الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(آداب المحدث)
أي هذا مبحث آداب المحدث، وهو النوع الحادي والأربعون من أنواع علوم الحديث؛ والآداب جمع أدب محركة، وهو: ملكة تعصم من قامت به عما يَشِينه، وقيل: تعلم رياضة النفس، ومحاسنِ الأخلاق، وقيل: هو يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وقيل: هو استعمال ما يُحمَد قولا وفعلًا، أو الأخذ، أو الوقوف مع المستحسنات، أو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك، أفاده في التاج.
والمحدث المراد به هنا: ما يشمل كُلًّا من الحافظ، والمحدث، والمسند الآتي بيانها قريباً، والمراد الآداب التي عند إرادة الرواية، ومع الطالب، وفي الرواية، والإملاء، وما يفعله المستملي، وغير ذلك مما لم يتقدم، وقُدِّمَت على آداب الطالب لكونها أشرف. ولمناسبتها لأكثر فروع صفة الرواية والأداء.
543 -
وَأَشْرَفُ الْعُلُومِ عِلْمُ الأَثْرِ
…
فَصَحِّحِ النِّيَّةَ ثُمَّ طَهِّرِ
544 -
قَلْبًا مِنَ الدُّنْيَا وَزِدْ حِرْصًا عَلَى
…
نَشْرِ الْحَدِيثِ ثُمَّ مَنْ يُحْتَجْ إِلَى
545 -
مَا عِنْدَهُ حَدَّثَ: شَيْخًا أَوْ حَدَثْ
…
وَرَدَّ لِلأَرْجَحِ نَاصِحًا وَحَثّ
546 -
ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لا تُرْشِدْ إِلَى
…
أَعْلَى فِي الاِسْنَادِ إِذَا مَا جَهِلا
(وأشرف العلوم علم الأثر) مبتدأ وخبر، أي أفضل العلوم المدونة
على الإطلاق: علم الحديث، والمراد بالأثر ما يشمل المرفوع، والموقوف، أي هو من أشرفها، وعبارة ابن الصلاح: علم الحديث علم شريف، وذلك لأن وُصْلة إِلى البحث عن تصحيح أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، والذَّبِّ عن أن ينسب إليه ما لم يقله، ولأن سائر العلوم محتاجة إليه.
(فصحح النية) الفاء فصيحية، أي فإذا كان الحديث من أشرف العلوم، فصحح أيها المحدث نيتك في حال التحديث، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى.
(ثم) بعد تصحيحك النية (طهر قلباً) لك (من) أعراض (الدنيا) لأن تبليغ العلم من وظائف الأنبياء، فكما لا يطلبون هم أجراً على التبليغ إلا من الله تعالى، فكذلك من قام مقامهم ينبغي له الاقتداء بهم.
(وزد) أيها المحدث على ما تقدم (حرصاً) أي شدة اهتمام (على نشر الحديث) لقوله صلى الله عليه وسلم: " بلغوا عني " الحديث، وقوله:" ليبلغ الشاهد منكم الغائب " رواهما الشيخان. ثم إنهم اختلفوا في السن الذي يحسن أن يتصدى للتحديث فيه، فقيل خمسون لأنها انتهاء الكهولة، ومجتمع الأشد، ولا ينكر في الأربعين لأنها حد الاستواء، ومنتهى الكمال.
والصَّحِيح أنه يحدث إذا احتيج إليه في أيّ سِنٍّ كان، وإليه أشار بقوله:(ثم من) شرطية (يحتج) بالبناء للمفعول (إلى ما) أي إلى الحديث الذي ثبت (عنده) وقوله: (حدث) جواب الشرط أي تصدى للتحديث سواء كان (شيخاً) وهو من استبانت فيه السن، وظهر عليه الشيب، أو من خمسين، أو إحدى وخمسين، إلى آخر عمره، أو إلى الثمانين، وله جموع كثيرة ذكرها في القاموس.
(أو حدث) عطف على شيخ إلا أنه وقف عليه بالسكون على لغة ربيعة، وهو الحديث السن، أي الفتى.
وحاصل المعنى: أن من احتيج إلى ما عنده من الحديث جلس له
في أي سن كان فإن كثيراً من السلف تصدوا لذلك في حداثة سنهم، ولم ينكر عليهم ذلك.
(ورد) المحدث من طلب أن يحدثه بجزء أو نحوه (للأرجح) إلى الشخص الأرجح منه لكونه أعلى إسناداً منه فيه، أو متصل السماع بالنسبة إليه، أو لغير ذلك من المرجحات، حال كونه (ناصحاً) لذلك الطالب، فإن الدين النصيحة (وحث) أي حث الطالب على لزوم الأرجح.
وحاصل المعنى: أنه إذا سئل المحدث بجزء، أو كتاب أن يقرأ عليه، وهو يعلم أن غيره في بلدته، أو غيرها أرجح في روايته منه بكونه أعلى منه إسناداً، أو غيره من المرجحات ينبغي له أن يدل السائل على ذلك الشخص نصيحة في العلم.
(و) الإمام أبو الفتح تقي الدين محمد بن علي (بن دقيق العيد) فاعل لمحذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر أي قال أو قائل (لا ترشد) أيها المحدث من طلب منك أن تحدثه (إلى) من كان (أعلى) منك (في الإسناد) فقط (إذا ما) زائدة (جهلا) الألف للإطلاق أي إذا كان جاهلاً.
وحاصل المعنى: أن ابن دقيق العيد قال: إنما ينبغي الإرشاد إلى الأرجح إذا استويا فيما عدا الصفة المرجحة وإلا بأن يكون الأعلى إسناداً عامياً والأنزل عارفاً ضابطاً فقد يتوقف في الإرشاد إليه، لأنه قد يكون في الرواية عنه ما يوجب خللًا.
ثم ذكر حكم من يحدث بحضرة من هو أعلى منه فقال:
547 -
وَمَنْ يُحَدِّثْ وَهُنَاكَ أَوْلَى
…
فَلَيْسَ كُرْهًا أَوْ خِلافَ الأَوْلَى
548 -
هَذَا هُوَ الأَرْجَحُ وَالصَّوَابُ
…
عَهْدَ النَّبِيِّ حَدَّثَ الصِّحَابُ
549 -
وَفِي الصِّحَابِ حَدَّثَ الأَتْبْاعُ
…
يَكَادُ فِيهِ أَنْ يُرَى الإِجْمَاعُ
(ومن) شرطية (يُحَدِّث) أي يتصدى للتحديث (و) الحال أنَّه (هناك) أي بحضرته، أو في بلدته. وهو خبر مقدم لقوله (أولى) أي شخص أحق
بالتحديث منه، لسنه، أو علمه، أو علو سنده، أو غير ذلك، من المرجحات. وقوله:(فليس) اسمها ضمير يعود إلى المفهوم من " يحدث "، أي تحديثُهُ (كرهاً) أي مكروهاً، والجملة جواب " من "(أو) بمعنى الواو (خلاف الأولى) أي وليس خلاف الأولى، و (هذا) القول (هو الأرجح) لقوة دليله (والصواب) لاستقامة مُدْرَكه. ثم ذكر دليله بقوله:
(عهد النبي) منصوب على الظرفية متعلق بحدَّثَ، أو منصوب بنزع الخافض، أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بلده، (حدث)، وأفتى (الصِّحاب) بالكسر جمع صاحب كجائع، وجِيَاع، أي أن الصحاب رضي الله عنهم: حدثوا في وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بلده، كما في حديث:" إن ابني كان عسيفاً " الحديث، وفيه:" فسألت أهل العلم " فقد استنبط منه العلماء أنهم كانوا يفتون في عهده، وفي بلده، وروى أن منهم الخلفاءَ الأربعةَ، وعبد َ الرحمن بن عوف، وأُبيَّ بن كعب، ومعاذَ بن جبل، وزيدَ بن ثابت رضي الله عنهم، كما يأتي ذلك في قوله:
وَكَانَ يُفْتِي الْخلَفَا ابْنُ عَوْفي ايْ
…
عَهْدَ النَّبِي، زَيْدٌ، مُعَاذٌ، وَأُبَيْ
(وفي) عهد (الصحاب حدث الأتباع) جمع تبع بمعنى تابعي، كسبب وأسباب، أي أن التابعين رحمهم الله حدثوا في زمن الصحابة رضي الله عنهم.
روى البيهقي بسند صحيح في المدخل، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لسعيد بن جبير: حَدِّثْ قال: أحدث وأنت شاهد؟ قال: أوَليس من نعم الله عليك أن تحدث وأنا شاهد فإن أخطأتَ علمتك؟.
(يكاد) أي يقرب (فيه) أي في جواز التحديث المذكور (أن يرى) بالبناء للمفعول ونائب الفاعل قوله: (الإجماع) أي إجماع العلماء، وأن وصلتها اسم يكاد، والجار والمجرور، خبرها (1) مقدماً.
(1) وكون خبر كاد غير مضارع قليل، كَعَسَى، قال ابن مالك:
كَكَانَ كَادَ وَعَسَى لَكِنْ نَدَرْ
…
غَيرُ مضارعٍ لِهَذَيْنِ خَبَرْ
وإِنَّما قال: يكاد لأن بعض العلماء كره ذلك.
قال ابن الصلاح: لا ينبغي للمحدث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك، وكان إبراهيم والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء، وزاد بعضهم فكَرِ الروايةَ ببلد فيه من المحدثين من هو أولى منه، لسنه، أو غير ذلك. وقال ابن معين: إذا حدثت في بلد فيه مثل أبي مسهر فيجب للحيتي أن تحلق. وعنه أيضاً إن الذي يحدث بالبلدة، وفيها من هو أولى بالتحديث منه فهو أحمق.
ثم ذكر أن التحديث فرض عين إذا كان في البلد محدث ليس معه غيره، وفرض كفاية إذا كانوا جماعة فقال:
550 -
وَهْوَ عَلَى الْعَيْنِ إِذَا مَا انْفَرَدَا
…
فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا تَعَدَّدَا
(وهو) أي التحديث (على العين) أي مفروض على كل أحد (إذا ما) زائدة (انفردا) بألف إطلاق أي هو فرض عين على من انفرد في بلد بأن لا يكون فيه أهل له سواه وهو (فرض كفاية) يسقط الحرج عن الباقين بفعل البعض كما هو شأن فروض الكفاية (إذا تعددا) بألف الإطلاق، أي كثر المتأهلون له.
وحاصل معنى البيت: أن التحديث فرض عين على من انفرد في بلدة، فلوا امتنع أثِمَ، وفرض كفاية إذا كانوا جماعة مشتركين في السماع، فلو امتنع بعضهم لم يأثم.
ثم ذكر حكم من خاف التخليط في الحديث فقال:
551 -
وَمَنْ عَلَى الْحَدِيثِ تَخْلِيطًا يَخَفْ
…
لِهَرَمٍ أَوْ لِعَمًى وَالضَّعْفِ كَفّ
(ومن) شرطية (على الحديث) متعلق بيخف قدم ضرورة (تخليطاً) مفعول مقدم ضرورة لـ (يخف) أي من يَخْشَ التخليط في حديثه بأن يدخل عليه ما ليس منه (لهرم) متعلق بيخف، مصدر هرِمَ من باب تَعِب
بمعنى: كَبِر، وضعُف (أو لعمى والضعف): أي ضعف عقله (كف) جواب الشرط أي امتنع عن التحديث.
وحاصل معنى البيت: أن من خاف على حديثه التخليط ورواية ما ليس من حديثه لسبب من الأسباب، كالهرم ونحوه ترك التحديث، وذلك يختلف باختلاف النَّاس، وأما ضبط بعضهم له بثمانين فمحمول على الغالب، وإلا فمن كان ثابت العقل مجتمع الرأي فلا بأس بعدها.
فقد حدث بعدها جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
ثم إن من أتى من الطلبة غيرَ مخلص في الطلب لا ينبغي أن يُمَنعَ من الحديث لأنه يجُرُّه إلى الإخلاص، وإلى ذلك أشار بقوله:
552 -
وَمَنْ أَتَى حَدِّثْ وَلَوْ لَمْ تَنْصَلِحْ
…
نِيَّتُهُ، فَإِنَّهَا سَوْفَ تَصِحّ
553 -
فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ كِبَارٍ جِلَّهْ:
…
" أَبَى عَلَيْنَا الْعِلْمُ إِلَاّ لِلَّه "
(من) موصولة مفعول مقدم لحدث، أو مبتدأ خبره حدث (أتى) إليك طالباً للحديث (حدث)(ولو) وصلية (لم تنصلح نيته) بعدم إخلاصه (فإنها) أي نية ذلك الطالب (سوف تصح) فيما بعدُ فإن العلم يجره إلى الإخلاص (فقد روينا) أي نقلنا أيتُهَا العلماءُ (عن) أئمة (كبار جلة) بالكسر أي عظام سادة، ومقول القول قوله:(أبى) أي امتنع (علينا العلم) أن يكون (إلا لله) بحذف مَدّةِ الجلالة بعد اللام الثانية للضرورة.
وذكر الشارح أنه لغة، وما ذكر مسنده ولا أظن صحته فتأمل.
وحاصل معنى البيتين: أن من أتى إليك يطلب الحديث فحدثه سواء كان صالح النية أم لا؟ فإنه سيرزقه الله النية الصالحة فيما بعد ولأنه قد تقدم أن التأهل وقت التحمل لا يشترط.
فقد رُوِيَ عن معمر وحبيب بن أبي ثابت والغزالي بألفاظ متقاربة " طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله " وعن الحسن والثَّوري طلبنا العلم للدنيا فَجَرَّنا إلى الآخرة. وعن ابن عيينة طلبنا الحديث لغير الله
فأعقبنا الله ما ترون. وعن ابن المبارك طلبنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا، إلى غير ذلك.
ثم بين ما يستحب له إذا أراد حضور مجلس التحديث فقال:
554 -
وَلِلْحَدِيثِ الْغُسْلُ وَالتَّطَهُّرُ
…
وَالطِّيبُ وَالسِّوَاكُ وَالتَّبَخُّرُ
555 -
مُسَرِّحًا وَاجْلِسْ بِصَدْرٍ بِأَدَبْ
…
وَهَيْئَةٍ مُتَّكِئًا عَلَى رَتَبْ
556 -
وَلا تَقُمْ لأَحَدٍ. وَمَنْ رَفَعْ
…
صَوْتًا عَلَى الْحَدِيثِ فَازْبُرْهُ وَدَعْ
557 -
وَلا تُحَدِّثْ قَائِمًا أَوْ مُضْطَجِعْ
…
أَوْ فِي الطَّرِيقِ أَوْ عَلَى حَالٍ شَنِعْ
558 -
وَافْتَتِحِ الْمَجْلِسَ كَالتَّتْمِيمِ
…
بِالْحَمْدِ وَالصَلاةِ وَالتَّسْلِيمِ
559 -
بَعْدَ قِرَاءَةٍ لآيٍ وَدُعَا
…
وَلْيَكُ مُقْبِلاً عَلَيْهِموا مَعَاً
560 -
وَرَتِّلِ الْحَدِيثَ .............
…
....................
(وللحديث الغسل) مبتدأ وخبر أي يستحب للمحدث أن يغتسل غسل الجنابة عند إرادة نشر الحديث (والتطهر) من عطف العام على الخاص ليشمل الوضوء والتيمم (والطيب) أي استعماله في بدنه وثوبه فقد قال أنس رضي الله عنه: " كنا نعرف خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بريح الطيب "(1)(والسواك) يطلق على التسوك وعلى الآلة وعليه يقدر مضاف أي استعماله (والتبخر) أي استعمال البخور في بدنك وثوبك، والبخور وزان رسول دخنة يتبخر بها قاله في المصباح، وقوله:(مسرحاً) حال مقدم من فاعل اجلس، قدم على العاطف ضرورة، ويحتمل كونه حالاً من فاعل " حدث " وجملة وللحديث الغسل معترضة أي حدث حال كونك مسرحاً لحيتك وكذا ممشطاً شعرك إن كان لك، لأنه صلى الله عليه وسلم " كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته "(2)(واجلس) أيها المحدث إذا أردت التسميع لقوم (بصدر) أي صدر المجلس وهو كما في القاموس أوَّلُه (بأدب) مع الطلبة بأن تحترمهم وتعتني بهم (وهيبة) بالباء أي إجلال للحديث، وفي نسخة ابن شاكرٍ بالهمزة أي حالة حسنة (متكئاً) أي
(1) أخرجه الخطيب في جامعه، وابن سعد عن إبراهيم مرسلًا، وصححه الشيخ الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير. جـ 2 ص 891.
(2)
صحيح من حديث سهل بن سعد. انظر صحيح الجامع جـ 2 ص 351.
حال كونك متمكناً في جلوسك لأن الاتكاء يطلق على الجلوس متمكناً وعلى الميل في القعود معتمداً على أحد الشقين أفاده في المصباح، والمراد هنا الأول (على رتب) بفتحتين جمع رَتَبةٍ كدرَجَة ودَرَجَ وهو ما أشرف من الأرض قاله في " ق " والتاج والجار والمجرور متعلق بمتكئاً أي متمكناً على شيء مرتفع يخصك من منبر أو غيره، فقد كان مالك رحمه الله يجلس على مِنَصَّة وعليه الخشوع (ولا تقم لأحد) كائناً من كان فإنه قيل بكراهته قلت: ولكن لا دليل عليه، ومسألة القيام للقادم طويلة الذيل كتبت فيها رسالة لكنها لم تطبع.
(ومن) شرطية (رفع) من الحاضرين (صوتاً) له (على الحديث فازبره) جواب مَنْ، أي امنعه عن ذلك، يقال: زبره يزبره من بَابَيْ قتل وضرب: منعه ونهاه وزجره، أفاده في القاموس (ودع) التحديث إن لم يترك ذلك، أو دعه يخرج من المجلس، فقد كان مالك يفعل ذلك، ويقول: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) فمن رفع صوته عند حديثه فكأنما رفع صوته فوق صوته.
(ولا تحدث قائماً) أي في حال قيامك (أو مضطجع) عطف على ما قبله منصوب وقف عليه بالسكون على لغة ربيعة، أي في حال اضطجاعك، افتعال من الضجوع، وهو وضع الجنب على الأرض. (أو في الطريق) يشمل المشي فيه والجلوس عليه، (أو على حال شنع) أي قبيح يقال شَنُع ككرم فهو شنيع وشَنِع بكسر النون وأشنعُ كريهٌ. اهـ " ق "، وقيل قبيح. اهـ تاج.
والمراد الحالة التي تَسُوءُ خلُقَكَ كالجوع والشبع المفرطين، ونحوهما.
وحاصل المعنى: أنه لا ينبغي لك أن تحدث على حالة تنافي تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأشياء المذكورة، فقد كره العلماء ذلك، فكان مالك يكره أن يحدث في الطريق، أو وهو قائم أو وهو مستعجل، وقال: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسئل سعيد بن المسيب عن حديث وهو مضطجع في مرضه، فجلس وحدث به، فقيل له: وددت
أنك لم تتعن، فقال: كرهت أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع.
وسئل ابن المبارك عن حديث وهو يمشي، فقال: ليس هذا من توقير العلم.
(وافتتح) أيها المحدث (المجلس) أي مجلس التحديث (كالتتميم) أي مثل تتميمك له (بالحمد) لله تعالى.
وأبلغ ما ورد في ذلك خطبة الحاجة عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: " إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ .... ) إلى قوله: (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) إلى قوله: (فَوْزًا عَظِيمًا) " رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، واللفظ لابن ماجه، وفي أخرى لأبي داود بعد قوله ورسوله:" أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً " قال الترمذي: حديث حسن.
وإنما عدلت عما ذكره العلماء في هذا المحل لأن اللائق بمن يَشُحُّ بدينه، ويحرص على تحصيل مطلوبه، أن لا يعدِلَ عما صح عن نبيه صلى الله عليه وسلم إلى غيره.
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا).
(والصلاة) على رسول الله صلى الله عليه وسلم (والتسليم) عليه خروجاً من الكراهة في إفراد أحدهما من الآخر حسبما صرحت به الآية الكريمة.
وأبلغ ما ورد في الصلاة عليه الصلاةُ الإبراهيمية المتفق على إخراجها في الصَّحِيحين وغيرهما وهي: " اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد
كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، أو السلام على النبي ورحمة الله وبركاته ".
(بعد قراءة) من قارئٍ حسن الصوت (لآي) جمع آية، وهي لغة العلامة، والآية من القرآن كلام متصل إلى انقطاعه، قاله في " ق "، وفي المصباح الآية من القرآن ما يحسن السكوت عليه. اهـ سميت آية لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام، ويقال: لأنها جماعة حروف من القرآن. اهـ تاج.
روى الحاكم في المستدرك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا تذاكروا العلم وقرأوا سورة "(1).
(و) افتتح أيضاً بـ (ـدعاء) يليق بالحال، وليكن دعاؤك بالجوامع من الدعوات: وهي الدعوات المأثورة فكلها جوامع.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سواه.
فمنها، حديث أنس بن مالك رضي الله عنه كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " متفق عليه.
ومنها ما أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم من حديث ابن عمر
رضي الله عنهما قال: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهذه الدعوات: " اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبداً ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ".
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك جـ 1 ص 94 عن أبي سعيد قال: " أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا كان حديثهم يعني الفقه، إلا أن يقرأ رجل سورة، أو يأمر رجلاً بقراءة سورة " وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي.
ومنها ما أخرجه النسائي والحاكم عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وارزقني علماً ينفعني ".
وزاد النسائي في رواية عن أبي هريرة: " وزدني علماً الحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار ". وإسناده حسن.
وأولى ما يختم به المجلس ما رواه النسائي عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخَرَةٍ إذا اجتمع إليه أصحابه فأراد أن ينهض قال: " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " فقال: قلنا: يا رسول الله إن هذه كلمات أحدثتهن قال: " أجل جاءني جبرائيل فقال: يا محمد هن كفارات المجلس " صححه الحاكم، وأخرجه الطبراني في المعاجم الثلاثة مختصراً بسند جيد.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه قال:" كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلس خير ومجلس ذكر إلا ختم الله له بهن كما يختم بالخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك " رواه أبو داود وابن حبان وصححه.
(وليك) أي المحدث (مقبلاً عليهم) أي الحاضرين (معاً) أي مجتمعين أو في مكان واحد قال في المصباح تقول: خرجنا معاً أي في زمن واحد وكنا معاً أي في مكان واحد منصوب على الظرفية، وقيل على الحال أي مجتمعين، والفرق بين فعلنا معاً وفعلنا جميعا أن معاً تفيد الاجتماع حالة الفعل وجميعاً بمعنى كلنا يجوز فيها الاجتماع والافتراق.
وألِفُهَا عند الخليل بدل من التنوين لأنه عنده ليس له لام، وعند يونس والأخفش كالألف في الفتى، فهي بدل من لام محذوفة اهـ.
والمراد أنه يُقْبِلُ على الحاضرين جميعاً إذا أمكن فإن ذلك مستحب
لقول حبيب بن أبي ثابت: كانوا يحبون إذا حدث الرجل أن لا يقبل على الواحد فقط ولكن يعمهم، وعنه أيضاً إنه من السنة.
(ورتل الحديث) أيها المحدث أي تمهل في قراءته ولا تعجل ولا تسردها سرداً يمنع فهم بعضه، ففي الصَّحِيحين عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم:" لم يكن يسرُد الحديث كسردكم " زاد الإسماعيلي: " إنما كان حديثه فهما تفهمه القلوب " وزاد الترمذي: " ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جَلَسَ إليه " وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرج البخاري عن عُرْوَة قال: " جلس أبو هريرة إلى جنب حجرة عائشة، وهي تصلي فجعل يحدث فلما قضت صلاتها قالت: ألا تعجب إلى هذا وحديثه إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يحدث حديثاً لو عدَّه العادُّ أحصاه ".
ثم بيّن الكلام على الإملاء فقال:
......... وَاعْقِدْ مَجْلِسَا
…
يَوْمًا بِأُسْبُوعٍ لِلاِمْلَاءِ ائْتِسَا
(واعقد) أيها المحدث العارف (مجلساً) مفعول به لاعقد أي مَحَلًّا يجتمع فيه النَّاس للاستماع (يوماً) واحداً (بأسبوع) بالضم، ويقال فيها سبوع مثل قعود، سبعة أيام، وجمعه أسابيع أفاده في المصباح (لِلاِمْلَاءِ) بنقل حركة الهمزة إلى اللام ثم حذفها للضرورة من أمليتُ الكتاب على الكاتب إذا ألقَيْتهُ عليه، ويقال أمللته عليه إملالًا، فالأولَى لغة بني تميم وقيس، والثانية لغة الحجاز وبني أسد، وجاء الكتاب العزيز بهما " فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا "" وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ "، أفاده في المصباح. وفي " ق " أمله: قال له فكتب عنه. اهـ، فأفاد أن الإملاء لا يكون إلا مع الكتابة.
(ائتسا) مفعول لأجله، مصدر ائتسى يأتسى بمعنى اقتدى أي اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وحاصل المعنى: أنه يقول: اعقد أيها المحدث يوماً من أيام الأسبوع لإملاء الحديث على الطلبة سواء كان إملاؤك من كتابك، أو حفظك، وهو
أشرف لا سيما وقد اختلف في التحديث من الكتاب اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أملى الكتاب إلى الملوك وفي المصالحة يوم الحديبية وفي غير ذلك.
وبفعل الصحابة فقد أملى واثلة بن الأسقع رضي الله عنه الأحاديث على النَّاس وهم يكتبونها عنه رواه البيهقي وغيره.
وبفعل التابعين ومن بعدهم فقد أملى شعبة وسعيد بن أبي عَرُوبَةَ وهمام ووكيع وحماد بن سلمة ومالك وابن وهب وأبو أسامة وابن علية ويزيد بن هارون وعاصم بن علي وأبو عاصم وعمرو بن مرزوق والبخاري وأبو مسلم الكجي وجعفر الفريابي والهجيمي في خلق يطول سردهم.
وإنما زاد قَيْدَ يوماً بأسبوع على العراقي لما في البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يُذكِر النَّاس في كل خميس وقال: " إني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا ".
وعن ابن عباس رضي الله عنه: " حَدِّثِ الناسَ كل جمعة مرة فإن أبيت فمرتين فإن أكثرت فثلاث مرار ".
(تنبيه): الإملاء من أعلى مراتب الإسماعِ والتحملِ عند الأكثرين ولذا قال الحافظ السلفي رحمه الله:
وَاظِبْ عَلَى كَتْبِ الأمَالِي جَاهِداً
…
مِنْ ألْسُنِ الحُفَّاظِ الْفُضَلَا
فَأجَلُّ أنْوَاع الْعُلُومِ بِأسْرِهَا
…
مَا يَكْتُب الإنْسَانُ فِي الإمْلَا
وقال السخاوي: ومن فوائده اعتناء الراوي بطرق الحديث وشواهده ومتابعته وعاضده بحيث يتقوى بها ويثبت لأجلها حكمه بالصحة إلى آخر ما ذكره.
ثم بين حكم اتخاذ المستملين فقال:
561 -
ثُمَّ اتَّخِذْ مُسْتَمْلِيًا مُحَصِّلا
…
وَزِدْ إِذَا يَكْثُرُ جَمْعٌ وَاعْتَلَى
562 -
يُبَلِّغُ السَّامِعَ أَوْ يُفَهِّمُ
…
وَاْسْتَنْصَتَ النَّاسَ إِذَا تَكَلَّمُوا
(ثم) إذا كَثُرَ جموع النَّاس ولم يبلغهم صوتك (اتخذ) أيها المحدث وجوباً كما صرح به الخطيب (مستملياً) يتلقن منك ويبلغ الحاضرين البعيدين عنك (محصلا) اسم فاعل من التحصيل، وهو في الأصل استخراج الذهب من حجر المعدن، والمراد به هنا الماهر في التبليغ.
والأصل فيه ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث رافع بن عمرو قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب النَّاس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء وعلي رضي الله عنه يعبر عنه ".
وفي الصَّحِيح عن أبي جمرة قال: " كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس ".
وهكذا فعله أئمة الحديث وحفاظه كمالك وشعبة ووكيع، واحترز بقوله: محصلاً عن المغفل البليد كالمستملي الذي قال لممليه وقد قال له: حدثني عِدَّة: ما نصه عدة ابن مَنْ؟ فقال له المملي: عدة ابنٌ؟ فَقَدْتُكَ.
وكالآخر الذي قال لممليه، وقد قال له عن أنس قال رسول، كذا في كتابي وهو رسول الله إن شاء الله: ما نصه: قال رسول الله وشك أبو عثمان وهي كنية المملي في الله، فقال له المملي: كذبتَ يا عدو الله ما شككتُ في الله قط.
(وزد) أيها المحدث على المستملي الواحد (إذا يكثر جمع) أي جماعة الحاضرين بحيث لا يكفي واحد فزد بحسب الحاجة فقد كان لعاصم بن علي الذي حُزِرَ مجلسُهُ بأكثر من مائة ألف إنسان مستمليان، ولأبي مسلم الكجي الذي حُزِر بنَيِّفٍ وأربعين ألف مِحْبَرَة سوى النظارة سبعة يتلقى بعضهم عن بعض.
(واعتلى) أي كان المستملي في مكان عال من كرسي ونحوه، وإلا فيقوم على قدميه كما فعل ابن علية بمجلس مالك، وآدم بن أبي إياس
بمجلس شعبة وغيرهم، والجملة مستأنفة (يبلغ) المستملي وجوباً ما سمعه منك ويؤديه على وجهه من غير تغيير (السامع) منه، دون المملي، لبعده ولو قال:" يبلغُ البعيد " لكان أوضح أي البعيد الذي لا يسمع كلام المملي أصلاً، والجملة حال من فاعل اعتلى.
(أو يفهم) من بَلغهُ على بُعْدِ لكن لم يتفهمه فيتوصل بصوت المستملي إلى تفهمه وتحققه وقد تقدم حكم من لم يسمع إلا من المستملي عند قوله:
وَجَازَ أَنْ يَرْويَ عَنْ مُمْلِيهِ
…
مَا بَلَّغَ السَّامِعَ مُسْتَمْلِيهِ
لِلأَقْدَمِينَ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ
…
وَابْنُ الصَّلاحِ قَالَ: هَذَا يُحْظَلُ
(واستنصت الناس) أي طلب المستملي الإنصات وهو السكوت مع الاستماع من الحاضرين (إذا تكلموا) وقت الإملاء وفي نسخة: " لِكَيْمَا يَفْهَمُوا " أي ما يُمْلَى عليهم اقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم لجرير في حجة الوداع: " استنصت النَّاس " متفق عليه.
563 -
وَبَعْدَهُ بَسْمَلَ ثُمَّ يَحْمَدُ
…
مُصَلِّيًا وَبَعْدَ ذَاكَ يُورِدُ
564 -
مَا قُلْتَ أَوْ مَنْ قُلْتَ مَعْ دُعَائِهِ
…
لَهُ وَقَالَ الشَّيْخُ فِي انْتِهَائِهِ
565 -
" حَدَّثَنَا " وَيُورِدُ الإِسْنَادَا
…
مُتَرْجِمًا شُيُوخَهُ الأَفْرَادَا
566 -
وَذِكْرُهُ بِالْوَصْفِ أَوْ بِاللَّقَبِ
…
أَوْ حِرْفَةٍ لا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَعِبِ
(وبعده) أي بعد استناصتهم (بسمل) أي قال المستملي: بسم الله الرحمن الرحيم وهذا أول شيء يقوله، قاله السخاوي.
(ثم) بعد البسملة (يحمد) الله تعالى بالمحامد المأثورة كما قدمنا (مصلياً) على النبي صلى الله عليه وسلم أي ومسلماً لما قدمنا.
والأولى: أن يصلي بالصلاة الإبراهيمية على اختلاف ألفاظها فإنه لا يعادلها شيء غيرها مما ذكروا أيا كان كما قاله النووي.
(وبعد ذاك) كله (يورد) المستملي أي يذكر قوله: (ما قلت) أي شيء ذكرت من الأحاديث (أو من قلت) أي أي شخص ذكرت من الشيوخ قيل، ولا يقول من حدثك، أو من سمعت فإنه لا يدري بأي لفظة يبتدئ لكن قال ابن دقيق العيد: والأحسن أن يقول من حدثك أو من أخبرك إن لم يقدم ذكر أحد إلا أن يكون الأول عادة للسلف مستمرة فالإتباع أولى ذكره السخاوي.
(مع) بسكون العين لغة في الفتح (دعائه) أي دعاء المستملي للملي رافعاً لصوته قائلاً رحمك الله أو أصلحك الله أو غفر الله لك وما أشبهه. قال يَحْيىَ بنُ أكثَم: نِلتُ القضاء وقضاء القضاة والوزارة وكذا وكذا فما سررت بشيء مثل قول المستملي من ذكرتَ رحمك الله؟.
(وقال الشيخ) المملي (في انتهائه) أي انتهاء المستملي مما يقوله، ومقول قال:(حدثنا) شيخنا العلامة المتقن فلان ابن فلان.
(ويورد الإسنادا) بألف الإطلاق أي يذكر الإسناد بتمامه حال كونه (مترجماً شيوخه) بضم الشين وتكسر جمع شيخ أي مبيناً أحوالهم وصفاتهم بما هم أهله كما فعل جماعة من السلف كقول أبي مسلم الخولاني حدثني الحبيب الأمين عوف بن مسلم وكقول مسروق: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة.
وكقول عطاء: حدثني سيد الفقهاء أيوب وكقول وكيع: حدثنا سفيان أمير المؤمنين في الحديث.
(تنبيه): كلما مر ذِكْرُ النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى عليه وسلَّم، ويرفع صوته، وإذا ذكر صحابياً ترضى عليه، فإن كان ابن صحابي قال رضي الله عنهما، وكذا يترحم على الأئمة.
(الأفراد) جمع فرد بدل من شيوخه أي مترجماً أفراد شيوخه بأن يترجِم لكل شيخ بترجمة مستقلة ليتميز تمامَ تَمَيًّزٍ، ويحتمل أن يكون صفة شُيُوخهُ وقيده به لئلا يدخل فيه الشيوخ الذين في الإسناد كلهم فإن ذكر
ترجمة غير شيوخه الذين تلقى منهم مشروط بالفصل بيعني ونحوها كما تقدم في قوله:
وَلا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَوْ وَصْفِ مَنْ
…
فَوْقَ شُيُوخٍ عَنْهُمو مَا لَمْ يُبَنْ
بِنَحْوِ يَعْنِي، البيت والله أعلم.
(وذكره) أي ذكر المملي شيوخه من إضافة المصدر إلى فاعله وهو المناسب للسابق واللاحق ويحتمل أن يكون من إضافة المصدر إلى مفعوله أي ذكر الشيخ وهو مبتدأ خبره قوله: لا بأس.
(بالوصف) أي صفة النقص بدلالة قوله: إن لم يعجب كالأعمش (أو باللقب) كغندر (أو حرفة) كالخياط (لا بأس) به وإن كره ذلك (إن لم يعب) أي إن لم يقصد عيبه به بل أراد تعريفه لكونه معروفاً بها.
وحرمه بعضهم مطلقاً والأولى كما قال البلقيني: إنه إن وجد طريقاً إلى العدول عن الوصف فهو أولى وإلا فلا كراهة.
567 -
وَاْرْوِ فِي الاِمْلا عَنْ شُيُوخٍ عُدِّلُوا
…
عَنْ كُلِّ شَيْخٍ أَثَرٌ وَيَجْعَلُ
568 -
أَرْجَحَهُمْ مُقَدَّمًا وَحَرِّرِ
…
وَعَالِيًا قَصِيرَ مَتْنٍ اخْتَرِ
569 -
ثُمَّ أَبِنْ عُلُوَّهُ وَصِحَّتَهْ
…
وَضَبْطَهُ وَمُشْكِلاً وَعِلَّتَهْ
(وَارو) أيها المحدث الذي يريد الإملاء (في الإملا) بالنقل والقصر للضرورة أي ارو في حال إملائك الحديث استحباباً (عن شيوخ) كثيرين ولا تقتصر على شيخ واحد، إذ التعدد أكثر فائدة، قيل: مَثَلُ الذي يروي عن شيخ واحد كرجل له امرأة واحدة، فإذا حاضت بَقِي. (عُدِّلُوا) أي وصفوا بالعدالة فلا ترو إلا عن ثقة من شيوخك دون كذاب أو فاسق أو مبتدع، قال ابن مهدي: لا يكون الرجل إماماً، وهو يحدث عن كل أحد (عَنْ كُلِّ شَيْخٍ) بدل من الجار والمجرور قبله (أثراً) مفعولُ ارْوِ، وفي نسخة ابن شاكرٍ " أثر " بالرفع، وعليه فالجار والمجرور خبر مقدم عليه، والمعنى أنه يقول حدث في ذلك المجلس عن كل شيخ من شيوخك حديثاً واحداً ولا تزد عليه فإنه أعم للفائدة.
و (يجعل) المملي، ولو قال: وتجعل بالتاء، لكان أولى (أرجحهم) بعلو سنده، أو كونه أحفظ، أو أسن أو غير ذلك مفعول أول (مقدماً) بصيغة اسم المفعول أي متقدماً على غيره مفعول ثان (وحرر) ما تمليه أي قَوِّمْه، قال في المختار: تحرير الكتاب وغيره تقويمُهُ اهـ.
(وعالياً) أي سنداً عالياً مفعول مقدم لاختر، لما في العلو من الفضل (قصير متن) لما فيه من مزيد الفائدة (اختر) أيها المحدث المملي والأولى كونه في الفقه والترغيب قال علي بن حُجْر:
وَظِيفَتُنَا مِائَةٌ لِلْغَرِيـ
…
ـبِ فِي كُلِّ يَوْم سِوَى مَا يُعَادُ
شَرِيكِيَّةٌ أوْ هُشيْمِيَّةٌ
…
أحَادِيثُ فِقْهٍ قِصَارٌ جِيَادُ
(ثم) بعد أن أمليت (أبن) أي أظهر للسامعين (علوه) أي علو إسناده (وصحته) إن كان صحيحاً، أي وحسنه، وضعفه (وضبطه ومشكلاً) في الأسماء والألفاظ وكذا أظْهِر غامض المعنى وتفسير الغريب (وعلته) إن كانت فيه علة.
ثم ذكَرَ ما لا ينبغي للمملي أن يمليه فقال:
570 -
وَاْجْتَنِبِ الْمُشْكِلَ كَالصِّفَاتِ
…
وَرُخَصًا مَعَ الْمُشَاجَرَاتِ
(واجتنب) أي ابتعد في إملائك (المشكل) أي ذكر المشكل من الأحاديث (كالصفات) أي كأحاديث الصفات لما لا يؤمن على السامعين من الخطأ والوهم، والوقوع في التشبيه والتجسيم، فقد قال علي رضي الله عنه:" حدثوا النَّاس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله " رواه البخاري، وروى البيهقي في الشعب عن المقدام بن معدي كربِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا حدثتم النَّاس عن ربهم فلا تحدثوهم بما يغرب أو يشق عليهم ".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه:، ما أنت بِمُحَدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " رواه مسلم.
(و) اجتنب أيضاً كما قال الخطيب (رخصا) جمع رخصة وهي السهولة، أي ذكر أحاديثها للعوام لما يخشى عليهم من تتبعها وترك العزائم
(مع المشاجرات) من الشَّجْرِ يقال: شجر الأمر بينهم شجراً من باب قتل اضطرب، واشتجروا تنازعوا، وتشاجروا بالرماح تطاعنوا قاله في المصباح.
والمراد هنا التشاجر الذي وقع بين الصحابة لئلا يقع السامعون في بعض الصحابة. وكذلك اجتنب الإسرائيليات.
ثم بيّن ما ينبغي أن يلقيه المملي فقال:
571 -
وَالزَّهُدُ مَعْ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ
…
أَوْلَى فِي الاِمْلاءِ بِالاِتِّفَاقِ
(والزهد) مبتدأ أي الحديث الدال والباعث على الإعراض عن الدنيا (مع مكارم الأخلاق) أي مع الأحاديث الدالة على مكارم الأخلاق، من الكرم والعطف ولين الجانب وإنجاز الوعد والتواضع والصبر ونحوها (أولى) خبر المبتدإ، أي أحق بالذكر من غيرهما (في) مجلس (الإملاء) بنقل حركة الهمزة للوزن، وذلك (بالاتفاق) بين أهل العلم، لأن هذه الأمور هي التي يحتاج إلى سماعها خصوصاً العوام، فإن غالبهم بمعزل عن التخلق بها.
وأما ما تقدم فإنما يحتاج إليه الخواص الذين يميزون بين ما هو حق فيتبعونه، وما هو باطل فيجتنبونه.
ثم ذكر كيفية ختم الإملاء فقال:
572 -
وَاْخْتِمْهُ بِالإِنْشَادِ وَالنَّوَادِرِ
…
...................
(واختمه) أي مجلس الإملاء (بالإنشاء) أي قراءة الأشعار المباحة المرققة (والنوادر) المستحسنة وكونها مناسبة لما أملاه من الأحاديث أولى، ويذكرها بأسانيدها فعادة الأئمة من المحدثين جارية بذلك، وقد استدل الخطيب بما رواه عن علي قال:" روحوا القلوب وابتغوا لها طُرَفَ الحكمة "، وكان الزهري يقول لأصحابه: هاتوا من أشعاركم هاتوا من أحاديثكم فإن الأذن مجاجة والقلب حمض.
ثم ذكر حكم استعانة المملي بالحافظ المتقن إذا كان هو قاصراً أو مشتغلاً بما هو أهم فقال:
...............
…
وَمُتْقِنٌ خَرَّجَهُ لِلْقَاصِرِ
573 -
أَوْ حَافِظٍ بِمَا يُهِمُّ يُشْغَلُ
…
...................
(ومتقن) مبتدأ، أي حافظ متقن خبره قوله:(خرجه)، أي الحديث الذي يريد إملاءه قبل يوم مجلسه (للقاصر) أي المملي القاصر عن التخريج لقصور معرفته بالحديث وعلله واختلاف وجوهه.
(أو حافظ) بالجر عطفاً على القاصر أي خرجه لحافظ قادر على التخريج إلا أنه (بما) أي بشيء، أو بالذي متعلق بيشغل (يهم) بفتح الياء من باب قتل، أو بضمها رباعياً، يقال: هَمَّه الأمر وأهمه إذا أقلقه وحَزَنَه (يشغل) بالبناء للمفعول، يقال: شغلت بالأمر بالبناء للمفعول تلهيت به أفاده في المصباح.
وحاصل المعنى: أنه إذا قصر المحدث عن تخريج الإملاء، أو كان مشغولاً بأعمال تهمه كالإفتاء والتأليف فلا بأس أن يستعين على ذلك ببعض الحفاظ المتقنين كما فعله جماعة من الشيوخ.
ثم ذكر المقابلة بعد الإملاء بقوله:
....................
…
وَقَابِلِ الإِمْلاءَ حِينَ يَكْمُلُ
(وقابل) أيها المحدث (الإملاء) أي المملَى بفتح اللام (حين يكمل) إملاؤه، فإن المقابلة واجبة كما تقدم لإصلاح ما فسد منه بزيع القلم وطغيانه، وفيه حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه وقد تقدم.
(تَتِمَّة): الزيادات في هذا الباب قوله " وأشرف العلوم علم الأثر " وقوله " ابن دقيق العيد " البيت. وقوله " هذا هو الأرجح والصواب " إلى قوله " إذا تعددا " وقوله " فقد رَوينَا " البيت، وقوله " والسواك والتبخر " وقوله " متكئاً على رَتَب " وقوله " أو مضطجع " وقوله " أو على حال " وقوله " بعد قراءة لآي " وقوله " يوماً بأسبوع " وقوله " علوه وصحته " البيت، وقوله " كالصفات " إلى قوله " بالاتفاق " وقوله " أو حافظ بما يهم يشغل ".