المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(هـ) في ذمة التاريخ - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٨

[بسام العسلي]

الفصل: ‌(هـ) في ذمة التاريخ

وسأل المفتش؛ هل من طريقة أخرى؟ وأجاب المفتش الإفرنسي بغلظة وفظاظة: نعم. وسرعان ما ألقى الشاب على بطنه، والدم ينزف من أصابعه. وتناول المفتش حديدا كان قد احمر على النار وأخذ يشوه به جسم الشاب الضحية. وفقد الشاب وعيه، وما كاد يفتح عينيه - في اليوم التالي، حتى سأل المفش: هل من طريقة أخرى؟

وأحضرت في الحال زجاجة كبيرة - قنينة طليت جوانبها بالزيت. وجرد الشاب من ثيابه كلها وهو يئن من الألم. وسرعان ما رفعه مفتشان بين أيديهما، وأقعداه بقوة على الزجاجة وتمزق اللحم. ودوت صرخة ألم حادة كافية لترويع أقسى القلوب المتحجرة، واستثارة أعمق العواطف والانفعالات الإنسانية، إلا قلوب هؤلاء المخلوقات من أعداء الإنسانية، والذين جردتهم حضارتهم من كل القيم والفضائل. وجدير بالذكر، أن طريقة الإقعاد على الزجاجة والقارورة، هي طريقة من إبداع العبقرية الإفرنسية، ظهرت أول ما ظهرت في الجزائر، وعنها أخذتها بعض المدارس الاستعمارية الأخرى.

(هـ) في ذمة التاريخ

(*):

لم تكن الأحدات التي وقعت في الجزائر - يوم النصر - عام 1945، دون مقدمات، ودون نذر سابقة ففي نهاية شهر نيسان - أبريل - بعث ستة أعضاء من الأوروبيين في المجلس العام رسالة إلى محافظ إقليم (قسنطينة) - الحاكم - يطلبون فيها اتخاذ إجراءات (فورية) يمكن لها أن تؤدي إلى إعادة فرض

(*) الجزائر الثائرة (جوان غيلسبي) ترجمة خيري حماد - ص 76 - 79.

ص: 157

النظام والطمأنينة (في الأرض الإفرنسية الواقعة إلى الجنوب من البحر المتوسط). وفي نفس الشهر، نقل مصالي الحاج من داره التي كان معتقلا فيها جنوب الجزائر، إلى مدينة برازافيل في أواسط أفريقيا (الكونغو الإفرنسي سابقا).كعمل وقائي لتجنب الاضطرابات. وعملت الإدارة الافرنسية على تزوير الانتخابات البلدية حتى لا تنجح العناصر المتطرفة. وبعث الحاكم العام للجزائر (شاتينيو) تعميما على جميع موظفي الإدارة في البلاد، أشار فيه إلى توقع حدوث اضطرابات بمناسبة عيد النصر وما يرافقه من احتفالات وقد أقيمت استعراضات وطنية في اليوم الأول من أيار - مايو - في عدد من مدن الجزائر دون وقوع حوادث تذكر. واستعرض الوطنيون في شوارع (سطيف) في الثامن من أيار - مايو - احتفالا بانتصار الحلفاء. وحاولت الشرطة المحلية مصادرة الأعلام واللافتات التي حملتها الجماهير، وهو عمل لم يجر مثيلا له في الاستعراضات الشبيهة التي جرت في المدن الأخرى. وأطلقت العيارات النارية، وتفرقت الجماهير، ولكنها سرعان ما عادت إلى التظاهر، وهاجمت رجال الشرطة بالحجارة. وعاد هؤلاء إلى إطلاق النار. وانتشرت الاضطرابات بسرعة البرق إلى أنحاء أخرى في الجزائر، ولاسيما في المناطق المأهولة بالسكان في إقليم قسنطينة. ووقعت حوادث عنف في بعض الأماكن. ولكن عدد قتلى الأوروبيين لم يتجاوز المائة شخص. وسرعان ما قام الإفرنسيون بأقسى ما عرفه تاريخ الجزائر من أعمال الإرهاب والبطش. فقد قام سلاح الجو الإفرنسي الذي كان يشرف عليه آنذاك وزير الطيران الشيوعي (تيون) بقصف الكثير

ص: 158

من القرى الجزائرية وإزالتها من الوجود. ووصلت الطرادات الفرنسية إلى الساحل الجزائري، تضربه من البحر بمدفعيتها. وحالت الإدارة الإفرنسية بين الصحافة العالمية وبين الوصول إلى الحقائق المتعلقة بهذه الإجراءات الوحشية. وعهد الحاكم العام إلى لجنة تحقيق، ولكن عملها سرعان ما بتر. وذكرت اللجنة في تقريرها غير الكامل عددا من أسباب هذه الأحداث: منها هزيمة فرنسا وضعقها، وقوة الحلفاء، ودعاية المحور، والمقارنة التي رددها الجزائريون من الجنود بين أوروبا التي عرفوها أثناء الحرب، وبين الأوضاع التي يعيشون فيها في الجزائر، والحماسة التي أثارها مؤتمر سان فرانسيسكو، وسوء تفسير شرعة الأطلسي (ميثاق هيئة الأمم المتحدة) والتحريض الناجم عن قيام الجامعة العربية، بالإضافة إلى تحريض حلفاء فرنسا، والأعمال المخزية التي تنزلها الإدارة الإفرنسية بالجزائريين.

لم تتوقف ممارسات الإدارة الفرنسية في الجزائر عند حدود أعمال العنف العسكري، بل تجاوزتها إلى اعتقال عدد من الوطنيين ورؤساء النقابات ورجال الدين، وإلقائهم في المعتقلات والسجون. فقد اعتقل (عباس فرحات) عندما كان في طريقه للتشاور مع بعض موظفي الحاكم العام، وصدر الأمر بحل جماعة أصدقاء البيان والحرية. وجرت محاكمات مثيرة جدا لعدد من مناضلي حزب الشعب الذين قدر لهم أن يشتركوا فيما بعد في ثورة عام 1954. ولم تكف أعمال البطش والتنكيل التي قامت بها الإدارة الإفرنسية، بل زاد عليها ما قام به المستوطنون من أعمال وحشية وجرائم لا إنسانية في إطار ما أطلقوا عليه اسم

ص: 159

(أعمال انتقامية ثأرية). وبرزت الحقيقة وهي أن أجهزة الشرطة لم تكن مكلفة بتأمين الحماية للمسلمين الجزائريين ضد أعمال جماعات (حرس المستوطنين) الذين يسارعون إلى العمل دائما عندما تتوتر العلاقات بين المستوطنين الجزائريين. وكان ذلك سببا من أسباب المرارة الدائمة التي كان يشعر بها الوطنيون الجزائريون.

تعتبر أحداث سنة 1945، نقطة تحول في تاريخ الجزائر بالنسبة إلى الجزائريين وإلى المستوطنين. فقد كانت بالنسبة إلى المستوطنين قمة الوحشية التي كان يلصقون تهمتها دائما بالجزائريين، كما كانت تجربة مرعبة. ولكنها في الوقت نفسه كانت بالنسبة إليهم بداية الانحطاط في نفوذهم، إذ ظهر كثيرون في فرنسا لا يشاركونهم الرأي في أن خير حل لمشكلة الجزائر هو (إبقاء الجزائريين مستعبدين). وحاول الحاكم العام (شاتينيو) تغطية سوءات الاستعمار وبشاعته، بمجموعة من الإجراءات التي زعم أنها (ليبيرالية) في الفترة من سنة 1945 - 1947، مثل السماح للمثقفين الجزائريين بالإسهام إسهاما أوسع بإدارة شؤونهم الخاصة. ومع ذلك فقد تمكن المستوطنون بعد عام 1947، وعلى الرغم من هزيمتهم في نص الدستور الجزائري الجديد، من إزالة ما أطلقوا عليه اسم (النصوص الليبيرالية).

أما بالنسبة إلى الجزائريين الذين كانوا ضحية مؤامرة 8 أيار - مايو - 1945. فإن هذه المؤامرة كشفت لهم نقاط ضعفهم في مجابهة تحالف فرنسا مع مستوطنيها - والذين يشكلون

ص: 160

في الحقيقة جبهة واحدة وزالت أوهام إمكانية الوصول إلى الحقوق بواسطة المساومات والطرائق السلمية - فكان لابد من الاحتكام للسلاح. لكن تجربة مذبحة أيار - مايو - أكدت ضرورة العمل السري تحت غطاء العمل العلني. فكانت جذور ثورة 1954 وثيقة الصلة بمذبحة 8 أيار.

وهكذا وبينما كانت فرنسا تمارس أشد ظواهر القوة، كان بنيانها الداخلي (بنيان الكيان الاستعماري) يسير نحو الضعف، في حين كان الشعب الجزائري وهو يعاني أقسى ظروف المأساة الناجمة عن الضعف، كانت هناك البدايات لأشد ظواهر القوة. وبقي السلاح هو الحكم لاختبار القوتين الهابطة والصاعدة في جولة قادمة.

ص: 161