المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتابة الحديث وضبطه - شرح الأثيوبي على ألفية السيوطي في الحديث = إسعاف ذوي الوطر بشرح نظم الدرر في علم الأثر - جـ ٢

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

- ‌كتابةُ الحديثِ وضبْطُهُ

- ‌(صفةُ رواية الحديث)

- ‌(آداب المحدث)

- ‌مسألةفي تعريف الحافظ والمحدث والمسند وغيرها

- ‌(آداب طالب الحديث)

- ‌(العالي والنازل)

- ‌(المسلسل)

- ‌(غريب ألفاظ الحديث)

- ‌(المُصَحَّفُ وَالمُحَرَّفُ)

- ‌(الناسخ والمنسوخ من الحديث)

- ‌(مختلف الحديث)

- ‌(أسباب الحديث)

- ‌(معرفة الصحابة رضي الله عنهم

- ‌(معرفة التابعين وأتباعهم)

- ‌(رواية الأكابر عن الأصاغر، والصحابة عن التابعين)

- ‌(رواية الصحابة عن التابعين عن الصحابة)

- ‌(رواية الأقران)

- ‌(الإخوة والأخوات)

- ‌(رواية الآباء عن الأبناء وعكسه)

- ‌(السابق واللاحق)

- ‌(من روى عن شيخ ثم روى عنه بواسطة)

- ‌(الوُحدان)

- ‌(من لم يرو إلَاّ حديثًا واحدًا)

- ‌(من لم يرو إلَاّ عن واحد)

- ‌(مَن أسند عنه من الصحابة الذين ماتوا في حياته صلى الله عليه وسلم

- ‌(مَن ذكر بنعوت متعددة)

- ‌(أفراد العلم)

- ‌(الأسماء والكنى)

- ‌(أنواع عشرة من الأسماء والكنى مزيدة على ابن الصلاح والألفية) أي العراقية

- ‌(الألقاب)

- ‌(المؤتلف والمختلف)

- ‌(المتفق والمفترق)

- ‌(المتشابه)

- ‌(المشتبه المقلوب)

- ‌(من نسب إلى غير أبيه)

- ‌(المنسوبون إلي خلاف الظاهر)

- ‌(المبهَمات)

- ‌(معرفة الثقات والضعفاء)

- ‌(معرفة من خلط من الثقات)

- ‌(طبقات الرواة)

- ‌(أوطان الرواة وبلدانهم)

- ‌(التأريخ)

الفصل: ‌كتابة الحديث وضبطه

بسم الله الرحمن الرحيم

‌كتابةُ الحديثِ وضبْطُهُ

أي هذا مبحثُ كتابة الحديث وضبطه بالشكل، ونحوه، وما أُلحقَ بذلك من الخط الدقيق، والرمز، والدَّارَة، وغير ذلك.

وهو النوع التاسع والثلاثون من أنواع علوم الحديث، والمناسبة بينه وبين الباب السابق واضحة، لأن من تحمل الحديث بنوع من الأنواع السابقة يحتاج إلى كتابته، وضبطه، فيناسب ذكره بعده.

431 -

كِتَابَةُ الْحَدِيثِ فِيهِ اخْتُلِفَا

ثُمَّ الْجَوَازُ بَعْدُ إِجْمَاعًا وَفَى

432 -

مُسْتَنَدُ الْمَنْعِ حَدِيثُ مُسْلِمِ:

" لا تَكْتُبُوا عَنِّيَ " فَالْخُلْفُ نُمِي

433 -

فَبَعْضُهُمْ أَعَلَّهُ بِالْوَقْفِ

وَآخَرُونَ عَلَّلُوا بِالْخَوْفِ

434 -

مِنِ اخْتِلاطٍ بِالْقُرَانِ فَانْتَسَخْ

لأَمْنِهِ، وَقِيلَ: ذَا لِمَنْ نَسَخْ

435 -

الكُلَّ فِي صَحِيفَةٍ، وَقِيلَ: بَلْ

لآمِنٍ نِسْيَانَهُ، لا ذِي خَلَلْ

(كتابة الحديث) مبتدأ خبره جملة قوله (فيه اختلفا) بالبناء للمفعول، والألف للإطلاق، والمعنى: أن كتابة الحديث والعلم اختلف فيه العلماء من السلف: الصحابة، والتابعين، عَمَلاً وتركاً.

فكرهها للتحريم غير واحد، فمن الصحابة: ابن عمر، وابن مسعود، وزيد بن ثابث، وأبو موسى الأشعري، وأبو سعيد الخدري، ومن التابعين: الشعبي، والنخعي، بل أمروا بحفظه عنهم كما حفظوه حفظاً.

ص: 5

وأجازها بالقول، أو بالفعل غير واحد من الفريقين، فمن الصحابة: عمر، وعلي، وابنه الحسن، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس، وجابر، وابن عباس، وكذا ابن عمر أيضاً في قول، ومن التابعين: قتادة، وعمر بن عبد العزيز بل حكاه عياض عن أكثر الفريقين.

وقال غير واحد منهما كما صح: " قيدوا العلم بالكتاب " بل روى رفعه، ولا يصح. وقال أنس: كَتْبُ العلمِ فريضة. قاله السخاوي.

وقال البلقيني: وفي المسألة مذهب ثالث، وهو الكتابة والمَحْوُ بعد الحفظ اهـ.

(ثم) بعد هذا الخلاف كُلّهِ (الجوازُ) للكتابة (بعد) أي بعد الخلاف المذكور بين الصحابة والتابعين (إجماعاً) حال من الجواز، أي حال كونه مجمعاً عليه، وقوله:(وفي) فعل ماض، أي تَمَّ، يقال: وَفَى الشيءُ يفي: إذا تم، فهو وَافٍ فقوله: الجواز مبتدأ، خبره جملة وَفَى. والظرف متعلق بوفى.

وحاصل المعنى: أن الخلاف المذكور زال، فصار في المتأخرين جواز الكتابة أمراً مجمعاً عليه.

قال ابن الصلاح: ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الأخيرة.

ثم ذكر مستندَ المانِعِين بقوله (مستند المنع) أي الدليلُ الذي اعتمد عليه المانعون من كتابة الحديث، مبتدأ خبره قوله (حديث مسلم) أي الحديث الذي أخرجه مسلم بسنده في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا تكتبوا عني) بفتح الياء للوزن، وإن كان لغة في النثر أيضاً، إلا أن الغالب السكون، وتمام الحديث " شيئاً سوى القرآن، ومن كتب عني شيئاً سوى القرآن فليمحه " وفي رواية " أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في كَتْبِ الحديث فلم يأذن له ".

ص: 6

وأما مستند الإباحة فكثير.

منه: قوله صلى الله عليه وسلم: " اكتبوا لأبي شاهٍ " متفق عليه، يعني به خطبة حجة الوداع.

ومنه: حديث: " ايتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً " الحديث رواه البخاري.

ومنه: ما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:" كنت أكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " وذكر الحديث، وفيه: أنه ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له:" اكتب " وفي لفظه: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكتب ما أسمعه منك في الغضب والرضا؟ فقال: " نعم، فإني لا أقول إلا حقاً " وكانت تسمى صحيفتة تلك الصادقةَ، رواه ابن سعد وغيره، كما ذكره الصنعاني وغير ذلك من الدلائل الواضحة الكثيرة.

ولما كان بين حديث مسلم والأحاديث الدالة على الإباحة تعارض احتاج العلماء إلى التوفيق بينهما، فاختلفوا فيه، كما أشار إلى ذلك بقوله (فالخلف) بالضم، أي الاختلاف بين العلماء في هذا الحديث لمعارضته الأحاديثَ الدالةَ على الجواز كالأحاديث المذكورة، فالخلف مبتدأ خبره جملة قوله (نمى) بالبناء للمفعول، أي نسب إليهم. يعني أنهم اختلفوا في التوفيق:(فبعضهم) أي بعض المختلفين (أعلَّه) أي حديثَ مسلم الدال على المنع (بالوقف) أي بأنه موقوف على أبي سعيد، يعني: أن بعض العلماء حكموا بأن لحديث أبي سعيد علةً، وهي كونه موقوفاً على أبي سعيد، وبه جزم البخاري وغيره.

(وآخرون) من المختلفين أيضاً (عللوا بالخوف) أي جعلوا علة النهي عن الكتابة في حديث أبىِ سعيد الخوفَ (من اختلاط بالقران) بتخفيف الهمزة بنقل حركتها إلى ما قبلها، وهو جائز في النثر وبه قرئ في السبعة، يعني أنهم جعلوا علة النهي لأجل خوف اختلاط الحديث بالقرآن، وهذا يدل على أن النهي كان في حين نزول القرآن، فلما انقطع نزوله نسخ.

ص: 7

كما قال (فانتسخ) أي صار النهي منسوخاً (لأمنه) أي أمن الاختلاط المذكور.

وحاصل المعنى: أن سبب النهي كان خوفَ اختلاط القرآن بغيره، فلما زالت العلة بسبب انقطاع نزول القرآن صار منسوخاً، لزوال الموجب (وقيل ذا) أي نهي الكتابة (لمن نسخ الكل) بالنصب على المفعولية أي كتب القرآن والحديث معاً (في صحيفة) واحدة، فإنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معها فنهوا عن ذلك لخوف الاشتباه.

قال الحافظ: ولعل من ذلك: ما قُرِئ شاذًّا في قوله: " ما لبثوا " حولًا " في العذاب المهين " اهـ.

وحاصل المعنى أن النهي المذكور مختص بمن جمع القرآن وغيره في صحيفة واحدة، وأما غيره فلا للأحاديث الدالة على وجود الكتابة منه صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة بأمره. (وقيل بل) النهي عن الكتابة كائن (لآمن نسيانه) بالنصب على المفعولية لآمن، أي لشخص يَأمَنْ النسيانَ، (لا)(لذي خلل) أي صاحب نقص في حفظه.

وحاصل المعنى: أن النهي لمن أمِنَ من النسيان بعد الحفظ، ووثق بحفظه، وخيف اتكاله عَلى الخط، إذا كتب، والإذنَ لمن خيف نسيانه، فيكون النهي مخصوصاً.

والحاصل: أن الذي استقر عليه الإجماع بعدَ الاختلافِ هو الاستحباب، وقال الحافظ: لا يبعد وجوبه على من خَشِي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم.

وقال الذهبي: إنه يتعين في المائة الثالثة، وهلم جَرًّا ويتحتم. اهـ.

ولكن لا ينبغي الاقتصارعليه حتى لا يصير له تصور، ولا يَحفَظُ شيئًا، فقد قال الخليل من الرجز:

لَيْسَ بِعِلْم مَا حَوَى الْقِمَطْرُ

مَا الْعِلْمُ إِلَّا مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ

ص: 8

وقال آخر من البسيط:

اسْتَوْدَعَ الْعِلْمَ قِرْطَاساً فَضَيعَهُ .. وَبِئْسَ مُسْتَوْدَعُ الْعِلْمِ الْقَرَاطِيسُ

ثم ذكر مسألة العناية بكتابة الحديث، فقال:

436 -

ثُمَّ عَلَى كَاتِبِهِ صَرْفُ الْهِمَمْ

لِلضَّبْطِ بِالنَّقْطِ وَشَكْلِ مَا عَجَمْ

437 -

وَقِيلَ: شَكْلُ كُلِّهِ لِذِي ابْتِدَا

وَفِي سُمًى مَحَلِّ لَبْسٍ أُكِّدَا

(ثم) بعد أن عرفنا رفع الخلاف السابق. واستقرارَ الإجماع اللاحق، على جواز الكتابة يتأكد (على كاتبه) أي الحديث (صرف) أي رد (الهمم)، جمع هِمَّة بالكسر: أولُ العزم. وقد تطلق على العزم القوي، فيقال: له همة عالية. أفاده الفيومي.

قلت: والمعنى الثاني هو المقصود هنا.

يعني: أنه يتأكد على كاتب الحديث رد همته القوية. ثم ظاهر عبارته يفيد الوجوب، وهو الذي تفيده عبارة ابن خَلَّاد وعياض، وصرح به الماوردي، لكن في حق من يحفظ العلم بالخط، ويحتمل أن يكون على سبيل الاستحباب المتأكد، أفاده السخاوي. (للضبط) متعلق بصرف، أي ضبطِ ما يُحَصِّلُهُ بخطه، أو بخط غيره من مرويه وغيره من كتب العلوم النافعة، ضبطاً يُؤمَن معه اللبس (بالنقط) متعلق بالضبط، يعني أن ذلك الضبط يكون بنقط الحروف، وهو مصدر نَقَطْتُ الكتاب من باب قتل، والنُّقْطة بالضم اسم للفعل، والجمع نقَطُ مثل غرفة وغُرَف، والنقطة بالفتح المرة أفاده الفيومي. وفي " ق " وشرحه نَقَطَ الحرف وَنَقَّطَهُ تنقيطاً، أي بالتخفيف، والتشديد: أعجمه، والاسم النُّقطة بالضم، وهو رأس الخط.

والمعنى: أنه يضبط الحرف الذي يستعجم، أي يستبهم بإغفاله بحيث يصير فيه عجمة، فيزيل ذلك بإعجامه، فيميز الخاء المعجمة عن الحاء المهملة، والذال المعجمة عن الدال المهملة، كحديث:" عليكم بمثل حصى الخذف " فيعجم كلا من الخاء والذال بالنقط، وكالنقيع بالنون،

ص: 9

والبقيع بالباء، وما أشبه ذلك، وإن لم يتقيد بذلك كثير من المتقدمين اتكالًا على حفظهم.

فعن الثَّوري: الخطوطُ المعجمة كالبرود المعْلَمَة.

وقال بعض الأدباء: رُبَّ علم لم تُعجَم فصوله، استعجم محصوله.

وعن الأوزاعي، عن ثابت بن معبد: نورُ الكتاب الِإعْجَامُ. (و) يضبطه أيضاً بـ (ـشكل) أي وضع حركات (ما) أي الحرف الذي (عَجَمَ) أي استبهم، يقال: شكلت الكتاب شكلاً، من باب قتل: أعلمته بعلامات الإعراب.

يعني: الفتحةَ والضمةَ والكسرةَ والسكون، وأشكلته بالألف لغة، أفاده الفيومي.

قال ابن الصلاح: إعجام المكتوب يمنع من استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله. قال: وكثيراً ما يعتمد الواثق على ذهنه وذلك وخيم العاقبة فإن الإنسان معرض للنسيان، وأول ناس أول النَّاس اهـ.

ثم إن ما ذكر من الشكل للمشكل فقط، فقد نُقِلَ أن أهل العلم يكرهون الإعجام والإعراب إلا في الملتبس إذ لا يحتاج إليهما في غيره، وقيل: ينبغي شكل الكل للمبتدئ، وإليه أشار بقوله:(وقيل شكل كله) مبتدأ خبره قوله: (لذي ابتدا) أي شكل المشكل وغيرِهِ مستحسن للمبتدئ، وفي نسخة الشارح يُشْكَلْ بصيغة المضارع فتسكن لامه للوزن.

وحاصل المعنى: أنه يستحسن شكل الكل للمبتدئ، غير المتبحر في العلم، قال القاضي عياض: وهو الصواب لأنه لا يميز ما يشكل مما لا يشكل، ولا صوابَ وجه إعراب الكلمة من خطئه اهـ.

وقال العراقي: وربما ظن أن الشيء غير مشكل لوضوحه وهو في الحقيقة محل نظر يحتاج إلى الضبط، وقد وقع بين العلماء خلاف في مسائل مرتبةٍ على إعراب الحديث كحديث:" ذكاة الجنين ذكاة أمه " فاستدل به الجمهور على أنه لا تجب ذكاة الجنين بناء على رفع ذكاة أمه، ورجح

ص: 10

الحنفية النصب على التشبيه أي يذكي مثل ذكاة أمه اهـ. كما نقله في التدريب.

(وفي سمى) متعلق بأُكِّدا، وهو لغة في الاسم، لأن فيها ثماني عشرة لغة جمعها ابن مالك في بيت بقوله:

سِمٌ سُمَة وَاسمٌ سُمَاةُ كَذَا سُمى

سُمَاءٌ بِتَثْلِيثٍ لِأوَّلِ كُلِّهَا

(محل لبس) بالجر صفة لسمى، أي موضع التباس على قارئه (أُكِّدا) بالبناء للمفعول والألف للإطلاق، أي أكد شكل ما يلتبس من الأسماء.

وحاصل المعنى: أن العلماء من المحدثين وغيرهم أكدوا في ضبط ما يلتبس من الأسماء، لا سيما الأسماء الأعجمية، والقبائل الغريبة، لقلة التمييز فيها، بخلاف الإعراب، ولذا قال بعضهم: إنها أوْلَى الأشياء بالضبط، لأنها لا يدخلها قياس، ولا قبلها، ولا بعدها شيء يدل عليها، ثم ذكر محل الضبط فقال:

438 -

وَاضْبِطْهُ فِي الأَصْلِ وَفِي الْحَوَاشِي

مُقَطِّعًا حُرُوفَهُ لِلنَّاشِي

(واضبطه) أي المشكل من الأسماء، والألفاظ، (في الأصل) أي نفس الكتاب (و) اكتبه أيضاً (في الحواشي) أي هامشِ الكتاب قُبَالَتَه، حسبما جرى عليه رسم جماعة من أهل الضبط، لأن جمعهما أبلغ في الإبانة، والبعد من الالتباس، بخلاف الاقتصار على أولهما فإنه ربما داخله لفظ، أو شكل لغيره مما فوقه، أو تحته، فيحصل الالتباس، لا سيما عند دقة الخط، وضيق الأسطر، قاله ابن الصلاح، تبعاً لعياض. (مقطعاً) اسم فاعل، أو مفعول حال من الفاعل، أو المفعول، (حروفه) مفعول به لمقطعاً، أو نائب فاعله، أي حال كونه مقطعاً حروف ذلك المشكل، أو حال كون حروف ذلك المشكل مقطعة، (للناشي) أي للمبتدئ الذي لا يميز الحروف، أي لأجل أن تظهر وتتضح له، قال في القاموس: الناشئ الغلام والجارية، جاوزا حَدَّ الصغر. اهـ.

ص: 11

وإنما خص المبتدئ، لأنه أشد حاجة إلى البيان من غيره.

وحاصل معنى البيت: اضبط أيها المحدث المشكلَ في نفس الكتاب واكتبه أيضاً في الحاشية قبَالته مع تقطيع الحروف، فإن هذا أنفع، وذلك لأنه يظهر شَكلُ الحرف بكتابته مفرداً في بعض الحروف، كالنون، والياء التحتانية، بخلاف ما إذا كتبت مجتمعة، والحرف المذكور في أولها، أو وسطها، أفاده السخاوي.

ثم ذكر ما ينبغي أن يتنبه له الكاتب في كتابه وهو تحقيق الخط، فقال:

439 -

وَالْخَطَّ حَقِّقْ لا تُعَلِّقْ تَمْشُقِ

وَلا ـ بِلا مَعْذِرَةٍ ـ تُدَقِّقِ

(والخط) مفعول مقدم لقوله (حقق) أمر من التحقيق، يقال: حققت العقدة، إذا أحكمت شدها، أفاده في التاج.

والمعنى: أحْكِم خطك أيها المحدث بتبيين حروفه، فلا تخلط ما لا يستحق الخلط، ولا تفرق ما لا يستحق التفريق، كما بينه (1) بقوله:(لا تعلق) نهي من التعليق، وهو فيما قيل: خلط الحروف التي ينبغي تفرقتها، وإِذْهابُ أسنان ما ينبغي إقامة أسنانه، وطمس ما ينبغي إظهار بياضه، قاله السخاوي ولا (تمشق) نهي من المشق، يقال: مشقت الكتاب مشقاً من باب قتل: أسرعت في فعله، قاله في المصباح.

وقال السخاوي: المشق بفتح أوله وإسكان ثانية، وهو خفة اليد وإرسالُها، مع بعثرة الحروف، وعدم إقامة الأسنان، فأفاد أن بين التعليق والمشق عموماً وخصوصاً وجهياً، يجتمعان في عدم إقامة الأسنان، ويختص التعليق بخلط الحروف وضمها، والمشق ببعثرتها وإيضاحها بدون القانون المألوف.

(1) فقوله: لا تعلق إلى آخر البيت، توضيح لمعنى حقق.

ص: 12

(ولا بلا معذرة) أي دون عذر متعلق بـ (ـتدقق) أي لا ترقق خطك من غير عذر.

وصرح النووي وغيره: بأنه مكروه، أي كراهة تنزيه لأنه لا يَنْتَفِعُ به مَنْ في نظره ضعف، بل ربما يعيش الكاتب نفسه حتى يضعف بصره.

وقد قال الإمام أحمدُ لابن عمه حنبل بن إسحاق بن حنبل، وقد رآه يكتب خطاً دقيقاً: لا تفعل، فإنه يخونك أحوج ما تكون إليه، رواه الخطيب في جامعه.

وعن أبي حكيمة، قال: كنا نكتب المصاحف بالكوفة، فيمر علينا علي بن أبي طالب فيقوم علينا، فيقول:" أجِلَّ قَلَمَك " قال: فقططت منه، ثم كتبت فقال:" هكذا نوروا ما نور الله " رواه الخطيب أيضاً.

واحترز بقوله: بلا معذرة عما إذا كان لعذر كأن لا يكون في الورق سعة، أو كان الكاتب رَحَّالاً يحتاج إلى تدقيق الخط، ليخف عليه حمل كتابه، أو لفقره بأن لا يجد الثمن، أو يجده ولا يجد الورق.

ولما بين ضبط الحروف المعجمة، شرع يبين ضبط المهملة فقال:

440 -

وَيَنْبَغِي ضَبْطُ الْحُرُوفِ الْمُهْمَلَهْ

بِنَقْطِهَا أَوْ كَتْبِ حَرْفٍ أَسْفَلَهْ

441 -

أَوْ هَمْزَةٍ أَوْ فَوْقَهَا قُلامَهْ

أَوْ فَتْحَةٍ أَوْ هَمْزَةٍ عَلامَهْ

(وينبغي) أي يندب ندباً مؤكداً، لا يحسن تركه، وهي من الأفعال التي لا تتصرف فلا يقال: انبغى، خلافاً لبعضهم، وحكى عن الكسائي أنه سمعه من العرب، أفاده الفيومي. (ضبط الحروف المهملة) كالدال، والراء، والصاد، والطاء، والعين، ونحوها، إلا الحاء، ولم يستثنها كما استثناها العراقي لوضوحها، لأنها لو جعلت تحتها نقطة لالتبست بالجيم، فترك العلامة لها علامة.

ثم اختلِفَ في كيفية ضبطها على ستة أقوال: أشار إلى الأول بقوله:

ص: 13

(بنقطها) بما فوق الحروف المعجم المشاكل لها، فيجعل تحت الدال، والراء، والسين، والصاد، والعين: النًّقَطُ التي فوق نظائرها هذا قول بعضهم.

وأشار إلى الثاني بقوله (أو) لتنويع الخلاف، أي قال بعضهم: يميزها بـ (كتب حرف) بفتح الكاف وسكون التاء بمعنى كتابة حرف (أسفله) أي تحت الحرف المهمل، بأن يُجعلَ تحته حرفٌ صغير مثله، قال في التدريب: ويتعين ذلك في الحاء المهملة.

قال القاضي: وعليه عمل أهل المشرق والأندلس.

وأشار إلى الثالث بقوله: (أو) لتنويع الخلاف أيضاً أي قال بعضهم: يميزها بكتابة (همزة) بالجر عطفاً على حرف، أي بكتب همزة أسفله.

وأشار إلى الرابع بقوله: (أو) للتنويع أيضاً، أي قال بعضهم: يميزها (فوقها) أي الحروف المهملة المذكورة (قلامة) بالجرٍ عطفاً على المجرور قبله، أي بكتب قلامة، وهو بالضم: ما سقط من الظّفْر كما في المختار، أي بكتابة علامةٍ كقلامةِ الظفر، مثل الهلال مضطجعة على قفاها، لتكون فَرجتها إلى فوق، ولأجل ذلك فقط مُثِّلَت بالقلامة، إذ المُشاهَد في خط كثيرين لا يشابهها من كل وجه، بل هي منجمعة من أسفلها هكذا (7) قاله السخاوي.

وأشار إلى الخامس بقوله: (أو) للتنويع أيضاً أي قال بعضهم: يميزها بكتب (فتحة) فوقها، أي خطٍّ صغيرٍ يشبه فتحة، وليس بفتحة حقيقة، ولا يفطن له كثيرون، لكونه خفياً غير شائع، ولذا اشتبه على بعضهم حيث توهمه فتحةً لذلك الحرف، فقرأ رِضوان بفتح الراء، وليست الفتحة إلا علامة الإهمال، وذلك موجود في كثير من الكتب القديمة، قاله ابن الصلاح.

وأشار إلى السادس بقوله: (أو همزةٍ) أي قال بعضهم: يميزها بكتب همزة فوقها.

ص: 14

وحاصل معنى البيتين: أنه ينبغي الاعتناء بتمييز الحروف المهملة عن المعجمة بعلاماتٍ ذَكَرَ منها ستة: قيل: بنقطها تحتها بالنقط الذي فوق نظائرها، وقيل: بكتابة حرف صغير مثلها تحتها، وقيل: بكتابة علامة كقلامة الظفر فوقها، وقيل: بكتابة همزة فوقها، وقيل: بكتابة خط صغير كفتحة فوقها، وقيل: كهمزة فوقها.

وبقي سابع: وهو أن يكتب ما يدل على الضبط بألفاظ كاملة دالة عليه، كما نقِلَ عن بعضهم أنه كتب في حديث أبي الحَوْرَاءِ تحته حور عِين، خوفاً من أن يُصَحَّفَ بأبي الجَوْزاء بالجيم والزاي، أفاده السخاوي.

ولما اختلف في نقط السين من تحتُ ذكره بقوله:

442 -

وَالنَّقْطُ تَحْتَ السِّينِ قِيلَ: صَفَّا

وَقِيلَ كَالشِّينِ: أَثَافِي تُلْفَى

(والنقط) الكائن (تحت السين) المهملة (قيل صفًّا) أي يجعل مبسوطاً صفاً واحداً، فالنقط مبتدأ خبره جملة، قيل: صفًّا، (وقيل) يجعل (كالشين) أي مثل نقطها (أثافي) جمع أثفية بضم الهمزة وتكسر، وسكون الثاء المثلثة، وكسر الفاء وتشديد الياء، وهو ما يوضع عليه القِدْر، والياء في الأثافيّ مشددة، وتُخَفَّفُ، أفاده في المختار. وقوله:" كالشين " متعلق بقوله: (تلفى) بالبناء للمفعول أي توجد، أو حال من النقط، وقوله:" أثافي " مفعول ثان مقدم عليه.

وحاصل المعنى: أن النقط التي تميز بها السين المهملة اختلف في كيفية كتابتها، فقيل: تجعل صفاً واحداً مبسوطة، لئلا يلزم ازدحام النقطة أو النقطتين مع ما يحاذيها من السطر الذي يليها، فيظلمَ بل ربما يحصل به لبس، وقيل: كصورة النقط التي فوق الشين مثل الأثافي، قال السخاوي: لكن الأنسب والأبعد عن اللبس قَلْبُها فتكون النقطتان المحاذيتان للمعجمة من فوق محاذيتين للمهملة من أسفل اهـ.

ولما لم يتعرض أحد من أهل هذا الفن للكاف واللام مع أن

ص: 15

أصحاب التصانيف في الخط ذكروهما أراد أن يبين ذلك الناظم تتميماً للفائدة فقال:

443 -

وَالْكَافُ لَمْ تُبْسَطْ فَكَافٌ كُتِبَا

فِي بَطْنِهَا، وَاللامُ لامًا صَحِبَا

(والكاف) مبتدأ خبره جملةُ " فكاف كتبا "(لم تبسط) حال من الكاف على رأي، أي حال كونها غير مبسوطة (فكاف) مبتدأ، والفاء زائدة (كتبا) بالبناء للمفعول وألف الإطلاق (في بطنها) متعلق بكتب، أي كتب في بطن الكاف كاف صغيرة، والمعنى: أن الكاف إذا لم تكتب مبسوطة تكتب في بطنها كاف صغيرة، لئلا تشتبه باللام.

وذلك لأن الكاف تكتب برسمين: أحدهما، هكذا (كـ)، وهذه لا تحتاج إلى مميز، لوضوحها، والثاني: شِبْهُ اللام فهذه تحتاج إلى مميز، فتكتب فيها كاف صغيرة، أو هي همزة، هكذا (ك). (واللام) مبتدأ خبره جملة قوله:(لاما) مفعول مقدم لقوله: (صحبا) بالبناء للفاعل والألفُ للإطلاق، أي تصحب اللام لاماً في بطنها أي كلمة " لام " في وسطها، يعني: هذه الكلمة بحروفها الثلاثة لا صورة (ل) ويوجد ذلك كثيراً في خط الأدباء هكذا (لـ).

ولم يتكلم على الهاء آخر الكلمة، والهمزة المكسورة، وبَيَّنَهمَا في التدريب، فقال: والهاء آخر الكلمة يكتب عليها هاء مشقوقة تميزها من هاء التأنيث التي في الصفات ونحوها، والهمزة المكسورة هل تكتب فوق الألف والكسرة أسفلها، أو كلاهما أسفل اصطلاحات للكتَّابِ والثاني أوضح اهـ.

ثم تكلم على ما يصطلح عليه الشخص لنفسه من الرموز فقال:

444 -

وَالرَّمْزَ بَيِّنْ وَسِوَاهُ أَفْضَلُ

.......................

(والرمز) مفعول مقدم لقوله: (بيّن) فعل أمر من التبيين، أي وضح

ص: 16

الرمز الذي تجعله لنفسك اصطلاحاً في أول الكتاب أو آخره، لئلا يقع غيرك في حَيْرَةِ فهمِ مرادك.

والحاصل: أنه لا بأس أن يصطلح الإنسان إذا كثر اختلاف الروايات في أحاديثه، أو كثرت الكتب التي ينقل منها في كتابه على رموزٍ اختصاراً، لكن عليه أن يبين ذلك في كتابه لِئَلَاّ يصعب على غيره فهم مراده، ومع كونه لا بأس به، فعدم الرمز أولى، كما قال:(وسواه) أي غيره وهو عدم الرمز، مبتدأ خبره قوله:(أفضل) أي أولى، فيكتب عند كل راو، أو كتاب اسمه بكماله مختصراً بدون زائد على التعريف به، فلا يقول في الفربري مثلاً أبو عبد الله محمد بن يوسف، بل يختصر على الفربري، أو نحوه.

ثم بين الدَّارَةَ التي تجعل للفصل بين الحديثين فقال:

.................

وَبَيْنَ كُلِّ أَثَرَيْنِ يَُفْصَِلُ

445 -

بِدَارَةٍ، وَعِنْدَ عَرْضٍ تُعْجَمُ

................

(وبين كل أثرين) أي حديثين متعلق بـ (يفصل) بالبناء للمفعول، أو للفاعل، أي يميز استحباباً (بـ) ـوضع (دارة) أي حَلْقَةِ منفرجة، أو مطبقة، والدارة: هي الدائرة، وهي ما أحاط بالشيء كما تفيده عبارة " ق ". والحاصل: أنه يميز بين الأحاديث بوضع الدائرة، لئلا يحصل التداخل بأن يدخل عجز الأول في صدر الثاني، أو العكس، إذا تجردت المتون عن الأسانيد، وعن صحابيها، كأحاديث الشهاب والنجم وغيرها.

وكذلك يفصل بين الحديث، وبين ما يكتبه بآخره من إيضاح لغريب، وشرح معنى ونحوه.

وكذا يفعل في التراجم ورؤوس المسائل.

(وعند) تمام (عرض) للكتاب على الشيخ (تُعجَمُ) أي تنقط تلك الدارة بنقطة في وسطها.

ص: 17

وحاصل المعنى: أنه يُغْفِلُ تلك الدارة عن العلامة حتى يَعرِضَ الكتاب، ويقابلَه بالأصل، أو نحوه، فإذا عارضه يُنَقِّط في الدارة التي تلي الحديث المقابَلَ نقطةً، أو يخط وسطها خطاً حتى لا يكون بَعْدُ في شك، هل عارضه أو سَهَا فتجاوزه لا سيما حين يُخَالَفُ فيه.

ثم بين حكم المضاف والمضاف إليه في الكتابة فقال:

................

وَكَرِهُوا فَصْلَ مُضَافٍ يُوهِمُ

(وكرهوا) أي أهل الحديث في الكتابة (فصل مضاف) عن المضاف إليه، وقوله (يوهم) صفة لفصل، أي يوقع الوَهمَ في معنى غير لائق.

وحاصل المعنى: أن العلماء كرهوا فصل المضاف عن المضاف إليه في الخط بكتابة الأول في سطر، ثم الثاني في سطر آخر، إذا كان يوهم معنى غير لائق، مثل عبد الله، وعبد الرحمن ابن فلان، فلا يكتب عبد آخر السطر، واسم الله مع ابن فلان أول السطر الآخر، احترازاً عن قبح الصورة، وإن كان غير مقصود، وكرسول من رسول الله فلا يكتب رسول في آخر سطر، واسم الله مع الصلاة في أول سطر آخر.

وكذا غير المضاف والمضاف إليه مما يُسْتَبْشَعُ كقوله: الله ربي لا أشرك به شيئاً، فلا يكتب " لا " في سطر، وأشرك به في سطر آخر، وهذا كله كراهة تنزيه، وأوجبه بعضهم.

ولا شك في تأكده إذا كان التعبيد آخر الصفحة اليسرى، والاسم الكريم وما بعده في أول الصفحة اليمنى، فإن الناظر إذا رآه كذلك، ربما لم يقلب الورقة، ويبتدئ بقراءته كذلك بدون تأمل.

وإنما قيد بقوله: يوهم، لأنه إذا لم يوهم معنى غير لائق فلا بأس به، بأن لم يكن بعد اسم الله مثلاً ما ينافيه، بأن يكون آخر الكتاب، أو الحديث، أو يكون بعده شيء ملائم له غير مناف، كقول البخاري في آخر

ص: 18

الجامع: سبحان الله العظيم، ومع هذا فجمعهما في سطر واحد أولى. ثم ذكر ما يُستَحسَنُ عند الكتابة، وهو الثناء على الله سبحانه، والصلاةُ والسلامُ على النبي صلى الله عليه وسلم حيث كَتَبَ اسمهما، وكذا الترضي عن الصحابة، فقال:

446 -

وَاكْتُبْ ثَنَاءَ اللهِ وَالتَّسْلِيمَا

مَعَ الصَّلاةِ وَالرِّضَى تَعْظِيمًا

(واكتب) أيها الكاتب للحديث، وغيره على وجه الاستحباب المتأكد (ثناء الله) سبحانه كلما مر ذكره، كعزَّ وجلَّ، أو تبارك وتعالى، أو نحوهما إجلالًا له سبحانه، لأنه يحب الحمد.

ففي حديث الأسود بن سُرَيْع رضي الله عنه كما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأحمد وغيرهما أنه أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: قد مدحت ربي بمحامد ومدحٍ، وإياكَ فقال:" أما إن ربك يحب الحمد " وفي لفظ: " المدح "(1) الحديث قاله السخاوي.

(و) كذا اكتب (التسليما مع الصلاة) على النبي صلى الله عليه وسلم كلما مر ذكره، تعظيماً وتنويهاً بشأنه الشريف، وأداء لبعض حقه، لأنه الواسطة في نيل الدرجات عند الله سبحانه بما أتى به من عند الله من نعمة دين الإسلام، فوجب مكافأته بقدر المستطاع، وهو الدعاء له فقد أخرج أحمد وغيره بسندهم عن ابن عمر مرفوعاً:" من صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه به فادعوا الله حتى تروا أنكم قد كافأتموه ". قال النووي: حديث صحيح.

وقد صَرَّحَ بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه جمعٌ من العلماء وأوجبها بعضهم في الصلاة.

وأخرج الترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن أولى النَّاس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة ".

(1) ضعيف أخرجه أحمد والنسائي والحاكم. انظر ضعيف الجامع الصغير ص 174.

ص: 19

قال ابن حبان: في هذا الخبر بيان صحيح على أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أصحابُ الحديث إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثرُ صلاةً عليه منهم.

وقال أبو نعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها، لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف لهؤلاء نسخاً وذكراً.

وأما ما رُوِيَ في ثواب كتابة الصلاة عليه فليس بثابت مرفوعاً، فلا نشتغل به.

(والرضى) أي اكتب الترضي على الصحابة رضي الله عنهم، ومثله التَرحمُ على العلماء، وقوله:(تعظيماً) مفعول لأجله أي اكتب كل ما ذكر لأجل تعظيمهم، أو حال مما ذكر، أي حال كونك معظماً لهم.

وقال النووي رحمه الله: ولا يستعمل: عز وجل، ونحوَه في النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان عزيزاً، جليلاً، ولا الصلاة والسلام في الصحابة استقلالاً، ويجوز تبعاً اهـ.

ثم إن كتابة ما ذكر يكون بالتمام، ولا ينبغي الاختصار بالرمز، وإليه أشار بقوله:

447 -

وَلا تَكُنْ تَرْمُِزُهَا أَوْ تُفْرِدِ

.....................

(ولا تكن) أيها المحدث (ترمزها) من باب قتل، وضرب، وأصله: الإشارة والإيماء بالشفتين، والحاجب، كما في المختار، لكن المراد هنا الاختصار في الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوِها في الخط على حرف أو حرفين وأكثر، فتكون منقوصة صورة، كما يفعله الكسائي، والجهلة من أبناء العجم غالباً، وعوام الطلبة، فيكتبون بدلًا عن صلى الله عليه وسلم " ص " أو " صم " أو " صلم " أو " صلعم " فذلك لما فيه من نقص الأجر لنقص الكتابة خلافُ الأولى.

ص: 20

وصرح ابن الصلاح والنووي بالكراهة. قلت: ولا أرى له دليلاً، وكذا يكره إفراد أحدهما عن الآخر، كما أشار إليه بقوله:

(أو تفرد) عطف على تكن مجزوم، وكسرت داله لِلروِيّ، وأو بمعنى الواو، أي ولا تفرد أحدهما عن الآخر، فإنه مكروه، صرح به النووي رحمه الله متمسكاً بورود الأمر بها في الآية معاً، وخص ابن الجزري الكراهية بما وقع في كتب رواهُ الخلف عن السلف، لأن الاقتصار على بعضه خلاف الرواية، قال: فإن ذكر رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم صل عليه مثلاً، فلا أحسب أنهم أرادوا أن ذلك يكره اهـ.

وقال الحافظ: إن كان فاعل أحدهما يقتصر على الصلاة دائماً فيكره من جهة الإخلال بالأمر بالإكثار منهما، والترغيب فيهما، وإن كان يصلي تارة ويسَلِّم أخرى من غير إخلال بواحدة منهما فلم أقف على دليل يقتضي كراهته، ولكنه خلاف الأولى إذِ الجمع بينهما مستحب اهـ.

ثم إن كتابة ما ذكر لا يتقيد بوجوده في الكتاب المنقول منه، لأنه ثناء ودعاء، وإليه أشار بقوله:

.....................

وَلَوْ خَلا الأَصْلُ، خِلافَ أَحْمَدِ

(ولو خلا الأصل) المنقول منه، لعدم التقيد به في ذلك، فإنه ثناء ودعاء تثبته أنت، لا كلام ترويه عن غيرك (خلاف أحمد) الإمامِ، حال (1) من فاعل اكتب أي اكتب ذلك كله مخالفاً لأحمد، أو من محذوف أي قلت: هذا مخالفاً له، فإنه رحمه الله يكتب كثيراً اسم النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذلك، ذكره الخطيب، ولعله كما قال ابن الصلاح: يرى التقيد في ذلك بالرواية، لالتزامه اقتفاءَهَا، فحيث لم يجدها في أصل شيخه، وعز عليه

(1) قوله: حال. أي على قلة من مجيء الحال مصدرًا معرفة إِذ الغالب مجيء الحال مصدراً نكرة كما قال ابن مالك:

وَمَصْدَر مُنَكر حَالًا يَقَعْ

بِكَثْرَةٍ كَبَغْتَةً زَيْد طَلَعْ

ص: 21

اتصالها في جميع من فوقه من الرواة، لا يكتبها تورعاً من الزيادة، كمنعه إبدال النبي بالرسول، وإن لم يختلف المعنى. قال الخطيب: بلغني أنه كان يصلي نطقاً.

ثم ذكر مسألة مقابلة الكتاب فقال:

448 -

ثُمَّ عَلَيْهِ حَتْمًا الْمُقَابَلَهْ

بِأَصْلِهِ أَوْ فَرْعِ أَصْلٍ قَابَلَهْ

(ثم) بعد أن يكتب ويتم المقصود (عليه) أي الكاتب نفسه، أو نائبه (حتما) أي وجوباً، كما صرح به الخطيب، وكذا عياض، وقال ابن الصلاح: لا غنى لمجلس الإملاء عن العرض، والجار والمجرور خبر مقدم لقوله:(المقابلة) أي مقابلة كتابه، تقول: قابلت الكتاب قِبَالاً وَمُقَابَلَةً، أي جعلته قُبَالته، وصيرت في أحدهما كل ما في الآخر، ويقال: لها أيضاً المُعارضة، يقال: عارضت بالكتاب الكتاب أي جعلت ما في أحدهما مثل ما في الآخر، مأخوذ من عارضت بالثوب إذا أعطيته، وأخذت ثوباً غيره، أفاده السخاوي.

(بأصله) متعلق بالمقابلة، أي بالكتاب الذي أخذه عن شيخه بسائر وجوه الأخذ الصَّحِيحة، وكذا بأصل أصل الشيخ الذي أخذ الطالب عنه المُقابَلِ به أصلُهُ (أو) المقابلة بـ (فرع أصل) أي كتاب منقول من أصل الشيخ (قابله) صاحبه بأصل الشيخ، والجملة صفة لفرع، أو حال منه، يعني أنه تكفي المقابلة بفرع مُقابَلٍ على أصل الشيخ مقابلةً معتبرةً موثوقاً بها، أو بفرع مُقَابَلٍ كذلك على فرع ولو كثر العدد بينهما، إذ الغرض المطلوب أن يكون كتابُ الطالب مطابِقاً لأصل مرويه وهو كتاب شيخه فسواء حصل بواسطة فأكثر، أو بدونها.

ثم إن التقييد في أصل الأصل بكونه قد قُوبِل الأصل عليه لا بدّ منه، وإلَاّ فلو كان لشيخ شيخه عدة أصول قوبل أصل شيخه بأحدها لا تكفي المقابلة بغيره لاحتمال أن يكون فيه زيادة، أو نقص، فيكون قد أتى بما لم

ص: 22

يَرْوِهِ شيخُه له، أو حَذَفَ شيئاً مما رواه له شيخه كما أشار إليه ابن دقيق العيد رحمه الله.

ومما قيل: في المقابلة قول بعضهم: مَنْ كَتَبَ ولم يُقَابِلْ، كمن غزا ولم يقاتل، وقول بعضهم: اكتب، وقابل، وإلا فألق في المزابل.

وعن يَحْيَى بن أبي كثير: أنه قال: مثل الذي يكتب ولا يعارض، مثل الذي يقضي حاجته ولا يستنجي بالماء.

وعن الأخفش قال: إذا نُسِخَ الكتابُ ولم يعارَض ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجمياً.

وقال السخاوي: والظاهر أن محل الوجوب حيث لم يثق بصحة كتابته، أو نسخته، أما من عرف بالاستقراء ندور السقط والتحريف منه فلا. اهـ.

ولما اختلفوا في كيفية المقابلة ذكره بقوله:

449 -

وَخَيْرُهَا مَعْ شَيْخِهِ إِذْ يَسْمَعُ

وَقَالَ قَوْمٌ: مَعَ نَفْسٍ أَنْفَعُ

450 -

وَقِيلَ: هَذَا وَاجِبٌ، وَيُكْتَفَى

إِنْ ثِقَةٌ قَابَلَهُ فِي الْمُقْتَفَى

(وخيرها) أي المقابلة مبتدأ خبره قوله: (مع شيخه) على كتابه بمباشرة الطالب بنفسه، (إذ يسمع) الطالب من الشيخ، أو عليه، أو يقرأ، لما يَجْمَعُ ذلك من وجوه الاحتياط والإتقان من الجانبين، أي إن كان كل واحد منهما أهلًا لذلك، فإن لم تجتمع هذه الأوصاف نقص من مرتبته بقدر ما فاته منها، قاله ابن الصلاح.

وقيد ابن دقيق العيد في الاقتراح الخيرية بتمكن الطالب مع ذلك من التثبت في القراءة، أو السماع، وإلا فتقديم العرض حينئذ أولى.

قال: بل أقول إنه أولى مطلقاً، لأنه إذا قوبل أولاً كان حالة السماع أيسر، وأيضاً فإن وقع إشكال كُشِفَ عنه وضُبِطَ فقرئ على الصحة، وكم

ص: 23

من جزء قُرِئَ بَغْتَةً فوقع فيه أغاليط، وتصحيفات لم يتبين صوابها إلا بعد الفراغ، فأصلحت، وربما كان ذلك على خلاف ما وقعت القراءة عليه، وكان كذباً إن قال قرأت لأنه لم يقرأ على ذلك الوجه اهـ.

والحاصل: أن أفضل المقابلة أن يمسك هو وشيخه كتابيهما حالة التسميع، وما لم يكن كذلك فهو أنقص رتبة.

وقال بعضهم: أفضلها مع نفسه وإليه أشار بقوله: (وقال قوم) من المحدثين، وهو أبو الفضل محمد بن أحمد الهروي الحافظ، عديم النظير في العلوم، خصوصاً في حفظ الحديث، وهو أول من سَنَّ بِهَرَاةَ تَخْرِيجَ الفوائد، وشرحَ حالِ الرجال، والتصحيحَ، مات سنة 413 هـ. اهـ طبقات الحفاظ.

المقابلةُ (مع نفس) أي نفس الطالب يعني حرفاً حرفاً (أنفع) من المقابلة مع شيخه.

والحاصل أن أبا الفضل قال: أصدق المعارضة مع نفسه أي لكون ذلك حينئذ لم يقلد غيره ولم يجعل بينه وبين كتاب شيخه واسطة، وهو بذلك على ثقة ويقين من مطابقتهما، وأوجب ذلك بعضهم كما أشار إليه بقوله:(وقيل هذا) المذكور من المقابلة مع نفسه (واجب) فلا تصح مقابلته مع أحد سوى نفسه.

يعني أن بعضهم أوجب المقابلة مع نفسه فلا يقلد غيره، لكنه مردود. قال ابن الصلاح: إنه مذهب متروك، وهو من مذاهب أهل التشديد المرفوضة في عصرنا، والقول الأول أولى. قال السخاوي: لا سيما والفكر يتشعب بالنظر في النسختين بخلاف الأول.

والحق كما قال ابن دقيق العيد: أن ذلك يختلف باختلاف الناس، فرب مَنْ عادته عدم السهو عند نظره فيهما فهذا مقابلته بنفسه أولى، ورب مَنْ عادته السهو فهذا مقابلته مع غيره أولى.

ص: 24

ثم إن الصَّحِيح أنه لا يشترط المقابلة بنفسه، بل تكتفى مقابلة ثقة وإليه أشار بقوله:(ويكتفى) بالبناء للمفعول أي يكتفى بالمقابلة (إن) شرطية (ثقة قابله) أي إن قابل الكتاب ثقة غيره (في المقتفى) أي القول المختار.

وحاصل المعنى: أنه لا يشترط في صحة السماع مقابلة الشخص بنفسه، بل تكفي مقابلة ثقة أيَّ وقت كان حال القراءة أو بعدها، وهذا هو الصواب الذي قاله الجمهور.

451 -

وَنَظَرُ السَّامِعِ مِنْهُ يُنْدَبُ

فِي نُسْخَةٍ، وَابْنُ مَعِينٍ: يَجِبُ

(ونظر السامع) أي الشخص الذي يَسْمَعُ الحديث، وهو مبتدأ خبره يندب (منه) أي من الشيخ متعلق بالسامع، وفي نسخة الشارح معه وهو قريب من معنى الأول (يندب) أي يستحب (في نسخة) متعلق بنظر، يعني أنه ينظر في نسخةٍ إمَّا لَهُ، أو لِمَنْ حضر من السامعين، أو الشيخ.

والحاصل: أنه يستحب أن ينظر الطالب حين سماع الحديث في نسخةٍ من الكتاب المسموع، لأنه أضبط وأجدر أن يفهم معه ما يستمع، لوصول المقروء إلى قلبه من طريقي السمع والبصر، كما أن الناظر في الكتاب إذا تلفظ به يكون أثبت في قلبه، لأنه يصل إليه من طريقين، ويتأكد النظر إذا أراد السامع النقل منها، لكونه حينئذ كأنه قد تولى العرض بنفسه. ثم إن كونه مستحباً هو الذي صرح به الخطيب، وهو الصواب الذي قاله الجمهور، وقال ابن معين: يجب ذلك وإليه أشار بقوله: (وابن معين) مبتدأ خبره محذوف تقديره قائل، وهو الإمام أبو زكريا يَحْيَى بن مَعِين بن عَون الغطفاني، مولاهم، البغدادي، ثقة، حافظ، مشهور إمام الجرح والتعديل، مات سنة 233 هـ. بالمدينة، وله بضع وسبعون سنة، وقوله:(يجب) مقول للخبر المقدر.

والمعنى أن ابن معين قال: يجب النظر المذكور.

وذلك أنه سئل عمن لم ينظر في الكتاب، والمحدث يقرأ، أيجوز له أن

ص: 25

يحدث بذلك عنه؟ فقال: أمَّا عندي فلا، ولكن عامة الشيوخ هكذا سماعهم اهـ.

لكن ابن الصلاح قال: إن هذا من مذهب المتشددين في الرواية، والصَّحِيح عدم اشتراطه، وصحة السماع، ولو لم ينظر أصلاً في الكتاب حالة السماع.

ثم إنه تجوز له الرواية، وإن لم يقابل إذا كان منقولًا من أصل معتمد، وكان الناقل ضابطاً قليل السقط، لكن يبين حال الرواية ذلك وإليه أشار بقوله:

452 -

إِنْ لَمْ يُقَابِلْ جَازَ أَنْ يَرْوِيَ إِنْ

يَنْسَخْ مِنَ أصْلٍ ضَابِطٌ ثُمَّ لْيُبِنْ

(إن) شرطية (لم يقابل) كتابه بالأصل ونحوه (جاز) له (أن يروي) منه، والحالة هذه على ما قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، وأبو بكر الإسماعيلي، والبرقاني، والخطيب، لكن بشروط ثلاثة أشار إلى الأول بقوله:(إن) شرطية أيضاً (ينسخ) ذلك الفرعَ (من أصل) معتمدٍ (ضابط) بالرفع فاعل ينسخ أي ناقل متقن بحيث لا يكون سقيم النقل، كثير السقط، (ثم ليبن) مضارع أبان، أي يُظهِرْ للناس عند الرواية أنه لم يعارضه.

وحاصل المعنى: أنه يجوز له أن يروي بدون مقابلة بالأصل، ونحوه بشروط ثلاثة عند من ذكرنا من الأئمة.

الأول: أن يكون الناقل للنسخة صحيح النقل، قليل السقط.

الثاني: أن ينقله من الأصل.

الثالث: أن يبين حال الرواية أنه لم يقابله.

ذكر هذا الشرط فقط الإسماعيلي، وهو مع الثاني الخطيب، والأولَ ابنُ الصلاح.

ومنع الروايةَ بدون مقابلة وإن اجتمعت الشروط القاضي عياضٌ رحمه الله.

ص: 26

وكُلُّ ما ذكرنا يشترط أيضاً في كتاب شيخه، كما أشار إليه بقوله:

453 -

وُكُلُّ ذَا مُعْتَبَرٌ فِي الأَصْلِ

.......................

(وكل ذا) أي المذكور من المقابلة وما يتعلق بها، وهو مبتدأ خبره قوله (معتبر في الأصل) أي الكتابِ المنقولِ منه، وهو كتاب شيخه، يعني أن المقابلة المذكورة هنا معتبرة أيضاً في كتاب الشيخ، فلا بد فيها منها.

قال ابن الصلاح: ثم إنه ينبغي أن يُرَاعِيَ في كتاب شيخه بالنسبة إلى مَنْ فوقه مثل ما ذكرنا أنه يراعيه من كتابه، ولا يكون كطائفة من الطلبة، إذا رأوا سماع شيخ لكتاب قرأوه عليه من أي نسخةٍ اتفقت اهـ.

ثم ذكر كيفية تخريج الساقط فقال:

................

وَسَاقِطًا خَرِّجْ لَهُ بِالْفَصْلِ

454 -

مُنْعَطِفًا، وَقِيلَ: مَوْصُولاً إِلَى

يُمْنَى بِغَيْرِ طَرْفِ سَطْرٍ وَاعْتَلَى

455 -

وَبَعْدَهُ " صَحَّ " وَقِيلَ: زِدْ " رَجَعْ "

وَقِيلَ كَرِّرْ كِلْمَةً، لَكِنْ مُنِعْ

(وساقطاً) مفعول لفعل محذوف على الاشتغال، أي خَرِّجْ شيئاً ساقطاً من الكتاب، ويُسَمَّى اللَّحَقَ بفتح اللام، والحاء المهملة يسمى بذلك عند أهل الحديث والكتابة، أخذاً من الإلحاق، أو من الزيادة فإنه يطلق على كل منهما لغة قاله في التدريب.

وقال السخاوي: والأصل في هذا الباب قول زيد بن ثابت في نزول قوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بعد نزول: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) كما في سنن أبي داود فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى مُلْحَقِهَا عند صَدْعٍ في كتف اهـ.

(خرج) أمر من التخريج (له) اللام زائدة أي ذلك الساقط (بالفصل) أي الخط الفاصل بين الكلمتين اللتين بينهما الساقط، حال كونه (منعطفاً)

ص: 27

إلى فوقِ السطرِ، بأن يخط من موضع سقوطه من السطر خطًّا صاعداً إلى فَوْقُ، ثم يعطفه بين السطرين عطفة يسيرة إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها اللحق هكذا [

].

ويبدأ فيها بِكَتْبِهِ اللَّحَقَ مقابلاً للخط المنعطف هذا هو المختار في التخريج.

وقيل: يمد العطفة إلى أول اللحق وإليه أشار بقوله: (وقيل) يكتب الفاصل (موصولاً) أي بأول اللحق، يعني: أنه يمد العطفة من موضع السقوط حتى تلتحق بأول اللحق، واختاره الرامهرمزي، لما فيه من مزيد البيان، لكنه كما قال ابن الصلاح غير مرضي، بل هو كما قال عياض: تسخيم للكتاب، وتسويد له، لا سيما إن كثرت الإلحاقات.

قال العراقي: إلا أن لا يكون مقابله خالياً، وُيكتبَ اللَّحَقُ في موضع آخر، فيتعين حينئذ جر الخط إليه، أو يكتب قبالته: يتلوه كذا وكذا، في الموضع الفلاني، ونحو ذلك، لزوال اللبس. (إلى يمنى) متعلق بموصول أي موصولاً إلى الجهة اليمنى من الحاشية إن اتسعت له، لاحتمال طُرُوِّ سقط آخر في بقية السطر فيخرج إلى جهة اليسار، فلو خرج للأولَى إلى اليسار، ثم ظهر سقط آخر، فإن خرج إلى اليسار أيضاً اشتبه موضع هذا بموضع ذاك، وإن خرج للثاني إلى اليمين تقابل طرفا التخريجين، وربما التقيا، فيُظَنُّ أنه ضرب على ثانيهما قاله في التدريب. (بغير طرف) خبر لمحذوف أي هذا كائن بغير طرف والطرف بفتح الطاء وسكون الراء منتهى كل شيء. اهـ " ق "، والمراد هنا آخر السطر.

أي آخر (سطر) بفتح فسكون ويحرك الخط والكتابة. اهـ " ق " لكن الضبط الأول هو المتعين هنا للوزن.

وحاصل المعنى: أنه يخرج الساقط إلى جهة اليمنى بشكل زاوية قائمة هكذا [

] إلى اليمنى هذا إذا لم يكن الساقط في آخر السطر، وإلا

ص: 28

فيخرجه إلى جهة الشمال للأمن حينئذ من النقص بعده وليكون متصلاً بالأصل.

قال العراقي: نعم إن ضاق ما بعد آخر السطر لقرب الكتابة من طرف الورق، أو لضيقه بالتجليد، بأن يكون السقط في الصفحة اليمنى فلا بأس حينئذ بالتخريج إلى جهة اليمنى. اهـ. (واعتلى) أي كتب الساقطَ صاعداً إلى أعلى الورقة من أي جهة كان، لا نازلًا إلى أسفلها، لاحتمال وقوع سقط آخر فيه أو بعده فلا يجد له مقابله موضعاً لو كتب الأول إلى أسفل.

وموضع الجملة نصب على الحال (1)، أي حال كونه معتلياً (وبعده) أي بعد انتهاء الساقط، والظرف خبر مقدم لقوله:(صح) مبتدأ لقصد لفظه، أي لفظُ صح كائن بعد الساقط الملحق في الحاشية.

وحاصل المعنى: أنه إذا انتهى اللحق يكتب في آخره كلمة " صح " فقط، إشارة إلى انتهائه، وثبوته في الأصل، وتكون صغيرة لئلا تشتبه مع ألفاظ اللحق.

(وقيل زد) أيها الكاتب على " صح "، لفظ (رجع) يعني أن بعضهم كما حكاه عياض قال: يكتب صح مع رجع، أو يقتصر على رجع، وبعضهم يكتب انتهى اللحق، قال عياض: والصواب صح. (وقيل كرر كلمة) بسكون اللام مع فتح الكاف وكسرها كما تقدم، مخفف كلمة بكسر اللام أي أعِدِ الكلمةَ المتصلةَ بداخل الكتاب.

وحاصل المعنى: أنك تكرر الكلمة التي اتصلت باللحق داخل الكتاب بأن تكتبها بالهامش أيضاً ليدل على أن الكلام منتظم، لكن هذا القول غير مرضي، كما قال:(لكن منع) بالبناء للمفعول، أي رد هذا القول

(1) ولا يحتاج إلى تقدير " قد " على مذهب الكوفيين، وهو الظاهر.

ص: 29

لأنه تطويل مُوهم، فقد يجيء في الكلام ما هو مكرر مرتين، أو ثلاثاً، لمعنى صحيح، فإذا كررنا الحرف لم نأمن أن يوافق ما يتكرر حقيقة، أو يشكل أمره، فيوجب ارتياباً وزيادة إشكال.

هذا كله في تخريج الساقط، وأما ما يكتب من غير أن يكون ساقطاً فقد ذكره بقوله:

456 -

وَخَرِّجَنْ لِغَيْرِ أَصْلٍ مِنْ وَسَطْ

وَقِيلَ ضَبِّبْ خَوْفَ لَبْسِ مَا سَقَطْ

(وخرجن) أمر من التخريج، والنون نون التوكيد الخفيفة، ومفعوله محذوف، أي العلامةَ (لغير أصل) أي لأجل كتابة شيء غير أصل من شرح، أو فائدة، أو تنبيه على غلط، أو اختلاف رواية، أو نسخة، أو نحو ذلك (مِن وَسَطْ) أي وسط الكلمة التي تُشْرَحُ أو يُنَبَّهُ على ما فيها.

وحاصل المعنى: أن ما يكتب في الحاشية من غير الأصل كالأشياء المذكورة تخرج له العلامة استحباباً من وسط الكلمة المخرج لأجلها، لا بين الكلمتين، ليفارق التخريجُ الساقطَ.

وقال القاضي عياض: الأولى أنه لا يخرج له خطًّا، بل ضبب عليه، كما أشار إليه بقوله:(وقيل ضَبِّبْ) أي اجعل على الحرف المخرج عليه ضبة، أو نحوها تدل عليه، والضبة: صاد ممدودة هكذا (صـ) وسيأتي بيانها (خوف لبس ما سقط) أي لأجل الالتباس بما سقط من أصل الكتاب.

والمعنى أن بعضهم قال: لا تكتب علامة التخريج المتقدمة، لئلا يلتبس غير الساقط بالساقط، إذا اتحدت العلامتان، بل يجعل على الحرف ضبة، أونحوها تدل عليه.

لكن رُدَّ عليه بأن ذلك اصطُلحَ به لغير ذلك، كما يأتي قريباً، فخوف اللبس حاصل أيضاً بل هو فيه أقرب، لافتراق صورتي التخريج، في الأولى باختصاص الساقط بقدر زائد، وهو الإشارة في آخره بما يدل على أنه من الأصل.

ص: 30

ثم إنَّ من شأن المتقنين الحُذَّاق الاعتناءَ بالتصحيح، والتضبيب، والتمريض، كما بين ذلك بقوله:

457 -

مَا صَحَّ فِي نَقْلٍ وَمَعْنًى وَهْوَ فِي

مَعْرِضِ شَكٍّ " صَحَّ " فَوْقَهُ قُفِي

458 -

أَوْ صَحَّ نَقْلاً وَهْوَ فِي الْمَعْنَى فَسَدْ

ضَبِّبْ وَمَرِّضْ فَوْقَهُ صَادٌ تُمَدْ

(ما) مبتدأ أي الكلام الذي (صح فىِ نقل) أي روايةٍ (ومعنى) أي فيما يُعنيَ ويُقصَد منه (و) الحال (هو) أي الكلام الصَّحِيح فيهما (في معرض شك) أي محل عُرُوضِهِ، أي ظهوره، يقال: قلته في مَعْرِض كذا وزان مَسْجِد، أي في موضع ظهوره، أفاده الفيومي، (صح) أي هذا اللفظ، مبتدأ لقصد لفظه، خبره جملة قوله:" قفى "(فوقه) أي فوق ما هو معرض للشك متعلق بقوله: (قفي) أي تُبِع، بمعنى كتب، وجملة المبتدإ والخبر خبر " ما ".

وحاصل معنى البيت: أنه إذا وُجِدَ كلام صحيح معنى وروايةً، وهو عُرْضَة للشك في صحته، أو الخلاف فيه: كتب فوقه كلمةُ صَحَّ تامةً كبيرةً، أو صغيرة، وهو أحسن إشارةً بها إلى أنه لم يُغْفَل عنه، وأنه قد ضُبِطَ وصح على ذلك الوجه، لئلا يبادر الواقف ممن لم يتأمل إلى تخطئته، وهذا هو الأشهر والأحسن.

ويكفي كتابتها في الحاشية مثلاً، لا بجانبه، لئلا يلتبس (أو صح نقلاً) أي من حيث النقل والرواية (وهو في المعنى) أي من جهة المعنى (فسد) بأن يكون غير جائز من حيث العربيةُ، أو شاذًّا عند جمهور أهلها، أو مصحَّفاً، أو ناقصاً لكلمة، فأكثر، أو مقدماً، أو مؤخراً، أو نحو ذلك، (ضبب) أمر من التضبيب (ومرض) أمر من التمريض.

والتضبيب والتمريض شيء واحد فسره بقوله: (فوقه) أي فوق ما ذكر مما صح نقلاً وفسد معنى خبر مقدم لقوله: (صاد) أي كائنة فوقه صاد وجملة قوله (تمد) بالبناء للمفعول صفة لصاد، أي صاد ممدودة، والجملة بيان لمعنى التضبيب.

ص: 31

وحاصل معنى البيت: أنَّ ما صحَّ نقلًا، ولكن في معناه فساد كتب فوقه علامة التضبيب، وتسمى أيضاً التمريض وهي صاد ممدودة هكذا (صـ) وهي مهملة مختصرة من صح، ويجوز أن تكون ضاداً معجمة مختصرة من ضبة، ولا تخلط بالممرض لئلا تلتبس بخط الضرب الآتي لا سيما عند صغر فتحتها، قاله السخاوي.

وفرِّقَ بين الصَّحِيح والسقيم حيث كُتِبَ على الأول حرف كامل لتمامه، وعلى الثاني حرف ناقص، ليدل نقصه على اختلاف الكلمة، قاله في التدريب.

وقال السخاوي: إنما كانت نصف صح إشارة إلى أن الصحة لم تكمل في ذلك المحل مع صحة نقلِهِ وروايتِهِ كذلك، وتنبيهاً به لمن ينظر فيه على أنه متثبت في نقله غير غافل، وإنما اختص التمريض بهذه الصورة فيما يظهر، لعدم تحتم الخطأ في الْمُعَلَم عليه، بل لعل غَيرَه ممن يقف عليه يُخَرِّجُ له وجهاً صحيحاً، كما وقع لابن مالك في كثير من روايات الصَّحِيح، أو يظهر له هو بَعدُ في توجيه صحته ما لم يظهر له الآن فيسهل عليه تكميلها " صح " التي هي علامة لمعرض الشك اهـ.

والضَّبَّة مأخوذة من ضبة القَدَحِ التي تجعل لما يكون به من كسر، أو خلل، ولا يقال: إن ضبة القدح للجبر، وهذه ليست كذلك، لأن التشبيه وقع من حيث إن كُلًّا وضع على ما فيه خلل.

وإما مأخوذة من ضبة الباب، لكون الحرف مقفلاً لا يتجه لقراءته كما أن الضبة يقفل بها.

قال التَّبْريزي: ويجوز أن تكون إشارة إلى صورة ضبة ليوافق صورتها معناها أفاده السخاوي.

ثم إِن هذه الضبة تستعمل أيضاً في موضع الانقطاع، أو الإرسال، كما بين ذلك بقوله:

ص: 32

459 -

كَذَاكَ فِي الْقَطْعِ وَفِي الإِرْسَالِ

وَبَعْضُهُمْ أَكَّدَ فِي اتِّصَالِ

460 -

لِعَطْفِ أَسْمَاءٍ بِصَادٍ بَيْنَهُمْ

وَاخْتَصَرَ التَّصْحِيحَ فِيهَا بَعْضُهُمْ

(كذاك) أي مثل ما تقدم من كتابة صاد ممدودة على ما صح نقلاً واختل معنى توضع هذه العلامة (في) موضع (القطع) أي محل انقطاع السَّند (وفي) موضع (الإرسال) منه، فقوله: كذاك، وفي القطع، يتعلقان بتوضع، أو تكتب المقدر.

وحاصل المعنى: أنه إذا وقع في الإسناد انقطاع، أو إرسال، فمن عادتهم تضبيبُ موضع الانقطاع والإرسال، وهو من قبيل ما تقدم ذكره من التضبيب على الكلام الناقص.

ومما تستعمل فيه العلامة المذكورة عند بعض العلماء الأسماء المتعاطفة إِشَارَةً إلى تأكيد صحته كما بين ذلك بقوله (وبعضهم أكد) مبتدأ وخبر أي أن بعض المحدثين كتب العلامة المذكورة تأكيداً (في) حال (اتصال) للسند أي عدم انقطاع أو إرسال خلاف المسألة المتقدمة (لعطف أسماء) أي عند عطف أسماء الرواة بعضهم على بعض مثل ما يقال: حدثنا فلان وفلان وفلان.

وحاصل المعنى: أن بعض المحدثين كما يوجد في بعض الأصول القديمة في الإسناد الجامع لجماعة من الرواة في طبقة متعاطفين يكتب علامة تشبه الضبة فيما بين أسمائهم تأكيداً للعطف خوفًا من أن يَجعَلَ غيرُ الخبير مكان الواو " عن ". ويتوهم من لا خبرة له إنها ضبة وليس كذلك فينبغي التَّنَبُّه لذلك.

واستعمل بعضهم الصاد اختصاراً من صح كما نبه عليه بقوله (واختصر التصحيح) أي كتب علامة التصحيح وهو لفظة صح مختصراً (فيها) أي الصاد المذكورة (بعضهم) فاعل اختصر.

وحاصل المعنى أن بعض المحدثين ربما اختصر صح التي هي

ص: 33

علامة التصحيح بالصاد المذكورة فيكتب هكذا (ص) فيوهم كونها تضبيباً وليس كذلك فينبغي التفطن له.

ثم ذكر مسألة إبطال الزائد فقال:

461 -

وَمَا يَزِيدُ فِي الْكِتَابِ فَامْحُ أَوْ

حُكَّ أَوِ اضْرِبْ وَهْوَ أَوْلَى وَرَأَوْا

462 -

وَصْلاً لِهَذَا الْخَطِّ بِالْمَضْرُوبِ

وَقِيلَ: بَلْ يُفْصَلُ مِنْ مَكْتُوبِ

463 -

مُنْعَطِفًا مِنْ طَرْفَيْهِ أَوْ كَتَبْ

صِفْرًا بِجَانِبَيْهِ أَوْ هُمَا أَصِبْ

464 -

بِنِصْفِ دَارَةٍ .........

....................

(وما) اسم موصول مفعول مقدم، أو مبتدأ خبره جملة الطلب بعده، أي الذي (يزيد في الكتاب) مما ليس منه، أو كتب على غير وجهه، فَأبْطِلْه بأحد أمور، مما سَلَكَهُ العلماء، وهو إما المحو المشار إليه بقوله:(فامح) أيها الكاتب، والمحوُ: هو الإزالَةُ بدون سلخ حيث أمكن، بأن تكون الكتابة في لوح، أو رَقّ أو ورق صقيل جدًّا، أو في حال طراوة المكتوب وأمن نفوذ الحِبْر بحيث يُسَوِّد القرطاس.

وهو إما بالأصبع، أو بخرقه، أو لَحْقِه، وعن إبراهيم النخعي كان يقول: من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد، أي لدلالته على الاشتغال بالتحصيل. ثم ذكر الطريق الثاني وهو الحَكّ بقوله:(أو حك) أيها الكاتب، من حك الشيء من باب قتل قَشَرَه وأزاله.

وأشار بالحك ويعبر عنه بالبَشْر بفتح فسكون إلى الرفق بالقرطاس، ويقال له أيضاً: الكَشْط بفتح فسكون بالكاف والقاف، وهو سلخ القرطاس بالسكين، ونحوها. تقول: كشطت البعير كشطاً إذا نزعت جلده، وكشطت الجل عن الفرس والغطاء عن الشيء إذا كشفت عنه، أفاده السخاوي.

ثم ذكر الطريق الثالث، وهو الضرب بقوله (أو اضرب) على الزائد (وهو) أي الضرب المفهوم من اضرب (أولى) أي أحسن من المحو والحك.

ص: 34

وعن بعضهم قال: كان الشيوخ يَكرَهُون حضور السكين مجلس السماع حتى لا يُبْشر شيء، لأن ما يُبشر منه ربما يصح في رواية أخرى، وقد يسمع الكتاب مرة أخرى على شيخ آخر، يكون ما بُشِرَ من رواية هذا صحيحاً في رواية الآخر، فيحتاج إلى إِلْحَاقِهِ بعد أن يبشر، بخلاف ما إذا خط عليه وأوقفه رواية الأولى، وصح عند الآخر اكتفى بعلامة الآخر عليه بصحته، أفاده في التدريب.

وقال بعضهم: الحك تهمة حيث يرَدد الواقف عليه أكان الكشط لكتابة شيء بدله ثم لم يتيسر أو لا؟.

ثم إنهم اختلفوا في كيفية الضرب على خمسة أقوال أشار إلى الأول بقوله: (ورأوا) أي أكثر الضابطين كما نقله عياض عنهم (وصلا لهذا الخط) أي المضروب (بالمضروب) عليه، وهو الزائد بحيث يكون مختلطاً به.

وحاصل المعنى: أن أكثر العلماء قالوا في كيفية الضرب: يخط فوق المضروب عليه خطًّا بيّناً دالاً على إبطاله باختلاطه به ولا يطمسه بل يكون ممكن القراءة، ويُسمى هذا الضرب عند المغاربة الشَّقَّ، بفتح المعجمة وتشديد القاف من الشق وهو الصدع، أو شق العصا، وهو التفريق، كأنه فرق بين الزائد وما قبله وما بعده من الثابت بالضرب.

وقيل: هو النَّشَقُ بفتح النون والمعجمة من نَشِق الظبي في حبالته عَلِقَ فيها فكأنه أبطل حركة الكلمة وإعمالها بجعلها في وثاق يمنعها من التصرف أفاده في التدريب.

ثم ذكر القول الثاني في الضرب فقال: (وقيل) لا يخلط الخط المذكور بالمضروب عليه (بل يفصل) بالبناء للمفعول (من مكتوب) وهو الزائد المضروب عليه.

وحاصل المعنى: أنه لا يخلط خط الضرب بالمضروب عليه بل يجعل فوقه منفصلاً عنه، حال كونه (منعطفاً من طرفيه) أي على طرفي المكتوب الزائد، ويحتمل أن يعود الضمير إلى الخط المضروب أي حال

ص: 35

كون ذلك الخط منعطفاً من جهة طرفيه على المضروب عليه بحيث يكون كالنون المقلوبة هكذا [

].

ثم أشار إلى الثالث بقوله: (أو) لتنويع الخلاف أي قال بعضهم: (كَتَبَ) بصيغة المعلوم، وفاعله ضمير يعود إلى المفهوم من السياق أي من أراد إبطال الزائد، وقوله:(صفراً) مفعوله أي كتب مريد إبطال الزائد صفراً بجانبيه، وهي دائرة صغيرة، وهي بكسر الصاد كما تفيده عبارة التاج.

وهذا القول: حكاه عياض عن بعض الأشياخ المحسنين لكَتْبِهِم، قال: وسُمِّيَت بذلك لخلو ما أشير إليه بها عن الصحة كتسمية الحُسَّابِ لها بذلك، لخلو موضعها من عدد قاله السخاوي.

(بجانبيه) أي جانبي الزائد إن اتسع المحل، ولم يلتبس بالدائرة التي تجعل فصلاً بين الحديثين، ونحو ذلك، وإلا فأعلى الزائد كالخط المتقدم.

ثم أشار إلى الرابع بقوله: (أو) لتنويع الخلاف أيضاً أي قال بعضهم: (هما) أي الجانبان، مبتدأ خبره قوله:(أصبـ) ـهما أمر من الإصابة أي أصب الجانبين من الزائد (بنصف دارة) أي كالهلال هكذا ().

والدارة لغةً في الدائرة، جَمْعًهَا دارات، سميت به لاستدارتها أفاده الفيومي.

هذا كله فيما إذا كان الزائد في سطر واحد، فأما إذا تكررت الأسْطُرً فقد بينه بقوله:

............... فَإِنْ تَكَرَّرَا

زِيَادَةُ الأَسْطُرِ سِمْهَا أَوْ عَرَا

465 -

وَبَعْضُهُمْ يَكْتُبُ " لا " أَوْ " مِنْ " عَلَى

أَوَّلِهِ أَوْ " زَائِدًا " ثُمَّ " إِلَى "

(فإن تكررا) بألف الإطلاق فعل ماض وفاعله قوله: (زيادة الأسطر) أي إن كثر الزائد المضروب عليه بأن كان فوق سطر (سمها) جواب الشرط بتقدير الفاء أي فسمها، أمر من وَسَمَ يَسِمُ كَوَعَدَ يَعِد، أي فعلم عليها كُلِّهَا، والضمير المنصوب عائد على الأسطر.

ص: 36

وحاصل المعنى: أنه إذا تكررت الأسطر فَعَلِّمْ على أول كل سطر وآخره لما فيه من زيادة البيان والإيضاح.

(أو عرا) أي خلا عن العلامة، وأصل عرا عِريَ كرضى خفف بفتح عين الكلمة وهي لغة طيىء يقولون في فَعِلَ المكسور العين إذا كان معتل اللام بالياء فَعَلَ يَفْعَلُ بفتح العين في الماضي والمضارع للتخفيف كبَقِي وفَنِيَ، وأما عرا يعرو كغزا يغزو فهو بمعنى نزل، ولا يناسب هنا.

وفاعله ضمير يعود إلى المتكرر المفهوم من تكرر، أي عَرِيَ المتكرر عن العلامة في كل سطر اكتفاء بما في أول الزائد وآخره، وفيه عطف الجملة الخبرية على الإنشائية وهو جائز عند بعضهم.

وحاصل المعنى: أنه إذا كثرت سطور الزائد فاجعل علامة الإبطال في أول كل سطر وآخره للبيان إن شئت، أو لا تكرر العلامة بل اكتف بها في أول الزائد وآخره، وإن كثرت السطور، حكاه القاضي عياض عن بعضهم.

ثم ذكر الخامس بقوله:

(وبعضهم) أي العلماء (يكتب) علامة لإبطال الزائد كلمة (لا) النافية (أو) كلمة (من) الجَارَّة (على أوله) أي الزائد (أو) يكتب (زائداً) أي لفظةَ زائدٍ (ثم) يكتب كلمة (إلى) الجارة في آخره.

وحاصل المعنى: أن بعضهم يكتب لإبطال الزائد لا النافية، أو من الجارة، أو كلمة زائد، وفي آخره كلمة إلى الجارة، إشارة إلى أن هذا القدر زائد على أصل الكتاب.

قال السخاوي: وذلك والله أعلم فيما يُجَوِّزُون أن نفيه أو إثباته غير متفق عليه من سائر الروايات ولذا يضاف إليه في بعض الأصول الرمز لمن وقع عنده، أو نفي عنه من الرواة وقد يقتصر على الرمز لكن حيث يكون الزائد كلمة، أو نحوها.

ص: 37

وقد قال ابن الصلاح تبعاً لعياض: إن مثل هذه العلامة تحسن فيما ثبت في رواية وسقط من أخرى.

ثم إن هذا كله فيما إذا كان الزائد غير مكرر، وأما إذا كان مكرراً فقد ذكره بقوله:

466 -

وَإِنْ يَكُ الضَّرْبُ عَلَى مُكَرَّرِ

فَالثَّانِيَ اضْرِبْ فِي ابْتِدَاءِ الأَسْطُرِ

467 -

وَفِي الأَخِيرِ: أَوَّلاً أَوْ وُزِّعَا

وَالْوَصْفَ وَالُمضَافَ صِلْ لا تَقْطَعَا

468 -

وَحَيْثُ لا وَوَقَعَا فِي الأَثْنَا:

قَوْلانِ: ثَانٍ، أَوْ: قَلِيلٌ حُسْنَا

(وإن يك) مضارع كان حذفت نونها كما قال ابن مالك رحمه الله.

وَمِن مُضارعٍ لكان مُنْجَزِمْ

تُحْذفُ نونٌ وهو حذفٌ ما التزم

(الضرب) الذي يجعل علامة لإبطال الزائد وهو اسم يك، وخبرها قوله (على مكرر) أي على زائد مكرر مرتين أو أكثر (فالثاني) مفعول مقدم لقوله (اضرب) أيها المريد لإبطال الزائد، يعني أنك تضرب على الزائد الثاني إن كان (في ابتداء الأسطر) أي في أول السطر سواء كان هو الأول أو الثاني (و) اضرب فيما إذا كان المكرر (في الأخير) أي آخر السطر (أولاً) أي أول المكررين مثلًا صوناً لأوائل السطور وأواخرها عن الطمس.

(أو) تخير بين ضرب الأول والثاني فيما إذا (وزعا) بالبناء للمفعول من التوزيع، أي قسِّمَ المكرران بين سطرين بأن اتفق أحدهما في آخر السطر والآخر في أوله.

هذا كله فيما إذا لم يكن مثل الموصوف مع الصفة، أو المضاف مع المضاف إليه، وأما إذا كان كذلك فأشار إلى حكمه بقوله:(والوصف والمضاف) مبتدأ، أو مفعول مقدم لقوله:(صل) كُلًّا منهما بالموصوف والمضاف إليه، و (لا تقطعا) كُلًّا منهما، والألف بدل من نون التوكيد.

وحاصل المعنى: أنه إذا كان المكرر المضاف والمضاف إليه، أو الموصوف والصفة ونحوه روعي اتصالهما، ولا يراعى أول السطر ولا آخره،

ص: 38

فلا يضرب على المكرر بينهما، بل على الأول في المضاف والموصوف، والآخر في المضاف إليه والصفة، لأن ذلك مضطر إليه للفهم، فمراعاته أولى من مراعاة تحسين الصورة في الخط.

(وحيث لا) يكون المكرر نحو الوصف والمضاف (و) الحال أنه قد (وقعا) بألف الإطلاق أي المكرر (في الأثنا) أي وسط السطور، لا في أولها، ولا في آخرها. (قولان) مبتدأ خبره الظرف قبله أي قولان للعلماء كائنان حيث لا يكون المكرر من نحو ما ذكر.

الأول: أنه يضرب (ثان) أي ثاني المكرر، لأنه الذي كتب خطأ، والخطأ أولى بالإبطال.

والثاني: ما أشار إليه بقوله: (أو) يضرب (قليل حسناً) وإن كان أولاً، دون كثير الحسن، وإن كان ثانياً.

يعني أن بعضهم قال: يضرب على قليل الحسن سواء كان أولاً، أو ثانياً، لأن الكتاب علامة لما يُقْرأ فأولى الحرفين بالإبقاء أدَلًّهُما عليه، وأجودهما صورة. ثم ذكر مسألة كيفية جمع الروايات لمن كان عنده روايات مختلفة فقال:

469 -

وَذُو الرِّوَايَاتِ يَضُمُّ الزَائِدَهْ

مُؤَصِّلاً كِتَابَهُ بِوَاحِدَهْ

470 -

مُلْحِقَ مَا زَادَ بِهَامِشٍ وَمَا

يَنْقُصُ مِنْهَا فَعَلَيْهِ أَعْلَمَا

471 -

مُسَمِّيًا أَوْ رَامِزًا مُبَيِّنَا

أَوْ ذَا وَذَا بِحُمْرَةٍ وَبَيَّنَا

(وذو) أي صاحب (الروايات) المختلفة، فذو مبتدأ خبره جملة قوله (يضم) بالبناء للفاعل (الزائدة) من الرواية، حال كونه (مؤصلاً كتابه) أي بانِيَاً كتابه (بواحدة) أي على رواية واحدة هي أساس الروايات الأخرى، يقال: أصلته تأصيلاً جعلت له أصلًا ثابتاً يُبنَى عليه، قاله في المصباح، فكأنه جعل رواية من تلك الروايات كالأساس الثابت، وبقية تلك الروايات كالبناء المتفرع.

ص: 39

حال كونه (ملحق ما زاد) من الروايات الأخرى (بهامش)، أي حاشية كتابه قال في " ق " الهامش حاشية الكتاب مُوَلَّد اهـ. ويقال له الطُّرَّة أيضاً. كما في التاج (وما) موصولة مبتدأ أي الذي (ينقص منها) أي الروايات (فعليه أعلما) بألف الإطلاق وبناء الفعل للفاعل، والفاء زائدة، أي كتب عليه علامة، حال كونه (مسمياً) صاحب تلك الروايات باسمه، أو بما يغني عنه، (أو رامزاً) أي مشيراً إليه بحرف أو أكثر من اسمه حال كونه (مبيناً) ذلك الرمز في أول الكتاب، أو في آخره كما تقدم. (أو) أعلم (ذا) أي الزائد من الرواية (و) أعلم أيضاً (ذا) أي الناقص منها (بحمرة) أو نحوها من المداد المخالفة للكتاب (و) الحال أنه قد (بينا) ذلك في أوله أو آخره كما مرَّ.

وحاصل ما أشار إليه: أنه إذا كان الكتاب مروياً بروايات متنوعات يقع في بعضها اختلاف، وأراد أن يجمع بينها في نسخة واحدة ينبغي له أن يبني الكتاب أولًا على رواية واحدة، ثم إذا خالف ما في الرواية الأخرى بزيادة، أو نقص، أو إبدال لفظ بلفظ، أو حركة إعراب، أو نحوها اعتنى به، إما بكتابةِ مَا زاد، أو أبْدِل، أو اختَلَفَ إعرابه في الحاشية، أو بين السطور، إن اتسع مع كتابة اسم راويها معها، أو بالإشارة إليه بالرمز وما نقص أعلم على الزائد إنه ليس في رواية فلان باسمه أو بالرمز إليه أيضاً، وإما بكتابة الزائد ونحوه في الرواية الأخرى بحمرة أو نحوها من الألوان المخالفة للمداد المكتوب بها الأصل، وما نقص حَوَّقَ عليه بحمرة أو نحوها.

ولكنه يوضح مراده بأن يقول: رمزت لفلان بكذا، وأشرت لفلان بالحمرة، أو نحوها، بأول كل مجلد، أو آخره، ولا يعتمد على حفظه في ذلك فربما ينسى ما اصطلح عليه، لطول العهد ويوقِع غيره في حيرة من مراده بذلك، ولما جرت عاد أهل الحديث باختصار بعض ألفاظ الأداء في الخط، دون النطق، بَيَّنَ ذلك، فمنها: حدثنا، وأخبرنا كما قال:

ص: 40

472 -

وَكَتَبُوا " حَدَّثَنَا "" ثَنَا "" وَنَا "

وَدَثَنَا " ثُمَّ " أَنَا " " أَخْبَرَنَا "

473 -

أَوْ " أَرَنَا " أَوْ " أَبَنَا "" أَخَنَا "

" حَدَّثَنِي " قِسْهَا عَلَى " حَدَّثَنَا "

(وكتبوا) أي أهل الحديث ومن تبعهم اختصاراً في الخط على الرمز (حدثنا) أي هذا اللفظ بحيث شاع ذلك وظهر حتى لا يكاد يلتبس، ولا يحتاج الواقف عليه، كالذي قبله إلى بيان، وهم في ذلك مختلفون، فمنهم: من يقتصر منها على (ثنا) أي الحروف الثلاثة الأخيرة (و) منهم من يحذف أول الثلاثة أيضاً ويقتصر على (نا) الضمير فقط (و) منهم من يقتصر على (دثنا) فيترك منها الحاء فقط.

(ثم) بمعنى الواو أي واختصروا أيضاً كلمة أخرى فكتب بعضهم (أنا) مختصِراً كلمة (أخبرنا) فحذف الخاء واللذين بعدها، وهي أصول الكلمة (أو) يضم إلى الضمير الراء فيقتصر على (أرنا أو) يقتصر على ترك الخاء والراء فقط فيكتب (أبنا) وهذا غير مستحسن للخوف من اشتباهها بأنبانا وإن لم يصطلحوا على اختصارها (أو) يقتصر على ما عدا الموحدة والراء فيكتب (أخنا) وُجِدَ هذا في خط بعض المغاربة، ولكنه لم يشتهر. هذا كله في المذكر المتصل بضمير الجمع، وأما المؤنث المتصل بالجمع، وكذا أنبأنا، وأنبأني، وأخبرني، فلا يختصرونه، وأما حدثني المتصل بياء المتكلم فيختصرونها كما قال (حدثني قسها على حدثنا) فحدثني: أي هذه الكلمة مبتدأ خبره جملة " قسها على حدثنا "، أي مَثِّلْهَا بها أيها المحدث في الاختصار لها، فتكتب ثني أودثني بحذف الحاء والدال أو بحذف الحاء فقط.

ومما اختصروا أيضاً كلمة قال وإليه أشار بقوله:

474 -

وَ " قَالَ "" قَافًا " مَعْ " ثَنَا " أَوْ تُفْرَدُ

وَحَذْفُهَا فِي الْخَطِّ أَصْلاً أَجْوَدُ

(و) كتبوا لفظ (قال) اختصاراً (قافاً) مجموعة (مع ثنا) أي تكتب معها هكذا " قثنا "، (أو تفرد) القاف عنها فتكتب هكذا " ق ثنا "، والأول كما قال السخاوي: منقول عن بعضهم كالدمياطي، قيل: إنه تفرد بذلك، وكتب بخطه في صحيح مسلم كذلك حتى توهم بعض من رآها كذلك أنها الواو

ص: 41

الفاصلة بين الإسنادين وليس كذلك. (وحذفها) أي قال، مبتدأ (في الخط) أي الكتابة دُونَ النطق، متعلق بحذف (أصلًا) أي رأساً من غير رمز إليها (أجود) أي أحسن من كتابتها رمزاً، وهو خبر المبتدإ.

وحاصل معنى البيت: أنه جرت عادة المحدثين بحذف كلمة قال في أثناء الإسناد خطًّا، والرمز إليها بكتابة " ق " فبعضهم يجمعها مع أداة التحديث فيكتب قثنا يريد قال: حدثنا، وقد توهم بعض من رآها هكذا أنها الواو التي تأتي بعد حاء التحويل، وليس كذلك.

وبعضهم يفردها فيكتب هكذا " ق ثنا " وكل هذا اصطلاح متروك بل الأجود حذفها خطًّا أصلاً، ولكن لا بد من النطق بها كما يأتي في قوله، وَقَالَ فِي الْإِسْنَادِ قُلْهَا نُطْقاً إلخ. ثم ذكر كتابة " ح " عن تكرار السَّند فقال:

475 -

وَكَتَبُوا " حَ " عَنْدَ تَكْرِيرِ سَنَدْ

فَقِيلَ: مِنْ " صَحَّ " وَقِيلَ: ذَا انْفَرَدْ

476 -

مِنَ الْحَدِيثِ، أَوْ لِتَحْوِيلٍ وَرَدْ

أَوْ حَائِلٍ، وَقَوْلُهَا لَفْظًا أَسَدّ

(وكتبوا) أي أهل الحديث في كل ما يريدون الجمع بين إسناديه أو أسانيده من الحديث أن الكتاب أو نحوهما (" ح ") أي لفظها مفعول به لكتبوا.

أي كتبوا حاء مفردة (عند) إرادة (تكرير سند) للحديث الواحد أو نحوه وهي في كتب المتأخرين أكثر، وفي صحيح مسلم أكثر منها في صحيح البخاري.

ثم إنهم اختلفوا في هذه الحاء مماذا اختصرت؟ كما بيّن ذلك بقوله: (فقيل) إنها مختصرة (من) كلمة (صح) ولذا وجد بخط الحافِظِينَ: أبي عثمان الصابوني، وأبي مسلم عمر بن علي الليثي البخاري، والفقيه أبي سَعْد محمد بن أحمد بن محمد بن الخليل الخليلي مكانها بدلاً عنها صح، فهذا يدل على أنها مختصرة منها، وحسن إثبات صح هنا لئلا يتوهم أن حديث هذا الإسناد سقط، ولئلا يركب الإسناد الثاني على الأول، فيجعلا

ص: 42

إسناداً واحداً، قاله ابن الصلاح. (وقيل ذا) أي لفظ " ح " مبتدأ خبره جملة قوله (انفرد) أي اختصر (من) كلمة (الحديث) أي هو رمز إلى قولهم الحديث، كما حكاه ابن الصلاح عن بعض أهل المغرب أنهم يقولون مكانها الحديث (أو) لتنويع الخلاف، أي وقيل: إنها إشارة (لتحويل) من إسناد إلى إسناد آخر وجملة قوله (ورد) صفة لتحويل أي واردٍ في السَّند، أو الجار متعلق به أي ورد الحاء لتحويل سند إلى آخر.

وهذا محكي عن بعض فضلاء الأصفهانيين كما ذكره ابن الصلاح (أو) لتنويع الخلاف أيضاً أي وقيل: إنها إشارة (لحائل) أي إلى لفظ حائل، الذي هو من حال بين الشيئين يحول إذا حجز بينهما، لكونها حالت بين الإسنادين، وهذا نقله ابن الصلاح عن الحافظ الرَّحَّال أبي محمد عبد القادر الرُّهَاوِيِّ الحنبلي، قال: ولا يلفظ بشيء عند الانتهاء إليها في القراءة، وأنكر كونها من الحديث وغيره، وأنه لم يعرف غيره عن مشايخه، وفيهم عدد كانوا حفاظ الحديث في وقتهم.

قال السخاوي: ونحوه في كونها من حائل لكن مع النطق بها قول الدمياطي، وقد قرأ على بعض المغاربة فصاركلما وصل إلى " ح " قاله حاجز وهو في النطق بمعناها خاصة، موافق لما حكاه ابن الصلاح عن بعض المغاربة أنه يقول الحديث كما مرَّ.

ثم إن الأولى وفاقاً لابن الصلاح والنووي أن يقول: القارئ عِنْدَ الانتهاء إليها حا، ويمر وإليه أشار بقوله:(وقولها) أي النطق بها مبتدأ (لفظاً) مفعول مطلق لقول (أسد) أي أصوب خبر المبتدإ.

يعني: أن التلفظ بها حاء مفردة كما كتبت عند الانتهاء إليها والاستمرارُ في قراءة ما بعدها هو الأحسن والأحوط من الوجوه المتقدمة، وإن كان غير متعين كما قاله السخاوي.

(تنبيه): قال السخاوي رحمه الله: إنه لم يختلف مَن حَكَينا عنهم في كونها حاء مهملة بل قال ابن كثير: إن بعضهم حكى الإجماع عليه، قال:

ص: 43

ومن النَّاس من يتوهم أنها خاء معجمة، أي هو إسناد آخر، وهذا حكاه الدمياطي أيضاً، فقال: وبعض المحدثين يستعملها، بالخاء المعجمة، يريد بها آخرَ، أو خَبَراً، وزاد غيره، أو إشارة إلى الخروج من إسناد إلى إسناد، والظاهر كما قال بعض المتأخرين إن ذلك اجتهاد من أئمتنا في شأنها من حيث إنهم لم يتبين لهم فيها شيء من المتقدمين.

قال الدمياطي: ويقال: إن أول من تكلم على هذا الحرف ابن الصلاح وهو ظاهر من صنيعه لا سيما، وقد صرح أول المسألة بقوله: ولم يأتنا عن أحد ممن يعتمد بيان لأمرها. اهـ كلام السخاوي.

ثم ذكر مسألة كتابة التسميع وهو المسمى بالطَّبَقَة فقال:

477 -

وَكَاتِبُ التَّسْمِيعِ فَلْيُبَسْمِلِ

وَيَذْكُرِ اسْمَ الشَّيْخِ نَاسِبًا جَلِي

(وكاتب التسميع) أي الطالب الذي يريد كتابة السماع، فالتسميع بمعنى السماع، أي المسموع، إِذِ التسميع صفة للشيخ الذي يسمع الحديث، ومثل المسموع المقروء، وكاتب مبتدأ خبره جملة قوله:(فليبسمل) أي ليكتب البسملة استحباباً في أول كتابه (ويذكر) بالجزم عطفاً على ما قبله (اسم الشيخ) الذي سمع منه الحديث، أو قرأ عليه كتاباً، أو جزءاً، ونحو ذلك، ولو قال:" ويكتب " بدل ويذكر لكان أولى حال كونه (ناسباً) أي عازياً له إلى ما يوضحه، يقال: نسبته إلى أبيه نسباً من باب طلب: عزوته إليه، كما في المصباح. والمراد أن يذكره بما يتضح به من نسب، وكنية، ولقب، ونسبة إلى قبيلة، أو بلدة، أو حرفة، أو مذهب.

كما أشار إليه بقوله: (جلي) فعيل بمعنى مفعول حال من الشيخ، وقف عليه على لغة ربيعة أي حال كونه جلياً أي متضحاً للناس بحيث لا يخفى، ولا يلتبس مع غيره.

وصورة ذلك أن يكتب حدثنا أبو فلان فلان ابن فلان الفلاني، ثم يسوق المسموع، أو المقروء على لفظه كما أشار إليه بقوله:

ص: 44

478 -

ثُمَّ يَسُوقُ سَنَدًا وَمَتْنَا

لآخِرٍ، وَلْيَتَجَانَبْ وَهْنَا

(ثم) بعد كتابة البسملة، واسم الشيخ، ونسبه، وكنيته، ونحو ذلك، (يسوق) أي يذكر (سنداً ومتناً) لذلك المسموع (لآخر) أي إلى آخر السَّند والمتن على لفظه، (وليتجانب) أي يتباعد كاتب السماع (وهناً) بفتح فسكون، أي ضعفاً في كتابة التسميع، بمعنى أنه لا يتساهل في ذلك، بل يتحرى في تفصيل الأفوات، وبيان السامع، والمسمع، والمسموع بعبارة بينة، وكتابة واضحة، وإنزال كُلٍّ منزلته، وكذا عليه أن يكتب تاريخ السماع، كما ينبغي ذكر محله، وقارئه، كما أشار إليه بقوله:

479 -

وَيَكْتُبُ التَّأْرِيخَ مَعْ مَنْ سَمِعُوا

فِي مَوْضِعٍ ما، وَابْتِدَاءً أَنْفَعُ

(ويكتب) كاتب التسميع (التاريخ) بالهمز ويخفف وقت السماع (مع) بسكون العين لغة في الفتح أي مع كتابة (من سمعوا) أي الطلبة الذين سمعوا الحديث معه (في موضع ما) أي في أي مكان كان في أول الكتاب أو آخره، والجار متعلق بيكتب، و " ما " لتأكيد العموم (و) لكن كونه (ابتداء) أي في أول الكتاب قبل البسملة فوق سطرها (أنفع) من غيره.

وحاصل المعنى: أنه إذا كتب التسميع ينبغي له أن يكتب تاريخ السماع، وإذا كان معه غيره يكتب أسماءهم، وأنسابهم، من غير اختصار لما لا يتم كل منهم بدونه، فضلاً عن حذف أحد منهم، وكذا عدد مجالسه إن تعددت معينة، وتمييز المكملين، والمفوتين، والناعسين، والمتحدثين، والباحثين، والكاتبين، ونحو ذلك، ويكون ذلك في أي موضع من مواضع الكتاب بحيث لا يخفى، في أول الكتاب، أو أثنائه، أو آخره. ولكن كونه في أول ورقة من الكتاب أولى، وإن كان السماع في مجالس كتب عند انتهاء السماع في كل مجلس علامة البلاغ، ويكتب في الذي يليه التسميع والتاريخ كما قاله الخطيب.

ص: 45

وينبغي أن يكون الكاتب موثوقاً به كما ذكره بقوله:

480 -

وَلْيَكُ مَوْثُوقًا، وَلَوْ بِخَطِّهِ

لِنَفْسِهِ، وَعَدَّهُمْ بِضَبْطِهِ

481 -

أَوْ ثِقَةٍ، وَالشَّيْخُ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى

تَصْحِيحِهِ، وَحَذْفُ بَعْضٍ حُظِلا

(وليك) كاتب التسميع (موثوقاً) به أي غير مجهول الخط، بل يكون معروفاً خطه عند أصحاب الحديث (ولو) كان كتابة التسميع (لنفسه) إذا كان ثقة.

وحاصل المعنى: أنه ينبغي أن يكون التسميع بخط شخص موثوق به غير مجهول الخط، ولا بأس أن يكتب سماعه بخط نفسه إذا كان ثقة كما فعله الثقات، سواء كان معه غيره أم لا.

ويكون اعتماده في السامعين وتمييز فواتهم على ضبط نفسه، كما ذكره بقوله:(وَعَدَّهم) جملة فعلية، أي عد السامعين (بضبطه) أي ضبط نفسه، إن حضر جميع السماع (أو) بضبط (ثقة) غيره ممن حضر السماع.

وحاصل المعنى: أنه إن حضر جميع التسميع ضبط أسماءهم بنفسه، وإن كان غير حاضر في بعضه أثبت ذلك معتمداً على إخبار من يثق بخبره من حاضريه.

ثم إنه لا يشترط في ذلك كتابة الشيخ خطه بالتصحيح كما أشار إليه بقوله:

(والشيخ) المسمع، مبتدأ خبر جملة قوله:(لم يحتج) بالبناء للمفعول ونائب فاعله قوله: (إلى تصحيحه) أي كتابته على التسميع بأنه صحيح.

وحاصل المعنى: أنه إذا كان التسميع بخط ثقة فلا يحتاج إلى كتابة الشيخ عليه بخطه بالتصحيح.

وقد أخرج ابن الصلاح بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن منده: أنه قرأ ببغداد جزءاً على أبي أحمد الفرضي، وسأله خطه، ليكون

ص: 46

حجة له، فقال له أبو أحمد: يا بني عليك بالصدق، فإنك إذا عُرِفتَ به لا يُكَذِّبك أحد، وتُصَدَّق فيما تقول، وتنقل، وإذا كان غير ذلك، فلو قيل لك: ما هذا خط أبي أحمد، ماذا تقول لهم؟ ثم عليه الحذر من حذف بعض السامعين لغرض كما أشار إليه بقوله:

(وحذف بعض) من السامعين، أي عدم إثبات أسمائهم في كتابة التسميع، لأجل غرض فاسد، وهو مبتدأ خبره جملة قوله:(حظلا) بالبناء للمفعول أي منع.

وحاصل المعنى: أن حذف أسماء بعض الحاضرين لغرض فاسد، كعداوة بينهما لا يجوز، لأن هذا ينافي الثقةَ والأمانةَ العلمية.

ثم ذكر حكم من ثبت سماع غيره في كتابه أو نحوه بقوله:

482 -

وَمَنْ سَمَاعُ الْغَيْرِ فِي كِتَابِهِ

بِخَطِّهِ أَوْ خُطَّ بِالرِّضَى بِهِ

483 -

نُلْزِمُهُ بِأَنْ يُعِيرَهُ، وَمَنْ

بِغَيْرِ خَطٍّ أَوْ رِضَاهُ فَلْيُسَنّ

484 -

وِلْيُسْرِعِ الْمُعَارُ ثُمَّ يَنْقُلُ

سَمَاعَهُ مِنْ بَعْدِ عَرْضٍ يَحْصُلُ

(ومن) موصولة مبتدأ. أي الشخص الذي (سماع الغير) كلام إضافي، مبتدأ، خبره قوله:(في كتابه)، أو جزئه، أو نحوهما (بخطه) أي خط صاحب الكتاب (أو خط) بالبناء للمفعول، أي كتب سماع الغير في كتابه بخط غيره لكن (بالرضى به) أي بسبب رضاه، أو مع رضاه بذلك، وجملة قوله:(نلزمه) خبر المبتدإ أي نلزم ذلك الشخص الذي في كتابه سماع الغير على الوجه المذكور، (بأن يعيره) أي يعير ذلك الكتاب لذلك الغير، ليكتب منه، أو يقابل عليه، أو ينقل سماعه، أو يحدث منه.

وحاصل المعنى: أن من ثبت في كتابه، أو نحوه سماع غيره، فأراد من كان اسمه في طبقة السماع أن يستعير ذلك الكتاب منه وجب عليه إِعارَة ذلك الكتاب إن كان بخطه، أو خطِّ غيره لكن برضاه.

(ومن) مبتدأ أي من ثبت ذلك في كتابه (بغير خط) منه (أو) خُطَّ لكن

ص: 47

بغير (رضاه) أي رضى صاحب الكتاب، وقوله:(فليسن) أي يستحب أن يعيره، خبر المبتدإ.

وحاصل المعنى: أنه إن كان ثبوت سماع الغير بغير رضاه استحب له الإعارة وهذا الذي قلنا: من أنه يجب عليه إن كان بخطه، أو رضاه، ويستحب إذا لم يكن كذلك هو الراجح الذي قاله أئمة مذاهبهم في زمانهم: منهم القاضي حفص بن غياث الحنفي، وإسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي، وأبو عبد الله الزبيري الشافعي، وَوَجَّهَه البلقيني بأنه من المصالح العامة.

قال: وأصله إعارة الجدار لوضع جذوع الجار عليه، وقد ثبت ذلك في الصَّحِيحين. وقال: بوجوبه جمع من العلماء وهو أحد قولي الشافعي.

فإذا كان يُلْزَمُ الجار بالعارية مع دوام الجذوع في الغالب فلأنْ يُلْزَمَ صاحبُ الكتاب مع عدم دوام العارية أولى اهـ.

وخالف في المسألة بعضهم.

وبالجملة فلا ينبغي له كتمانه إياه، ومنعه منه، فقد قال وكيع: أول بركة الحديث إعارة الكتب.

وقال سفيان الثَّوري: من بَخِلَ بالعلم ابتلِي بإحدى ثلاث: أن ينساه، أو يموت ولا ينتفع به، أو تذهب كتبه.

وقال الناظم: وقد ذم الله مانع العارية بقوله: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ). وإعارة الكتب أهم ماعون. اهـ تدريب. (و) إذا أعاره الكتاب فـ (ليسرع) ذلك (المعار) اسم مفعول من أعارهُ، أي الذي أعطى العارية.

يعني: أنه إذا أعاره صاحب الكتاب كتابَهُ فلا يبطئ عليه به بل يرده بعد انقضاء الحاجة.

فقد قال الزهري رحمه الله: إياك وغلول الكتب، قيل: وما غلولها؟ قال: حبسها عن أصحابها. (ثم) إذا نسخ الكتاب (ينقل) سماعه، أي يثبته

ص: 48

عليه (من بعد عَرْض) أي مقابلة ذلك الكتاب (يحصل) أي يوجد ذلك العرض، ووصف العرض بالحصول، إشارةً إلى أنه لا بد أن يكون عرضاً صحيحاً متقناً.

وحاصل المعنى: أنه إذا نسخ الكتابَ المعارُ لنفسه وأراد أن يثبت سماعه عليه فلا بد له من المقابلة بل لا ينبغي إثبات سماع في كتاب مطلقاً إلا بعد مقابلته، لئلا يغتر أحد به قبلها، إلا أن يبين في الإثبات والنقل أن النسخة غير مقابلة.

(تَتِمَّة): الزيادات في هذا الباب قوله " مستند المنع " إلى قوله " لا ذي خلل " وقوله " أو همزة علامة " وقوله " والكاف لم تبسط " البيت، وقوله " والرضى " وقوله " حتماً " وقوله " ويكتفى إن ثقة " البيت، وقوله " أو من "، وقوله " أو زائداً " وقوله " أو أختاً " البيت، وقوله " مع ثنا أو تفرد " وقوله " سنداً ومتناً " البيت، وقوله " أو خط بالرضى به ".

ولما كان الباب المتقدم في كتابة الحديث وضبطه، وهما مطلوبان لأجل أن يثبت ما سمعه، ثم يرويه لغيره ناسب أن يتبعه بباب صفة رواية الحديث فلذا قال:

ص: 49