الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(مختلف الحديث)
أي هذا مبحثه، وهو النوع التاسع والأربعون من أنواع علوم الحديث، أي باب معرفة مختلف الحديث وحكمه.
639 -
أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الْمُخْتَلِفِ
…
الشَّافِعِي، فَكُنْ بِذَا النَّوْعِ حَفِي
640 -
فَهْوَ مُهِمٌّ، وَجَمِيعُ الْفِرَقِ
…
فِي الدِّينِ: تَضْطَرُّ لَهُ فَحَقِّقِ
(أول) مبتدأ أي أسبق (من صنف) أى جمع (في المختلف) أي النوع المسمى بمختلف الحديث (الشافعي) خبر المبتدإ، ويحتمل العكس أي إن أسبق مَنْ جَمَع في مختلف الحديث هو الإمام الحجة علم الأئمة ومُقتدَى الأمة محمد بن إدريمس بن العباس المتوفى سنة 204 عن 54 سنة، فإنه رحمه الله صنف فيه كتاب اختلاف الحديث لكنه لم يقصد استيعابه، بل إنما ذكر جملة ينبه بها على طريق الجمع في ذلك، ثم صنف ابن قتيبة فأتى فيه بأشياء حسنة وأشياء قصر باعه فيها، وكذا صنف أبو جعفر بن جرير الطبري، وأبو جعفر الطحاوي في كتابه مشكل الآثار، وهو من أجل كتبه، وكذا صنف فيه أبو بكر بن فُورك، وأبو محمد القصري، وبينه وبين الناسخ والمنسوخ عموم وخصوص مطلق، فكل ناسخ ومنسوخ مختلف ولا عكس أفاده السخاوي.
(فكن) الفاء فصيحية أي إذا كان مختلف الحديث مما يُعتَنَى به،
فكن أيها المحدث (بذا النوع) أي مختلف الحديث (حفي) خبر كن، وقف عليه على لغة ربيعة أي مبالغاً في تحقيقه (فهو مهم) جملة تعليلية، أي لأنه مهم (وجميع الفرق) جمع فرقة أي طوائف العلماء من المحدثين، والمفسرين، والفقهاء (في الدين) متعلق بقوله:(تضطر إليه) أي تحتاج إلى هذا الفن في معرفة أمور الدين (فحقق) أي إذا كان الأمر كذلك فينبغي لك أن تحقق معرفته وتغوص في أسراره.
ثم ذكر أن كل أحد لا يصلح لتحقيقه بل له أهل يَقْدُرُون قدره فقال:
641 -
وَإِنَّمَا يَصْلُحُ فِيهِ مَنْ كَمَلْ
…
فِقْهًا وَأَصْلاً وَحَدِيثًا وَاعْتَمَلْ
(وإنما يصلح) فيه لغات ثلاث صَلَح يصلُح من باب قعد، وصلُح يصلحُ بالضم فيهما، وصلَح يصلَح بالفتح فيهما: خلاف فسد. (فيه) أي للكلام على مختلف الحديث (مَن) فاعل يصلح (كمل) من باب قرب، وضرب، وتعب، وهذه أردؤها. (فقهاً وأصلاً وحديثاً) منصوبات على التمييز، أي من كان كاملًا في فن الفقه والأصل، والمراد أصول الدين، وأصول الفقه، والحديث (واعتمل) افتعال من العمل، أي بالَغَ في تحقيقها، وغاص في بحر معانيها الدقيقة، فإنه لا يشكل عليه من ذلك إلا النادر في بعض الأحيان. ثم ذكر تعريفه فقال:
642 -
وَهْوَ: حَدِيثٌ قَدْ أَبَاهُ آخَرُ
…
فَالْجَمْعُ إِنْ أَمْكَنَ لا يُنَافِرُ
(وهو) أي مختلف الحديث (حديث قد أباه) أي عارضه في الظاهر حديث (آخر) مثله في القوة، وإلا فلا معارضة أصلاً. ثم إنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما يمكن فيه الجمع أشار إليه بقوله: (فالجمع) مبتدأ خبره جملة الشرط، أي الجمع بين مدلولي الحديثين المتعارضين ظاهراً (إن أمكن) بوجه صحيح (لا ينافر) في نسخة الشارح بصيغة المضارع أي لا ينافي أحد الحديثين الآخر، وفي نسخة المحقق لا تنافر بصيغة المصدر ولا عاملة عمل ليس وخبرها محذوف، أي بينهما وجواب " إن " محذوف، أي فهو متعين، وجملة لا تنافر علة للتعين أي لعدم التنافر.
وحاصل المعنى: أن الجمع بين الحديثين إن أمكن بوجه صحيح تعين المصير إليه لعدم التنافر بينهما، ولا يصار إلى التعارض، ولا النسخ، بل يجب العمل بهما معاً.
ثم ذكر مثالاً لما يمكن فيه الجمع بقوله:
643 -
كَمَتْنِ " لا عَدْوَى " وَمَتْنِ فِرَّا "
…
فَذَاكَ لِلطَّبْعِ، وَذَا لاِسْتِقْرَا
644 -
وَقِيلَ: بَلْ سَدُّ ذَرِيعَةٍ، وَمَنْ
…
يَقُولُ مَخْصُوصٌ بِهَذَا: مَا وَهَنْ
(كمتن لا عدوى) خبر لمحذوف أي ذلك كمتن " لا عدوى ولا طيرة " فإنه يدل على نفي الإعداء مطلقاً، وعدوى اسم من الإعداء، يقال: أعداه الداء إعداء، وهو أن يصيبه مثلُ ما أصاب صاحبَ الداء.
(ومَتْنِ فِرَّا) بألف الإطلاق وهو حديث " فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد " فإنه يدل على إثبات الإعداء، وكلاهما في الصَّحِيح، فقد سلك العلماء في وجه الجمع بينهما مسالك أشار إلى الأول بقوله:(فـ) ـقال بعضهم: (ذاك) أي الحديث الأول (للطبع) أي ناف له يعني: أن الأمراض لا تُعدِي بطبعها (وذا) أي الحديث الثاني (لاستقرا) أي كائن لأجل التتبع، يقال: استقرأت الأشياء تتبعت أفرادها لمعرفة أحوالها وخواصها. اهـ مصباح، أي أن التتبع لما أجراه الله من العادة جعل مخالطة المريض بالصَّحِيح سبباً لإعدائه مرضه.
والحاصل: أن الحديث الأول نَفَى لما يعتقده أهل الجاهلية، وبعض الحكماء من أن هذه الأمراض من الجذام والبرص تُعدِي بالطبع، ولهذا قال:" فمن أعدى الأول "؟
والحديث الثاني: بَيَّنَ أن الله تعالى جعل مخالطة المريض الصَّحِيح سبباً لإعدائه مرضه، ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب فحذر من الضرر الذي يغلب وجوده عند وجود سببه بفعله تعالى.
وهذا المسلك هو الذي سلكه ابن الصلاح. وأشار إلى الثاني بقوله:
(وقيل بل سد ذريعة) أي الأمر بالفرار من باب سد الذرائع، جمع ذريعة: وهي الوسيلة، أي منع الوسائل التي تؤدي إلى تعدي هذه الأمراض.
وحاصل هذا القول: أن نفي العدوى باق على عمومه، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يعدي شيء شيئاً " وقوله صلى الله عليه وسلم لمن عارضه بأن البعير الأجرب يكون في الإبل الصَّحِيحة فيخالطها فتجرب، حيث رَدَّ عليه بقوله:" فمن أعدى الأول "؟ وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع لئلا يتفق للشخص الذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداء لا بالعدوى المنفية، فيظن أن ذلك بسبب مخالطته، فيعتقد صحة العدوى فيقع في الحرج فأمر بتجنبه حسماً للمادة.
وهذا المسلك سلكه جماعة واختاره الحافظ في شرح النّخْبةِ.
ثم أشار إلى الثالث بقوله:
(ومن) مبتدأ موصول (يقول) في الجمع بينهما (مخصوص) خبر لمحذوف، أي العدوى مخصوص (بهذا) أي الجذام (ما) نافية (وهن) من باب وعد ضعف، أي ما ضعف قوله، والجملة خبر المبتدإِ، وحاصله أن إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى، فيكون معنى قوله: لا عدوى أي إلا في الجذام ونحوه فكأنه قال لا يُعدِي شيء شيئاً إلا فيما تقدم تبيني له.
وهذا المسلك سلكه القاضي أبو بكر الباقلاني. وبقي رَابع وهو أن الأمر بالفرار رعاية لخاطر المجذوم لأنه إذا رأى الصَّحِيح تعظم مصيبته، وتزداد حسرته.
ويؤيده حديث: " لا تديموا النظر إلى المجذومين " فإنه محمول على هذا المعنى وفيه مسالك أخَر. والمحقق ابن شاكرٍ جعل الرابع أضعف الأقوال وقَوَّى الأولَ.
والقسم الثاني ما لا يمكن الجمع فيه وأشار إليه بقوله:
645 -
أَوْ لا فَإِذْ يُعْلَمُ نَاسِخٌ قُفِي
…
أَوْ لا فَرَجِّحْ وَإِذَا يَخْفَى قِفِ
(أولا) يمكن الجمع بين مدلوليهما بوجه فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يعلم ناسخه، وإليه أشار بقوله:(فَإِذْ) بمعنى إذا (يعلم) بالبناء للمفعول (ناسخ) بطريقة من الطرق المشروحة فيما تقدم (قفي) بالبناء للمفعول، أي تبعَ ذلك الناسخ فينسخ الآخر. وإلى الثاني أشار بقوله:(أَوْ لا) يعلم ناسخه، ولكن فيه مرجح من المرجحات (فرجح) أيها المحدث أي اسلك مسلك الترجيح بصفات الرواة، وكثرتهم، والمرجحاتُ أكثر من مائة، ولخصها الناظم في التدريب في سبعة أقسام فارجع إليه.
وإلى الثالث أشار بقوله: (وإذا يخفى) وجه الترجيح (قف) أمر من وقف يقف، يقال: وقفت الشيء أقفه من باب وعد إذا أمسكت عنه، أي أمسك عن العمل بأحد الحديثين حتى يتبين لك أمره، وهذأ أولى من التعبير بالتساقط لأن خفاء ترجيح أحدهما عن الآخر إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة مع احتمال أن يظهر لغيره ما خفي عليه، أوْ لَهُ فيما بَعْدُ.
ولما أنهى الكلام على ما ظاهره التعارض شرع يبين ما لا تعارض فيه أصلًا فقال:
646 -
وَغَيْرُ مَا عُورِضَ فَهْوَ الْمُحْكَمُ
…
تَرْجَمَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ الْحَاكِمُ
(وغير ما عورض) أي الحديث الذي خلا عن معارض، يعني أنه لم يأت خبر يضاده في المعنى ظاهراً، فغير مبتدأ، خبره جملة قوله (فهو المحكم) ودخلت الفاء في الخبر لما في المبتدإ من معنى العموم.
والمعنى: أن الحديث الذي سَلِمَ من معارض يسمى بالمحكم، وهو ما اتضح المراد منه (ترجم) أي عقد باباً له (في علم الحديث) أي في كتابه المسمى بعلوم الحديث، وغَيَّرَهُ هنا للنظم (الحاكم) فاعل ترجم أي بوب الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله المشهور بابن البَيِّع الحاكم النيسابوري رحمه الله تعالى المتوفى سنة 405 هـ في كتابه المذكور، وعده
نوعاً مستقلًا من جملة أنواع علوم الحديث، وأمثلته كثيرة منها حديث:" إن أشد النَّاس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله ". وحديث: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول ". وحديث: " إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء ". وحديث: " لا شغار في الإسلام ". وقد صنف فيه عثمان بن سعيد الدارمي كتاباً كبيراً.
ثم ذكر المتشابه فقال:
647 -
وَمِنْهُ ذُو تَشَابُهٍ لَمْ يُعْلَمِ
…
تَأْوِيلُهُ، فَلا تَكَلَّمْ تَسْلَمِ
648 -
مِثْلُ حَدِيثِ " إِنَّهُ يُغَانُ "
…
كَذَا حَدِيثُ " أُنْزِلَ الْقُرآنُ "
(ومنه ذو تشابه) مبتدأ وخبر، أي بعض الحديث النبوي صاحب تشابه (لم يعلم تأويله) صفة ذو، أو حال منه، أي غير معلوم التأويل بأن لم يتبين المراد منه كما أن من القرآن ما هو محكم، ومنه ما هو متشابه، كذلك الحديث، إذكل من عند الله (فلا تكلم) الفاء فصيحية، وتكلم بحذف إِحدَى التاءين، أي إذا كان الأمر كذلك فلا تتكلم أيها المحدث في المتشابه (تسلم) جواب الطلب أي تكون سالماً من الذم الذي دلت عليه آية (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) الآية.
ثم مثل للمتشابه فقال:
(مثل حديث) خبر لمحذوف، أو مفعول لفعل محذوف، أي ذلك مثلُ، أو أعني مثلَ حديث (إنه يغان) ونصه كما رواه مسلم من حديث الأغر المزني وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنه ليُغَانُ على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " وكذا رواه أبو داود وغيره.
وُيغان مضارع غِينَ بالبناء للمفعول، يقال: غِين على قلبه غَيناً تغشته الشهوة، وقيل غُطِّي عليه وأُلْبِسَ. اهـ لسان.
فهذا الحديث مثل به الناظم للمتشابه تبعاً للأصمعي، فإنه سئل عنه فقال: لو كان قلبَ غير النبي صلى الله عليه وسلم لتكلمت عليه، ولكن العرب تزعم أن
الغين الغيم الرقيق، وقال بعضهم: أراد ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو منه البشر، لأن قلبه أبداً كان مشغولًا باللهِ تعالى، فإن عرض له وقتاً ما عارض بشريّ يشغله، من أمور الأمة والملة ومصالحهما عَدَّ ذلك ذنباً وتقصيراً فيفزع إلى الاستغفار، ذكره في اللسان وفيه أقوال أُخر.
(كذا حديث أنزل القرآن) أي من المتشابه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: " أُنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر " فهو من المتشابه الذي لا يُدْرَى معناه لأن الحرف يصدق لغة على حرف الهجاء، وعلى الكلمة، وعلى المعنى، وعلى الجهة، قاله ابن سعدان النحوي.
هكذا جعله الناظم من المتشابه، لكن اعترض عليه المحقق ابن شاكر، وذكر في الإتقان اختلاف العلماء في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولاً فانظره.
(تَتِمَّة): الزيادات في هذا الباب قوله: أول من صنف إلى قوله وجميع الفرق، وقوله: وإنما يصلح البيت. وقوله: وقيل بل سد ذريعة البيت. وقوله: وإذا يَخْفَى قِفِ إلى آخر الباب.