المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مصطفى بن بولعيد - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٨

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ مصطفى بن بولعيد

الآخرون، والاخلاص المطلق لقضية الجهاد والقضية الوطنية، قد وضعا حدا لكل انحراف نحو انتحال السلطة الفردية.

عند هذه النقطة يمكن الوقوف لحظة أمام أولئك الرواد التاريحيين الذين أشعلوا فتيل الثورة. وعند هذه النقطة أيضا، تنكس الرايات، لا رايات الجزائر المجاهدة فحسب، بل رايات الحرية في العالم إجلالا لأرواح تلك الطليعة التي ستبقى أسماء أبطالها نماذج للتضحية وإنكار الذات، والدفاع عن الإسلام والعروبة في جزائر المسلمين.

لقد مضى‌

‌ مصطفى بن بولعيد

ومحمد العربي بن مهيدي وباجي مختار وبن عبد المالك رمضان وبشير شيهاني ومراد ديدوش وراشد ملا ويوسف زيروت وسودازي بوجمه، وسواهم كثير من جيل الرواد، وستبقى أسماؤهم الساحرة منارات تضيء سماء الجزائر وتشرق لها سماء الحرية. وإذا كانت الشهادة من نصيب هؤلاء، فقد كان الاستمرار في الجهاد من نصيب بقية القافلة الريادية. والتي ضمت على سبيل المثال، من سبق ذكرهم من أعضاء (اللجنة الثورية للوحدة والعمل).

1 -

مصطفى بن بولعيد: هبط من جبال الاوراس وهو يحمل معه كل شمم الجبال وشموخها، وانصرف للعمل الدؤوب، يصل الليل بالنهار حتى أمكن له جمع ثروة مالية كافية لتأسيس شركة نقل (أريس - بطنا). وظن أن الحياة قد

ص: 187

ابتسمت له بعد تجهم، وأنه بات يستطيع التمتع بالحياة بعد بؤس وشقاء. غير أن طبيعة عمله جعلته باحتكاك دائم مع مواطنيه، فكان من المحال عليه الانفصال عن آلام مواطنيه، أو الابتعاد عن معاناتهم. وجاء عيد المولد النبوي الشريف من سنة 1951 واستنارت منارات ما بقي من مساجد الإسلام في الجزائر احتفالا بهذه المناسة العظيمة. واجتمع في فناء (مسجد شممرا) الكبير أكثر من خمسمائة مجاهد، كان بينهم مصطفى ابن بولعيد، ورابح بيطاط والأخضر بن طوبال، ثم انقطع (مصطفى بن بولعيد) عن عمله، ولم يعد يراه أحد تقريبا. غير أن قدامى المجاهدين يذكرون أنه نظم اجتماعا كبيرا مماثلا، ضم المجاهدين من مختلف الطبقات، فيهم من عانى أشد أنواع البؤس والفقر وفيهم من عرف بعضا من الثراء واليسر، فيهم ابن المدينة، وفيهم ابن القرية الذي لم يعرف المدينة. واختار النخبة منهم، ووجههم للتدريب العسكري، فيما نظم البقية في خلايا سرايا كلفها بأعمال مختلفة. وكان (مصطفى بن بولعيد) خلال ذلك يتابع اتصالاته السرية، وينظم قواعد الثورة في الاوراس ويتابع تنسيق العمل مع اخوانه في (اللجنة الثورية للوحدة والعمل) حتى إذا ما أزف موعد الثورة، ذهب مودعا لمسقط رأسه (أريس)، وودع فيها ذكريات عمره، ونظر إلى أولاده النظرة الأخيرة، وهجر شركه النقل التي طالما أودع فيها كل آماله، ومضى مخلفا وراءه منزله ومكاتب شركته وما تضمه الشركة من مركبات واليات، لم يلبث أن قدمها مع كل ثروته للثورة. ووقف (مصطفى بن بولعيد)، مع الثوار وهم يطلقون

ص: 188

الرصاصات الأولى في خنشلة وسواها، ثم مضى بجمع الثوار والمجاهدين إلى القواعد المأمونة في الاوراس. وأخذ في بذل كل جهد مستطاع لتطوير الأعمال القتالية. غير أنه شعر بالحاجة للمؤن والأعتدة والأسلحة، فمضى للبحث عنها في مطلع سنة 1955؛ إذ ذاك وقع في قبضة القوات الافرنسية عندما كان قريبا من الحدود الليبية. ولكنه تمكن من الفرار من سجنة بطريقة رائعة في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - وعاد إلى ولايته ليستأنف فيها جهاده، بعد أن نجح في تأمين فرار (19) مجاهدا من المحكوم عليهم بالاعدام، ورافقهم من سجن قسنطينة إلى قاعدته في الاوراس. غير أن مرحلة جهاده لم تستمر طويلا، فقد استشهد قائد الولاية الأولى مصطفى بن بولعيد - في شهر آب - أغطس - 1956.

لقد مضى بطل الاوراس شهيدا للقاء ربه. غير أنه سيبقى أبدا البطل الرابع في نظر مجاهدي جبال الاوراس، وتظل صورته ماثلة أبدا ومعلقة دائما في كل مكان من قلب هذه الجبال، معقل الثورة الأول. ولقد منح هذا البطل للثورة كل الثروة التي جهد لجمعها طوال حياته، ووهبها كل امكاناته التنظيمية، وبدون هذه التضحيات التي قدمها مصطفى بن بوليد واخوانه، ما كان ليقدر للثورة أن تكلل بالنجاح في منطقة مثل مطقة الاوراس المهمة، والدائمة الاضطراب. وجاد (مصطفى ابن بولعيد) بعد ذلك بالروح - في سبيل قضية الإسلام والوطن - والجود بالروح أغلى غاية الجود.

ص: 189