فقطع يده، فمرّ به رجلٌ والذباب على يده، فقال له: يا غيلان! هذا قضاء وقدر.

قال: كذبت لعمر الله؛ ما هذا قضاء ولا قدر!

فبعث إليه هشام؛ فصلبه.

أثر حسن. أخرجه الفريابي في "القدر"(رقم: 288) والآجري في "الشريعة"(2/ 918 - 920/ 514 - الوطن) أو (1/ 438/ 555 - الوليد سيف النصر) وعبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة"(2/ 429/ 948) وابن بطة في "الإبانة"(رقم: 567) واللالكائي (رقم: 1325) بإسناد حسن.

* * *

37 -

عن زيد بن وهب قال: رأى حذيفةُ رجلًا لا يتم الركوع والسجود؛ قال: "ما صلَّيتَ؛ ولو مُتَّ متَّ على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم".

أخرجه البخاري (791).

وأنظر لفقه الأثر: "القول المبين في أخطاء المصلين"(ص 119 - 121) ففيه كلام نفيس.

* * *

38 -

عن عمرو بن مالك النُّكري، قال: سمعتُ أبا الجوزاء -وذكر أهل الأهواء- فقال: "لأن تمتلئ داري قردةً وخنازيرَ أحبُّ إليَّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء".

حسن. أخرجه الهروي في "ذم الكلام"(4/ 59 - 60/ 790) والفريابي في

ص: 53

"القدر"(رقم: 370) والآجري في "الشريعة"(3/ 581/ 2110 - ط. الوليد سيف النصر) وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(7/ 224) واللالكائي في "شرح أصول الإعتقاد"(رقم: 231) وابن بطة في "الإبانة"(رقم: 466 - 469) وابن أبي زمنين في "السنة"(238) من طرق؛ عن عمرو بن مالك به.

وعمرو بن مالك؛ وثقه الذهبي في "الميزان"، وقال ابن حبان:"يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه".

فحديثه حسن إن شاء الله.

* * *

39 -

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه -ما، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لقد خَشِيتُ أن يَطُولَ بالناسِ زَمَانٌ حتى يقولَ قائلٌ: لا نَجِدُ الرَّجمَ فى كتاب الله! فيضلُّوا بترك فريضة أنزلها اللهُ، ألا وإن الرَّجمَ حقٌّ على مْن زنى وقد أَحْصَنَ؛ إذَا قامت البَيِّنَةُ، أو كان الحمل، أو الإعتراف ألا وقد رَجَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده".

أخرجه: البخاري (6829) -واللفظ له- ومسلم (1691) وأحمد (1/ 29، 40، 47) وأبو داود (4418) والنسائي في "الكبرى"(4/ 273، 274) والترمذي (1432) وابن ماجه (2553) وغيرهم.

* * *

40 -

عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال:

"يا معشر القُرَّاء! استقيموا، فقد سَبَقتم سبقًا بعيدًا، وإن أخذتم يمينًا وشمالًا؛ لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا".

أخرجه البخاري (7282) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(13/ 379) والبزار في "مسنده"(7/ 359/ 2956) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2/ 947/ 1809) وابن نصر في "السنة"(رقم: 88 - العاصمة) وابن وضاح في "البدع والنهي عنها"(رقم: 13، 15) وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 280) والخطيب في

ص: 54

"تاريخ بغداد"(3/ 446) والهروي في "ذم الكلام"(2/ 387 - 388/ 473) واللالكائي في "شرح الأصول"(رقم: 119) وابن بطة في "الإبانة"(رقم: 196) وابن المبارك فى "الزهد"(رقم: 47) وأبو داود في "الزهد"(رقم: 273) وعبد الله بن أحمد في "السنة"(106).

من طريق: الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، عن حذيفة به.

فقه الأثر؛

قوله: (يا معشر القراء)؛ المراد بهم: العلماء بالقرآن والسنة العُبّاد. (استقيموا): أي: اسلكوا طريق الإستقامة، وهي الكناية عن التمسك بأمر الله فعلًا وتركًا.

قوله: (فإن أخذتم يمينًا وشمالًا ..)؛ أي: خالفتم الأمر المذكور، وهذا الكلام منتزع من قوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . والذي له حكم الرفع من كلام حذيفة هذا: الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين مضوا على الإستقامة .. انظر "فتح الباري"(13/ 271).

* * *

41 -

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اتبِعُوا ولا تَبْتَدِعُوا؛ فقد كُفيتم، وكل بدعة ضلالة".

أخرجه: وكيع في "الزهد"(رقم: 315) وأحمد في "الزهد"(رقم: 894 - الكتاب العربي) أو (2/ 110 - دار النهضة) والدارمي في "مسنده"(1/ 288/ 211 - حسين سليم) وابن نصر المروزي في "السنة"(رقم: 79) والطبراني في "المعجم الكبير"(9/ رقم: 8770) والأصبهاني في "الترغيب والترهيب"(1/ 294/ 476) وابن بطة في "الإبانة"(رقم: 175) واللالكائي في "شرح أصول الإعتقاد"(رقم: 104) وابن أبي زمنين في "أصول السنة"(رقم: 11) والبيهقي في "المدخل إلى السنن"(رقم: 204) وابن وضاح في "البدع والنهي عنها"(رقم: 14) وبحشل في "تاريخ واسط"(ص 198 - 199) وابن الجوزي في "تلبيس إبليس"(ص 16 - 17).

ص: 55

كلهم من طريق: الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي عبد الرحمن السُّلمي، عن عبد الله به.

والأعمش وحبيب؛ مدلسان.

لكن أخرجه أبو خيثمة في "العلم"(رقم: 54) من طريق: جرير، ثنا العلاء، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود به.

قال الشيخ الألباني: "هذا إسناد صحيح؛ وابراهيم -وهو ابن يزيد النخعي - وإن كان لم يدرك عبد الله -وهو ابن مسعود- فقد صح عنه أنه قال: إذا حدّثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعتُ، واذا قلتُ: قال عبد الله؛ فهو عن غير واحد عن عبد الله".

* * *

42 -

وقال عبد الله بن مسعود أيضًا: "عليكم بالعلم قبل أن يُقْبَضَ، وقَبْضُهُ بذهاب أهله. علكيم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متى يَفْتَقِرُ أو يُفْتَقَرُ إلى ما عنده، وستجدون أقوامًا يزعمون أنهم يَدْعونَ إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدُّع والتنطع والتعمّق، وعليكم بالعتيق".

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(11/ 252/ 2065) والطبراني في "المعجم الكبير"(9/ رقم: 8845) والدارمي (1/ 251 - 252/ 145) وابن نصر في "السنة"(رقم: 86) والبيهقي في "المدخل إلى السنن"(رقم: 387) وابن بطة في "الإبانة"(رقم: 169) واللالكائي (رقم: 108) وابن وضاح في "البدع"(رقم: 60) والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/ 167/ 156) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/ 1517/592) -معلقًا- وابن حبان في "روضة العقلاء"(ص 37) والأصبهاني في (الحجة في بيان المحجة)(1/ 303/ رقم: 168).

من طريق: أبي قلابة، عن ابن مسعود به.

وأبو قلابة لم يسمع من ابن مسعود؛ فهو منقطع، انظر "المجمع"(1/ 126).

لكن قال البيهقي في "المدخل": "هذا مرسل، وروي موصولًا من طريق الشاميين".

ص: 56

ثم أخرجه (388) من طريق: أبي إدريس الخولاني عن ابن مسعود، بإسناد صحيح؛ فصحّ الخبر، والحمد لله.

* * *

43 -

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "والذي لا إله غيره؛ ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلمُ فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلمُ مكانَ أحدٍ أعلمَ بكتاب الله منِّي تنالُه المطايا لأتيتُه".

أخرجه البخاري (5002) ومسلم (2463) والطبراني في "المعجم الكبير"(9/ رقم: 8429، 8430، 8443) والبزار (رقم: 1957، 1958) وابن أبي داود في "المصاحف"(ص 16) وابن جرير الطبري في "تفسيره"(1/ 80/ رقم: 83 - شاكر) وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 342) والخطيب البغدادي في "الرحلة في طلب الحديث"(ص 94 - 95/ رقم: 25، 26).

من طريق: الأعمش، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عبد الله به.

وأخرجه البخاري (5005) ومسلم (2462) والنسائي في "الكبرى"(5/ 8/ 7997) وابن سعد (2/ 343 - 344) وابن أبي داود في "المصاحف"(ص 15).

من طريق: الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله به نحوه.

* * *

44 -

وعنه أنه قال: "لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا أحدٌ، ونعم ترجمان القرآن ابن عباس".

أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة"(رقم: 1860، 1861) والطبري في "تفسيره"(رقم: 104) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(12/ 110 - 111) والخطيب البغدادي في "تاريخه"(1/ 174) وأبو خيثمة في "العلم"(رقم: 48) وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 366 - صادر) والحاكم في "المستدرك"(3/ 537) والبيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 193) وفي "المدخل إلى السنن الكبرى"(1/ 128، 129/ 125، 126) والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(1/ 494 - 495)، وغيرهم.

ص: 57

من طريق: الأعمش، عن مسلم بن صبيح أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود به.

قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.

* * *

45 -

عن سعيد بن المسيّب: أنه رأى رجلًا يُصَلّي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين؛ يكثر فيها الركوع والسجود، فنهاه سعيد عن ذلك. فقال: يا أبا محمد؛ يُعذّبني الله على الصلاة؟ ا

قال: "لا؛ ولكن يُعَذِّبُكَ على خلاف السنة".

أثر حسن. أخرجه الدارمي في "مسنده"(1/ 404/ 450 - حسين سليم أسد) والبيهقي (2/ 466) وعبد الرزاق في "مصنفه"(رقم: 4755).

من طريق: سفيان، عن أبي رباح شيخ من آل عمر، عن سعيد به.

وهذا إسناد جيد.

أبو رباح هو عبد الله بن رباح القرشي، ترجمه البخاري في "التاريخ الكبير"(5/ 85) وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(5/ 52) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا.

لكن روى عنه أكثر من واحد، وذكره ابن حبان في "الثقات"(7/ 3).

وصحّح إسناده الألباني في "إرواء الغليل"(2/ 236).

وأخرجه الخطيب البغدادي بنحوه في "الفقيه والمتفقه"(1/ 381/ 387) من طريق: مخلد بن مالك الحزاني، نا عطاف بن خالد، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد به.

وإسناده حسن.

فقه الأثر:

قال العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في "الإرواء"(2/ 236): "وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وهو سلاحٌ قويٌّ على المبتدعة الذين يَسْتَحْسِنُونَ كثيرًا من البدع باسم أنها ذِكرٌ وصلاة، ثم ينكرون على

ص: 58

أهل السنة انكار ذلك عليهم، ويتَّهِمُونَهُم بأنهم ينكرون الذِّكرَ والصلاة!! وهم في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر والصلاة ونحو ذلك" اهـ.

* * *

46 -

قال الإمام الحافظ ابو عبد الرحمن النسائي رحمه الله: أخبرنا محمد بن عمر بن علي بن مقدم، قال: حدثنا يوسف بن يعقوب، قال: أخبرنا التيمي، عن أبي مجلز، عن قبس بن عُبَادٍ، قال:

"بينا أنا في المسجد في الصف المقدّم فجبذني رجلٌ من خلفي جَبْذَةً، فنَحَّاني وقام مقامي، فوالله ما عَقَلْتُ صلاتي، فلما انصرف فإذا هو أبيّ بن كعب، فقال: يا فتى! لا يَسُؤْكَ اللهُ؛ إن هذا عهدٌ من النبي صلى الله عليه وسلم إلينا أن نَلِيَهُ، ثم استقبل القبلةَ فقال: هَلَكَ أهلُ العُقَدِ وربّ الكعبة -ثلاثًا- ثم قال: والله ما عليهم آسى، ولكن آسى على من أضلُّوا.

قلت: يا أبا يعقوب! ما يعني بأهل العُقد؟ قال: الأمراء".

أخرجه النسائي في "السنن الصغرى" -المجتبى- (2/ 88) أو رقم (807 - المعرفة) وفي "الكبرى"(1/ 287/ 882) وابن خزيمة في "صحيحه"(رقم: 1573) وعبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 53 - 54/ 2460) والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 133).

وصححه الألباني في "صحيح سنن النسائي"(1/ 174/ رقم: 778).

فقه الأثر:

فيه: أن السنَّة أن يَلِيَ الإمامَ أولوا الأحلام والنهى، وأنهم هم أحق بالصف الأول، وهذا يؤيده قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ليلني منكم أولوا الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم

".

والمقصود بأولي الأحلام والنهى؛ أولوا العلم والفقه والفطنة، ذلك أنه ربما احتاج الإمام إلى من يفتح عليه في القراءة إن كان في صلاة جهرية، أو يحتاج لمن يستخلفه إذا أحدث، أو لأن يُذكَّرَ إن سهى

وهكذا.

ص: 59

47 -

قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وعلي بن حُجْرٍ، قالوا: حدثنا اسماعيل -وهو ابن عُلَيَّة- عن ابن أبي عروبة، عن عبد الله الدَّاناج. ح وحدثنا اسحاق بن ابراهيم الحنظلي - واللفظ له- أخبرنا يحيى بن حماد، حدثنا عبد العزبز بن المختار، حدثنا عبد الله بن فيروز مولى ابن عامر الداناج - حدثنا حُصين بن المنذر أبو ساسان، قال: شهدتُ عثمان بن عفان وأُتِيَ بالوليد قد صلّى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدُكم؟! فشهد عليه رجلان؟ -أحدهما حمران- أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ.

فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها. فقال: يا علي؛ قم فاجلده.

فقال علي: قم يا حسن فاجلده.

فقال الحسن: ولِّ حارّها من تولّى قارها -فكأنه وجد عليه- فقال: يا عبد الله بن جعفر؛ قم فاجلده، فجلده وعليٌّ بعد، حتى بلغ أربعين. فقال: أمسِك، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحبُّ إليَّ".

أخرجه مسلم (1707) وأحمد (1/ 82) أو رقم (624 - شاكر) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(5/ رقم: 28398 - العلمية) وأبو داود (4480، 4481) من طريق: سعيد بن أبي عروبة به.

فقه الأثر:

الوليد هو: ابن عقبة بن أبي معيط.

توله: "فشهد حمران أنه شربها، وشهد آخر أنه رأه يتقيأ .. "؛ "فيه من الفقه تلفيق الشهادتين إذا أدّتا إلى معنى واحد، فإن أحدهما شهد برؤية الشرب، والآخر بما يستلزم الشرب، ولذلك قال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها". قاله أبو العباس القرطبي في "المفهم"(5/ 134).

وقال النووي في "المنهاج" -شرحه لمسلم- (11/ 219): "هذا دليل لمالك وموافقيه في أن من تقيأ الخمر يُحدُّ حدَّ الشارب، ومذهبنا أنه لا يُحَدُّ

ص: 60

بمجرد ذلك؛ لاحتمال أنه شربها جاهلًا كونها خمرًا، أو مكرهًا عليها أو غير ذلك من الأعذار المسقطة للحدود.

ودليل مالك هنا قوي؛ لأن الصحابة اتفقوا على جلد الوليد بن عقبة المذكور في هذا الحديث.

وقد يجيب أصحابنا عن هذا بأن عثمان رضي الله عنه علم شرب الوليد فقضى بعلمه في الحدود؛ وهذا تأويل ضعيف، وظاهر كلام عثمان يرد هذا التأويل، والله أعلم!.

ومعنى قول الحسن: "ولّ حارّها من تولّى قارّها"؛ هذا مثل من أمثال العرب، قال الأصمعي: معناه: ولّ شدّتها من تولى هنيئَها. ومعناه: ولّ إقامة الحدّ من تولى إمرة المسلمين وتناول حلاوة ذلك.

وقوله: "فكأنه وجد عليه"؛ أي: غضب عليه لأجل توقفه فيما أمره به، وتعريضه بالأمراء. "المفهم"(5/ 135).

وقوله: "فجلده وعليّ يعد

إلخ"؛ فيه: أن عليًا رضي الله عنه مذهبه في شارب الخمر أن يُحَدَّ بأربعين جلدة؛ لكن هذا يعارضه ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (رقم: 3696) من أنه جلد الوليد ثمانين جلدة، وأنه جلد الرجل المعروف بالنجاشي ثمانين جلدة. وانظر كلام النووى حول هذه المسألة.

وفيه "دليل واضح على اعتقاد علي رضي الله عنه صحة إمامة الخليفتين أبي بكر وعمر، وأن حكمهما يقال عليه: سنة، خلافًا للرافضة والشيعة، وهو أعظم حجة عليهم؛ لأنه قول متبوعهم الذي يتعضبون له ويعتقدون فيه ما يتبرأ هو منه. وكيف لا تكون أقوال أبي بكر وعمر وأفعالهما سنة وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" (1)؟! اهـ.

من "المفهم" لأبي العباس القرطبي (5/ 136).

* * *

48 -

قال الحافظ سعيد بن منصور رحمه الله: ثنا سفيان، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود في قوله

(1) أخرجه أحمد (5/ 382) والترمذي (3663) وابن ماجه (97) وغيرهم، وصححه الألباني.

ص: 61

تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، قال:"حبل الله؛ القرآن".

أخرجه الحافظ سعيد بن منصور في "سننه"(3/ 1083/ 519 - ط. آل حميد) وابن جرير الطبري في "تفسيره"(7/ 72/ رقم: 7570 - شاكر) والطبراني في "المعجم الكبير"(9/ رقم: 9032) وابن نصر في "السنة"(رقم: 24 - ط. العاصمة).

من طريق الأعمش به.

لاسناده صحيح على شرط الشيخين.

وأخرج ابن جرير (7/ 71/ 7562، 7563 - شاكر) وسعيد بن منصور (3/ 1084/ 520) والطبراني في "الكبير"(9/ رقم: 9033).

من طرق؛ عن الشعبي، عن ابن مسعود قال:"حبل الله؛ هو الجماعة".

وهذا إسناد ضعيف لإنقطاعه؛ فالشعبي لم يسمع من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

لكن أخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 723/ 3916 - الباز) قال: حدثنا علي بن إبراهيم الواسطي، ثنا يزيد بن هارون، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن ثابت بن قطبة، قال: سمعتُ عبد الله بن مسعود يخطب وهو يقول: "يا أيها الناس! عليكم بالطاعة والجماعة؛ فإنهما حبل الله الذي أمر به".

وهذا إسناد صحيح متصل؛ فصحّ الأثر والحمد لله. وانظر رقم (57، 114).

* * *

49 -

عن عائشة رضي الله عنه -اقالت: "الحمد لله الذي وَسِعَ سمعُه الأصوات، لقد جاءت المجادِلة تشكو الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا في جانب البيت، وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل الله:{قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} .

أخرجه البخاري في "صحيحه" معلّقًا مجزومًا به (13/ 384) - 97 - كتاب

ص: 62

التوحيد، 9 - باب (وكان الله سميعًا بصيرًا). ووصله: الامام أحمد في "مسنده"(6/ 46) أو رقم (24306 - قرطبة) والنسائي في "المجتبى" -الصغرى- (6/ 168) وفي "الكبرى"(6/ 482/ 11570) وابن ماجه (188، 2063) والطبري في " تفسيره"(28/ 5، 6) والحاكم (2/ 481) والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 382) وفي "الأسماء والصفات"(1/ 457 - 458/ 385) وفي "الإعتقاد"(ص 85 - ط. أبو العينين) وابن أبي عاصم في "السنة"(رقم: 625) وعبد بن حميد في "المنتخب من المسند"(رقم: 1514) وأبو يعلى في "مسنده"(8/ 214/ 4780) والتيمي في "الحجة في بيان المحجة"(2/ 135 - 136/ 61) وابن منده في "التوحيد"(رقم: 400، 414) والآجري في "الشريعة"(2/ 71 - 72/ 704، 705 - ط. الوليد سيف النصر) واللالكائي في "شرح أصول الإعتقاد"(رقم: 689) وأبو الشيخ في "العظمة"(2/ 536 - 537/ 189) وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على المريسي"(رقم: 61/ ص 135 - ط. أضواء السلف) وعمر بن شبة في "تاريخ المدينة" أو -أخبار المدينة- (2/ 13) وابن حجر العسقلاني في "تغليق التعليق"(5/ 338 - 339).

من طرق؛ عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة به. وهذا إسناد صحيح.

قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي.

وقال البيهقي في "الأسماء والصفات": "أخرجه البخاري في الصحيح". قلت: لكنه معلقٌ.

وقال في الإعتقاد: "وفي هذا إثبات السمع لله عز وجل".

وقال ابن منده: "هذا حديث مجمع على صحته، رواه جماعة عن الأعمش".

وصححه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل"(7/ 175).

* * *

50 -

عن معرور بن سويد الأسدي، قال: خرجتُ مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من مكة إلى المدينة، فلما أصبحا صلّى بنا الغَدَاة، ثم

ص: 63

رأى الناس يدهبون مذهبًا، قال:"أين يذهب هؤلاء"؟

قيل: يا أمير المؤمنين؟ مسجد صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم يأتون يصلون فيه.

فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا؛ يتبعون آثارَ أنبيائهم فيتَّخِذُونها كنائسَ وَبِيعًا، من أَدْرَكَتهُ الصلاة في هذا المسجد فَلْيُصَلِّ، ومن لا فَلْيَمْضِ ولا يتعمَّدها".

أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2/ 118 - 119/ 2734) وابن أبي شيبة (2/ 376 - 377) والطحاوي في "مشكل الآثار"(14/ 397) وابن وضاح في "البدع والنهي عنها"(رقم 103، 104).

من طرق؛ عن الأعمش؛ عن معرور بن سويد به.

وإسناده صحيح.

* * *

51 -

قال الحافظ ابو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا يزيد، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، ثم قرأ:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [الإسراء: 106].

أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص 367 - 368 - ط. ابن كثير) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(10/ 533 - الهندية) أو (6/ 144/ 30178 - العلمية) والنسائي في "الكبرى"(5/ 6/ 7989، 7990 - العلمية) و (6/ 421/ 11372) والطبري في "تفسيره"(15/ 119) والحاكم (2/ 222، 368) والبيهقي في "دلائل النبوة"(7/ 131 - 132) وفي "السنن"(4/ 306) وفي "الأسماء والصفات"(1/ 571/ 497) وابن الضريس في "فضائل القرآن"(رقم: 116، 117).

من طريق: داود بن أبي هند به.

قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي. وصحّح إسناده الحافظ

ص: 64

ابن كثير في مقدمة تفسيره (1/ 141 - ط. ابن الجوزي).

وأخرجه ابن أبى شيبة (10/ 533) أو (6/ 144/ 35181 - العلمية) والنسائي في "الكبرى"(5/ 7/ 7991) والحاكم (2/ 223، 615) وابن الضريس في "فضائل القرآن"(119) والبزار (3/ رقم: 2290 - كشف الأستار) والطبراني في "الكبير"(/ 12 رقم: 123781، 12382) والبيهقى في "الأسماء والصفات"(1/ 570/ 496).

من طريق الأعمش، عن حسان بن أبي الأشرس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.

وصححه الحاكم.

وفي إسناد الطبراني عمرو بن عبد الغفار؛ وهو ضعيف، لكنه توبع عند الآخرين.

وأخرجه الطبري في "تفسيره"(30/ 166 - 167) والحاكم (2/ 222، 530) والنسائي في "الكبرى"(6/ 519/ 11689) والبيهقي في "دلائل النبوة"(7/ 131) وفي "الأسماء والصفات"(1/ 569/ 495) وابن الضريس في "فضائل القرآن"(118).

من طريق: منصور بن المعتمر، عن سعيد بن جبير به.

وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

وأخرجه الحاكم (2/ 477) من طربق: هشيم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير به.

وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

ولكنه أسقط حكيم بن جبير من السند، فإنه أخرجه (2/ 530) وذكر فيه حكيم بن جبير، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي أيضًا!

لكن حكيم بن جبير لم يخرج له الشيخان شيئًا، ثم هو ضعيف.

وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(رقم: 1479 - الحرمين) أو (رقم: 1502 - المعارف) وفي "الكبير"(11/ رقم: 11839) من طريق: عمران القطان، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس به.

ص: 65

قال الهيثمي في "المجمع"(7/ 145): "وفيه عمران القطان؛ وثقه ابن حبان وغيره، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات".

* * *

52 -

عن محمد بن سيرين، عن أبي صالح، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:"إني لأرجو أن أكونَ أنا وعثمان وطلحة والزبير ممّن قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} [الحجر: 47] ".

أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة"(2/ 766/ 1057) -زيادات القطيعي- من طريق: جعفر بن محمد، نا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا الأشعث، عن محمد بن سيرين به.

وهذا إسناد صحيح -كما قال محققه الدكتور وصيّ الله عباس حفظه الله.

وأخرجه (1/ 535، 634/ 698، 851) -زيادات القطيعي- (1/ 553/ 729) والخلال في "السنة"(2/ 390/ 556) والخطيب البغدادي في تاريخه (14/ 432) عن أم عمر بنت حسان بن زيد أبي الغصن، قالت: سمعت أبي يقول: فذكره.

وأخرجه أحمد في "الفضائل"(2/ 930، 934/ 1291، 1299) واللالكائي في "شرح أصول الإعتقاد"(8/ رقم: 2706) من طريق: منصور، عن إبراهيم النخعي، قال: استأذن ابن جرموز الذي قتل الزبير على علي .. فذكره.

وهذا إسناد منقطع؛ فإن إبراهيم النخعي لم يلقَ عليًا رضي الله عنه.

وأخرجه البيهقي في "الإعتقاد"(ص 528) من طريق: محمد بن يوسف، قال: ذكر سفيان عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: قال علي:

فذكره.

وهذا منقطع أيضًا.

وأخرجه أحمد في "الفضائل"(2/ 932/ 1295) من طريق: طلحة بن يحيى، قال: حدثني أبو حبيبة، قال: جاء عمران بن طلحة إلي علي فقال: .. فذكره.

ص: 66

وأخرجه أحمد في "الفضائل"(2/ 933/ 1298) وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 224) وابن جرير الطبري في "تفسيره"(14/ 25 - 26) والحاكم في "المستدرك"(3/ 476) من طريق: أبي مالك الأشجعي، عن أبي حبيبة به.

وأخرجه أحمد في "الفضائل"(2/ 935/ 1300) وابن سعد (3/ 225) وابن جرير (14/ 25) من طريق: أبان بن عبد الله البجلي، عن نعيم بن أبي هند، عن ربعي بن حراش، عن علي به.

وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(2/ 816/ 1250 - جوابرة) من طريق: يوسف بن يعقوب، عن الصلت بن عبد الله بن الحارص بن نوفل، حدثني أن أباه حدثه، قال: قدمت مع علي الكوفة

فذكره.

وفي إسناده الصلت بن عبد الله؛ مقبول كما في "التقريب".

وأخرجه الحاكم (3/ 105) من طريق: يعقوب بن عبد الله القمي، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: .. فذكره.

وإسناده ضعيف؛ لضعف يعقوب بن عبد الله وهارون بن عنترة.

وأخرجه اللالكائي في "شرح أصول الإعتقاد"(7/ رقم: 2573) وابن الأعرابي في "معجمه"(2/ 856/ 1774 - ابن الجوزي) والخلال في "السنة"(2/ 390/ 555) من طريق: شعبة، عن حبيب بن الزبير، عن عبد الرحمن بن الشرود، عن علي به.

وأخرجه عمر بن شبة في "أخبار المدينة"(4/ 1266) من طريق: محمد بن عبيد الله الأنصاري، عن أبيه، قال؛ كنت وعليًا

نذكره.

* * *

53 -

قال الحافظ أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة رحمه الله: حدثنا وكيع، عن فضيل بن فزوان، عن نافع، عن ابن عمر؛ "أنه جاء إلى القوم وهم في الصلاة، ولم يكن صلَّى الركعتين، فدخل معهم ثم جلس في مصلاه، فلما أضحى قام فقضاهما".

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2/ 59/ 6444 - العلمية)، وإسناده صحيح.

ص: 67