المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حزب الشعب الجزائريوالحركة من أجل انتصار الحرية والديمقراطية - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٨

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ حزب الشعب الجزائريوالحركة من أجل انتصار الحرية والديمقراطية

3 -

‌ حزب الشعب الجزائري

والحركة من أجل انتصار الحرية والديمقراطية

تكون حزب الشعب تكوينا يغاير ما كان عليه تشكيل حزب (نجم شمال أفريقيا). إذ اعتمد حزب الشعب بالدرجة الأولى على الجزائريين، وكان برنامجه مركزا على تأليف حكومة جزائرية شعبية وبرلمان (مجلس نيابي) واحترام حقوق الأمة الجزائرية وبعث اللغة العربية والاعتماد على الدين الإسلامي، فكان من بعض الوجوه مشابها لحزب الدستور الجديد (في تونس) و (فريق العمل المغربي) إذ لم يكن قد قام في المغرب حتى هذا التاريخ حزب سياسي. ولم يكن ذلك تحللا نهائيا من الارتباط بالحركات السياسية الأخرى في المغرب العربي الإسلامي، أو تقصيرا عن تبادل الدعم ضد فرنسا من أجل الاستقلال. فكان القرار بتأليف حزب الشعب على أسس جزائرية صرفة، عملا تكتيكيا، فرضته الظروف السياسية والقانونية التي جعلت من تونس والمغرب محميتين فرنسيتين ومن الجزائر قطرا فرنسيا.

استقبلت أوساط العمال الجزائريين العاملين في فرنسا تكوين (حزب الشعب) بحماسة، وأعلنت عن تأييدها له. وعاد (مصالي الحاج) إلى الجزائر في حزيران - يونيو -

ص: 38

1937.

ورشح الحزب لأول مرة مرشحيه للانتخابات البلدية في الجزائر - العاصمة - وبالرغم من بيان الحزب والوسائل الشرعية التي استخدمها في الانتخابات - فقد جرى اعتقال (مصالي الحاج) وأعضاء اللجنة الإدارية للحزب يوم 27 آب أغسطس - 1937. وأسندت إلى (مصالي الحاج) تهمة (التحريض على أعمال العنف ضد سيادة الدولة) و (إعادة تنظيم هيئة محلولة). وقد تم هذا التوقيف في ذات اليوم الذي صدر فيه العدد الأول من جريدة الحزب الرسمية (الشهاب) وهي صحيفة أسبوعية باللغة العربية، كان مديرها ورئيس تحريرها (مفدي زكريا) وهو مجاهد شاب من (ميزاب). ولم يكن ذلك إلا بداية لأعمال القمع ضد الحزب ومجاهديه. ففي الوقت الذي كان يصدر فيه العدد الثاني من جريدة (الشهاب) تم اعتقال رئيس تحرير الجريدة الجديد (غينانيش محمد) من تلمسان. كما اعتقل عدد آخر من أعضاء الحزب - مات أحدهم وهو (كحال محمد) خلال التعذيب الذي أعقب - اعتقاله.

وصدر الحكم على (مصالي الحاج) بالسجن لمدة عامين وتجريده من كافة حقوقه المدنية والسياسية. وصدرت أحكام مماثلة على بقية المعتقلين من أفراد (حزب الشعب) وقادته.

ووضعتهم الإدارة الإفرنسية في سجن (بربروس) حيث عوملوا كمجرمين عاديين، ولكنهم أعلنوا الإضراب عن الطعام مرتين، فحصلوا على اعتبارهم كسجناء سياسيين، وأرسلوا إلى معتقل الحراش (ميزون كاريه) وسمح لهم بتلقي الصحف والطعام والزيارات الرسمية كل أسبوع.

ص: 39

بقي حزب الشعب، حتى تلك الفترة، حزبا شرعيا، ولم تكن مكافحة إلا لتزيده نموا ونشاطا، ذلك إن القمع الإرهابي الذي مارسته الإدارة الإفرنسية ضد مجاهديه، قد دعمت من وجوده، وأكسبته تعاطف الجماهير معه، وبدأ أعضاؤه في التكاثر في كل أقاليم الجزائر وفي العاصمة الجزائر وضاحيتها بصورة خاصة، وفي بليدة وتلمسان ووهران وقسنطينة وعين بيضاء بعد أن كانوا يقتصرون على العمال المهاجرين في فرنسا.

أجريت انتخابات تكميلية لمجلس بلدية الجزائر، وفازت قائمة (أحمد بومنجل) التي كان يساندها حزب الشعب بأكثرية ساحقة وذلك للمرة الأولى. وفشلت للمرة الأولى أيضا، وأزيحت من المسرح السياسي الأسر البورجوازية التي كانت تتطاحن منذ سنوات فيما بينها في معركة لا معنى لها، ومن هذه الأسر (آل شقيقن) و (بودريا) و (حافظ) و (تمزالي) و (طيار) و (بنتامي) و (بن سماية) و (ولد عيسى) و (بن سيام) إلخ

فقد أدار أهالي (حي القصبة) في العاصمة الجزائر ظهورهم لسياسة الأسر الكبيرة، لينضم نهائيا إلى صف الأحزاب ذات الاتجاهات السياسية العقائدية. وتدعم هذا التطور في شهر نيسان - أبريل - من سنة 1939، في انتخاب مجلس مدينة الجزائر العام، فبالرغم من الضغط الذي تعرض له الناخبون من قبل المحافظة والحكومة، فاز مرشح حزب الشعب الجزائري (دوار محمد) الذي اعتقل بعد ذلك ومات في السجن.

أصدر (حزب الشعب) في تلك الفترة صحيفة أسبوعية باللغة الإفرنسية حملت اسم (البرلمان الجزائري). وكانت هذه

ص: 40

الصحيفة تحرر وتدار من سجن الحراش (ميزون كاريه) وبقيت قوة الحزب قائمة في فرنسا - سنة 1940 - وتمكن من اقتناء آلة طباعة، وأصبحت لمجاهديه خبرة طويلة في شؤون النشاط السياسي والدعائي. غير أن حياة صحيفة (البرلمان الجزائري) لم تستمر طويلا. فقد نشبت الحرب العالمية الثانية، وفي 29 أيلول - سبتمبر - 1939، أصدرت الإدارة الإفرنسية قرارها بحل (حزب الشعب الجزائري). ثم أخلي سبيل أعضاء هيئته الإدارية السابقة، وفي يوم 4 تشرين الأول - أكتوبر - أعيد اعتقال بعض هؤلاء الأعضاء بدون أي سبب مباشر. وشملت تلك الاعتقالات: مصالي الحاج ومعروف بومدين وبوحريدة عمار وخليفة بن عمار، ومفدي زكريا ومكي وفليطة أحمد وقدور تركي وابن العقبي ومحمد خيضر ومحمد ممشاوي وبو معزة علاوي. ولكن الأحداث أخذت تتعاقب مسرعة. فوقعت فرنسا الهدنة وغيرت نظامها وسياستها الخارجية. وقام في لندن الجنرال ديغول يوجه نداءه للشعب الإفرنسي وشعوب المستعمرات يدعوها فيه إلى المقاومة والقتال ضد الاحتلال الألماني. فأدرك الشعب الجزائري أن العالم سيشهد تغييرات ضخمة، وأن هذه الأحداث ستشمل الجزائر. ومع ذلك، انعقدت محكمة عسكرية في مدينة الجزائر. وأصدرت حكمها على (مصالي الحاج) يوم 28 آذار - مارس - سنة 1941 بالأشغال الشاقة لمدة 16 سنة، وبالإبعاد عن الأرض الإفرنسية والمحمية لمدة عشرين سنة بعد ذلك، وبغرامة مالية قدرها ثلاثين مليونا من الفرنكات. ومنذ ذلك الوقت ضاع (حزب الشعب) في متاهات عديدة بين العمل

ص: 41

العلني والعمل السري. فقد كانت ظروف الحرب، ونشاط أجهزة الأمن الإفرنسية، قادرة على إحكام قبضتها على البلاد. وكانت سلطات (فيشي) تكثر من الاعتقالات ومعسكرات التجمع والإقامة الإجبارية.

كان من آثار هذا النطام الذي استمر حتى نزول القوات الأنكلو - أمريكية في الجزائر يوم 8 تشرين الثاني - نوفمبر - 1942، أنه نشط الرأي العام الجزائري، ففي معسكر القوميين والشيوعيين والعلماء والأشراف والنقابات العمالية والتقدميين والتجار واليهود أخذ اللقاء ينتظم وانتشر تبادل الآراء بين الجميع. وكانت أنباء الخارج موضوع تعليقات يومية، وأصبحت السجون هي المدارس الحقيقية للمجاهدين، فيها يعقدون ندواتهم ويلقون محاضراتهم ويبحثون مستقبل بلادهم. فمن روزفك إلى ستالين، ومن تشرشل إلى ديغول، ومن شرعة الأطلسي إلى استقلال الشعوب المستعمرة، وكانت النظريات تتصارع وتسري بين مجموع المعتقلين. وكان هناك من الرجال من زج بهم في السجون لجرائم عادية، وفيهم تجار لا تربطهم بالسياسة أيه روابط، سجنوا لأنهم تجار حرب ساروا على درب الكسب غير المشروع. هؤلاء وأمثالهم تخرجوا من السجون وهم يحملون حماسة المجاهدين المتمرسين. وعندما كانت الإدارة الإفرنسية تضع أحد القوميين في إقامة إجبارية، كان هم هذا الأخير ينصرف بالدرجة الأولى إلى تنظيم خلية، حيث لم يكن يوجد شيء من ذلك القبيل، وإلى نشر مبادىء الحزب في صفوف الفلاحين. وبذلك، كانت عمليات القمع تنشر خميرة

ص: 42

الاستقلال الوطني من منطقة إلى أخرى - دون قصد منها -وفي الجامعات والمدارس انخرطت الشبيبة بأكثريتها الساحقة في الحركة القومية، وتغيرت الأخلاق بتغير الزمن، حتى إنه كثيرا ما أخذت تظهر خلافات سياسية بين الأب وابنه. وكانت الأجيال الجديدة تتغنى بتيارات العصر المحرقة، وتتجه إلى المساهمة في الحرب الفكرية - العقائدية - التي أخذت تجتاح العالم وتعمل على تقسيمه وتمزيقه. وقد خرج معهد (بليدة) عددا كبيرا من القوميين النشيطين من بينهم (سعد دحلب) و (محمد يزيد) و (بن يوسف بن خدة) وبعدهم (رمضان عبان). كما خرج غيره من المعاهد العربية الإسلامية شبانا آخرين، مثل الصديق وآية أحمد وبن بيلا وشنتوف ومصطفاي وسواهم ممن انضموا إلى صفوف الدعوة السياسية الجديدة فقويت بهم وازدادوا قوة بها. وغدت (لحزب الشعب الجزائري)، إدارة جديدة تقود مصيره بصورة سرية، وكانت هذه الإدارة على اتصال بمحكومي آذار - مارس - 1941 (مصالي الحاج وزمرة قيادته). وكان من أبرز عناصر الإدارة الجديدة: الدكتور الأمين دباغين وأحمد مزغنة ومكري حسين، وحسين أصلح.

انتهت الحرب العالمية الثانية، وعاد (مصالي الحاج) وأنصاره إلى خوض المعترك السياسي. واشتركوا في أول انتخابات جرت في عهد الجمهورية الرابعة. فبعد أن أطلق سراحه عند انتهاء الحرب بصورة رسمية، منع من دخول المدن الكبرى في الجزائر، وفرضت عليه الإقامة الإجبارية - تحت

ص: 43

المراقبة في قرية (بوزريعة) القريبة من مدينة الجزائر، وذلك في تشرين الأول - أكتوبر - من عام 1946. وقام مصالي في هذه الآونة، يحيط به أنصاره من أمثال الدكتور الأمين دباغين وحسين الأحول وأحمد مزغنة ومحمد خيضر بتأسيس (حركة انتصار الحريات الديموقراطية).

كانت (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) التي حلت محل (حزب الشعب الجزائري) - الذي كان لا يزال منحلا. تؤيد إنشاء جمعية تأسيسية جزائرية، ذات سيادة منتخبة على أساس الاقتراع العام، دون تمييز من أي نوع، وجلاء الجيوش الإفرنسية عن الجزائر، وإعادة الأراضي التي انتزعت، وتعريب التعليم الثانوي، وعودة المساجد إلى الأشراف الديني البحت. وقرر مصالي أن يشترك في انتخابات شهر تشرين الثاني - نوفمبر - ليضع هذا البرنامج أمام الشعب الجزائري، وليختبر فكرة استقلال الجزائر عن طريق صناديق الانتخاب. ولذلك رفض محاولات الحزب الشيوعي الجزائري، الذي كان واقعا تحت تأثير ضغط شديد من الطائفة الانتخابية الأولى، للاشتراك في (جبهة متحدة) تشمل الشيوعيين، وحركة انتصار الحريات الديموقراطية، والاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري وجماعة العلماء. وأسف فرحات عباس (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان) لموقف مصالي، ولكنهم قرروا عدم الاشتراك في الانتخابات تحاشيا لوقوع الانقسام في صفوف القوميين وتهيئة فرصة لمصالي كان قد فشل فيها. وجاءت نتائج الانتخابات في الطائفة الثانية مخيبة لأمل (حركة انتصار الحريات الديمقراطية - مصالي الحاج) إذ حصلت على خمسة مقاعد،

ص: 44

تتضمن انتخاب (مزغنة) و (خيضر) عن مدينة الجزائر، و (الأمين) عن قسنطينة. وذلك من المجموع الكلي وهو خمسة عشر مقعدا. ولكنها حصلت على - 153،153 - صوتا فقط من مجموع المقترعين وهو 464،319 - من مجموع من لهم حق الانتخاب وهو - 1،245،108 - وكانت ثمانية مقاعد في (الطائفة الثانية) من نصيب المستقلين الذين تؤيدهم الإدارة الإفرنسية، والذين يؤيدون التعاون بين الإفرنسيين والمسلمين، وحصل الشيوعيون على مقعدين. وفي انتخابات مجلس الجمهورية الإفرنسي، كانت النتيجة مختلفة نوعا ما. فعلى الرغم من جهود الإدارة لإبعاد حزب (الاتحاد الديمقراطي) عن الانتخابات غير المباشرة، حصل الحزب في النهاية على أربعة مقاعد من سبعة، بينما كانت ثلاثة مقاعد من نصيب المستقلين الذين يؤيدون التعاون بين الإفرنسيين والمسلمين، وأظهر هذا النجاح أن (الاتحاد الديموقراطي) احتفظ بالشعبية التي سبق له أن كسبها من قبل، وذلك على الرغم من أنه لم يشترك في الانتخابات (للجمعية الوطنية).

كان أمام (الجمعية الوطنية الإفرنسية) أربعة مشاريع لقانون الجزائر، قدمتها الحكومة الإفرنسية والحزب الاشتراكي، والحزب الشيوعي وحزب (الاتحاد الديموقراطي) منضما إلى (جماعة المستقلين المسلمين للدفاع عن اتحاد الجزائر) - وهو الاسم الذي اختاره أولئك المسلمون الذين يؤيدون التعاون بين الإفرنسيين. والمسلمين - وقام أعضاء (حركة انتصار الحريات الديموقراطية - مصالي) بعرض وجهات نظر القوميين الجزائريين أمام الجمعية

ص: 45

الوطنية الإفرنسية. وفي يوم 20 آب - أغسطس - وهو يوم يصفه الحزب بأنه تاريخي، جادل أربعة أعضاء من حزب (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) في أن (الجزائر ليست إفرنسية) وأنها لا تعترف بموقف الأمر الواقع الذي أوجده الغزو الإفرنسي للجزائر في سنة 1830. وأن الجزائر (لن تعترف بأي قانون إلا إذا تضمن إعادة السيادة للشعب) وكانوا يطالبون بإقامة جمعية تأسيسية جزائرية تنتخب بالاقتراع العام دون تمييز من أي نوع. وهو الاقتراح الذي تكرر كثيرا من حزب (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) في سنوات ما بعد الحرب. وتعرض النائب (أحمد مزغنة) في نقاشه لمجمل المظالم الاقتصادية التي عانت منها الجزائر وشعبها خلال حكم الاستعمار الإفرنسي للبلاد، فذكر ما يلي: (

يكفي أن تسير في شارع لير في المساء، حيث ينام مئات من السابلة على الأرض، أو أن تفحص مجموعات الرجال والنساء والأطفال والشيوخ العرايا تقريبا التي دفعها البؤس والخوف من الموت نحو المدن، والذين يبحثون في كل صباح، ويزاحمون الكلاب والقطط على بقايا الطعام، لتأخذ فكرة عن المأساة الإنسانية التي لا تصدق، والتي تجري في الجزائر) (*).

قام ممثلو حزب (الاتحاد الديموقراطي) بطرح وجهات النظر الجزائرية أمام مجلس الجمهورية على شكل قانون مقترح. وقال أحد هؤلاء الممثلين: (بأن الأوروبيين في الجزائر هم الذين

(*) ثورة الجزائر (جوان غيلسبي) الدار المصرية ص 56 - 62 - و86 - 89.

ص: 46

فرضوا على فرنسا سياستها على المسلمين طوال خمس وسبعين عاما. وظهرت تغييرات كثيرة في السياسة: التعاون، الدمج، الارتباط، الحكم الذاتي، عودة الاتصال، غير أن أحدا من هذه السياسات لم ينفذ. وبقيت السياسة الوحيدة التي تمارس في الواقع - في الجزائر - هي سياسة التفوق الإفرنسي). وكان القانون المقترح يدعو إلى إقامة الحكم الذاتي الكامل للجزائر، والاعتراف بالجمهورية الجزائرية وببرلمانها - مجلس نوابها - الخاص، وحكومتها الخاصة، في علاقة اتحادية بفرنسا. ونصت مواد أخرى على مواطنة مزدوجة للإفرنسيين والجزائريين في كل من فرنسا والجزائر، ولغتين رسميتين، وتعليم إلزامي باللغتين الإفرنسية والعربية. وإصلاح زراعي. وتستطيع الجمهورية الجزائرية تكوين اتحاد مع دول المغرب العربي - الإسلامي (تونس والمغرب) داخل الاتحاد الإفرنسي. ولم تبحث الحكومة الإفرنسية اقتراح حزب (الاتحاد الديموقراطي، في المجلس، ولا اقتراح حزب (حركة انتصار الحريات الديموقراطية - حزب فرحات عباس) في الجمعية بحثا جديا. ولذلك لم تكن تجربة الحزبين في أول برلمان منتخب أكثر فائدة من تجربة ممثلي الجزائر في الجمعية التأسيسية الأولى والثانية.

قبلت لجنة الجمعية الوطنية الإفرنسية التي تبحث القانون الأساسي للجزائر، الحل الوسط الذي عرضته الحكومة وذلك يوم 21 - آب - أغسطس - 1947. وغادر أعضاء حركة (انتصار الحريات الديموقراطية) القاعة؛ ورفضوا الاشتراك في أية مناقشة بعد ذلك. وفي السابع والعشرين من الشهر ذاته، أقرت

ص: 47

الجمعية القانون بمجموعه. وفي مجلس الجمهورية، ترك مندوبو (الاتحاد الديموقراطي) مقاعدهم بعد أن عبروا عن خيبة أملهم. وأعلن زعيم الاتحاد - مصالي الحاج - أن الحزب لا يستطيع قبول القانون الذي تبنته الجمعية، وذلك لأن هذا القانون كما قال:(ليس قانونا إدماجيا في حين أنه يسعى لأن يكون كذلك، وهو ليس اتحاديا بالقدر المرغوب. وليس فيه شيء ديموقراطي، برغم أنه ولد في أسى التحرر العظيم وجراحه. وهو ليس تقدميا حيث أنه يأخذ بيد ما يعطيه بالأخرى. وهو قانون بلا شخصية وبلا أصالة، ميت لا تدب فيه الحياة، وأصالته الوحيدة - إذا كانت له أصالة - أنه استبقى - تحت شكل جديد - الامتيازات القديمة لكبار ملاك الأرض. إنه فقط استبدل سلسلة ذهبية بالسلسلة الحديدية التي تقيدنا فعلا).

تضمن دستور 1947، سابق الذكر، بعض الفقرات أو المواد التي تصلح لتكون أرضية مناسبة لتطورات لاحقة تسير بالجزائر نحو الإصلاح السلمي، ومنها على سبيل المثال:

مادة 107: تؤلف الجمهورية الإفرنسية مع شعوب ما وراء البحار اتحادا يسمى الاتحاد الفرنسي، يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز جنس أو دين.

مادة 108: الاتحاد الإفرنسي هو اتحاد أمم وشعوب، تقبل عن رضى بأن تنسق، أو أن تضع في نطاق

ص: 48

مشترك مواردها وجهودها لتنمية حضارتها ورفاهيتها وتحسين نظمها الديمقراطية وضمان أمنها وسلامها. ويضم الاتحاد عند تشكله، الجمهورية الإفرنسية واحدة لا تتجزأ والدول المتحدة وبلدان ما وراء البحار، ومنها الجزائر كدولة اتحادية.

مادة 109: يجب أن يؤدي التقدم الذي تحققه شعوب الاتحاد إلى أن تقرر مصيرها بحرية ويمكن بالتالي لكل شعب أن ينسحب من الاتحاد في نهاية مهلة لا تتجاوز العشرين عاما، فإما أن يصبح مجرد دولة اتحادية، أو جزءا من الأمة الإفرنسية.

مادة 110: يؤدي تشكل الاتحاد الإفرنسي إلى إقامة دستور في كل بلد تضعه جمعية محلية تنتخب بالاقتراع العام.

وكان باستطاعة فرنسا الإفادة من هذا القانون - الدستور - لتجاوز أحداث سنة 1945 المخيفة، وما تركته من جراحات عميقة في النفوس (مذابح سطيف وقالمة في 8 أيار - مايو - 1945) وكذلك إصلاح ما أفسدته التصرفات الهوجاء في سنتي 1946 و 1947، عن طريق إعداد شكل مرن للتطور السياسي في الجزائر، لو لم تتسم الأعوام التي انقضت بين سنة 1947 و1954 بسمة الازدياد في قوة المستوطنين، وهجمتهم المسعورة ضد مسلمي الجزائر. وكانت فرنسا مشغولة - أو متشاغلة -

ص: 49

عن المغرب العربي - الإسلامي، بحربها الطويلة والفاشلة في الهند الصينية، وصراعاتها السياسية الداخلية، ومتاعبها الاقتصادية، وبأحداث الحرب الباردة على المسرح العالمي، ثم جاءت أحداث تونس والمغرب (مراكش) لتصرف أنظارها عما كانت تتمخض عنه الجزائر، وذلك بدلا من أن تفتح هذه الأحداث أبصارها على ما يمكن أن يحدث في الجزائر. وهكذا كانت فرنسا تسير مغمضة العينين إلى حيث يقودها المستوطنون في الجزائر ذاتها - وهم رمز غلاة الاستعماريين الذين تحجرت عقولهم وجمدت عند إحداث الفتح أو الغزو القديم للجزائر -. وانصرف هؤلاء المستوطنون إلى وضع الألغام تحت عجلات الدستور الجديد وقد عزوا الانتصار الكامل الذي حققته (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) في الانتخابات البلدية التي جرت في تشرين الأول - أكتوبر - 1947 إلى شعار الحركة (الحقيبة أو الكفن) - وهو المصير الذي كان يلوح به المتطرفون - بحسب وصف المستوطنين لهم - وذلك في صراع هؤلاء المتطرفين الجزائريين في صراعهم ضد المستوطنين. وأرغم المستنوطنون الحاكم العام المتحرر الفكر (الليبرالي) شاتينيو على الاستقالة، ليحل محله الحاكم العام الاشتراكي الجديد (مارسيل أدمون نيغلين) الذي برهن كأحد خلفائه (روبير لاكوست) بأنه يساري في فرنسا، ويميني استعماري متطرف في الجزائر.

وقد قام (نيغلين) على الفور بإجراءات صارمة لتحديد نشاط الوطنيين الجزائريين، ومنعهم من التعبير عنه في الجمعيات المنتخبة. وأقدم على إجراء عمليات تزوير واسعة لتزييف

ص: 50

الانتخابات في أول جمعية وطنية جزائرية (برلمان) في العام 1948، وذلك بهدف التأكيد على وجود (التفوق الإفرنسي في الجزائر). وفعل مثل ذلك في انتخابات الجمعية الثانية سنة 1951، علاوة على تزييف الانتخابات الثانوية المحلية. ففي انتخابات نيسان - أبريل - سنة 1948، فاز مرشحو (حركة انتصار الحريات الديموقراطية - جماعة مصالي الحاج) بتسعة مقاعد فقط من مجموع ستين مقعدا في دوائر (انتخاب الدرجتين) كما فاز مرشحو (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري - جماعة فرحات عباس) بثمانية مقاعد. أما المقاعد الثلاثة والأربعون الباقية فقد أعطيت للمرشحين من أنصار (التعاون الإفرنسي - الجزائري). وفي الانتخابات الفرعية التي جرت في العام 1951، لتجديد بعض المقاعد، خسرت حركة انتصار الحريات الديموقراطية أربعة مقاعد من مقاعدها التسعة، كما خسر الاتحاد الديموقراطي مقعدا واحدا من مقاعده الثمانية.

أدى الخلاف الذي نشب بين الحكومة الإفرنسية من جهة، وبين الحاكم العام (نيغلين) من جهة ثانية، في موضوع سوء تصرف هذا الأخير في الانتخابات، إلى استقالته في العام 1951. وقد خلفه (المسيو ليونارد) وهو مدير عام سابق للشرطة. فحافظ هذا على سياسة (تكييف الانتخابات) - وهي لفظة متطورة للتزييف والتزوير - وأثمرت جهوده بتحقيق أكثر مما كان متوقعا في نتائج الانتخابات التي أجراها في حزيران - يونيو - 1951 (للجمعية الوطنية الإفرنسية). فقد خسرت حركة انتصار الحريات الديموقراطية جميع المقاعد الخمسة التي

ص: 51

كانت لها في الجمعية الأولى. كما خسر الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري جميع مقاعده في مجلس الجمهورية. وكان بين الذين أسقطوا في الانتخابات (فرحات عباس) الذي رشح نفسه في مدينة (سطيف) حيث سبق له أن أنشأ جماعة أصدقاء البيان والحرية، والاتحاد الديموتراطي لأنصار البيان الجزائري. ولم تؤد هذه الانتصارات التي حققها المستوطنون في تخريب مفعول القانون الأساسي لعام 1947، إلى زيادة التفاهم بين المستوطنين والجزائريين. ولكن المخاوف التي كانت موجودة عندهم في العام 1947 (من موجة التطرف الجزائري - الإسلامي) قد زالت الآن، وزال معها ما كانوا يشعرون به من الحاجة للتفاهم مع الوطنيين الجزائريين. وقد كتب مؤرخ فرنسي بارز عن النتائج البعيدة المدى لهذه الفترة فقال:

(

وهكذا انهار شيئا فشيئا العمل التحرري الذي قام به الحاكم العام - الليبرالي شاتينيو -: فقد جمدت المراكز البلدية، وغيرت قطاعات الإصلاح الريفي

وهجرت الاقتراحات لإقامة مجمعات ريفية - كومونات -. واعتبر أن إعادة إسكان الفلاحين قد تحققت، وأفاد من مشاريع الإسكان أولئك الذين يملكون رأسمال معين وواردات كافية، ولم تنتفع منه جماهير الشعب التي لا مأوى لها. وظلت المحاكم المختلطة قائمة، ولم يتحقق الفصل بين العقيدة الإسلامية والدولة، وأعيد تنظيم المقاطعات الجنوبية ضمن مخطط جبان، وأخذت مشاريع التصنيع التي بدأت بداية طيبة في العام 1947 - 1948 تواجه

ص: 52

الآن المتاعب. وحتى مشاريع فتح المدارس التي بدأ تنفيذها بنجاح، أخذت تعاني من ضآلة الأموال المتوافرة لها، والتي كانت قد خصصت لها، وأصبح عدد الطلاب في سن الدراسة أكبر بكثير مما يمكن للمدارس الموجودة أن تستوعبه).

كان بين التأثيرات التعيسة على عقلية المستوطنين، ما كانت تلقاه حزازاتهم ضد الجزائريين من تعزيز عام مستمر. وأدى تزييف الانتخابات إلى المجيء إلى الجمعية الوطنية الجزائرية (بأُمّعّات) لا يخرجون على إرادة الإدارة الإفرنسية، وهم من الأفراد (معدومي القيمة) وأكثرهم من الأميين الذين أسهمت استكانتهم وخضوعهم الذليل في حجب الرغبات المتعاظمة التي كانت تجيش بها صدور المسلمين والقوميين من أبناء الطبقة المتوسطة. وأمام هذا الموقف، أخذ بعض متحرري الفكر من المجموعة الأوروبية في إظهار قلقهم المتزايد من اتساع الفجوة، وعمق الهوة، التي باتت تفصل بين المستوطنين والجزائريين، وقد مثل (جاك شوفالييه) رئيس بلدية الجزائر تلك المجموعة القليلة في العدد، والكثيرة في كفايتها وإدراكها، والقوية في التعبير عن نفسها، حيث قال:(علينا أن نفكر اليوم، بأنه من الأفضل للإنسان أن يجد حوله أنصاف ثائرين لا أتباعا وخدما) وقد ألف شيفالييه وعدد من أعضاء الجمعية الجزائرية الذين يشاطرونه الرأي كتلة داخلية من الليبيراليين (لتوثيق أواصر التعاون الإفرنسي الجزائري، ولحماية حريات معينة). ولكن نشاط هذه الكتلة لم يترك أي أثر على الصفحة السياسية للجزائر. كما لم تنجح المحاولات التي قامت بها لردم الهوة بين

ص: 53

الفريقين. ولم تؤد التحقيقات التي قام بها عدد من النواب في فرنسا ذاتها إلى تبديل الإجراءات التي تقوم بها السلطات في الحملات الانتخابية.

كان رد الفعل على إحباط قانون 1947، وعلى تزوير الانتخابات، قويا وعنيفا في وسط كل الأحزاب السياسية الجزائرية، وبصورة خاصة في وسط (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) حيث توافرت لهذه الحركة مجموعة من الشباب المتقد حماسة للعمل السري. وظهر بوضوح أن هذه الحركة باتت خاضعة لسيطرة عدد من مراكز القوى، التي ساعد على تشكيلها غياب القيادة الأساسية (قيادة مصالي الحاج) التي كانت ضحية للاضطهاد المستمر والملاحقة العنيفة، والاغتيالات المتتالية لكبار العاملين فيها. ويضاف إلى ذلك، الوضع الخاص، للزعيم مصالي الحاج الذي بات شيخا منهكا، استنزف النضال قدرته، واستهلكت السجون حيوية شبابه، فأفقدته المرونة المطلوبة للقيادة. وزاد الأمر سوءا شعوره الخاص (بأن له الحق في اتخاذ القرار الأول والأخير) في كل ما يتعلق بالأمور العامة للجزائر، وهو أمر بات يتناقض جذريا مع تطلعات القيادات التبادلية التي باتت تمارس دورها بفاعلية في وسط الحزب، وعلى مستوى السياسة العامة للبلاد. وهو الموقف الذي وصفه الزعيم (فرحات عباس) بقوله:

(

من عام 1925 حتى عام 1954 - منذ (نجم شمال أفريقيا حتى - اللجنة الثورية من أجل الوحدة والعمل)

ص: 54

تتابع رجال كثر ينتمون إلى الاتجاه القومي. فليس من الضروري أن يكون المرء مفسرا ملهما حتى يدرك أن المشكلات لم تعد مطروحة عام 1953 على النحو الذي كانت مطروحة فيه بعد الحرب العالمية الأولى، كما لم تعد هي نفسها طرق تفسيرها وحلها. وكان النزاع الذي أدى إلى نشوء (اللجنة الثورية من أجل الوحدة والعمل) بشكل خاص، هو تعبير عن الافتراق بين الروتين والتجديد، بين قومية كلامية كانت تحاول أن تبقى في مرحلة البيانات وبين قومية نشيطة تتلظى للعمل. ويجب أن نضيف إلى هذا الازدواج مساوىء - عبادة الفرد - فقد شرب (حزب الشعب الجزائري) وبعده (الحركة من أجل انتصار الحرية والديموقراطية) الشبان العاملين عبادة (مصالي الحاج) خلال عشرات السنين، وذلك من أجل إيجاد رمز للحركة، فكان يسمى (أبا الشعب) ولم يكن هناك أحد في الحزب يجرؤ على مخالفة (المعلم). ولم يعرف (مصالي الحاج) وهو من أصل متواضع مثلنا جميعا أن يوقف هذا (التأليه) فأخذ من مكمنه، وأخذ يعتقد بمعصوميته. ولما تجاوزته الأحداث والمشكلات، حاول أن يداوي عدم كفاءته الثورية بطلاء خارجي يعود إلى التهريج أكثر مما يعود إلى النضال الفعلي الصحيح. وعندما حاول أعوان غير مأخوذين بالسحر الظاهري أن يقوموا بردود فعل مناسبة وصحيحة كان الأوان قد فات، فاصطدموا بحاجز صلب. وكان المرض عميقا لدرجة أصبح من الضرورة معها انتظار انفجار الحزب حتى يصبح بالإمكان القيام بعمل ثوري حقيقي. ومهما يكن من أمر، فقد كانت فرنسا الاستعمارية،

ص: 55

وجزائر المستوطنين الغلاة، تصفقان لهذا النزاع بين الأشقاء. ولم يكن يخطر في بالهما أن الأزمة ستعجل سير التاريخ، وذلك أن هذا النزاع هو الذي أدى إلى قيام (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) فقد جلب معه دواءه الذي ظهر في زمن وجيز أنه قوي بقدر ما هو منقذ) (*).

وعلى كل حال، قررت الحكومة الإفرنسية في سنة 1952 نقل (مصالي الحاج) نهائيا من الجزائر ووضعه تحت الإقامة الإجبارية في (نيورت) بفرنسا، غير أن هذا الإجراء لم يؤثر على نشاط الحركة التي تمكنت من عقد مؤتمرها الثاني - المؤتمر العام - في نيسان (أبريل)1953. وكان هذا المؤتمر هو الأول بعد المؤتمر التأسيسي الذي عقد في العام 1947. وأظهرت المناقشات التي جرت في المؤتمر وجود خلافات عميقة في صفوف الحزب، حول الشؤون المتعلقة بتنظيم الحركة وعقيدتها، بالإضافة إلى بروز الصراع الشخصي. وقد أعلن (أحمد مزغنة) في خطاب الافتتاح، الذي رحب فيه بالأعضاء، أن الحركة تنتقل الآن من مرحلة الإثارة إلى مرحلة التنظيم والتعليم الحزبي، ثم دعا الحزب إلى حشد (قوى جديدة) في الداخل، وإلى مضاعفة جهوده، في الخارج. وأكد (مصالي الحاج) في الرسالة التي بعث بها إلى المؤتمر، بصورة خاصة، على الوضع الدولي، فكتب يقول: (أن الاستعمار الإفرنسي وهو يحتضر الآن على فراش الموت، قد تلقى دعما جديدا من الولايات

(*) ليل الاستعمار (فرحات عباس) ص287 - 288.

ص: 56

المتحدة. وأن بوسع الاتحاد السوفييتي أن يعقد الآن، كما عقد في الماضي، صفقات مضرة بالشعوب المستعمرة، ولذا فإن من واجب حركة انتصار الحريات الديموتراطية أن تعتمد على نفسها، ثم مضى إلى القول: إن أمامنا مهام كثيرة لا مناص منها للمضي في نضالنا، ومن هذه المهام أن نكون حزبا قويا يسوده النظام. وأن نثقف الشعب الجزائري حتى يتمكن من ممارسة دوره في مختلف الظروف، وأن نبرهن على حقيقة وجود حزبنا في الداخل وفي الخارج. وأن نستلفت اهتمام الرأي العام العالمي بروحنا النضالية التي تبدو كل يوم وأن نخطط سياسة خارجية مقررة وثابتة. وأن نعرف كيف نحسن استغلال جميع الأوراق الرابحة في أيدينا في الداخل والخارج. وأن نملك منظمة طيبة وصحافة صالحة وممثلين أكفاء في البلاد الأجنبية. وأن نخلق انسجاما بين هذه المظاهر المختلفة من نشاطنا. وتوجيه هذا النشاط يتطلب سعة في الأفق، وحسنا في الاختيار والتوجيه، وسعة في الأفق والخيال، وروح الابتكار والحافز التي هي من الصفات التي لا غنى عنها لزعمائنا) (*).

قدمت اللجنة المركزية تقريرها العام إلى المؤتمر، محللة فيه عيوب الحزب وآماله. وكان المؤتمر السابق قد توصل إلى ثلاثة قرارات مهمة، وهي:

1 -

اشتراك حركة انتصار الحريات الديموقراطية في الانتخابات.

2 -

النضال ضد الاستعمار بكل الصور والأشكال.

3 -

السعي لتحقيق وحدة الشعب

(*) الجزاثر الثائرة (جوان غيلسبي) ترجمة خيري حماد ص 100 - 111.

ص: 57

الجزائري. وأجبر مرشحو الحركة، الإدارة الإفرنسية، من الناحية الإيجابية، على استحدام القوة لإسقاطهم في الانتخابات، واتسعت عضوية الحزب في الجزائر. وخلقت الظروف المناسبة لتحقيق وحدة جميع الوطنيين في البلاد. أما من الناحية السلبية، فقد كلفت الحملات الانتخابية الحزب ثمنا باهظا في الغرامات والاعتقالات، وكانت هناك حالات من الافقار للانضباط الحربي بين بعض الممثلين. وقد أسهمت جهود القمع الاستعمارية على اتساع الحزب وزيادة نشاطه وتثقيف مناضليه، وتكوين تنظيم الملاك الحزبي - السري -.

قسمت اللجنة المركزية نشاطها في ست سنوات إلى ثلاث فترات، فترة الهجوم التي تشمل عامي (1947 و1948) وهي الفترة التي قدم فيها الحزب برنامجه لإنشاء جمعية تأسيسية ذات سيادة. وفترة الدفاع من آذار (مارس) 1948 إلى كانون الثاني (يناير) عام 1950 وفترة النقاهة من عام 1950 إلى عام 1953. وقد مر الحزب في الفترة الدفاعية بأزمتين عنيفتين استطاع اجتيازهما بنجاح وهما:

1 -

أزمة البربر.

2 -

قضية الأمين دباغين.

وقد أطلقت اللجنة المركزية على حركة البربر، اسم:(الانحراف الطائفي ذي الطبيعة العنصرية والشيوعية) وحذرت من أن تظل هذه المشكلة (ورقة رابحة في يد الاستعمار طالما أنها قائمة وموجودة) وتختفي وراء هذا التعبير الماركسي مشكلة أكثر عمقا وأهمية، وهي مشكلة التباين العرقي بين العرب والبربر في الجزائر والتي خلقها الاستعمار الإفرنسي

ص: 58

وحاول استثمارها إلى أبعد الحدود وبأقذر الوسائل (وتقدر نسبة البربر في تونس بالنسبة للعرب واحد بالمائة، وترتفع هذه النسبة في الجزائر إلى تسعة وعشرين بالمائة لتبلغ في المغرب خمسة وأربعين في المائة). وكانت التفرقة بين العرب والبربر الذين وحدهم الإسلام هي إحدى سياسات الاستعمار الإفرنسي الأساسية (فرق تسد). ويحتشد معظم البربر في الجزائر في منطقة القبائل، وهي من أكثر مناطق البلاد اكتظاظا بالسكان، ومن أرفعها في المستوى الثقافي، بسبب انتشار التعليم الإسلامي في الجوامع، ومن أوسعها في هجرة أبنائها إلى الأجزاء الأخرى من الجزائر، وإلى أوروبا. ولم يكن من الغريب تبعا لذلك، أن يمارس الشبان القبليون البارزون، دورا كبيرا في النشاط الديني والقومي في الجزائر دون أن يستبعدوا عن هذا النشاط زعماء المناطق الأخرى. ولهذا فإن ما يسمى (بأزمة البربر) لم تكن في الحقيقة إلا مغالطة في الوصف والتسمية، إذ أنه كان في جوهره صراعا في الآراء بين المثقفين الشبان الممتلئين حماسة وحيوية، والذين كان بعضهم بمحض الصدفة من القبليين، وبين الزعماء الكبار - التقليديين - في الحزب، والذين كان بعضهم بمحض الصدفة أيضا من العرب. وتتعرض جميع الأحزاب لمثل هذه (الصراعات بين الأجيال). ولم تكن حركة انتصار الحريات الديموقراطية لتشذ عن هذه القاعدة الخالدة. أما قضية (الأمين دباغين) فقد كانت إشارة مبكرة لصعوبة قدر لها أن تربك أوضاع الحزب بصورة حادة في السنوات التالية. فقد وقع خلاف شخصي بين (مصالي الحاج) وبين (الدكتور الأمين

ص: 59

دباغين) الشاب اللامع الذي أصبح فيما بعد وزيرا للخارجية في حكومة الثورة، وأدى هذا الخلاف إلى فصل الدكتور الأمين من الحزب وإلى انسحابه من الحياة السياسية. فقد كان الحزب على صعيد السياسة الخارجية، يقف في هذه الفترة، بصورة رسمية موقف المناوأة لحلف الأطلسي. وكانت الحكومة الإفرنسية قد أدخلت الجزائر في هذا الحلف في العام 1949.

نظم الحزب صفوفه في فترة النقاهة تنظيما أفضل، ووسع آفاق عمله ونشاطه، على الرغم من إبعاد زعيمه (مصالي الحاج). وعندما تحدثت اللجنة المركزية للحزب عن الوحدة بين الجزائريين الوطنيين، قالت في عبارة حسنة السبك والصياغة:(أنها اتخذت شكلا لا يستجيب مع المطامح الشعبية). وبالاختصار، فإن الشيوعيين من الأوروبيين، أو أنصاف الأوروبيين، والمعتدلين من (الاتحاد الديمرقراطي لأنصار البيان الجزائري) و (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) كانوا أصعب مراسا من أن تستطيع (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) التأثير عليهم للدخول في ائتلاف واحد.

مضت اللجنة المركزية بعد ذلك في عملية (النقد الذاتي) فتساءلت وهي تبحث عن محتوى أكثر دقة لأهدافها في الاستقلال، فقالت في تقريرها: (هل نعتزم حقا خلق جزائر حرة بالنسبة إلى شخص واحد بصورة خاصة، أو إلى أقلية حاكمة؟ جزائر تتحرر اسميا وتكون في الحقيقة وسيلة يعزى إليها الفضل في رفع شخص أو أقلية من الناس إلى منصة

ص: 60

الحكم

هذا هو هدفنا. أننا نريد أن نخلق دولة للشعب وعن طريق الشعب، يكون فيها الجزائريون دون تميز من ناحية العنصر أو الدين أحرارا متساوين. إننا نعني قيام دولة ديموتراطية

ولذا فإن مبدأنا الأول هو الديموقراطية).

هذا نوع من الاعتراصات التي قدمتها اللجنة المركزية على الاتجاه إلى زيارة سلطة (مصالي الحاج) وميله إلى أخذ زمام السلطة الشخصية بيديه. وقد رفضت اللجنة المركزية نظام الملكية، على أنه نظام عتيق بال، واختارت الجمهورية كمبدأ ثان لها. أما بالنسبة إلى المبدأ الثالث، فقد اقترحت الرفاه الاقتصادي والعدالة الاجتماعية (*). واختارت اللجنة أخيرا الحرية الدينية مبدأ لها انسجاما مع التقاليد الإسلامية. وتحدثت اللجنة المركزية بعد ذلك عن قضية القصور العقائدي فأعادت دراسة مفهومها عن الوطنية. وأكدت وجوب ابتعادها عن الغلو والتعصب (الشوفينية). وأن تكون دفاعية، ومتحررة، وديموقراطية، وغير

(*) حددت اللجنة المركزية في المجال الاقتصادي الأهداف التالية: تكوين اقتصاد وطني سليم يستعاض به عن الاقتصاد الاستعماري القائم، وتحقيق الإصلاح الزراعي. والسير على طريق التصنيع. وتأميم مصادر الإنتاج الأساسية. وتنسيق الاقتصاد مع المغرب وتونس لإقامة سوق مشتركة للإنتاج والاستهلاك. أما في الميدان الاجتماعي، فقد اقترحت اللجنة المركزية، رفع مستوى المعيشة - الحياة - والتوزيع العادل للدخل القومي. وضمان الحرية النقابية. واقترحت اللجنة من الناحية الثقافية: نشر الثقافة القومية والتعليم التقني، وشن حملة على الأمية لمكافحتها.

ص: 61

شيوعية، وغير مادية. وحددت اللجنة مركز (حركة انتصار الحريات الديموقراطية) الثوري، على الصعيد السياسي، بين الشيوعيين الثوريين نظريا بالنسبة للأهداف والوسائل، والمختلفين عن الحركة عقائديا، وبين الإصلاحيين من أتباع (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان) و (جماعة العلماء). وأكدت اللجنة أن الثوري الحقيقي لا يمكن أن يوجد دون اتصال ثابت بالواقعية، وقالت:

(

وعلى الثوري والحالة هذه، أن يهبط من برج نظرياته العاجي إلى جذور الحياة الواقعية، ليستخلص منها نتائجه، ويتحقق عن طريقها من مبادئه في العمل). وعلى الحركة، رغبة منها في التطور الكامل أن:(تحسن التفكير على صعيد قومي). بينما كانت في مرحلتها الدعائية تقصر تفكيرها على الصعيد الحزبي.

وتحدثت اللجنة المركزية عن عيوب خططها الاستراتيجية، فأشارت إلى وجوب تقسيم النضال إلى عدد من المراحل، مع إيجاد عدد من الأهداف المرحلية التي يجب الوصول إليها على التوالي. ولاحظت اللجنة المركزية في ميدان واحد أن الحزب لم يوجه رسائل إلى الأقلية الأوروبية، وأنه عندما كان يوجه هذه الرسائل، فإنه كان يكتفي فيها ببعث الطمأنينة في نفوس الأوروبيين من أن الحركة لا تريد أن تقطع رؤوس الإفرنسيين، أو تقذف بهم إلى البحر (الكفن أو الحقيبة) واقترحت اللجنة أن تقوم الحركة ببذل جهد أكبر لإيضاح وجهة نظرها في أن

ص: 62

من حق الإفرنسيين أن يعيشوا في الجزائر، وأنهم سيعتبرون من الجزائريين، يتمتعون بنفس الحقوق، وتفرض عليهم نفس الواجبات. وأكدت وجوب قيام الحزب باطلاع الأقلية على ما يعانيه الشعب الجزائري من اضطهاد وظلم.

وتحدثت اللجنة المركزية أخيرا عن العيوب الأسلوبية (التكتيكية) فذكرت أن الحزب، كان في بعض الأحيان شديد التصلب في موضوع التحالف مع الجماعات الأخرى، وكان في أحيان أخرى شديد المرونة. وأيدت اللجنة وجوب استمرار التحالف مع جميع الأحزاب الراغبة في مقاومة الاستعمار، سواء أكانت هذه الأحزاب تشترك مع الحركة، أو لا تشترك معها في آرائها وأساليبها. وأكدت اللجنة وجوب وضع سياسة انتخابية للحزب، تقوم على العناية بانتقاء المرشحين، وإعداد البرامج السياسية المفصلة، والدعاية التي تتفق مع تطلعات جميع الطبقات الاجتماعية. وقد امتلأ هذا الجزء من التقرير بصورة خاصة بالإشارات إلى معارضة اللجنة المركزية لسياسة (مصالي الحاج). ولا ريب في أن الإشارة إلى حاجة الثائر للهبوط من برجه العاجي، إنما هي موجهة إلى رئيس الحزب (المبجل العظيم). كما أن التلميحات بأن بعض النواحي العقائدية والدعائية كانت تفتقر إلى الدهاء. وقد تكون موجهة أيضاء إلى الزعيم الأقل ثقافة من أعوانه. وقد عزا إليه أعوانه الشبان والمتحمسون والمنسقو التفكير، أنه كان دائم التفكير على الصعيد الحزبي، وأنه أفنى حياته في تعبئة الجماهير واستثارتها، وأغرق في تركيز جهوده، على المعارك السياسية الكلامية.

ص: 63

وحللت اللجنة المركرية في فصل ثالث، آمال الجزائر في المساعدة الدولية، فرأت للشمال الأفريقي دورا استراتيجيا بارزا بين الكتلتين العالميتين المتصارعتين، وفي الصراع بين الدول الاستعمارية، وبين القارتين الآسيوية والأفريقية المناهضتين للاستعمار. وأضافت اللجنة أن فرنسا - المتصلبة - في موقفها تجاه مطامع مستعمراتها، ستجد نفسها في صراع متزايد مع الولايات المتحدة التي تجد نفسها (مقيدة بالحركة الوطنية في شمال أفريقيا، وفي دول الكتلة الآسيوية - العربية، فتعمل في اتجاه يتفق مع أهداف المغرب) ويجب أن تظل سياسة الحركة قائمة على أساس (الحياد اليقظ) سارية المفعول بالنسبة إلى المستقبل أيضا. وتحدثت اللجنة عن الارتباط بين العوامل الداخلية والخارجية، فأشارت إلى التأييد المهم الذي لقيته القضيتان التونسية والمغربية - المراكشية - من الدول - العربية - الآسيوي في نقلهما إلى الميدان الدولي، وأكدت الضرورة الحيوية للعمل الداخلي والمساعدة الخارجية بالنسبة لجهاد الجزائر. وبدت الحركات الوطنية الثلاث في الشمال الأفريقي، في نضالها المنفرد والمستقل. غير منسقة أو منسجمة، ولكن اللجنة لا ترى من (الحكمة) أن يأمل الإنسان في وحدة الشمال الأفريقي في المستقبل القريب. وبدا موقف اللجنة من بحث السياسة الخارجية منسجما بصورة عامة مع حيادية (مصا لي الحاج) وذريعة - إلى حد ما - لتغطية تقصير الحركة عن تأييد التونسيين والمغاربة - المراكشيين - بصورة أكثر فاعلية وحيوية. ويمكن القول بصورة عامة أن اللجنة المركزية، وضعت الجزائر ضمن محتوى عالمي،

ص: 64

وأظهرت اهتماما أكبر بالشؤون الخارجية من الاهتمام الذي أظهره زعماء (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان). وقد يكون من المناسب هنا التوتف قليلا عند وجهات نظر اللجنة المركزية، تجاه كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بالنظر إلى أهميتها المقبلة في سياسة (جبهة التحرير الوطني الجزائرية) نتيجة انضمام عدد كبير من أعضاء (اللجنة المركزية) إليها. فقد ذكرت اللجنة عن السياسة السوفياتية ما يلي:

(

من المهم أن نلاحظ أن التأثير الشيوعي، على الرغم من تبنيه للقضايا الوطنية في آسيا، وانتقاله منها إلى مرحلة الصراع الطبقي، يتوقف جملة في آسيا على حدود الدول الإسلامية. وتتخذ السياسة السوفياتية موقف المؤيد بصورة عامة لجميع حركات التحرر في البلاد الخاضعة للاستعمار، ومثل هذا الموقف الذي لا يتطلب أي مجهود خاص، هو موقف أسلوبي - تكتيكي - مجرد، يتخذ بهدف إضعاف الدول الغربية. وتستهدف هذه السياسة حقيقة إقامة الفرصة لتقوية الأحزاب الشيوعية المحلية. وهذا الأسلوب (التكتيك) الذي نجح في الهند الصينية والملايو وربما الهند، لم ينجح في البلاد الإسلامية المماثلة، ولا سيما في أندونيسيا وإيران).

ورأت اللجنة أن سياسة الولايات المتحدة تنطوي على نفس التوسعية السياسية والعقائدية الموجردة في السياسة السوفياتية. وكانت وسائل العمل الأولى التي اختارتها الولايات المتحدة، إعادة بناء أوروبا اقتصاديا عن طريق مشروع مارشال، ثم مشروع النقطة الرابعة، وهي وسائل ضعيفة لم تفلح في

ص: 65

مواجهة النفوذ الشيوعي. وعادت أمريكا فآثرت الوسائل العسكرية على الاقتصادية. وهكذا فرضت على حلفائها سياسة إعادة التسلح، وبنت مساعداتها على أساس فرض سياستها الخاصة على حلفائها. وبالاختصار فإن الكتلة الغربية، تمثل عددا من التناقضات. وتحدثت اللجنة المركزية عن أساليب الكتلتين فقالت:(تمسك الكتلة السوفياتية في ميدان الحرب الباردة بزمام المبادأة دائما. وبهذا تمكن الشيوعيون الإفادة من نظام حكمهم الفرد - مركزية القيادة - لتنظيم أجهزتهم الدعائية، والاعتماد على القوة الحقيقية، واستثمار ضعف الحكومات الغربية، للتأكيد على تفوقهم في لعبة الحرب الباردة).

وكانت خلاصة تقرير اللجنة المركزية، تعالج قضية الحزب نفسه: فقد كان الحزب حزبا جماهيريا لا حزبا عقائديا - فكريا - (كالاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان) مثلا. ولقد انتهى التقرير إلى القول: (وبالنسبة إلى حزب جماهيري، فإن الميول الفردية والأعمال التي تخالف الانضباط الحزبي، ووحدة الحزب، لا يمكن التسامح فيها مطلقا. فالنضالية متوجبة على جميع العناصر التي يتألف منها الحزب الجماهيري. ويتصور الحزب الجماهيري مختلف وسائل العمل، وهو يضفي أهمية رئيسية على قاعدة نشاطه، وهي التنظيم الحزبي).

وأقر المؤتمر العام (لحركة انتصار الحريات الديموقراطية) قرارا ينطوي على الاستجابة التفصيلية للتقرير العام الذي قدمته اللجنة المركزية. كما وجه رسائل، أولاها إلى الشعب الجزائري عن الوحدة، وثانيتها إلى المعتقلين السياسيين؛ وثالثها إلى

ص: 66

(مصالي الحاج) عن تعلق الحزب المطلق بالمثل التي يمثلها؛ ورابعتها إلى الشعب في القطرين: التونسي والمغربي - المراكشي - داعيا فيها إلى دعم أواصر وحدة المغرب؛ وخامستها إلى الجامعة العربية لشكرها على مساعداتها لقضية الشمال الأفريقي؛ وسادسها إلى مجموعة الدول العربية - الآسيوية داعيا إياها (لممارسة دور قيادي في مستقبل العالم).

نشرت صحيفة (الجزائر الحرة) في كانون الأول - ديسمبر - 1953 - وهي الناطقة باسم الحركة، نداء دعت فيه إلى عقد مؤتمر وطني جزائري. وقد وقع النداء كل من حسين الأحول، وابن يوسف بن خدة، وعبد الرحمن كيوان بالنيابة عن اللجنة المركزية. وطلب النداء من الفلاحين الجزائريين والعمال والتجار والنساء والشبان والطلاب والمثقفين أن يتحدوا وأن يشتركوا في مؤتمر يمثل جميع الأحزاب السياسية والمنظمات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والأفراد المستقلين من الديموقراطيين وغيرهم. وذكر النداء: أن المثل الأعلى القومي، سيكون شرعة المؤتمر ودستوره وكتب (عبد الرحمن كيوان) في شهر شباط - فبراير - 1954 - مقالا افتتاحيا قال فيه:

(إن الشعب الجزائري قد أعلن تأييده لفكرة المؤثمر، وأوضح أن الحركة تدعو إلى مقاطعة انتخابات الجمعية الجزائرية، لأن الأوضاع السياسية لم تكن مشجعة لعقد المؤتمر في ذلك التاريخ. وأبلغ (حسين الأحول) الشيوعيين في وقت متأخر من

ص: 67

ذلك الشهر، أن الحركة ترحب برغبتهم في الاشتراك بالمؤتمر. ولكنها تعتقد أن من الواجب إيضاح الفكرة بصورة أكثر جلاء للجماهير قبل أن يعقد المؤتمر. وأشار إلى أن الجبهة الفاشلة التي تم تأليفها في العام 1951، كانت اتفاقا بين الأحزاب أكثر منها اتفاقا بين الجماهير. وقد اشترك (الشيخ الإراهيمي) في النداء الذي وجه داعيا إلى الاتحاد.

وكتب (حسين الأحول) في شهر آذار - مارس - 1954، مقالا افتتاحيا في (الجزائر الحرة) استعرض فيها دروس السنوات السبع عشرة الماضية من النضال. وأكد أن المؤتمر الثاني للحركة في العام 1953 قد أقر مبدأ (القيادة الجماعية). و (إذعان الأقلية لقرارات الأغلبية). وأضاف: إن القيادة الجماعية تقلل من إمكان وقوع الأخطاء، لأنها (تعبر عن الروح الأساسية لحزبنا وهي في الوقت نفسه الروح الديموقراطية والثورية الصحيحة). أما إذعان الأقلية لقرارات الأكثرية:(فتعبير عن القانون الأعظم للتنظيم العقائدي والواقعي، وهو تنظيم يخلق العروة الوثقى والقوة، ويتيح للعمل المنظم المجال الكافي زمانا ومكانا). لكن أية دراسة دقيقة لقرار العام 1953 لا تكشف حقا عن أية إشارة واضحة ومحددة لمبدأ (القيادة الجماعية). ولكن (الأحول) الذي قدر له أن يضع اسمه بعد فترة قصيرة على رأس جماعة من الحزب، كان يشير هنا إلى النقطة الرئيسية في الخلاف المتزايد بين اللجنة المركزية و (مصالي الحاج). فإذا كان من المحتوم أن ينطلق الانضباط الحزبي على كل إنسان، وإذا كان هذا الانضباط يعني قبول الأقلية لقرارات الأكثرية، فإنه يصبح من المحتوم

ص: 68

على (مصالي الحاج) نفسه أن يوافق على القرارات التي تتخذها اللجنة المركزية، حتى ولو كان هذا يختلف معها بصورة شخصية.

وكتب (عبد الرحمن كيوان) في أواخر شهر آذار - مارس - 1954 يقول: (إن المؤتمر المقترح سيحترم استقلال الأحزاب التي ستشترك فيه) وبعد أن افترض أن الاقتراح قد جوبه بعدد من الاعتراضات الحزبية، اعترف بأنه من المحال تأليف حزب واحد في الجزائر، بسبب الوجود الاستعماري من جهة، وبسبب الضغط العقائدي من الناحية الثانية. ولكن المؤتمر الذي يعني (الاتحاد لا الوحدة) يمكن أن يتحقق فورا. ومن الممكن أن يتطور المؤتمر إلى حزب، على غرار (حزب المؤتمر الهندي). وكتب (بن خده) في وقت لاحق من الشهر ذاته، وفي الصحيفة نفسها يقول:(إن فكرة المؤتمر تزداد شعبية يوما بعد يوم). ويظهر أن هذا المقال، كان آخر إشارة إلى موضوع المؤتمر. وقد يكون ذلك مؤشرا إلى التاريخ الذي وقع فيه الخلاف الحقيقي بين اللجنة المركزية وزعيم الحزب (مصالي الحاج).

صدرت صحيفة (الجزائر الحرة) يوم 16 أيار - مايو - 1954، وهي تحمل تحيتها في الذكرى السادسة والخمسين لميلاد (مصالي الحاج) وكان في كلمة التحية ما يلي:(إن كفاح مصالي الحاج، وكفاح الحركة الوطنية لتحرير الجزائر، اسمان لمسمى واحد). وبعد أن عرض المقال حياة زعيم الحركة انتهى إلى القول: (وسواء أكان مصالي في (نيورت) في فرنسا أو في الجزائر؛ فإنه سيظل رمز نضالنا،

ص: 69

والمشعل المضيء لكفاحنا من أجل الحرية) وعقدت في الأسابيع التالية عدة اجتماعات للحركة، كما أقيمت مظاهرات ضخمة في الجزائر وفرنسا. ولم يبرز في هذه الاجتماعات إلا اثنان من أعضاء اللجنة المركزية وهما (أحمد مزغنة) و (مولاي مرباح).

أعلنت صحيفة الحزب (الجزائر الحرة) في منتصف شهر آب - أغسطس - وتحت عناوين بارزة، أن الحركة قد عقدت مؤتمرا طارئا في منتصف شهر تموز - يويو - 1954 (من 13 - 15 تموز) في مدينة (هورنو) في بلجيكا، وذلك لمعالجة ما تعرض له الحزب من أزمة داخلية مخيفة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، أثرت أبلغ الأثر على أعمال الحزب ونشاطه. وأضاف الإعلان أن المؤتمر اتخذ قرارا إجماعيا باستنكار أعمال بعض أعضاء اللجنة المركزية لاخرافهم سياسيا وارتكابهم أخطاء خطيرة. فبالإضافة إلى تذبذب اللجنة المركزية وترددها داخليا، ارتكبت أخطاء على الصعيدين الأفريقي الشمالي والدولي، إذ لم تتمكن من تحقيق التضامن مع تونس والمغرب - مراكش - وظلت قضية الجزائر مهملة على الصعيد الدولي. وقررت الحركة في مؤتمرها هذا تأكيد عزمها على اتباع سياسة (فعالة ومنشطة ومتزنة) تؤدي إلى الرفع من شأن الحزب وتقوية مركزه. وأكد المؤتمر ثقته المطلقة (بمصالي الحاج) وقدرته على تذليل الصعاب أمام الحزب، واختاره بالإجماع رئيسا مدى الحياة. وبعد بضعة أسابيع من المحاولات الفاشلة للتفاهم، كما يبدو، قررت الحركة حل اللجنة المركزية. وأعلن (مصالي الحاج) من (نيورت) فصل (ابن يوسف بن خده) وحسين الأحول وعبد الرحمن كيوان وابن باديس

ص: 70

وفروض ويزيد ولوانشي وبوده: (لانحرافهم وعدم إطاعتهم وسوء استعمالهم لأموال الحزب ورفضهم إعادة ممتلكاته). وبعد أيام، ذكرت صحيفة (الجزائر الحرة) أنه لم يكن هناك تصدع في الحزب، وإنما كانت هناك اتجاهات مؤسفة تم تصحيحها الآن. وعادت الصحيفة إلى توجيه اهتمامها إلى أعمال العنف الإفرنسية في الجزائر.

أمام هذ االموقف عقدت جماعة (اللجنة المركزية) وأنصارها، مؤتمرا استثنائيا في الجزائر (من 13 إلى 16 آب - أغسطس - 1954). وتقرر في هذا المؤتمر رفض اتهامات (مصالي الحاج) الموجهة إليهم بالانحراف. وأكد سياسة المؤتمر العام سنة 1953، وجرد مصالي الحاج ذاته وأحمد مزغنة ومولاي مرباح من جميع مهامهم الحزبية. وأعلن بطلان المؤتمر الفرعي - الذي سبق عقده في بلجيكا - وشرحت (اللجنة المركزية) في العدد الأول من الصحيفة التي أصدرتها وهي (الشعب الجزائري) لتكون الناطقة باسمها - (وهو العدد الذي ظهر بين أيلول - سبتمبر - وتشرين الأول - أكتوبر - 1954) وجهة نظرها في حقيقة الأزمة التي تعرضت لها الحركة. وأعلنت أن الصراع كان قد بدء منذ أيلول - ستمبر - 1953، عندما طلب (مصالي الحاج) من اللجة المركزية الجديدة صلاحيات مطلقة. واعترفت اللجة المركزية أنها أبعدت (أحمد مزغنة) و (مولاي مرباح) وهما المقربان جدا من مصالي الحاج، عن القيادة، ولم تكن قد شرعت بعد في تنفيذ المهام التي عهد إليها

ص: 71

بها المؤتمر الثاني. وطلبت من مصالي أن يعيد النظر في الموضوع، وبعثت إليه بوفد للتشاور معه في (نيورت) فمنيت مهمة الوفد بالفشل. وعاد (مصالي الحاج) في كانون الثاني - يناير - 1954، فكرر طلباته أن السيطرة الشخصية لا تتفق مع مبادىء الحزب الثوري من جهة، كما أن الوضع لا يسمح بإعطاء جميع السلطات إلى رجل واحد، من جهة ثانية.

وعلى هذا تقدمت اللجنة المركزية باقتراح لعقد مؤتمر عام لتقرير هذه القضية. ورفض (مصالي الحاج) الاستماع إلى الوفد الثاني الذي ذهب إلى (نيورت) لبحث هذا الاقتراح. واتهمت (اللجنة المركزية) بعد ذلك (مصالي الحاج) بتهمة التواطؤ مع (مزغنة) للقيام بتحريض عمال الحزب على لجنتهم المركزية عن طريق تأليف ما أسموه (بلجنة السلامة العامة). وبعض الإجراءات الأخرى. واستجابت (اللجنة المركزية) في شهر آذار - مارس - (ولم تكن قد استعدت بعد لمواجهة انشقاق علني مع مصالي) إلى بعض مطالبه، ومنحته بعض السلطات التي طلبها.

وهنا شرع مصالي ومزغنة ومولاي مرباح في استئصال المعارضة لهم داخل الحزب عن طريق (إجراءات قهرية). وفي إعداد العدة لمؤتمر يضمن فيه أنصار مصالي لأنفسهم سلفا السيطرة عليه. ورفضت اللجنة المركزية حضور مؤتمر (هورنر) ببلجيكا. وعقدت بعد ذلك مؤتمرها في الجزائر.

ونظرت (اللجنة المركزية) بصراحة إلى الطبيعة الحقيقية لخلافها مع مصالي، وأكدت أن ما أسماه مصالي (بالإصلاحية) من جانبهم لم يكن في الحقيقة إلا (الواقعية الثورية) التي تمخ

ض

ص: 72

عنها مؤتمر عام 1953. ثم مضت (اللجنة المركزية) إلى القول: (لقد أراد مصالي أن يقاوم بالكلام العنيف وحده، وبالإثارة بقصد الإثارة، وبالتعصب والمغامرة، سياسة توطيد دعائم الحزب، وتوسيع قواته العاملة، وبناء القواعد التي لا مناص منها لتحقيق النجاح، ولترسيع نضالنا وتضخيمه، وكذلك أعمالنا التنظيمية، وإعدادنا الجدي. ومحاولاتنا إيجاد وحدة صحيحة لجميع القوى الشعبية العاملة).

وكان الصراع في الحقيقة (ناجما عن عوامل القيادة والأساليب). فمصالي يريد فرض سلطته الشخصية بينما أيدت (اللجنة المركزية) فكرة القيادة الجماعية وديموقراطية الحزب. وكان مصالي يعارض في العمل النظري الذي يستهدف إقامة عقيدة واضحة المعالم، ثابتة على أسس أكثر علمية، وتقبلا عقليا (لأنه كان يخشى أن يؤدي هذا التنظيم إلى الحد من صلاحياته). ومضت اللجنة فأعلنت أنها تؤمن (بأن النضال يجب أن يكون في سبيل مجد البلاد، لا في سبيل مجد رجل فرد) ولاحظت اللجنة بمرارة، أنه في الوقت الذي يأوي فيه مصالي الحاج إلى (برجه العالي) فإن مناضل الحزب يضحون بأنفسهم في سبيل بناء الحزب بتعبهم وجهدهم، ثم قالت:

(ومن الجوهري، أن يعلم جميع المناضلين والشعب هذه الحقائق. وأنه بات لزاما وضع حد لادعاء مصالي الغريب؛ بأنه يعتبر نفسه وحده، ندا بل ومتفوقا على الحزب كله، وعلى الشعب الجزائري كافة. ومن الواجب أن نضع حدا أيضا لفكرة استحالة الاستغناء عن إنسان فرد. ولم يشترك المنضلون في

ص: 73

الحزب لأن مصالي رئيسه؛ بل لأنه، أي الحزب، يمثل الحركة الوطنية الجزائرية الثورية).

كانت هذه الوطنية التي أيدتها (اللجنة المركزية) الآن، مغفضلة إياها على (مغامرة مصالي) لا تقوم على أساس عنصري أو ديني، بل على أساس:(إرادة الكفاح لتحقيق حرية الشعب الجزائري سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا) واتجه جناح اللجنة المركزية بعد هذا الانشقاق من جديد إلى زيادة الجهد في موضوع الوحدة، وعقد المؤتمر الوطني الجزائري. فقد شعر أعضاؤه بأن هذه الوحدة ضرورية لتأمين نضال فعال ضد فرنسا.

لم يكن الانشفاق الذي وقع من (اللجنة المركزية) لحركة أنصار الحرية والديموقراطية، وبين زعيمها (مصالي الحاج) ناجما فقط عن الخلاف الشخصي واقتراع الأغلبية، وبين الحزب والمؤتمر الوطني الجزائري، وبين السياسات والدعاية من ناحية والعمل في جميع الميادين من الناحية الأخرى. وإنما كان أيضا (صراعا بين الأجيال) ونتيجة للانفصال الواقعي بين مصالي والحركة، وهو انفصال أدى دائما إلى أن يكون عائقا في طريق نمو الحزب المضطرب واستمراره. فمصالي، زعيم الحزب ومؤسسه، يسير الآن في طريق الشيخوخة. وقد شب وشاب في عهد كانت فيه الخطب المثيرة والمظاهرات الجماهيرية، وتقديم المطالب المسرحية، هي كل ما يمكن عمله وتحقيقه عن طريق حركة

ص: 74

وطنية ناشئة، تناهض سياسة استعمارية لدولة قوية كفرنسا. أما العناصر الفتية في (اللجنة المركزية) للحزب، فقد تأثرت بحياة العمل السري، والاختفاء، التي عاشتها، وبهزيمة فرنسا في عام 1940. وبالحركات النضالية الناجحة في عدد من البلاد في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي حققت الاستقلال في مواجهة قوات متفرقة. لكن هذا الانشقاق في حركة أنصار الحريات الديمريراطية قد جزأ الحركة الوطنية الجزائرية وأبعد احتمال قيام معارضة موحدة وعملية ضد فرنسا. وعندما اندلع لهيب الثورة في الجزائر، ليلة الواحد والثلاثين من تشرين الأول - أكتربر - عام 1954، لم يكن (مصالي الحاج) - وهو (والد الوطنية الجزائرية) على علم بها. وهكذا تخطته الأحداث لأول مرة في حياته.

أصبحت المصالية (نسبة إلى مصالي الحاج) رمزا للانتهازية السياسية، فقد أقام الرجل بعد ذلك في فرنسا، وحاولت فرنسا - لاكوست وديغول من بعده - اللعب بورقته، على أنه نموذج للاعتدال السياسي. وكان وهو في منزله (في نيورت) تحت الحماية الإفرنسية، مستعدا لممارسة مثل هذا الدور، غير أن الجزائر الثائرة، وقد أهرقت سيولا من الدماء، ودفعت من أرواح أبنائها آلاف الشهداء، هذه الجزائر لم تعد مستعدة لقبول (المساومات) أو (أنصاف الحلول) فمضت في طريق الثورة لبناء مجتمع الجزائر الحرة، المالكة لمقدراتها، والسيدة لنفسها وبنفسها. ومضى (مصالي الحاج) إلى زوايا النسيان.

ص: 75

لكن ذلك لا يغير من الحقيقة الساطعة شيئا: لقد أمضى مصالي الحاج شبابه وشيبه في مقارعة الاستعمار الإفرنسي، بين السجون والمعتقلات والتشرد. وقاد الصراع المرير في أقسى الظروف. ورفع صوت الجزائر، يوم لم يكن بها من يجرأ على رفع هذا الصوت - إلا قلة حفظهم الله للجزائر وحفظ الجزائر بهم من أمثال عبد الحميد بن باديس وإخوانه في الجهاد. وليس هناك من يذكر أبدا أن (مصالي الحاج) هو أول من أطلق (الجزائر الحرة) وأول من بشر بالاستقلال والانفصال عن فرنسا - ولو بصورة قانونية دستورية وفي إطار التحالف مع فرنسا -. ويبقى لمصالي الحاج فضل في تنظيمه (لحزب الشعب الجزائري) الذي انبثق عنه تنظيم (حركة انتصار الحرية والديموقراطية) والتي كانت بدورها مهدا لنشوء التنظيم السري. الذي لم يلبث أن تطور إلى (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) لتنتهي بعد ذلك إلى (جبهة التحرير الوطني الجزائري). و (جيش التحرير الوطني الجزائري) وهما التنظيمان السياسي والعسكري اللذان قامت عليهما الثورة، ووقع على عاتقهما بناء الجزائر الحديثة.

ص: 76