الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلو أن قوما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم استمروا على العمل بهذا النهي لعدم بلوغ الرخصة إليهم، أفكان ينكر صلى الله عليه وسلم عليهم أم يكتفي بتعليمهم؟ لا شك أن الجواب إنما هو تعليمهم فقط، فكذلك الأمر في كراهة الاستقبال، كان يكتفي معهم بتعليمهم، وأما أن ينكر عليهم بقوله " أو قد فعلوها " فإنه شيء
ثقيل لا أكاد أتخيل صدوره منه صلى الله عليه وسلم، وقد أراحنا الله تعالى من التصديق به بعد أن علمنا ثبوته بالطريق التي أقام الحجة بها على عباده في تعريفهم بتفاصيل شريعته، وأعني الإسناد. واعلم أن كلامنا هذا إنما هو قائم على أساس ما ذهب إليه بعض العلماء من الاستدلال بالحديث على نسخ النهي عن استقبال القبلة، وأما على افتراض أنه كان قبل النهي عن استقبال القبلة فلا يرد الاستنكار المذكور، وعليه حمل ابن حزم الحديث على فرض صحته فقال (1 / 197 - 198) : " ثم لوصح لما كان لهم فيه حجة، لأن نصه يبين أنه إنما كان قبل النهي، لأن من الباطل المحال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط، ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك المجال، هذا ما لا يظنه مسلم ولا ذوعقل، وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم، لوصح لكان
منسوخا بلا شك ". قلت: لكن يرد على هذا الافتراض أنه يبعد أن يكره الصحابة شيئا دون توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وافتراض ثبوت ذلك عنهم فيه إساءة الظن بهم وأنهم يشرعون بآرائهم، وهذا ما لا يجوز أن نظنه بهم، ولذلك فالحديث كيف ما أول فهو منكر عندي. والله أعلم.
948
- " إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة، أو إذخرة. (يعني المني) ".
منكر مرفوعا.
رواه الدارقطني (46) والبيهقي (2 / 418) من طريق إسحاق بن يوسف الأزرق: أخبرنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس قال: " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب؟ قال: " فذكره، وقال الدارقطني:" لم يرو هـ غير إسحاق الأزرق عن شريك (يعني مرفوعا) ، محمد بن عبد الرحمن هو ابن أبي ليلى ثقة في حفظ شيء ". وقال البيهقي: " ورواه وكيع عن ابن أبي ليلى موقوفا على ابن عباس، وهو الصحيح ".
قلت: وهذا وصله الدارقطني: حدثنا محمد بن مخلد: أخبرنا الحساني: أخبرنا وكيع به. ويرجح هذا أنه ورد موقوفا من طريقين آخرين عن عطاء، فقال الشافعي في " سننه " (1 / 24) : أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار وابن جريج كلاهما يخبره عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في المني يصيب الثوب، قال:
" أمطه عنك - قال أحدهما - بعود أو إذخرة، فإنما هو بمنزلة البصاق والمخاط ".
قلت: وهذا سند صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجه البيهقي من طريق الشافعي ثم قال:" هذا صحيح عن ابن عباس من قوله، وقد روي مرفوعا، ولا يصح رفعه ". قلت: وجملة القول أن المرفوع فيه ثلاث علل: الأولى: ضعف محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى كما أشار إلى ذلك الدارقطني بقوله " في حفظه شيء " على تسامح منه في التعبير!
الثانية: ضعف شريك أيضا وهو ابن عبد الله القاضي، وأستغرب من الدارقطني سكوته عنه هنا، مع أنه قال فيه وقد ساق له حديث وضع الركبتين قبل اليدين عند الهو ي للسجود:" وشريك ليس بالقوي فيما تفرد به ". (انظر الحديث المتقدم 929) .
الثالثة: تفرد إسحاق الأزرق بروايته عن شريك مرفوعا، وهو - أعني الأزرق - وإن كان ثقة، فقد خالفه وكيع وهو أو ثق منه، ولذلك رجح روايته البيهقي كما تقدم، لكن يبدو لي أن الراجح صحة الروايتين معا عن شريك، الموقوفة والمرفوعة، وأن هذا الاختلاف إنما هو من شريك أو شيخه ابن أبي ليلى، لما عرفت من سوء حفظهما، فهذا الإعلال أولى من تخطئة إسحاق الأزرق الثقة، وهذا أولى من نصب الخلاف بين الثقتين كما فعل البيهقي من جهة، وابن الجوزي من جهة أخرى، أما البيهقي فقد رجح رواية وكيع على إسحاق، وعكس ذلك ابن الجوزي فقال بعد أن ذكر قول الدارقطني " لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك ":" قلنا إسحاق إمام مخرج عنه في " الصحيحين "، ورفعه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، ومن وقفه لم يحفظ ".
كذا قال: وقد عرفت أن الصواب تصحيح الروايتين وأن كلا من الثقتين حفظ ما سمع من شريك، وأن هذا أو شيخه هو الذي كان يضطرب في رواية الحديث عن عطاء، فتارة يرفعه، وتارة يوقفه، فسمع الأزرق منه الرفع
، وسمع وكيع منه الوقف، وكل روى ما سمع، وكل ثقة.
ومن العجيب أن ابن الجوزي يتغافل عن العلتين الأوليين، ويجادل في العلة الثالثة، وقد عرفت ما في كلامه فيها، ولوسلم له ذلك، فلم يسلم الحديث من العلتين، وأعجب من ذلك أن العلة الأولى قد نبه عليها الدارقطني في جملته التي ذكرنا عنه في أول هذا التحقيق، فلما نقلها ابن الجوزي عنه اقتصر منها على الشطر الأول الذي فيه إعلال الحديث بالوقف، ولم يذكر الشطر الثاني الذي فيه الإشارة إلى العلة الأولى وهي ضعف ابن أبي ليلى! وهذا شيء لا يليق بأهل التحقيق والعلم.
ومن الأوهام حول هذا الحديث قول الإمام الصنعاني - في " العدة على شرح العمدة "(1 / 404) :