المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ عباس فرحاتوالاتحاد الديمقراطي لأنصار البيان الجزائري - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٨

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ عباس فرحاتوالاتحاد الديمقراطي لأنصار البيان الجزائري

4 -

‌ عباس فرحات

والاتحاد الديمقراطي لأنصار البيان الجزائري

كانت الحركة الثانية التي تركت بصماتها القوية على الأحداث السياسية للجزائر، خلال فترة ما قبل الثورة (1954) هي حركة (الاتحاد الديمقراطي لأنصار البيان الجزائري) وهي الحركة التي ترتبط بدورها ارتباطا وثيقا باسم (فرحات عباس) الذي ولد في (طاهر) القريبة من قسنطينة - سنة (1899م). وهي المدينة التي اشتهرت بجهادها ضد الإفرنسيين منذ أيام (الحاج أحمد باي قسنطينة) وقاعدة (عبد الحميد بن باديس) وأخوانه من مجاهدي علماء المسلمين. وإذا كان نصيب (مصالي الحاج) من التعليم ضئيلا، فقد استطاع (عباس فرحات) نيل نصيبه من التعليم الثانوي والجامعي، وأصبح يحمل (إجازة الصيدلة). وكان خلال دراسته مبرزا في نشاطاته الاجتماعية، مما جعله (رئيسا لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين. كما كان من أنصار الأمير خالد الهاشمي - حفيد الأمير عبد القادر - وزعيم حركة (الجزائر الفتاة). وقد أثر تعليمه في المعاهد الإفرنسية - بصياغة أفكاره - فكان منساقا للبحث عن صيغة توفيقية تسمح بالاندماج مع فرنسا مع الاحتفاظ بالهوية الإسلامية وهي المقولات التي وجدت لها سوقا رائجة في الثلاثينات من هذا القرن على ساحة

ص: 77

الجزائر والتي وجدت لها تعبيرا في مقال كتبه (فرحات عباس) وجاء فيه: (

إنني لست مستعدا للموت في سبيل الوطن الجزائري، لأن هذا الوطن لا وجود له، إنني لم أكتشفه، ولقد سألت عنه التاريخ، سألت عنه الأحياء والأموات. وزرت المقابر من أجل اكتشافه، فلم أجد من كلمني عنه إطلاقا. إننا لا يجب أن نبني فوق الرمال. وإنني قد أبعدت بصفة باتة ونهائية كل خيال، لكي نربط المصير بصفة مطلقة مع الوجود الإفرنسي بهذه البلاد. إلخ

) (*).

وكما تزوج (مصالي الحاج) من شيوعية إفرنسية، فقد تزوج (فرحات عباس) من إفرنسية ولكن غير شيوعية. وكما كان (للأمير شكيب أرسلان) تأثيره على (مصالي الحاج) لإيقاظه على أصالته الإسلامية العربية، فقد كان هنا لرابطة العلماء (عبد الحميد بن باديس - وأحمد توفيق المدني) دور أساسي في تحويل تفكير فرحات عباس وانتزاعه من بؤرة تفكيره الإفرنسي وثقافته الإفرنسية لإيقاظه على حقيقته كجزائري مسلم عربي.

ويصف أحمد توفيق المدني - مقابلته الأولى، لفرحات عباس، وهو لا يزال في بداية طريق العمل السياسي، فقال: (ذهبت لمقابلة - فرحات عباس - كان لا يزال في مقبل العمر، طويل القامة، أسمر اللون، يضع على رأسه غطاء من نوع - الكولباك - الروسي الأسود الرفيع، وقد جلس جلسة المعتز بنفسه، المعتمد على قوته، الشاعر بمسؤوليته. وبعد تحية بسيطة،

(*) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) 2/ 61/ و57 - 60 و63 - 64.

ص: 78

جلست إليه، فبادرني قائلا، بلسان فرنسي فصيح، ولم يكن يتكلم العربية إطلاقا: أنا مسرور جدا بالتحدث إلى رجل مؤمن مقتنع، قاوم الاستعمار بشدة وصلابة. فتغلب عليه الاستعمار، وأخرجه من البلاد (*). قلت: وأنا سعيد بالتعرف على هذا الشاب النابه الذي أمعن في فضح الاستعمار، وبين آلام الشعب، وأفصح عن ظلامته: إننا تتبعنا ونحن بتونس مقالات (كمال بن سراج) وعلمنا أنك أنت كاتبها. وأبانت لنا الطريق عما خفي عنا من أساليب الاستعمار وظلمه وجبروته. والآن، ونحن هنا، يمكن أن نربط بين طرفي الحبل وأن نوحد الجهود من أجل تحطيم هذا العدوان الاستعماري البشع، ولكي نضع أسس الدولة الجديدة الحرة بالشمال الأفريقي. وقال - عباس فرحات - أما أنتم بتونس فلكم الحق في تكوين الحركة الملية، وفي محاولة إقامة الدولة المستقلة على أنقاض نظام الحماية الذي أصبح نظاما استعماريا كامل الأركان. أما نحن في الأرض الجزائرية، فوضعيتنا تختلف. إن فرنسا ملكت البلاد بقوة السلاح وقتل المدافعين الأحرار، وتشريد بقايا الشعب شذر مذر. فتفكير الطبقة المتنورة بالجزائر هو غير تفكير الطبقة المتنورة التونسية. نحن هنا لا نستطيع إطلاقا محاربة فرنسا، إلا بواسطة قوانينها، وداخل إطاراتها، فكفاحنا وقد ابتدأ ولن ينتهي قريبا، يرتكز على دعامتين أساسيتين: الأولى: فضح

(*) من المعروف أن الشيخ المدني هو في الأصل جزائري، ارتحل أهله في سنة 1870 إلى تونس. وفيها ولد - المدني - لم أبعد إلى الجزائر.

ص: 79

الاستعمار أبشع فضيحة، وبيان أساليبه واستهتاره بالقيم الإنسانية، وإبلاغ الرأي العام العالمي والإفرنسي ما يقاسيه هذا الشعب المسكين من آلام لم يتحملها شعب قبله ونرجو أن لا يتحملها شعب بعده. والثانية: إرغام فرنسا، بالحجة والبرهان على تطبيق قوانينها التي تقول بأن الجزائر قطعة من فرنسا، وأن الجزائري فرنسي قانونا، وذلك يوجب إلغاء كل القوانين الاستثنائية الخاصة بالأهالي، ويجب إعطاءنا كل حقوق المواطنة الإفرنسية. وبذلك نصبح سعداء مثل بقية المواطنين الإفرنسيين، لا حيف ولا ظلم ولا إرهاق، ونشارك على بساط التساوي في كل المجالس البلدية والعمالية والمالية، ومجلس الأمة لباريس.

وأجابه (أحمد توفيق المدني) بقوله: أنا معك في المرحلة الأولى من غير احتراز. أما في المرحلة الثانية، فلا أكتمك أنني على عكس نظريتك. أنا أتصور الجزائر حرة مستقلة، دولة إسلامية عربية على غرار ما قاله مصطفى كامل عن مصر: أحرار في بلادنا، كرماء لضيوفنا، مرتبطة إرتباطا عضويا مع تونس والمغرب الأقصى. وثيقة الصلة ببقية البلاد العربية.

وقال (عباس فرحات) عندها: أقول لك بصراحة مع احترام رأيك، أنني رجل واقعي لا أسير مع الخيال، ولا أتتبع الطرق المسدودة ولست مؤمنا إطلاقا بوجود شعب جزائري تواق للحرية والاستقلال، وليست لنا أمجاد تاريخية تفادينا من وراء الدهور، أو تربط بين حاضرنا وماضينا.

ص: 80

ورد عليه المدني - في شبه حدة: إنك تعلمت في فرنسا، أو في مدارسها بالجزائر، ولم تقرأ إلا كتبها المدلسة، ولم تطلع إلا على آدابها السخيفة الإباحية، ولم تختلط إلا برجالها الذين احتلوا أرضك، وامتهنوا أهلك، واستعبدوا شعبك. الجزائر أمة قائمة الذات، لها تاريخها الحافل، ورجالها الأبطال البواسل، وقد عطرت الدنيا بذكر جهادها المجيد، من أيام يوغورطا وماسينا إلى عبد القادر والمقراني. وإنك إن ناديت بالإفرنسية والتفرنس والذوبان في بوتقة الغالب، وهو أمر من المحال تحقيقه، فإنك لن تسير طويلا، وستجد نفسك ومن التف حولك من شبان هذه الحركة وحيدين، تعملون لغير غاية وتسيرون إلى غير هدف. إن هذا الشعب الجزائري لا يريد إلا السير على طريق الشرف والبطولة، التي توصله إلى مركز القوة والاستقلال بالحكم. وإنني أرى إنه ربما اتبعك اليوم، ما دمت تصرخ بآماله، وتفرج كربته بكشف ظالميه. أما متى تجاوزت ذلك، وسرت قدما في طريق الاندماج والذوبان، انفض من حولك، وتركك مع قلة قليلة من أمثالك.

وافترق الرجلان - على غير رضى - غير أن المعركة لم تتوقف، فقد أوعز الشيخ بن باديس إلى أحمد توفيق المدني بكتابة رد على مقولة (التفرنس). (والاندماج) نشرها في (الشهاب) على مسؤوليته - حتى حسب البعض إنها من كتابة - ابن باديس رحمه الله، وكانت المقولة تحت عنوان (كلمة صريحة) وجاء فيها: (.. إننا نعيش حقا في وسط سادت فيه الفوضى من جميع جهاته، فمن فوضى في الدين إلى فوضى في الأخلاق إلى فوضى

ص: 81

في الاقتصاد. وزادتنا الأيام على كل ذلك فوضى جديدة ربما كانت أخطر الفوضات، وأشدها تأثيرا على حياة الأمة، ألا وهي فوضى التكلم باسم الأمة. فما من متكلم اليوم، وفي أي مناسبة من المناسبات، إلا ورفع عقيرته مدعيا بأنه يمثل الأمة الإسلامية قاطبة في هذه البلاد. وأن الكلمات التي يقولها من عند نفسه إنما هي كلمة الأمة الحق، وقولها الفصل. ولو إنهم اقتصدوا في القول، ولم يلجوا باب الغلو والإسراف وقالوا إننا نتكلم باسم الفريق الذي انتخبنا أو باسم الهيئة التي ننتمي إليها، أو باسم الجماعة التي نحن منها، أو باسم الذين شاركوننا في الرأي والتفكير، لكان قولهم أصوب، ورأيهم أصلح، وكلامهم أقرب إلى نفوس السامعين من رجال الحكومة ومن رجال الشعب.

إننا نتكلم اليوم حول هذا الوضوع إثر ما رأيناه من الحملة التي أجمعت الأمة على مجابهتها، في إثر اجتماع اللجنة الوزارية الإسلامية بباريس.

لقد قال البعض من النواب المحليين، ومن الأعيان، ومن كبار الموظفين بهذه البلاد: إن الأمة الإسلامية الجزائرية مجمعة على اعتبار نفسها أمة فرنسية بحتة، لا وطن لها إلا الوطن الإفرنسي، ولا غاية لها إلا الاندماج الفعلي التام في فرنسا، ولا أمل لها في تحقيق هذه الرغبة، إلا بأن تمد فرنسا يدها بكل سرعة، فتلغي جميع ما يحول دون تحقيق هذا الاندماج التام. بل لقد قال أحد النواب النابهين، أنه فتش عن القومية الجزائرية في

ص: 82

بطون التاريخ فلم يعش على خبر. وأخيرا! أشرقت عليه أنوار التجلي فإذا به يصيح: فرنسا هي أنا! حقا إن كل شيء يرتقي في هذا العالم ويتطور، حتى التصوف. فبالأمس، كان يقول أحد كبار المتصوفين الجزائريين - وهو الشيخ أحمد بن عليوه المستغانمي

(وهو صوفي منحرف):

فتشت عليك يا الله

وجدت روحي أنا الله

واليوم يقول المتصوف في السياسة:

فتشت عليك يا فرنسا

وجدت روحي أنا فرنسا

فمن الذي يستطيع بعد اليوم أن ينكر قدرة الجزائري العصري على التطور والاختراع؟ إن هؤلاء المتكلمين باسم (المسلمين الجزائريين) والذين يصورون الرأي العام الإسلامي الجزائري بهذه الصورة، إنما هم مخطؤون، يصورون الأمور بغير صورتها، ويوشكون أن يوجدوا حفيرا عميقا بين الحقيقة، وبين الذي يجب أن يعرفها. فهم في واد، والأمة في واد

لا يا سادتي! نحن نتكلم باسم قسم عظيم من الأمة، بل ندعي أننا نتكلم باسم أغلبية الأمة. ونقول لكم، ولكل من يريد أن يسمعنا، ولكل من يجب عليه أن يسمعنا، إن أراد أن يعرف الحقائق، ولا يختفي وراء آكام الخيال: نقول لكم إنكم من هذه الناحية لا تمثلوننا، ولا تتكلمون باسمنا، ولا تعبرون عن شعورنا وإحساسنا. إننا نحن فتشنا في صحف التاريخ،

ص: 83

وفتشنا في الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمة الجزائرية المسلمة موجودة، كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا. ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينية واللغوية. ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها بما فيها من حسن ومن قبيح، شأن كل أمة في الدنيا. ثم إن هذه الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا. ولا تريد أن تصير فرنسا. ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها وفي أخلاقها وفي دينها.

لا تريد أن تندمج ولها وطن معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحاية المعروفة).

كان ذلك عاملا أساسيا وحاسما في تحول (عباس فرحات) وإزالة الغشاوة التي أسدلتها على أبصاره نشأته في المدارس الإفرنسية، ومعايشته للوسط الإفرنسي. أما العاملان الأساسيان الآخران فهما: التصاقه ببيئته الجزائرية الأصلية (بيئة الفلاحين) في (شرق الجزائر) وأخطاء، أو جرائم، السياسات الإفرنسية ذاتها. وهو الأمر الذي أوضحه فرحات عباس ذاته بقوله (*):

(إنني أنتسب بالفعل إلى فئة الفلاحين، ولم يكن إلا من قبيل المصادفة تولي والدي وأشقائي الوظائف العامة، لقد نشأت في وسط الفلاحين، أولئك الفلاحين الجبليين الذين لم ينل البؤس من شجاعتهم وأنفتهم وكبريائهم. لقد قضيت سني

(*) ليل الاستعمار (فرحات عباس) إصدار جوليارد ص 107 - 113 (في ترجة وليم خوري ص 137 - 145).

ص: 84

حداثتي وسط هذه الفئة من الناس المتواضعين الصلبين الكرماء، وإذ نشأت في ناحية (دوار) تابع لمجمع مختلط (كومون ميكست) بعيد عن المدينة، غير موروث، وكان من المحال علي أن أنفصل عن أولئك الفلاحين ولم يكن تضامني مع الفلاحين هو تضامن محبة وتعاطف، بل هو تضامن في العيش والحياة إلى حد ما، فقد نشأت بينهم وأصبحت شابا وأنا معهم، لذلك صرت أعرف آلامهم وأدرك مصدر شقائهم وبؤسهم مما كان يثير حزني. إنني لست ابن مهاجر، مثل بعض رفاقي في المدرسة، إذ أن أسرتي لم تأت من مالطا أو فرنسا أو غيرهما إلى الجزائر بحثا عن الثروة. إن الأجيال لا حساب لها بالنسبة لذوي، لأنهم ملك الأرض الجزائرية. فالجزائر لهم كما أنهم ملك لها، هم متعلقون بأرضها سواء كانوا فقراء أم أثرياء، وهم في أيامنا هذه، عندما يهاجرون هربا من الجوع، يعودون حتما إليها ليموتوا فيها.

إن عملية احتلال الجزائر هي قضية معروفة - لكنني سأسرد هنا بإيجاز كيف جرت الأمور بالنسبة لأفراد قبيلتي. لقد قام العقيد - الكولونيل سان أرنو - عام 1851 في زحفه من قسنطينة إلى (جيجل) بإحراق محاصيلهم وقراهم. وقطع أشجارهم المثمرة، ونهب مواشيهم، فقضى على كل مقاومة عندهم. ثم عادوا فاستأنفوا حمل السلاح عام 1871 تلبية لنداء مقراني والحداد، فغلبوا على أمرهم من جديد، وهجروا من أراضيهم، وطردوا إلى أرض صخرية بين نجود التل العليا عند أطراف مديرية (فج مزالا). وقد أنشىء في مناطقهم خمسة مراكز للتوطين هي جيجل ودوكسين واستراسبورغ وطاهر وشفقا. وبعد

ص: 85

ذلك بسنوات عادوا يعملون كعمال في أراضي الساحل تلك التي كانت في السابق أراضيهم، أما المجدودون منهم، فقد تمكنوا من شراء قطعة صغيرة أقاموا فيها مساكن لهم. وكان والدي من بين هؤلاء، أما الباقون فقد مضوا يتنقلون من قرية إلى قرية، حسب إرادة أرباب العمل.

أما المدارس فلم يكن يوجد منها شيء لديهم، كانوا يعيشون على هامش مراكز الاستيطان الإفرنسي حيث كانوا يستخدمونهم لأنهم يتكلمون لغتهم، ولكن ما أن يصبح الأمر متعلقا بعمل إداري (عند القاضي أو المدير أو حارس المياه والغابات والجابي إلخ

) يصبح الترجمان ضروريا. وهكذا أصبحوا غرباء في وطنهم بالذات، كما بقيت القوانين الإفرنسية غير مفهومة لديهم، وانتهى الأمر أخيرا بأن جردوا من القليل الذي أبقاه لهم النظام الاستعماري. وقد سبق أن رأينا أن هذا الشقاء كان من نصيب شعب بأكمله، كما أن بؤسه الفظيع كانت نتيجة صدام بين الشرق والغرب، شرق مغلوب مسلوب ومجبر على الصمت، وغرب طامع عنيف متوحش. ومن طبيعتي أنني أكره العنف، وأكره أكثر منه الظلم، الناجم عن شراهة الفئات المتخمة. وتزداد بشاعة الظلم في الجزائر بقدر زيادة عمق جذوره. ومن العبث إلقاء تبعات هذا الظلم على الإفرنسي الشرير، ونبرىء منه الإفرنسي الطيب. فالمسؤولية هنا جماعية مشتركة، وهي نتيجة نظام، وثمرة مفاهيم خاطئة. ويقال أن الإنسان هو الذي يضع النظم، ويصح أيضا أن نقول بأن النظم تضع الإنسان، إن فرنسيي الجزائر لم يكونوا

ص: 86

جميعهم في البدء أشرارا، ولكنه النظام الاستعماري الذي تطبقه البورجوازية الإفرنسية هو الذي جعلهم على ما هم عليه الآن. وليس من استعمار في العالم يعادل في ظلمه الاستعمار الإفرنسي في الجزائر. إذ لم يخطر في بال أي نظام استعماري أن يفني الشعب المغلوب بمثل الصفاقة والوحشية التي جرى عليها الاستعمار الإفرنسي، ولما لم يتمكن من تحقيق هذا الهدف، رأى أنه من المهارة وضع الشعب الجزائري في السجن بواسطة صيغ قانونية كاذبة خادعة - وعلى سبيل المثال - فعندما يعلن الجزائري أنه عربي، يجيبه المشرعون الإفرنسيون (كلا إنك إفرنسي) وعندما يطالب بحقوق الإفرنسيين يجيبه المشرعون أنفسهم:(كلا إنك عربي). لذلك كان على الجزائريين استنكار مثل هذا النظام، وكان عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم ليعلنوا موقفهم، وهم في الواقع لم ينقطعوا أبدا عن الاحتجاج والدفاع، وكان ذلك في الدرجة الأولى أمام الديموقراطيين الإفرنسيين أنفسهم. وهذا هو السبب الذي من أجله أصر جيلنا والأجيال التي سبقته على اللجوء إلى فرنسا الجمهورية والحرة ضد فرنسا الاستعمارية الطاغية. وكانت هذه الأجيال تعتقد بأنه يكفي أن توضح لفرنسا الأولى التناقضات التي كانت سببا في شقاء الشعب الجزائري حتى تضع حدا لها. وإذا كان جيلنا قد رفض مبدأ (العنصر المتفوق) و (العنصر المتدني) على أنه مبدأ خاطىء ومشين. فقد تبنى مع ذلك مبدأ العنصر الأستاذ والعنصر التلميذ، إذا اعتقد بتقدم القوانين وتطورها. وبأن الجزائر الجديدة ستولد عن طريق المدرسة والخبرة الفنية الحديثة. وبأن

ص: 87

نظام العقل والذكاء هو مدخل الحرية. وبأن تحالفا يقوم بين الشبيبة الجزائرية والأحرار الإفرنسيين يمكنه أن يؤدي تدريجيا إلى تحقيق الديموقراطية الحقيقية.

جاءت مسيرة الأحداث لتؤكد لنا أن الأمور ليست على مثل هذه الدرجة من البساطة، فالرأسمالية والاستعمار مرتبطان برباط واحد لا يمكن فصله - أو حله. كانت الرأسمالية تعمل في باريس، وكان الاستعمار يعمل في الجزائر. ولم يكن بالمستطاع التعرض بالهجوم على أحدهما دون مهاجمة الآخر. على عكس ما تصورت بادىء ذي بدء. فإن وجود (بروليتاريا) ثورية واحدة، ووجود أحرار في فرنسا لم يكن ليغير شيئا في المعطيات الرئيسية للمشكلة الاستعمارية. إذ بقيت هذه المشكلة بالرغم من كل الدعايات، مشروعا عنصريا للسيطرة والاستغلال.

عندما ولدت كان تجريد الجزائريين من ممتلكاتهم قد تحول إلى حقيقة واقعة. وكان النظام الاستعماري مهيمنا على الجزائر. وكان الجزائريون يعيشون في فقر يصعب وصفه. وهم يجاولون تضميد جراحهم والإفلات من قبضة الفناء المادي والانحلال المعنوي، وكان الفلاحون يتشبثون بالأرض بشكل يائس، ويئنون تحت عبء البؤس والاضطهاد، ويشاهدون وهم عاجزون، عالما بأكمله، يتألم ويموت، وهذا العالم هو عالمهم. وقد خلف السلم دون عدل، ألما كبيرا، لوجود دون سعادة. وحيال عدم الثقة بالغد، كان الأبناء يخلفون الآباء بنسبة عالية من الولادات والوفيات، كان الشقاء يقرع الأبواب غالبا، وكان الفلاح

ص: 88

الجزائري يستقبل هذا الشقاء، من أي جهة جاءه، بذات الدعاء: لنصبر، فهذا كله من عند الله. فلنصبر!! ولم يكن ذلك الصبر يعني الاستسلام الأبله، وإني في موقف يسمح لي بأن أعرف ذلك حق المعرفة، لقد كان هذا الصبر حيال ذلك الشقاء المقابل الوحيد الذي وجده الفلاح ضد اليأس. لقد كان هذا الفلاح يأمل دائما باستعادة حقله، يتملكه في ذلك حبه للأرض وحماسته لها. وكان يكافح الاستعمار بوسائله الخاصة، دونما سند ولا دعم ولا تدريب، وإذا كان يمزج كفاحه أحيانا ببعض العنف، فذلك لأن استخدام وسيلة العنف باتت عادة مستحكمة من عادات الاستعمار. ولم يكن هذا الفلاح، روتينيا جامدا، ذلك أنه بمجرد أن يتوفر له الحظ بالحصول على ملكية متوسطة، كان همه الأول أن يتكيف مع متطلبات الحضارة الفنية التي لم يكن باستطاعته أن ينكر قيمتها، فكان على غرار المستوطن الذي أصبح جاره يدخل في استثماره الزراعي الأساليب الحديثة (*).

(*) ولكنه بعكس المستوطنفين لم يكن ينتفع إلا بمساعدة هزيلة مضحكة فالمصارف الزراعية وبيوتات المال التابعة للمستوطنين، كانت تستولي على مجمل القروض الزراعية تقريبا. ونذكر مثالا واحدا بهذا الشأن في عام 1953، كانت الجزائر تقدم سلفا قيمتها (42) مليار فرنك للمصارف الزراعية. وكانت تخصص هذه المبالغ للمستوطنين وعددهم (21) ألفا من المستوطنين المزارعين. بينما تقدم مليارن فقط للجمعيات الزراعية الجزائرية التي تضم أكثر من مليون فلاح جزائري.

ص: 89

ولكن الجزائريين، على النطاق الاجتماعي والأخلاقي، وسواء أكانوا أغنياء أو فقراء، كانوا متشبثين بتصميم وعناد بحضارتهم المتوارثة عن الأجداد، وبلغتهم القومية، وتقاليدهم الأصيلة، وسواء تخرجوا من المدارس الإفرنسية أو المدارس العربية، أو في أقاصي النواحي - الدوارات - كانوا جميعا يشعرون بالحاجة إلى احترام، إرث الأجداد والمحافظة عليه. لقد حافظوا وهم بمواجهة مجتمع أوروبي معتد، حافظوا على العزة والقوة اللتين يوحي بهما إليهم انتسابهم إلى الشعب المضطهد، الشعب العربي الجزائري. وكانوا يواجهون إزدراء الأوروبيين لهم بإزدراء مماثل، وباحتقار من هم واثقون من حقهم الصريح. لقد رفضوا بقوة وصلابة خرافة التفوق العنصري التي أراد النظام الاستعماري أن يفرضها عليهم.

كانوا يعلمون أن المستوطن، سواء كان إفرنسيا أو إيطاليا أو إسبانيا، لم يكن متفوقا عليهم، كانوا ينحنون بالتأكيد تحت ثقل الضغط والقوة، ولكنهم كانوا يرفضون أن يتراموا كالكلاب.

أما الإمبريالية الاستعمارية، فقد كانوا على ثقة من زوالها يوما ما بوسيلة أو بأخرى. فالبيت الذي لا أساس له، سينهار عاجلا أم آجلا. أما مؤقتا، فإن الظلم مهما كان الرداء الذي يرتديه، فيبقى ظلما، ومهما ثقل هذا الظلم عليهم، فإنه سيبقى معه شعلة الثورة، وأمل تحرر أكيد).

تلك هي الصورة العامة لإنسان الجزائر كما رسمتها ريشة

ص: 90

(فرحات عباس) في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين. ففي هذا العقد، كان (مصالي الحاج) قد أخذ في فرض وجوده على المسرح السياسي للجزائر، وكانت طلباته ومقترحاته تعتبر (متطرفة) و (غير واقعية) من وجهة نظر الاستعمار الإفرنسي. ومقابل ذلك فإن الإصلاحات التي بدأب رابطة (علماء المسلمين الجزائريين) بقيادة عبد الحميد بن باديس لم تكن قد أخذت أبعادها للتأثير على التيار العام، وبصورة خاصة على هذه الفئة من (المستغربين) أو (المتفرنسين) وهي الفئة التي وجدت في صيدلي (سطيف) الشاب فرحات عباس - ممثلا لها وناطقا باسمها. وعلى هذا لم يكن من الغريب أن يندفع (فرحات عباس) بكل ما في الشباب من اندفاع وحماسة، ليكتب في كتابه (الجزائر الفتاة) والذي نشره سنة 1931 ما يلي:

(

إن الجزائر أرض إفرنسية، ونحن إفرنسيون، لنا قانوننا الشخصي الإسلامي). وقد أعربت نظريته عن التطور من (مستعمرة إلى مقاطعة) أصدق التعبير عن الرغبات الاندماجية عند فريق المستغربين. وللوصول إلى هذا الهدف، كان لابد من انتهاء عهد الاستعمار والاستيطان، فكتب عباس فرحات يقول:(ليس هناك في الفرآن الكريم ما يمنع الجزائري المسلم من أن يكون إفرنسي الجنسية، قوي السلاح، حاضر الجنان، داعيا للتضامن الوطني. ولا شيء يمنع ذلك إلا الاستعمار).

ألف الفريق الذي كان يمثل الجزائريين في الهيئات والمجالس المحلية المنتخبة في عام (1930) اتحادا للمنتخبين

ص: 91

المسلمين بزعامة الدكتور (ابن جلول) الذي كان يرأس جماعة قسنطينة. وكان الهدف الأساسي لهذا الاتحاد المختلف الأشكال والصور، الدمج التدريجي للنخبة المتعلمة من الجزائريين في الحياة الإفرنسية، وتحسين أحوال جميع الجزائريين (*). وفي عام 1935، ألقى (فرحات عباس) خطابا باسم الاتحاد، بحضور وزير الداخلية الإفرنسي - رينيه - الذي كان يزور الجزائر آنذاك فقال:(لم يبق هناك في هذه البلاد شيء إلا الاتفاق على سياسة الإدماج، وذوبان العنصر المحلي في المجتمع الإفرنسي) وأوضح عباس موقفه بصورة أكثر جلاء في العام التالي، عندما أصدر بيانا قال فيه:

(نحن الأصدقاء السياسيين للدكتور بن جلول، سنصبح من القوميين. وهذا الاتهام ليس بالأمر الجديد. فقد تحدثت إلى شخصيات متعددة حول هذا الموضوع. أما رأيي فمعروف تماما. فالإحساس القومي هو ذلك الشعور الذي يدفع بشعب ما إلى العيش داخل حدوده الإقليمية، بل هو الشعور الذي خلق هذا العدد من الأمم. ولو كنت قد اكتشفت الأمة الجزائرية، لغدوت إنسانا قوميا. ولن أخجل آنذاك من هذه الجريمة. فالرجال الذين

(*) حاول الاتحاد الحصول على تمثيل أوسع للجزائريين في جميع المجالس الجزائرية المنتخبة، وعلى معاملة متساوية في الخدمة العسكرية. وإنهاء عهد المحاكم الخاصة (الاستثنائية) وإصلاح أنظمة الغابات والأحراج، وإلغاء الغرامات الإجماعية وتوسيع التعليم، وتحسين الأوضاع الزراعية في الأرياف، وحرية الدين، ورفع أجور العمال الجزائريين.

ص: 92

يموتون دفاعا عن فكرة وطنية، يجلون ويحترمون أبلغ الاحترام. وليست حياتي بأغلى أو أثمن من حياتهم

إنه ليس بوسع إنسان أن يقيم بناء على الرمال. وقد بددنا مرة وإلى الأبد، جميع الضباب والخيالات، لنربط إلى الأبد بين مستقبلنا ومستقبل ما تحققه فرنسا في هذه البلاد، ولا أرى إنسانا يؤمن إيمانا جديا بقوميتنا. أما ما نريد أن نحارب من أجله فهو تحررنا السياسي والاقتصادي

فبدون هذا التحرر للمواطن الجزائري، لن يكون هناك جزائر إفرنسية تستطيع البقاء إلى الأبد

).

حصل (اتحاد المنتخبين المسلمين) هذا على دعم كل الشخصيات المشتركة في الاتحاد والتي تعمل على (الدمج) كما لقيت هذه الجماعة دعما من (الجبهة الشعبية الإفرنسية) التي انتصرت في الانتخابات الإفرنسية سنة 1936، واستحوذت على الحكم فيها. غير أن اتحاد المنتخبين المسلمين فشل في الحصول على تأييد لاقتراحاته الإصلاحية. وكانت ردود فعل الدكتور بن جلول وجماعته عنيفة في مجابهة هذا الفشل، فقام (بن جلول) في الهجوم على الإدارة الإفرنسية هجوما عنيفا في سنة 1937، ودعا جميع المنتخبين الجزائريين إلى الاستقالة إذا لم تستجب الإدارة الإفرنسية لهذه الإصلاحات (التي عرفت باسم اقتراح بلوم - فيوليت سبقت الإشارة إليها). ولبى نحوا من ثلاثة آلاف جزائري في منطقة قسنطينة النداء، فغادروا مكاتبهم، لكن الاستجابة كانت ضعيفة في المناطق الأخرى. وعاد المنتخبون الجزائريون إلى مراكزهم في كانون الثاني (يناير) عام 1938. بعد أن تلقوا تأكيدات بأن اقتراحات (بلوم - فيوليت) ستبحث في

ص: 93

البرلمان الإفرنسي. ولا ريب في أن فشل هذا البرلمان في إقرار المشروع، كان نقطة تحول في تفكير الكثيرين من الجزائريين المعتدلين. وأدرك فرحات عباس أن الجزائريين أضعف من أن يقاوموا الاستعماريين في كل من باريس والجزائر في وقت واحد. وكان قد اعتمد على تأييد فرنسا نفسها في مطالبه للمساواة في المعاملة. ولكن أمله خاب الآن حتى في أكثر الإفرنسيين تقدما وحرية فكر. ووصف فرحات عباس، الصراع في هذه الفترة بما يلي:

(عندما جرت المعركة الانتخاية لتجديد المجالس البلدية لعام 1935. رافقتها اشباكات في قسنطينة وبجاية وسطيف. فقامت الشرطة بإطلاق النار على الجماهير في بسكرة خصوصا حيث كانت الشرطة تحت أمرة عمدة فاشي يدير أحد المصارف. وعملت الإدارة الإفرنسية التي كانت خاضعة خضوعا تاما لسلطة الإقطاعيين من المستوطنين، على حماية المجرمين، وأطلقت أيديهم في أعمال القمع والاعتقال، وتم إغلاق المقاهي، وتقديم أساتذة اللغة العربية للمحاكمة. وتسريح الموظفين ممن كانوا يتعاطفون مع الحركة، وعملت الإدارة الإفرنسية على تدمير التجار والمزارعين عن طريق الغرامات المالية الباهظة التي فرضت عليهم، كما ألغت القروض الزراعية للفلاحين. الخ

ثم طالب اتحاد العمد الفاشيين بأن يرسل إلى الجزائر فصائل القناصة، وأن تسحب منها سرايا الرماة الجزائريين لاستبدالها بقوات زنجية. كما طالب هذا الاتحاد بتوقيف

ص: 94

المحرضين، وتكوين الحرس السيار أما المحرضون فلم يكونوا سوى المنتخبين العرب الذين كانوا يطالبون بالمساواة في الحقوق في جمهورية كانت تعلن عن نفسها:(بأنها تشكل مع الجزائر وحدة لا تتجزأ)، وعلى أثر ذلك، توجه المنتخبون المسلمون بنداءاتهم إلى الأحرار الإفرنسيين، وإلى رئيس الجمهورية ووزير الداخلية، كما وجه (موريس فيوليت) الذي كان عضوا في مجلس الشيوخ، استجوابا إلى الحكومة، وألقى بيانا رائعا عن الموقف في الجزائر. ولكن النصر كان إلى جانب الحزب الاستعماري - كما هي العادة - ولمواجهة المناقشة في هذا الموضوع، زار الجزائر وزير الداخلية الإفرنسي - مارسيل رينيه - وتأثر كثيرا لبؤس الشعب الجزائري، وعدالة مطالبه، غير أن هذا التأثر لم يمتعه من إصدار القرار الذي حمل اسمه - قرار رينيه - والذي دعم فيه سلطة أجهزة القمع ضد الشعب الجزائري. أما الإصلاحات، فلم تكن موضع بحث الوزير الهمام.

لم تنجح وسائل القمع في إيقاف نشاط (اتحاد المنتخبين المسلمين). الذي دعا في سنة 1936 إلى إقامة تجمع في كل أنحاء الجزائر أطلق عليه اسم (المؤتمر الإسلامي) وضم المنتخبين والعلماء والاشتراكيين والشيوعيين والمحاربين القدماء والفلاحين. وتم وضع ميثاقا يتضمن المطالب الأساسية (*). وجاءت لجنة

(*) طالب المؤتمر بإنهاء جميع القوانين الخاصة - الاستثنائية - المفروضة على الجزائريين، وإعادة تنظيم العلاقات الإفرنسية - الجزائرية. والمحافظة على قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، وفصل الدين =

ص: 95

تحقيق برلمانية إلى الجزائر - في آذار (مارس) 1937 بهدف دراسة وضع الوطنيين الجزائريين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وأيدت اللجنة عدالة المطالب الجزائرية. غير أن الاستعماريين كانوا يطرحون القضية على صعيد آخر، فكانوا يعترضون على المطالب الجزائرية بقولهم:(إن الجزائريين المسلمين هم جميعا قوميون وأعداء، فإذا منحتهم فرنسا المساواة في الحقوق، فستطرد من الجزائر، لذلك يجب أن تبقى سيادة الأوروبي وأفضليته قاعدة ثابتة). وهكذا انطلقت حملة عنيفة في الصحف ضد مسلمي الجزائر - في باريس والجزائر معا - وكان يغذي هذه الحملة ويمولها ويوجهها آل مورينو، وديرو، وبروجو، وسيكار - وفشل مشروع الإصلاح، وتراجعت حكومة الجبهة الشعبية اليسارية، كما تراجعت من قبلها الحكومات اليمينية.

لقد قابلت في العام 1937 - ولا زال الحديث للزعيم فرحات عباس - الرئيس (ألبير سارو) الذي كان يشغل في تلك الفترة منصب وزير الداخلية، وبينت له عدالة مطالبنا. وإذ ذاك اعترف الوزير المذكور - متأثرا بحججي، بأنه عاجز أمام خصومه الاستعماريين - وقال لي:

(لقد استقبلت هنا النواب الجزائريين - نواب المستوطنين

= عن الدولة، وحرية التعلم باللغة العربية، وحرية الصحافة - التعبير - والتساوي مع الإفرنسيين في الأجور والرواتب، ومساعدة الفلاحين، وإجراء الانتخابات على درجة واحدة. (الجزائر الثاثرة - تعريب خيري حماد - ص 69).

ص: 96

- وبحثت معهم مشروع الإصلاح - مشروع فيوليت - والذي عرضته علي الآن، وناقشتهم لأكثر من ساعة، وحاولت إقناعهم واستثارة وطنيتهم وحكمتهم ومشاعرهم. وإني مضطر لأن أسلم بأن هؤلاء السادة، لا يحملون في أشخاصهم سوى أنبوب الهضم).

جرت الأحداث بعد ذلك متسارعة، وقام مجلس الشيوخ الإفرنسي بإسقاط حكومة الاشتراكي (ليون بلوم) لتخلفها حكومة (دالادييه) التي استقبل رئيسها وفدا جزائريا يضم ابن باديس وفرحات عباس: وقال (دالادييه) للوفد: (إن البرلمان يعارض مشروع فيوليت، ويبدو أن الجنسية الإفرنسية لا تتلاءم مع الحقوق الشخصية الإسلامية. ولا أستطيع أن أقول شيئا ضمن هذه الظروف، بل أسألكم مساعدتي في حفظ النظام. ولا تحرجوني كي أستخدم القوة المتوفرة لدى فرنسا، لأن فرنسا قوية).

ورد عليه فرحات عباس: (إن احترام حقوق الإنسان هي أفضل سلاح) أما ابن باديس الذي كان متألقا، شامخا، ففد اكتفى بأن قال للرئيس دالادييه:(القوة والعزة لله وحده. إن قضيتنا عادلة وسنستمر في الدفاع عنها حيال وضد الجميع).

وتسارعت الأحداث على ساحة الجزائر بمثل ما كانت تسير متسارعة في فرنسا. فقد انفرط عقد (اتحاد المنتخبين الجزائريين) ووقف العلماء والشيوعيون ضد المصاليين.

ص: 97

ووقع خلاف بين فرحات عباس والدكتور بن جلول، إذ خاف فرحات من سياسة بن جلول المغرقة في التساهل مع الإفرنسيين. وبقي فرحات أقرب من خصمه إلى الفلاحين الجزائريين، بينما كان بن جلول أقرب إلى الطبقة الأرستقراطية. وقام بن جلول بتأليف (التجمع الجزائري - الإفرنسي الإسلامي). ومقابل ذلك، قام فرحات عباس بتكوين (اتحاد الشعب الجزائري) بهدف (توحيد جماهير المسلمين الجزائريين مع ممثليهم المنتخبين، لكسب المعركة، والقيام بعمل جماهيري إذا اقتضى الأمر).

ثم كانت الحرب العالمية الثانية، ولما تمض أكثر من أشهر قليلة على هذه الأحداث. واجتاحت القوات الألمانية فرنسا - التي ظهر أنها لم تكن قوية إلا ضد الشعوب المستضعفة - وتبع ذلك اعتقال الرئيس (دالادييه) واضطهاد الديموقراطيين الإفرنسيين. أما في الجزائر، فقد أظهر الحاكم العام (لوبو) بادرة ذات مغزى في تموز (يوليو) 1940، حيث منع مقالا في صحيفة (صوت المستوطن) لأن هذا المقال تضمن العبارة التالية:(لقد ارتكبت فرنسا أخطاء، وعليها أن تدفع الثمن وحدها، إذ لسنا ملزمين بتحمل نتائج هذه الأخطاء). وراح أسياد (الجزائر الإفرنسية) يستقبلون بزجاجات الشمبانيا ضباط رجال لجان الهدنة الألمان، في الفنادق، وفي فيلاتهم الفخمة، وممتلكاتهم، وأخذ أكثرهم نفوذا يتعامل مع حكومة فيشي. كما

ص: 98

استمرت أعمالهم في الازدهار. كانت الأمور عندهم على خير ما يرام - وسط الهزيمة - ما دام المستوطن لا يزال سيد الجزائر (*).

انهارت هيبة فرسا، نتيجة الهزيمة التي نزلت بها في سنة 1940. وأدى تعاون الكثيرين من المستوطنين مع نظام فيشي الموالي للنازيين في فرنسا إلى قيام أعمال العنف ضد مسلمي الجزائر بصورة خاصة، وضد اليهود أيضا. وأدى ذهاب الجزائريين إلى الحرب للدفاع عن فرنسا إلى تدمير الإنتاج. وزاد من الصعوبات الاقتصادية التي عاشتها الجزائر في سنوات الحرب ما حدث من انحباس الأمطار في بعض السنوات، ووقوع سيول وفيضانات في سنوات أخرى. وخلال ذلك كانت الدعاية النازية، والخلافات بين سياسة فرنسا وقادتها العسكريين، إلى انهيار ما بقي من هيبة لفرنسا في أنظار الجزائريين. ثم جاء ميثاق حلف الأطلسي، وتعاظم قوة الحلفاء ليشكل حافزا جديدا في دفع الجزائريين لتفكير بمسقبلهم على أسس جديدة. وتحولت السجون والمعتقلات التي أقامها النازيون وأنصارهم من الفيشيين في الجزائر إلى مدارس سياسية، تبلورت فيها النويات الأولى للتنظيمات السرية. وأدى إقبال حكومة فيشي على اتباع أسلوب (تمجيد عظمة فرنسا المسيحية) إلى دفع المعتدلين الجزائريين وفي طليعتهم - عباس فرحات - إلى الوقوف صراحة في صفوف

(*) ليل الاستعمار - فرحات عباس - ترجمة وليم خوري ص: 164 - 173.

ص: 99

(الجبهة الإسلامية). وأدت النداءات التي كان يوجهها الجنرال ديغول من لندن، طالبا مقاومة حكومة فيشي، إلى استجابة الكثيرين من الجزائريين للمقاومة.

نزلت القوات الأنكلو - أمريكية على أرض الجزائر يوم 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1942، فيما كانت إذاعات لندن وموسكو وواشنطن تكثر نداءاتها لصالح حرية الإنسان، والمساواة بين الشعوب، فكانت بذلك تساهم مساهمة كبرى في إيقاظ وعي الشعوب سياسيا - لا سيما شعوب أفريقيا وآسيا الخاضعة للاستعمار. فقد أخذت الشعوب المستعمرة تدرك حقوقها، وتشعر بقوة شخصيتها، وترفع رأسها متطلعة نحو مستقبلها. ويفسر ذلك - جزئيا - حماسة أبناء الجزائر الكبرى لنزول قوات الحلفاء على أراضيهم. وكانت فرنسا الحرة - بقيادة ديغول - تحتاج لدعم كل قدرة بشرية ممكنه للإسهام بالمجهود الحربي، مما ساعد الجزائريين على بذل محاولة لطرح الشروط التي كانوا يعتبرونها مناسبة كضمان مقابل جهودهم وتضحياتهم. وقدم (فرحات عباس) مع عدد من كبار الممثلين الجزائريين المنتخبين، في كانون الثاني (يناير) 1942 سلسلة من المطالب إلى (السلطات المسؤولة). وقد رفضت هذه السلطات فورا - الرسالة الأولى - التي وجهها ممثلو الجزائر، لأن الإفرنسيين رأوا أنها وجهت إلى السلطات الأميركية وغيرها، ولأنها جعلت اشتراك

ص: 100

الجزائريين في المجهود الحربي رهنا بعقد مؤتمر جزائري عام (*). وبعد يومين قدمت صيغة أخرى معدلة بعض التعديل إلى (السلطات الإفرنسية). بعد أن حذفت منها كل إشارة تفيد بأنها إنذار نهائي. وذكرت: (أن الجزائريين بإسهامهم في المجهود الحربي، سيضمنون تحررهم السياسي ضمن إطار فرنسي). وتم في النهاية (إعلان بيان الشعب الجزائري)(**).

لقد كان إعلان بيان الشعب الجزائري، خطوة رئيسية في

(*) نصت الرسالة الأولى التي وجهت إلى السلطات المسؤولة على ما يلي: (إذا كانت هذه الحرب، كما أعلن رئيس الولايات المتحدة، حربا لتحرير الشعوب والأفراد دون تمييز في العنصر والدين، فإن الشعب الجزائري سيشترك فيها بكل ما لديه من قوة، ويقدم كل ما يستطيع من تضحيات لهذا الكفاح التحرري. ويستطيع الشعب الجزائري بهذه الطريقة أن يحقق تحرره السياسي، في نفس الوقت الذي يتم فيه تحرير فرنسا. ولكن من المناسب أن يذكر موقعو هذه الرسالة أن الشعب الذي يمثلونه محروم من الحريات الأساسية والحقوق التي يتمتع بها المقيمون الآخرون في هذه البلاد، على الرغم من التضحيات التي وافقوا على تقديمها. وعلى الرغم من الوعود القاطعة والرسمية التي وعدوا بها في مرات متعددة. وعلى ضوء هذا، فهم يطالبون، قبل أن يحملوا جماهير الجزائريين على الاشتراك في المجهود الحربي، بالدعوة إلى عقد مؤتمر يضم جميع الممثلين المنتخبين في المنظمات الجزائرية. ويستهدف هذا المؤتمر، إعداد دستور جزائري يضمن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية) الجزائر الثائرة - غيلسبي - تعريب حماد ص 79 - 80.

(**) انظر البيان وملحقاته في آخر هذا الكتاب (قراءات 2).

ص: 101

تطور الحركة الوطنية الجزائرية، فقد ذكر البيان أنه يمثل وجهات نظر ثمانية ملايين ونصف المليون من الجزائريين. ثم مضى البيان يسرد في العبارات التي استخدمها فرحات عباس (قائمة حساب صادقة وموضوعية عما تم في القرن الماضي) ويتلو (استنكارا واضحا ومقصودا لسياسة الدمج عن طريق التمثيل) ثم طلب للجزائر (حياة قومية ديموقراطية صادقة وموثوقة).

وعلى الرغم من عدم تنكر بيان - فرحات عباس - للثقافة الإفرنسية والغربية، إلا أنه رفض (العبودية) الناجمة عن النظام الاستعماري. وتعرض البيان للانحطاط الاقتصادي والاجتماعي في ظل الاحتلال الإفرنسي والذي بلغ حدا وصل بالجزائريين إلى الذل المهين والفقر المدقع حتى صاروا يشعرون أنهم أجانب في بلادهم، وغرباء وهم فوق أرضهم. وخصص البيان اهتماما خاصا إلى الدور الذي يمارسه المستوطنون في الحيلولة دون وصول أكثر الجزائريين المستغربين تطرفا، إلى درجة المساواة معهم. وانتهى إلى القول: بأن الأوروبيين والجزائريين ظلوا منفصلين، لا تجمعهم رابطة روحية واحدة. وأشار البيان إلى سياسة الدمج من خلال التمثيل فقال:(تبدو هذه السياسة اليوم في نظر الجميع، واقعا لا يمكن التعبير عنه، وأداة خطرة في خدمة الاستعمار). ثم أكد أخيرا: (بأن الوقت قد فات على أن يقبل الجزائري بأن يكون شيئا آخر، غير أن يكون جزائريا.

بقي أهم ما في البيان هو أن الموقعين عليه كانوا من الموصوفين - من قبل الإفرنسيين - (بذوي الأفكار المحافظة) أو

ص: 102

(المعتدلين). وكان البيان في حد ذاته يمثل أشد استنكار للحكم الإفرنسي في الجزائر وأخطره، مما أصدره حتى ذلك التاريخ (المعتدلون) و (المستغربون) الذين كانوا يأملون في الماضي الإسهام إسهاما كاملا في الحياة الثقافية الإفرنسية. وقد تم بعد ذلك تجاوز الصيغة العمومية للبيان بصدور (ملحق للبيان) تم فيه إيضاح ما يجب اتخاذه فورا من إجراءات. وما يجب تأجيله منها حتى نهاية الحرب. وكان (ملحق البيان) تعبيرا عن طموح الجزائر لاستعادة السيادة الجزائرية. مع إعطاء فرنسا دورا يشبه دور (الوصاية).

لم تمض فترة طويلة على إرسال (ملحق البيان) إلى السلطات الإفرنسية، حتى تسلم (الجنرال ديغول) السلطة في الجزائر، واختار الجنرال (كاترو) حاكما عاما لها. وقد رفض هذا فورا وبصراحة مطالب المعتدلين. وأكد أن فرنسا لن توافق أبدا على استقلال الجزائر. وقد أدى رفض فرنسا - للمرة الثانية - قبول البيان كأساس للمحادثات الإصلاحية إلى رد فعل عنيف لدى الجزائريين. ورفض المندوبون الجزائريون في شهر أيلول (سبتمبر)1943. الاشتراك في دورة طارئة للجان المالية. معربين برفضهم هذا عن تمسكهم بالبيان والتزامهم به. وكان رد (كاترو) على ذلك فرض الإقامة الجبرية على (عباس فرحات) وغيره من زعماء الجزائر. ولم يعدل (كاترو) عن قرار الحل إلا بعد أن ذهب إليه وفد من الممثلين اعتذر عن الأحداث الجارية، وأعلن عن رغبته في تطور الجزائر ضمن نطاق المؤسسات الإفرنسية. ومع ذلك، فقد ألقى (الجنرال ديغول) في كانون

ص: 103

الأول (ديسمبر) خطابا في قسنطينة، عملا بمشورة تلقاها بضرورة الرد بصورة إيجابية وبناءة على مطالب الجزائريين. فوعد بالإصلاحات التي صدرت فيما بعد (في قانون شهر آذار (مارس) لعام 1944). ولكن هذه الإجراءات التي كان في وسعها أن ترضي المعتدلين في عام 1936، لم ترضهم الآن، فرفضوها، واشترك معهم في رفضها جماعة العلماء (برئاسة الشيح الإبراهيمي). كما رفضها (مصالي الحاج). ولم يحظ القانون إلا بتأييد فئة قليلة من (المعتدلين جدا) في اللجان المالية، والذين كانوا قد تخلوا عن تأييدهم للبيان تحت ضغط الإفرنسيين.

استطاع المنتخبون المؤيدون للبيان الجزائري، تحرير المعتقلين والمحكومين السياسيين في آذار ونيسان (مارس وأبريل)1943. وخرج (مصالي الحاج) من سجن لامبيز، وقضى يوم حريته الأول وليلته الأولى في منزله في (سطيف). وبعد إقامة قصيرة في مدينة الجزائر، وضع تحت المراقبة، وفرضت عليه الإقامة الإجبارية في (بخارى) ثم في شلاله. أما (فرحات عباس) فقد مضى لإعادة تنظيم الجماهير وتعبئتها وأدت جهوده إلى مقاطعة انتخابات اللجان المالية، فقام (كاترو) باعتقاله مع (الرئيس صياح) وعدد من جماعة أنصار البيان، واجتاحت التظاهرات مدن الجزائر وسطيف وقسنطينة مما أرغم (كاترو) على إلغاء أوامره بفرض الإقامة الإجبارية على (صياح) في بني عباس، وعلى (فرحات عباس) في طبلبالا - جنوب وهران. وانصرف (عباس فرحات) على الفور لإجراء اتصالات مكثفة مع

ص: 104

زعماء البلاد، طوال الأشهر الثلاثة الأولى من العام (1944) وقد وصف جهده خلال هذه المرحلة بما يلي:

(

كان على إعادة الاتصال مع مختلف المنظمات، فانضم العلماء برئاسة الشيخ الإبراهيمي فورا إلى الحركة وأيدوني. وكذلك كانت مباحثاني مع (مصالي الحاج) مستمرة، أما الشيوعيون، فقد رفضوا، ووجهوا إلي اللوم: بأنني أسير بسرعة زائدة. وأعلنوا أنهم يفضلون الدعوة إلى تجمع آخر تحت اسم - أصدقاء الديموقراطية والحرية - يؤيد سياسة الوحدة والدمج مع فرنسا. وقد أيد مصالي جهدي مع إبدائه بعض التحفظات. لقد منحني ثقته دون أن يلتزم بمسؤولية. كان يدرك أنه يجب أن نضع شيئا ما. وقد أسر لي بقوله: (ومع ذلك، فإذا كنت أمنحك ثقتي لتحقيق جمهورية جزائرية مشتركة مع فرنسا. فإنني مقابل ذلك، لا أثق بفرنسا أبدا. إن فرنسا لن تعطيك شيئا، وهي لن ترضخ إلا للقوة، ولن تعطي إلا ما نستطيع انتزاعه منها). وعلى كل حال فقد انتهت هذه الجهود إلى تأسيس (حركة أصدقاء البيان والحرية). في 14 آذار (مارس)1944. وقام (عباس فرحات) بإيداع نظام هذه الحركة في محافظة قسنطينة. وقد حدد أهداف حركته بما يلي: (إن مهمة التجمع المباشرة والفورية هي الدفاع عن البيان، الذي هو تعبير عن فكر حر مستقيم، ونشر الأفكار الجديدة، والاستنكار النهائي للاضطهاد الذي يقوم به النظام الاستعماري، ولعقيدته العنصرية واستبداله (المادة الثالثة). أما أسلوب عملنا فقد حددناه على الوجه التالي: (إغاثة جميع ضحايا القوانين الاستثنائية. والاضطهاد

ص: 105

الاستعماري، وخلق تيار رأي عام يؤيد البيان. وجعل فكرة الأمة فكرة منتشرة في الجزائر أمة ترغب في دستور يحقق جمهورية مستقلة اتحادية بدلا من جمهورية إفرنسية، وخلق مبدأ التضامن الجزائري، بين جميع سكان الجزائر سواء أكانوا يهودا أو مستوطنين أو عربا مسلمين. وخلق الشعور بالمساواة والرغبة في الحياة المشتركة. هذه الرغبة التي هي - العنصر المنشىء للأمة - (المادة 4). (*).

أقام فرحات عباس مقر (حركة أصدقاء البيان والحرية) في (6 - ساحة الكاردينال لافيجري - ساحة الشهداء حاليا) في مدينة الجزائر. ولم تمض فترة طويلة حتى وصل إلى مقر الحركة أكثر من نصف مليون طلب انتساب. وأصدر (فرحات عباس) صحيفة ناطقة باسم الحركة حملت اسم (المساواة). وعلى صعيد السلطة، وبنتيجة ضغط المستوطنين، تم إبدال الجنرال (كاترو) في نهاية شهر أيلول (سبتمبر)1944. وحل محله في منصب الحاكم العام للجزائر السيد (ايفيز شاتينيو) وهو دبلوماسي محترف يعرف مشكلات الإسلام والعالم العربي معرفة واسعة، وكان من الأحرار المتبصرين بالأمور.

غير أن المستوطنين لم يعجبهم أيضا تعيين هذا الحاكم العام الجديد. فأظهروا له العداء، كما أظهروا خصومتهم لقرارات 7 - آذار - مارس - 1944 (التي كان قد أعلنها

(*) ليل الاستعمار - فرحات عباس - ترحمة وليم خوري.

ص: 106

ديغول على أنها قرارات إصلاحية ورفضها الجزائريون). وكانوا إلى ذلك أعداء طبيعيين لحركة (أصدقاء البيان والحرية). ولم يكونوا يكتمون تصميمهم على إحباط هذه الاتجاهات بالجملة. وأثناء ذلك، كانت الحركة تمضي في سبيلها بنجاح، وكانت مجلة (المساواة) الأسبوعية التي انتظم صدورها منذ أيلول - سبتمبر - 1944، تحقق نجاحا كبيرا في نشر أفكار الحركة. غير أن وحدة الجماعة التي ضمت للمرة الثانية، المثقفين والعمال والعلماء والمعتدلين، لم تعمر طويلا. ففي المؤتمر العام الأول الذي عقدته في آذار - مارس - 1945، وقع خلاف بين مؤيدي كل من مصالي الحاج وفرحات عباس. فقد رغب أعضاء (حزب الشعب) الذين انضموا مؤخرا إلى الحركة في أن يحيوا الزعيم (مصالي) على أنه (الزعيم الأوحد للشعب الجزائري) وأيدوا فكرة إنشاء برلمان وحكومة جزائرية. أما فرحات عباس وغيره من المعتدلين، فقد أيدوا بقوة فكرة (قيام جمهورية جزائرية - مستقلة ذاتيا ومتحدة فيديراليا مع فرنسا) وهي الفكرة الأساسية التي قامت عليها الجماعة. ولكن جماعة حزب الشعب انتصروا في هذه المعركة العقائدية بأغلبية كبيرة، ففرضوا تعبيرهم على المحتوى الأكثر تطرفا في برنامج الجماعة. ورافق هذا التحول تصعيد في التوتر، بدأ مع بداية عام 1945. وفي تلك الفترة، عقد الممثلون العرب مؤتمرهم في مصر الجديدة - القاهرة -لبحث تأسيس الجامعة العربية، في آذار - مارس - 1945 وانعكس ذلك على صفحة الجزائر، فقد أثار هذا الحدث حماسة المجاهدين من جهة، كما حفز الإدارة الإفرنسية الاستعمارية

ص: 107

لزيادة ضغوطها لقمع الظواهر التحررية. وتصفيتها مرة واحدة وإلى الأبد - على حد زعمها - وكان الانفجار الكبير، المعروف باسم (مذبحة 8 - أيار - مايو - 1945 (والتي سيتم التعرض لها فيما بعد - في هذا الكتاب)) ورافق هذه المذبحة أعمال قمع رهيبة، وتم اعتقال عباس فرحات ومصالي الحاج وعدد كبير من الزعماء والمجاهدين والمناضلين، وألقي بهم في السجون والمعتقلات.

عندما كانت الجزائر المجاهدة تضمد جراحها النازفة، قامت فرنسا بإجراء أول انتخابات في أعقاب الحرب العالمية الثانية - وذلك في تشرين الأول - أكتوبر - 1945 لتكون هذه الانتخابات - على حد زعم فرنسا - حلقة الاتصال الأولى بين فرنسا والجزائر. وقد طبقت إصلاحات عام 1944 (إصلاحات ديغول) لأول مرة في هذه الانتخابات التي جرت للجمعية التأسيسية، لوضع الدستور الإفرنسي. وأدت النداءات التي وجهها الوطنيون إلى الامتناع عن الاقتراع في دوائر انتخابات الدرجتين، بنسبة خمسين في المائة في مقاطعتي الجزائر وقسنطينة، وخمسة وثلاثين في المائة في وهران. وأحرز اتحاد المنتخبين المسلمين الذي يتزعمه الدكتور (ابن جلول) سبعة مقاعد من مجموع ثلاثة عشر مقعدا مخصصة لدوائر انتخاب الدرجتين ورفضت الجمعية التأسيسية الاقتراحات الاندماجية التي قدمها (بن جلول). وتركزت دراسها لموضوع الجزائر، في قضية العفو العام عن جميع أولئك الذين اشتركوا - أو بالأحرى اتهموا

ص: 108

بالاشتراك - في ثورة 1945. واقترعت على هذا العفو، وأطلق سراح معظم المعتقلين.

قام فرحات عباس، بعد إطلاق سراحه بتأسيس (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري) في مدينة سطيف. ولم تكن المنظمة الجديدة، بخلاف جماعة أصدقاء البيان والحرية، تعتمد على قاعدة جماهيرية واسعة النطاق، ولكنها كانت تستهدف حمل لواء البرنامج الأصلي الذي تبناه البيان. وقد وجه (عباس فرحات) نداءه المشهور (إلى الشبيبة الجزائرية الإسلامية والإفرنسية) في اليوم الأول من أيار - مايو - 1946. ولم يكن هذا النداء مجرد تعبير عن وجهات نظر - عباس فرحات - المعتدلة فحسب، بل كان تعبيرا عن الأثر العميق الذي تركته مذبحة 1945 في نفسه وتفكيره. وقد بدأ - فرحات - بعرض حياته الطويلة في التعاون مع فرنسا، حتى يصل إلى القول: (وإذا قدر لفكرة واحدة، أكثر من غيرها أن تسيطر على حياتي العامة، فهي فكرة العمل والتبشير بتحقيق التعاون الإفرنسي -الجزائري، وتأييد الثقافة والتقنية الحديثة التي تشكل عنصر القوة التي لا مناص منها فيه

وبقي الاتحاد في الديموقراطية، والأخوة في العدالة، هما عقيدتي السياسة، وسيظلان كذلك دائما وأبدا). ومضى إلى إنتقاد الإدارة الإفرنسية لمواقفها الرجمعية ضد كل محاولات الجزائريين لتحقيق هذا التعاون المنشود. وأدانها بجريمة التحريض على أحداث سنة 1945، واستفزازاتها، وتنظيمها للمتطوعين وارتكاب الفظاشع والمذابح وأعمال البطش والإرهاب ضد المسلمين الجزائريين، حتى وصل إلى القول: (لا

ص: 109

نريد اندماجا، ولا نريد سيدا جديدا، ولا انفصالا. وإنما نريد شعبا فتيا يتولى تثقيف نفسه اجتماعيا وديموقراطيا، محققا لها التطور الصناعي والعلمي، وحاملا رسالة بعثها فكريا وخلقيا، مرتبطا بشعب عظيم متحرر الفكر. نريد ديموقراطية فية في نشأتها، توجهها الديموقراطية الإفرنسية العظيمة. هذه هي الصورة بل التعبير الواضح لحركتنا الرامية لبعث الجزائر). ووصل إلى النقطة الدقيقة والحساسة من ندائه فقال: (وإذا لم تتمكن الشبيبة الجزائرية من التغلب على الفروق العنصرية القائمة بينها، فإنها ستنتهي إلى انتحار أخلاقي بصورة حتمية، مثقلة بالنتائج

وإذا لم يتخلص الأوروبيون في الجزائر من مركبات الاستعمارية والاسعلاء التي تلازم الفاتح المحتل، فلن يكون بالمستطاع إقامة أي مجتمع جزائري).

قرر حزب (الاتحاد الديمرقراطي لأنصار البيان الجزائري) الاشتراك في انتخابات الجمعية التأسيسية الإفرسية الثانية. وكان نجاح حملته الانتخاية رائعا حيث حصل على أحد عشر مقعدا من مجموع ثلاثة عشر مقعدا - لدوائر انتخابات الدرجتين - مع واحد وسبعين بالمائة من مجموع الأصوات. وقد مثلت هذه الانتخابات قمة قوة الحزب في الجزائر. بينما ظهر بوضوح أن الجماعات المطالبة بالاندماج، قد فقدت التأييد الذي كان لها في وسط جماهير الناخبين. وسرعان ما أوضح فرحات عباس موقفه بعد الانتخابات من المستقبل الفوري للجزائر. فقد واصل حملته على الدمج، وأكد وضوح الشخصية الجزائرية وأصالتها. ولم يؤيد قيام دولة إسلامية في الجزائر. وإنما أيد قيام دولة جزائرية

ص: 110

يكون فيها الجزائريون والأوروبيون متساوين في الحقوق. وتقوم على أساس اقتراع عام على درجة واحدة للجميع. وقدم فرحات في شهر آب - أغسطس - عام 1946، مشروع دستور للجزائر، إلى الجمعية التأسيسية لكن الجمعية رفضت البحث فيه.

جرت انتخابات المجالس البلدية في الجزائر مع بداية سنة 1948. وعملت الإدارة الإفرنسية على تزوير هذه الانتخابات بشكل استفزازي ومثير، وكان رد فعل المسلمين الجزائريين عنيفا، وعندما عقدت الجلسة الافتتاحية (للجمعية الجزائرية) في نيسان - أبريل - 1948. وقف (عباس فرحات) ليرفع احتجاجه ضد إجراءات الاقتراع، وصضد اعتقال عدد من المرشحين - من بينهم عدد من مرشحي حركة انتصار الحريات الديموقراطية - كتلة مصالي الحاج -. لكن الأغلبية التي تمثل. المستوطنين الإفرنسيين تصدت لمجابهته ولم تسمح له بمتابعة احتجاجه، فما كان من (عباس فرحات) إلا أن انسحب من الجلسة، وانسحب معه ممثلو (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري). واتخذت (الجمعية الجزائرية) على أثر ذلك قرارا بطرد (عباس فرحات) وأخوانه من عضوية الجمعية. وهكذا عادت خيبة الأمل من جديد لتحبط تفاؤل الكثيرين من مثقفي الاتحاد الديموقراطي. وكتب السيد (أحمد بومنجل) وهو من زعماء الاتحاد الديموقراطي - (ومن الذين أصبحوا بعدئذ من زعماء الثورة البارزين) - كتب ما يلي:

لقد خدعتنا الجمهورية الإفرنسية، واستغفلتنا، وسيستفيق

ص: 111

الإنسان ذات يوم، ليجد أن الجزائر قد انتقلت إلى صف الكتلة الشرقية، وسينتهز البعض آنذاك الفرصة للحديث عن التنكر للجميل، والبكاء على الآمال الضائعة، دون أن يكلف نفسه عناء التفكير في الأسباب والعوامل التي أدت إلى مثل هذا السلوك. وقد يحاولون آنذاك إيجاد الأعذار لتخفيف الذنوب والندامة، ولكن بعد فوات الأوان. ولا ريب في أن الخيار الذي يمليه اليأس، لا يمكن إلا أن يكون خيارا ضد فرنسا).

وأدى عجز الاتحاد الديمرقراطي لأنصار البيان الجزائري عن الإسهام في حياة الجزائر السياسية، عن طريق تمثيله في الجمعية الجزائرية، وعجزه عن إرضاء مطالب أعضائه العادلة، إلى خلق أزمة خطيرة وحادة في صفوف الحزب. ولما كان هؤلاء يؤيدون الثورة عن طريق التطور، فلم يكن من السهل عليهم أن يبحثوا عن سبل أخرى غير المنظمات البرلمانية التي وقفوا أنفسهم عليها.

انضم الاتحاد الديموقراطي في عام 1951، إلى أحزاب المعارضة الأخرى في محاولة للحصول على القوة عن طريق الاتحاد. واشترك الاتحاد مع حركة انتصار الحريات الديموقراطية - مصالي الحاج - وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين - الشيخ الإبراهيمي - والحزب الشيوعي الجزائري. وشكل الجميع (الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها). وحددت هذه الجبهة أهدافها بالتالي: (

1 -

إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في حزيران - يونيو - 1951.

ص: 112

2 -

احترام حرية الاقتراع في انتخابات الدرجتين.

3 -

احترام الحريات الأساسية للعقيدة والفكر والصحافة والاجتماع.

4 -

مقاومة الاضطهاد بكل أشكاله وصوره.

5 -

إطلاق سراح جميع المعتقلين والسجناء السياسيين.

6 -

الفصل بين العقيدة الإسلامية والدولة).

ولم يقدر للجبهة أن تعمر طويلا، شأنها في ذلك شأن جميع الجهود التي بذلت بعد الحرب لتحقيق الوحدة بين الوطنيين الجزائريين، كما أن (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري) لم يتمكن من كسب القوة التي أمل فيها أن يضمن إجراء انتخابات أكثر نزاهة. وعلى الرغم من اتحاد هذه الأحزاب في معارضتها للاستعمار، فقد كانت لها وجهات نظر متباينة في البرنامج الإيجابي للجزائر. وعندما سئل الاتحاد الديموقراطي في العام 1949 عن موقفه من الحزب الشيوعي الجزائري قال: (إنه رغم علاقته الوثقى بالحزب الشيوعي الإفرنسي، فهو الحزب الوحيد الذي حاول على الصعيد الفكري والصعيدين السياسي والاجتماعي، أن يفهم وأن يفسر إرادة الشعب الجزائري في التحرر. وهو، على هذا الأساس، يعتبر في هذه البلاد من المدافعين عن الحريات التي لم تسمح السلطات الاستعمارية حتى الآن بوجودها، ومع ذلك فقد لاحظ الاتحاد الديموقراطي، وجود خلاف في الرأي على السياسة الخارجية، إذ بينما يتبع الحزب الشيوعي السياسات الشيوعية، فإن الاتحاد الديموقراطي يتبنى سياسة الحياد بين الكتلتين. ويختلف الاتحاد عن الشيوعيين أيضا في طريقة التشكيل الحزبي، وفي المسألة العقائدية المتعلقة بالصراع الطبقي. وأشار الاتحاد أيضا إلى أن

ص: 113

الحزب الشيوعي لم يفلح في إقناع أعضائه الأوروبيين بأن الجزائريين في حاجة إلى تحرر وطني. ومع ذلك فقد وجد الاتحاد الديموقراطي أن التعاون مع الشيوعيين على الصعيد البرلماني - أمر معقول للغاية). وشعر الاتحاد بالنسبة إلى (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) باشتراك وثيق معها في المصالح، للدفاع الدائم عن الدين الإسلامي والدفاع عن اللغة العربية. واتفق الاتحاد الديموقراطي مع حركة انتصار الحريات الديموقراطية في ضرورة قيام اتحاد مع أقطار المغرب العربي الإسلامي - شمال أفريقيا -. ولكنه اختلف معها في أفضل الوسائل لتحقيق الاستقلال. فقد بقي فرحات عباس مؤمنا بالتطور. بينما بقي (مصالي الحاج في أعماقه إنسانا ثوريا.

أخذت قوة الاتحاد الديموقراطي وحماسه للعمل يضعفان في بداية الحقبة المبتدئة بعام 1950. وفي المؤتمر الذي عقده منفذو الحزب في مدينة الجزائر في نيسان - أبريل - عام 1954، أشار فرحات عباس إلى النضال العملي الذي تقوم به تونس والمغرب ضد فرنسا، بينما تبدو الجزائر هادئة تماما ومضى إلى القول: (وفي الحقيقة فإن النقمة الشعبية عميقة الجذور، ولا ريب في أن الأيام المقبلة مشحونة بالنذر القاتمة

ولقد أصبح القانون الأساسي لعام 1947 وثيقة ميتة، وهناك شبه إجماع بين الممثلين الجزائريين، في جميع المجالس المنتخبة، بأن سلطات الإدارة الإفرنسية في الجزائر تتصرف وفق أهوائها. وإذا استمرت باريس في رفضها القيام بدور الحكم، وإذا استمرت في دعمها لأعمال خرق القانون. أفلا يكون من حق الجزائريين

ص: 114

المشروع، أن يلجؤوا إلى آخر سبيل مشروع، وهو القوة؟) وتحدث عن دور الاتحاد الديموقراطي فقال:(يجب أن نقسم بأن سياسة التعمية الهائلة، والتدليس الشرير، التي غدت الجزائر ضحية لها منذ إعلان الإصلاحات، قد جعلتنا نختفي تقريبا. ولا ريب في أن من الواضح أن حزبا تقدميا أقام أعماله على أساس احترام الشرعية، ويخاصم الآخرين ويخالفهم تأييدا لفكرته - بالثورة عن طريق القانون - لا يستطيع أن يحرز أي تقدم، عندما تجعل السلطات العامة من مؤسسة الدولة مظهرا استبداديا. هذه هي مأساة حزبنا كلها). ومع ذلك فقد مضى عباس فرحات إلى القول: (إن مفهومنا للجزائر هو أن ترتفع إلى مرتبة الجمهورية التي تعمل على أن تكون نقطة التقاء بين الاسلام والمسيحية، مع ما ينطوي عليه هذا المفهوم من عزيمة مشتركة صادقة على العيش معا، والتعايش، كأساس ممكن تحقيقه ولا مناص منه). وخطط عباس فرحات لحزبه مهامه المستمرة في أن تكون إرضاء المطالب الفورية والدفاع عن المصالح الحيوية للطبقات العاملة، والاتصال بجماهير المسلمين وجموع الفلاحين ممن يصعب الوصول إليهم والاتصال بهم. وإقناع الأوروبيين ولا سيما الفقراء من المستوطنين بأنهم أيضا من ضحايا الإقطاعيين الأثرياء.

وجه ، (فرحات عباس) وحزبه، في الأشهر القليلة التي سبقت الثورة، عدة نداءات إلى فرنسا لأنها، حكمها الاستبدادي في الجزائر، وإقامة تعاون أخوي، والدعوة إلى مؤتمر في باريس، يمكن للمصالح المتضاربة في الجزائر أن تلتقي فيه. وأن تواجه

ص: 115

بعضها بعضا في جو سلمي. ولكن - جميع هذه الجهود ذهبت أدراج الرياح. وفي تشرين الأول - أكتوبر - أشار عباس فرحات إلى أنه قد يمضي وقت طويل قبل أن تظهر إلى الوجود الجمهورية الجزائرية. وأنه يتحتم على (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري،، في غضون ذلك أن يعيد تنظيم جهازه. وأظهرت مالية الحزب عجزا كبيرا. وعلى الرغم من جميع هذه النذر والإشارات، فقد بوغت الاتحاد الديموقراطي بنشوب الثورة عندما أعلنت فعلا.

يظهر العرض السابق أن السبب الأساسي لأزمة (معتدلي الاتحاد الديموقراطي) يعود إلى سياسة فرنسا الاستعمارية. فإن عناد فرنسا وإهمالها أدى إلى استقطاب الرأي العام الجزائري في اتجاه واحد هو اتجاه الثورة. ولم يعد هناك مجال للوطنية المعتدلة للبقاء بين جماعة (الأمعات) من مؤيدي فرنسا، وكان حتما لهذه الوطنية أن ترفد الثورة بقوتها، وبما توافر لها من عناصر مثقفة، كان لها دورها الكبير في توسيع القاعدة الاجتماعية للثورة.

هنا، ومع انفجار الثورة، تجدر الإشارة إلى موقفي زعيمي التكتلين الرئيسين - موقف مصالي الحاج - زعيم حزب الشعب الجزائري (ثم حركة انتصار الحرية والديمرقراطية) وموقف عباس فرحات، زعيم حركة (الاتحاد الديموقراطي لأنصار البيان الجزائري). وفقا لما تتضمنه مقولتين فقط - في

ص: 116

جملة مقولاتهما التي ظهرت في أعقاب انفجار ثورة الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954.

وصل فرحات عباس إلى القاهرة، وعقد مؤتمرا صحافيا يوم 25/ 4/ 1956. أعلن فيه انضمام (حزب البيان) إلى (جبهة التحرير الوطني) وتضمن بيان فرحات عباس ما يلي:

(إن النظام الاستعماري هو عدونا الأساسي، والحرب لم تكن ضرورة طبيعية وحتمية، وإنما هي حرب فرضت علينا فرضا، ولهذا فنحن نتوجه بأنظارنا إلى الضمير الحر العالمي، وإلى الضمير الحر الإفرنسي بصورة خاصة. إن المفاوضة والتفاهم ليسا ممكنين بين الشعبين الجزائري والإفرنسي، بل هما مما يتمناه كل الأحرار في العالم. على أن هذا لا يمكن أن يكون محلا للخداع والتضليل بعد الآن. إن المفاوضات مع فرنسا لا يمكن أن تتم إلا مع ممثلي - جبهة التحرير الوطني - أي مع المجاهدين الذين يخوضون معاركهم الآن في سبيل حرية الشعب. إن من الضروري إعادة السلام إلى الجزائر، لأن حياة وطني جزائري واحد، وحياة شاب فرنسي مقاتل، لهما أثمن وأشرف من جميع امتيازات المستعمرين. إن كيان الجزائر مرتبط كل الارتباط بكيان تونس والمغرب - مراكش - ومن المعروف أن الغزو الإفرنسي للجزائر واحتلالها هو الذي استتبع الغزو الإفرنسي لتونس والمغرب. فكيف يتصور بعد هذا تحرر الجارتين تحررا حقيقيا مع بقاء الاستعمار الإفرنسي في الجزائر؟. فإما أن يتم تحرر الجزائر،

ص: 117

وإما أن يكون استقلال تونس والمغرب مجرد سراب خادع. لقد توحدت الآن جميع القوى الوطنية المجاهدة ضد الاستعمار في سائر بلاد المغرب العربي - الإسلامي - تحت قيادة موحدة. ولن تكون هناك بعد اليوم خلافات حزبية أو سياسية في الجزائر. لقد صهرت بوتقة الجهاد الجميع ضد العدو المشترك. إنني أعلن هنا، وعلى رؤوس الأشهاد، بأنه لن يكون بعد اليوم سلام أو هدنة أو هوادة، بل شدة متزايدة في الكفاح الذي فرضه الاستعمار علينا فرضا، إلى أن يتم القضاء على جميع المستعمرين الإفرنسيين، والمرتزقة العاملة في خدمتهم، وتتحرر الجزائر تحررا تاما).

ووجه الزعيم (فرحات عباس) حديثه إلى الأقلية الأوروبية، فكان فيما قاله:(إذا انسحبت الجيوش الاستعمارية وأذنابها من الوطن الجزائري على الفور، وإذا لم تقم فرنسا بأي أعمال انتقامية ووحشية ضد المواطنين الجزائريين الأبرياء، فإن جيش التحرير الوطني سيضمن لكم الحرية والأمن والمساواة. أما إذا أصرت الجيوش الإفرنسية على متابعة أعمالها الوحشية الفظيعة التي ترتكبها الآن، فإن فرنسا وحدها ستكون مسؤولة عن رد الفعل العنيف، وعن نتائجه الخطيرة، بل إن الوطنيين من أبناء المغرب سينقلون الحرب إلى أراضي فرنسا ذاتها). ثم حمل الزعيم (فرحات عباس) اعلى مجموع الدول الاستعمارية التي تدعم الاستعمار الإفرنسي بالمال والسلاح قائلا: (لقد لاحظت الشعوب العربية في شمال أفريقيا، بأن هذه الدول الاستعمارية التي تنادي بالانتصار للحريات الفردية، وحقوق الإنسان هي ذاتها التي تساعد الاستعمار الإفرنسي للقضاء على هذه

ص: 118

الحريات. تلك المبادى، التي تجاهد الشعوب العربية الآن لبلوغها. ومن المؤكد أن - هذه الحرب القذرة، كانت قد انتهت، لو لم تبادر منظمة (حلف شمال الأطلسي) إلى إنقاذ الاستعمار الإفرنسي من موته المحتوم. إننا نطلب باسم العدالة الإلهية إلى جميع أحرار العالم أن يمتحنوا ضمائرهم في هذه اللحظات الرهيبة. إنا نعلم أننا لسنا وحيدين في هذه المعركة الضارية. إن لنا أصدقاءنا وأنصارنا في كل الشعوب الأخرى. ونحن نتقدم بهذه المناسبة بأجزل الشكر وأعظم الامتنان للشعوب العربية والآسيوية التي أيدتنا بكل قواها. ولسائر الشعوب الأخرى التي أبدت عطفها على قضيتنا الكبرى. وأن الشعب الجزائري لن ينسى هؤلاء الأصدقاء أبدا). وختم الزعيم فرحات عباس تصريحه بقوله:(نحن مستعدون للتفاوض مع فرنسا بإسم جبهة التحرير الوطني، ولكننا نضع لذلك شرطا واحدا: إعتراف فرنسا بكيان الشعب الجزائري وقوميته)(*).

وكان زعيم الحركة الوطنية الجزائرية (مصالي الحاج) قد صرح قبل ذلك بفترة قصيرة - بما يلي: (

لن تنتهي الحرب الاستعمارية في الجزائر، حتى لو جندت فرنسا لها نصف مليون جندي. وإذا لم يحصل الشعب الجزائري على استقلاله، فإن تأزم الوضع سيهدد السلام العالمي كله. لقد أصبحت مشكلة

(*) صحيفة لوموند - الإفرنسية - 26/ 4/ 1956.

ص: 119

الجزائر ذات أهمية خاصة بالنسبة لحلف شمال الأطلسي. وربما وقف العالم كله ضد الحلف المذكور بسبب السياسة الإفرنسية. لقد اندلعت الثورة الجزائرية من داخل الجزائر، وبفضل حيوية الشعب الجزائري ذاته، ولكنها تستطيع بدهيا الاعتماد على ما تتلقاه من دعم الشعب المصري وشعوب المغرب خاصة. ولكن، حتى لو استطاع الإفرنسيون إغلاق جميع الحدود الجزائرية، وهذا أمر من المحال تحقيقه، فإن الثورة الجزائرية لن تتوقف وستستمر. كما أن فكرة إدخال الجزائر في (كومنولث إفرنسي) على غرار النظام البريطاني - هي فكرة قد تجاوزها الزمن، ولن تعود عجلة الزمن إلى الوراء. إن شمال أفريقيا هو داخل النطاق الاستراتيجي لمنظمة حلف شمال الأطلسي - شئنا ذلك أم أبينا - ولا يمكن أن نتعاون مع فرنسا ودول الغرب إلا بقدر مساعدتها لنا من أجل الوصول إلى الاستقلال (؟) وأن انتصار الحرية في أفريقيا الشمالية سوف يضع حدا لكل الخلافات القائمة بين فرنسا والعالم العربي. ويجب أن لا تنسوا إمكانية تحويل أفريقيا الشمالية إلى ساحة إنشاء وبناء للعالم الغربي. لأنها سوق هائلة تضم أكثر من ثلاثين مليون عربي) (*).

ومقارنة مضمون التصريحين - أو البيانين - تغني عن كل تعليق

(*) صحيفة لومرند 3/ 16/ 1956.

ص: 120